الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رسالة الغفران لأبي العلاء المعري بعيون اسبانية

سميح مسعود

2019 / 4 / 23
الادب والفن


يعتبر كتاب" رسالة الغفران" من درر الأدب العربي ، له أثره وتأثيره في الأدب العالمي حتى يومنا هذا بعد ما يقرب من تسعة قرون على صدوره، تدور النقاشات حوله، و يعود البحاثة إلى كل جانب من جوانبه ذكراً واقتباسا، أملاه شاعر المعرة على كاتبه وهو في الستين من عمره، مزج فيه كل ما وعاه عقله من علم وثقافة وأخبار وأشعار وتوجهات فكرية، صاغها بطابع روائي.
وعلى امتداد هذا المسار،عرض المعري في كتابه صورا لرحلة فكرية خيالية على أكمل وجه، انتقل فيها من بيئته المكانية الواقعية إلى عالم الآخرة، استرسل بها بخياله الجامح إلى السماء العليا، وحاور في تفاصيلها شعراء وأدباء كثر في الجنة والنار، أثرى بحواراتهم الحياة الفكرية والفلسفية والثقافية والنقدية في أيام زمانه، كما أثرى الفكر الإنساني بشكل عام، وفي الوقت نفسه أثار كتابه هذا صخباً، وطال صاحبه المعري اتهامات الكفر والزندقة، وقد استندت هذه الإتهامات إلى حد كبير على التأويل الخاطئ لأفكاره، لكن التاريخ أعاد له اعتباره، ووضعه في مصاف أعظم الأدباء والشعراء في العالم أجمع.
ويكفي أن أذكر في هذا السياق أن طه حسين تفاعل مع ابي العلاء المعري على نحو قل نظيره، وبين رأيه فيه ببصيرة الأديب الناقد، وأستشهد بما قاله عنه بهذه الكلمات " ليس بين أعلام الضاد في تاريخها القديم والحديث على السواء، كاتباً أو مصنفاً أو رجل علم وأدب ،أو صاحب رأي أو حكمة، جمع في آثاره من ألوان الكتابة نظمها ونثرها، وضروب المعرفة وأشتات الفكر، ما جمع أبو العلاء المعري من هذه الأبواب جميعاً، فهو الشاعر والناظم وهو الناقد والشارح وهو الواعظ والمرشد، وهو صاحب حكمة وتفلسف وهو الأستاذ في كل هذه الوجوه."
وبالنسبة لي، أود التأكيد هنا بأنني لست بصدد التعريف بأبي العلاء المعري، ولا بعرض كتابه" رسالة الغفران" وإنما أرغب فقط بذكر أثر هذا الكتاب في الغرب، وقد تلمست ذلك أثناء زيارتي لمكتبة "الإسكوريال" الإسبانية في نيسان الماضي، وهي مكتبة فريدة يصفها الإسبان بأنها "ثامن عجائب الأرض" تضم بين جدرانها مخطوطات نادرة مختلفة في مواضيعها، كُتبت في حقبات زمنية مختلفة، منها مجموعة كبيرة من المخطوطات العربية، لأهم الكتاب العرب بما فيهم كتاب الأندلس.
وقد تمكنت أثناء تجوالي في مكتبة "الإسكوريال" من التعرف على بعض المخطوطات العربية، واقتربت من التعرف على الماضي الذي تقاسمه الإسبان مع العرب في الأندلس، كما تمكنت من التعرف على أهمية كتاب"رسالة الغفران" لإسبانيا وأوروبا من تعدد ترجمته، فقد ترجم إلى القشتالية بعد سقوط الأندلس بتوجيه خاص من ملك قشتالة وليون الفونس العاشر الملقب بالحكيم، كما طلب نفس الملك ترجمته إلى اللغتين اللاتينية والفرنسية القديمة، ومن ثم تم ترجمته إلى اللغة الإيطالية، مما ساعد على نشره مبكراً في أوروبا ، والتعريف بمضمون مسائله الأدبية والفكرية المطروحة في رحلته العجائبية للآخرة، التي نالت اهتمام الكتاب والشعراء الأوروبيين، على امتداد عصور طويلة، حتى أن بعضهم أدرج الكتاب على أساس حجج صحيحة، في إطار إرث إنساني إستثنائي، لا يضاهيه كتاب آخر في مجاله.
ولا يسعني في هذا الجانب سوى التأكيد بثقة كاملة، بأن كتاب "رسالة الغفران" يُشكل إرثا على جانب كبير من الأهمية للإنسانية جمعاء، ويستحق أن يدرج في قائمة الكتب الأكثر تأثيراً في تاريخ البشرية، ورغم قناعتي بأن استنتاجي هذا غاية في التعقيد، ومثير للجدل خاصة في زمننا الذي تسوده ظاهرة العزوف عن القراءة الجادة في الفكر والأدب.
ومن حُسن حظي أن زيارتي لمكتبة "الإسكوريال" مكنتني من التعرف على مثال قل نظيره، يثبت استثنائية كتاب "رسالة الغفران" ويؤكد بدون مبالغةعلى عظمة كاتبه، وأنه رغم مرور زمن طويل على رحيله فإنه ما زال موجوداً في فكره، وفي تفاصيل رحلته التي تشكل مادة للتذكر في كل الأزمنه.
والمثال الذي أنا بصدده يتعلق بالراهب الإسباني المستعرب "ميغيل آسين بلاثيوس 1871-1914" الذي اهتم بكتاب "رسالة الغفران" وانكب على دراسته وتحليله فترة طويلة من الزمن،يقدرها البعض بربع قرن، ثم أصدر في نهاية المطاف على أساس دراسته الطويلة، كتابه الموسوم بعنوان"علم اللآخرويات الإسلامي في الكوميديا الآلهية" وقد قدمه للأكاديمية الملكية الإسبانية بمناسبة تعيينه عضوا فيها.
وكان الكتاب كما وصفه الأكاديمي المصري الراحل عبد الرحمن بدوي " قنبلة كبرى" أكد فيها الراهب "بلاثيوس" بالحجة والبرهان تأثر الشاعر الإيطالي الكبير دانتي في تأليف ملحمته" الكوميديا الآلهية" برسالة الغفران لابي العلاء المعري من حيث الأسلوب والمضمون، وبين هذا كله بحجج دامغة وقدرة تفسيرية عالية، تحمل في باطنها معاني دقيقة ورقيقة، تدل على اعتماد دانتي لفكر المعري الذي سبق به عصره وزمانه.
وفي ضوء النتائج التي توصل إليها الراهب "بلاثيوس" يلاحظ وجود فئة من كتاب أوروبا انتقدوا نتائجه بشدة، كما يلاحظ وجود فئة أخرى وقفت إلى جانبه، وبعيداً عن المفهوم التقليدي للتأييد والرفض ،ظهرت كتب ودراسات ومقالات كثيرة تفيض بالدلالة على تأييده، ولعل أهم كتاب ظهر في هذا المجال للمستشرق الإيطالي "انريكو تشيروللي" نشرته مكتبة الرسل في الفاتيكان عام 1949، قدم فيه الدليل القاطع على صحة أراء الراهب "بالثيوس" حيث ثبت بين دفتي كتابه الترجمة اللاتينية والفرنسية القديمة والإيطاليه لرسالة الغفران التي تمت قبل ميلاد دانتي،وافترض إطلاعه عليها في كبره، وتمكنه من الإعتماد عليها في تأليف "الكوميديا اللآلهية".
هذا مثال عن انجازات مستعرب إسباني، وهناك مئات من المستعربين الإسبان لهم انجازاتهم المهمة في مجال نشر وحفظ التراث العربي، والدفاع عن القضايا العربية، ولكي أعطي الموضوع حقه من التعريف، بدأت ظاهرة الاستعراب الإسباني في القرن الثاني عشر، ومنذ ذلك الوقت قدمت مجموعة متميزة من المستعربين الإسبان خدمات جليلة للتراث العربي في مجالات الفكر والأدب والعلوم تجميعا وتحقيقاً ودراسة وترجمة ونشراً، وبخاصة التراث العربي في الأندلس المتعلق بالحقبة التاريخية التي كانت مزدهرة علمياً وثقافياً، وظهرت فيها أفكار ابن رشد التنويرية التي يعتبرها الغرب تمهيداً للعلمانية الحديثة.
الاستعراب الاسباني في مجمل انجازاته ومضامينه يتصل بالتراث العربي الأندلسي ببعديه المادي والرمزي في آن معاً، ولعل أفضل من عبر عن هذا الجانب المستعرب الأندلسي "أدولف رييس" في عبارة مؤداها: " ما يهمنا نحن الإسبان قبل كل شيء من التراث العربي الأندلسي هو حيويته واستمراره في عاداتنا الأكثر حميمية، إنه ليس مجرد موضوع علمي، إنه مظهر من مظاهر العنصر العربي المتواجد دوماً فينا، يطفو كما الذكرى الحميمة."
وهذه النتيجة لا تقلل من اهتمام الإستعراب الإسباني بالحقائق العربية الحديثة والمعاصرة، وقد أكد على هذا "بيدرو مارتينيث مونتابيث" عميد المستعربين الإسبان في الزمن الحالي، بكلمات جازمة بين فيها " أن معرفة الحقائق العربية الحديثة والمُعاصرة ودراستها يستحقان القدر نفسه من الإهتمام، الذي يولى للدراسات التراثية الأندلسية المتعلقة بالعصور الوسطى."
هذا موضوع واسع بلا ريب، وبعيداً عن الدخول في التفاصيل، ثمة دلالات كثيرة تؤكد على أن الإستعراب الإسباني في الحقبة الحديثة، قد حقق إنجازات مميزة، مطعمة بحقائق الزمن العربي المعاصر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الصدمة علي وجوه الجميع.. حضور فني لافت في جنازة الفنان صلاح


.. السقا وحلمى ومنى زكي أول الحضور لجنازة الفنان الراحل صلاح ال




.. من مسقط رأس الفنان الراحل صلاح السعدني .. هنا كان بيجي مخصوص


.. اللحظات الأخيرة قبل وفاة الفنان صلاح السعدني من أمام منزله..




.. وفاة الفنان المصري القدير صلاح السعدني عن 81 عاما