الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حين تسقط التاء عن الثورة

سعد سلوم

2006 / 5 / 1
ملف بمناسبة الأول من أيار 2006 - التغيرات الجارية على بنية الطبقة العاملة وحركتها النقابية والسياسية


لم تعد (الثورة) ذلك الثور الهائج الذي يجر عربة العالم من حالة إلى حالة وينقل الجماهير من سور إلى سور،وتلاشت تلك الحالة التي تتلبس الشعوب فتدفع بها إلى نزع جلدها والانتقال إلى الجانب الأخر، إلى ضفة التغيير حيث ينتظرها قدر أخر وتحكمها آلهة اخرى.
لا يشك احد منا في أن الانتقال من النظام القديم إلى (المجتمع الحديث) اتخذ طابعاً ثورياً، بل انه كان وراء ابتكار الثورة، و وراء الأسطورة الداعية الى حل المعضلات البشرية من خلال تلك الظاهرة الرحبة الأفق التي عرفت في التاريخ العالمي بإسم (الثورة).
لكن عجلات العربة أخذت تنزلق على شوارع ما بعد الحداثة وغطت خيمة أو(غيمة) العولمة عالما بات يعرف اليوم بانه قرية صغيرة وتراجعت الأسطورة عن تغذية الحالمين بوهم التغيير ونضبت القوى الروحية لهذه العقيدة ولم يعد احد ما يرفع نخب الثائر المنـتصر في حيـن يشـرب على شـرف رجال الأعمال وخبراء المعلوماتية واستراتيجيي أخر زمان نخب (نهاية التاريخ).
لكن إذا لم تعد الثورة ممكنة لِمَ لَمْ تبق فكرتها؟
أي شعور عام يقف وراء اضمحلال دين الثورة وجمود أنبيائها وراء الواجهات الزجاجية في المتاحف أو وراء أسوار الكلمات المتصلبة في الكتب أو يتصاعد مع دخان التبغ المرافق للمناقشات اللامجدية في الحوارات الجانبية في المقاهي أو يتصاعد إلى الدماغ مع خمرة الاستذكارات والاستشهادات التي تعالج رومانسية الثورة كنوع من الفولكلور الشعبي.

السقوط من جنة عدن

أولم يبق للثائر سوى خيبة الأمل واليأس أم ماذا؟ لكن تعالوا هنا، الخيبة يمكن استثمارها وتحويلها إلى قوة دافعة تحت عناوين عريضة: خيبة الأمل في الأيديولوجيات الكبرى وأسطورة التنمية وأوهام نظام دولي عادل وحلم مجتمع المساواة الكامل. لا سيما في أن الخيبة التي تصل إلى درجة اليأس (مرض عصرنا بامتياز) هي العنصر المشترك بين الثائرين في كل زمان ومكان وهي الباعث الدافع لكل ثورة.
توجد عدة ثغرات في سور اللا اكتراث البشري: الثغرة في طبقة الأوزون ألا يمكن ملؤها بثورة خضراء؟ التفاوت الهائل والمتسارع بين الجنوب والشمال ألا يمكن سده بثورة الجياع والغاضبين؟ ما الذي يملكه مناهضو العولمة من أسلحة للثورة ضد هيمنة السادة الجدد؟ لا نستطيع أن نستسلم للاعتقاد بأن الجنس البشري قد سقط دونما مقاومة من جنة عدن الثورات إلى جحيم الاستسلام الكامل والعجز عن قدرة الارتقاء بالعالم إلى فردوس أخر. كما نستبعد بامتعاض الخيار الجنوني المعاصر للأصولية الدينية على اختلاف مرجعياتها ومنطلقاتها التي تتغذى في المحصلة النهائية على سيناريو كابوسي لقيامة نووية أو على الأقل ممارسة التقتيل والإرهاب البشع للتعبير عن رفض الواقع القائم.
لقد وصلت عربة الثورة حقاً إلى طريق مسدود مصطدمة بآخر السور وباتت المطالبة بتغيير على مستوى عالمي تثير ضحك وازدراء النبلاء(النخبة العالمية) في أعلى السور ولا تلقي بحجر في بحيرة اللااكتراث الجماهيري، لقد أشاح العالم بوجهه عن الثائر وأشاح الثائر بوجهه عن حلم الثورة.

انقراض الثائر المحترف

بعد انقضاء ثلاثين عاماً على الثورة الفرنسية كان بعض متطرفي التسعينات من القرن الثامن عشر ما يزال على قيد الحياة وكان بعضهم ما يزال يناضل وللمرة الأولى ظهر (الثائر المحترف) فالإنسان الذي تتلخص مهنته في العمل من اجل الثورة كان عنصراً شبه مجهول في ثورة 1789 حيث كان المشاركون في الثورة يطلعون على حين غرة بأدوار مرتقبة لم يستعدوا لها.
وما زلنا حتى يومنا هذا نندهش من الكيفية التي يضع بها الثوار معادلة الثورة أو كيف تقوم الثورة بإنتاجهم؟! لا سيما وان الكثير من هؤلاء كان ينام ويأكل ويحلم و يصحو ويقرأ ويبكي مع الثورة من خلال ذلك النوع من الزواج المقدس الذي يبلغ إلى حد بعيد مرتبة التوحد الصوفي مع الهدف أو الرغبة في التغيير.
لكن كيمياء الرغبة قد توقفت عن سلسلة تفاعلاتها والتوحد مع الهدف قد ولى دونما رجعة وبات تكريس الذات بدعة في زمن يقلص فيه الفرد الى درجة انعدام الثقة المطلق بما يطرحه من أفكار وما ينتهجه من أفعال. في زمن تتركز فيه الثروات في أيادي أفراد قلائل ممن يشرعون للغالبية العظمى مصيرها في إن تمضي طريق حياتها من دون سؤال أو غضب أو تمرد على علة اختلال السلطة. ووسط لغط الفضائيات وصور ابطال هوليود ما عدنا نتعرف على شكل الثائر المحترف وغابت تبعاً لذلك ظاهرة الثورة لصالح ثورة أفلام الاكشن فثائروا اليوم لم يعودوا يؤلفون حكومات الغد بل بات يؤلفها أبطال جدد تم صناعتهم سينمائيا كريغان أو ارنولد وستتكفل الميديا الاخطبوطية في امتصاص عناصر التشويق في قصص ثوريي الواقع حيث يتناولهم تقرير إخباري محايد بارد الدم وهم يسحقون في الشوارع مجردين من أدوات تغيير أنظمتهم عدا أذرعهم العارية، فإذا كان ثوار اليوم هم محافظو الغد، كما شاع قبلاً فإن ثوار اليوم هم مجانين الغد،ممن لا يكفر التاريخ عن جرائمهم وتتولى وسائل الأعلام تصويرهم كراكضين وراء أوهام غيبية أو ممارسين للخداع الذاتي في أحسن الأحوال. وحين يدير المشاهد تلفازه ويشاهد الجماهير الثائرة من مناهضي العولمة وهم يسحقون بهراوات الشرطة وغازاتها المسيلة للدموع بكتفي بالقول من هؤلاء ؟أو يتسأل باستنكار ماذا يريدون؟ هذا إذا لم ينتقل إلى قناة أخرى سعيا وراء مشاهدة أخر كليب مصور لمطربه المفضل. لكن الأسى الثوري لا يريد التنازل الى مستوى الإدراك بأن الثورة اليوم باتت هي اللا يقين حسب تعبير بودريار وذلك ردا على ما صنعه كل من العلم والتقنية في العالم،إذ حولاه إلى وهم. لقد تم قص شعر الثائر المحترف وعرضت خصلاته كنموذج للتطرف وأصبح طرازا عتيقا للرومانسية أو (غير المرغوب فيه) حسب تعبير ريجيس دوبريه ، في وقت وصفت فيه الثورة ك(أفيون المثقفين) حسب تعبير ريمون آرون.أو فكرة،خرافة،ستارا خادعا حسب تعبير دوبريه في حوار له مع المفكر السويسري جان زيغلر. وإذ ما القينا نظرة سريعة على مشهد عالم يكتنفه ضباب المعلوماتية لا نملك إلا إن نتساءل: اي سلاح تبقى للثائر لمواجهة وسائل الاختراق المعلوماتية التي تنفذ من مسامات جلده لتتركه دون أن يكون مركز نفسه؟ وأي قوة دونكيشوتية يمتلكها لمواجهة طاحونة التقنية الهائلة التي تحفظ ما هو قائم داخل سور منيع؟.
حقا ان العبودية لم تعد تؤدي إلى مقتل السادة، فالسادة الجدد مسلحون بالعامل التقني ويمتلكون المعرفة التي يصفها بيكون بأنها في حد ذاتها قوة، وباتت اليوم قوة جهنمية توظف لخدمة القوة الاشد جهنمية: رأس المال . أطلق رصاصك أيها الثائر، فسلاحك لم يعد سوى لعبة بلاستيكية.

الثوري المتقاعد يقرأ الفنجان

الأطفال وحدهم يلعبون بأسلحة بلاستيكية لكن الثوري المتقاعد مأخوذ بشغف أخر فهو يريد أن يفهم ،يتكئ على كرسيه عند منتصف الليل، ويحاول أن يعقد مراجعة تاريخية ، يبعثر في خياله الأوراق باحثاً عن التاريخ الذي لم يحدث قط أو التاريخ الذي يحدث في الكتب المدرسية فحسـب ولكنه لا يريد أن يجهد نفسه من دون طائل كأولئك الذين احمرت عيونهم من متابعة الواقع العيني للثورات التي حدثت عبر التاريخ فهو لا يستطيع أن يكون حياديا أمام الثورات، أي تلك العواصف الراعدة والتي لا يمكن تجنبها والتي أطاحت بالمجتمعات المستقرة وطهرتها من خمولها . تتجمع من بين التفاصيل ملامح ابتسامة سرعان ما تذوب على شفتيه. يرتجف حاجباه شغفا ،برعشة حدث ذي وزن هائل، غير ملامح العالم قبل ولادته، وفتح للبشر أفقا جديداً.
ليس هناك من حدث له وزن (الثورة الفرنسية) 1789ونموذجيتها وإذ ما أضاف إليها شقيقتها البكر (الثورة الأمريكية) 1776 فإنه لا يجد منذ ذلك التاريخ حدث بمثل وزنها في تاريخ الحضارة الغربية. ولن يذهب بعيداً في محاكمته للتاريخ حتى يعرف بأنه لم يعقد أزر النصر لأية ثورة أخرى منذ العقد الصاخب الذي أعقب 1789 . لكن الأيمان بالمعجزة استمر طوال القرن التاسع عشر وانعكس في الفكر الاجتماعي على شكل اعتقاد في الثورة. كان الأنبياء الجدد يمنحون العالم معجزة انقلابه رأساً على عقب، معجزة ما كان ليقدر لها أن تحدث لولا مثال 1789 . كما كان المفكرون يمنحون القواميس الاصطلاحات الرائجة: الطليعة، اليسار، اليمين، البرجوازية، البروليتاريا...الخ.
ولكن عرف عن التاريخ سخريته المريرة التي تقوم وفقا للمنطق الفطري للأشياء. أي على خلاف قوانين العقل البشري كأنه بذلك يضحك من هيجل الذي رأى بأن كل ما هو عقلي حقيقي فثورة الغد المرتقبة لم تقم في إنكلترا ولا فرنسا ولا أي من بلدان الغرب الصناعي فمن ماركس انتقلت الشعلة إلى لينين الذي عزز الحركة الثورية التي رأت النور في روسيا بأيدولوجيا قائمة على دراسة ماركس والثورة الفرنسية، تلك الثورة التي ظلت حتى انتصار لينين 1917 السابق الأعظم والمثال المحتذى لكل ثورة. ولكن ما إن وصل أبطال الثورة إلى السلطة ممتطين عربة الجماهير حتى انحدروا إلى الجانب الأخر من الفكرة وتحت شروط الواقع (التاريخ يسخر مرة اخرى) أكل وحش الدولة شحم الثورة ولحمها. ومع اللحظة الجنائزية المميزة لانهيار الاتحاد السوفيتي أخيرا 1991 سقطت التاء عن الثورة فأضحى الدب الروسي ثورا هزيلا قابلا للاختراق و التشظي.وذاب كالجليد من حوله، نضال سبعين عاما تحت ثقل نيران بركان الأقليات والقوميات الثائرة!.
عندئذ رمى الثوري سيكارته وداس عقبها بقدمه وجلس على كرسي التقاعد يشاهد التلفاز يعرض تساقط الرموز والشعارات والتماثيل ودوخته التحليلات الإخبارية التي أحالت العاصفة التي أطاحت بالنظم القديمة إلى محض عاصفة في قعر فنجان. لحظتئذ توقف الثوري أيضا عن قراءة التاريخ وابتدأ بقراءة الفنجان!

فاصل لإعلان التقاعد

في كل مكان كنت تجد الأذهان تتقد بفكرة التغيير والدماء تفور بتحدي الوضع القائم. وكان نمطياً (التكريس) الكامل للنفس من اجل العمل في سبيل الثورة، كانت عبادة الثورة شائعة وأنبياؤها يتربصون في الزوايا متهيئين في كل لحظة للانقضاض أما علامات ظهور الثورة فهي تبرز ابتداء من علامة ظهور الثائر بتلك السحنة وذلك الهم والتكريس الصوفيين فالثائر يظهر أولا ثم تأتي الثورة بعد ذلك. يرد وصف احد أنبياء الثورة كالأتي: لا وجود لرجل واحد في العالم اهتم مثله أربع وعشرين ساعة في اليوم بالثورة ولم تخطر في ذهنه غير الأفكار التي تتعلق بالثورة ولا يرى غير الثورة في أحلامه عندما ينام، كيف السبيل إلى التغلب على هذا الرجل؟. من هو هذا الرجل ؟

هذا المسافر هو فلاديمير ايليتش لينين.

لقد حق وصف سان جوست للثائر بأنه لا يستطيع النوم إلا في القبر، على لينين أكثر من أي راكب أخر في قطار الثورة . وعاد الإنسان معه ليتعرف على قواه الذاتية في صورة اخرى ابهى وأكمل ويتطابق مع إيمان ماركس بأن التحرر الإنساني غير متحقق إلا عندما يتعرف الإنسان قواه الذاتية وينظمها بوصفها قوى اجتماعية ولا يعود يفصل نفسه، بالتالي ،عن القوى الاجتماعية في شكل قوى سياسية. وغذت الأسطورة الجديدة سير عربة العالم يجذبها أفق الماركسية المرسوم وفق تصور يوتوبي للعلاقات الإنسانية:- فالأخيرة كانت خلال التاريخ محكومة بالقوة والاستغلال وسيحل محلها عند نقطة ما علاقة مثالية الطابع تماماً وتعاونية، هكذا يقدم (المجتمع اللا طبقي) نفسه بوصفه أسطورة المستقبل التي تعوض عن خيبة الأمل في الحاضر. وكانت الطبقة الثورية، صاحبة الرسالة التاريخية، هي البروليتاريا.
عاشت البروليتاريا، مرحباً بالقدر الجديد الذي سيوحد العالم في سياق حتمية فولاذية، هكذا فتح العمال أذرعهم تحت يافطة خرافة الوحدة الماركسية(يا عمال العالم، أتحدوا). لكن الماركسية (قبل أن تضطر أخيرا لوضع الماكياج) لم يكن لها وجه واحد فكان لا بد لها من أن تغير ملامحها لتلائم متطلبات الواقع الجديد في رحلة قطار الثورة بمقطوراته الآسيوية والأفريقية والأمريكية اللاتينية. ولتصبح أيديولوجيا الثورة لدى لينين قائمة على التحالف بين العمال والفلاحين ولتصبح (حرب الفلاحين) لدى ماوتسي تونغ وصدح صوت فرانز فانون بهجاء البرجوازية الوطنية وتوقفت عنده الثورة لتعرف بأنها إما أن تكون من الآن ثورة اشتراكية والا فلن تكون ثورة أبدا فالمرحلة البرجوازية في تصور فانون مستحيلة في البلدان المتخلفة. وحين مر قطار الثورة في محطة أمريكا اللاتينية وهو يقل كل من فيدل كاسترو وتشي غيفارا أتخذ منحى الطريق الثالث الذي يمكن أن تتخذه الثورة أو الطبعة الأمريكية اللاتينية منها حيث عدّ ريجيس دوبريه البؤرة(حرب العصابات) الشكل الوحيد الذي يمكن أن ينجح للكفاح المسلح في أغلب بلدان أمريكا اللاتينية .وذلك حتى جاء الرحالة الأخير هربرت ماركوز مزودا بعدة التحليل النفسي و قوت الفلسفة الهيجلية وزاد علم الاجتماع ليضع أول إشارة أمام المسافرين الغربيين توضح أن طريق الثورة قد بات مسدوداً وهو أول من تفضل بتقديم سيكارة للثائر المحترف معلنا إن زمن تقاعده قد حل.

الثقب الاسود يمتص ثوار العالم

ماركوز أوصد باب الثورة بالشمع الأحمر فالفرضية الأساسية في كتابه (الإنسان ذو البعد الواحد)تذهب إلى أن تكنولوجيا المجتمعات الصناعية قد زودت هذه المجتمعات بالقدرة على إزالة التناقضات الموجودة فيها ، فكأنها بذلك قد رسمت ثقبا اسودا امتص كل الخوارج أو القوى الانشقاقية العاملة ضد النظام القائم واجترحت معجزة إمكانية مواجهته بالرفض أو التحرر منه. التكنولوجيا الحديثة تمارس تأثيرا كليا ساحرا من خلال توفير ما يحلم به المرء من الكفاية والوفرة المادية فأي مجنون يثور ضد هذا الحلم ويحارب هذا التأثير الذي بات يحرر الناس من الحاجة المادية التي رأى ماركس إنها تعد شرطا مسبقا للحريات الأخرى .
يا للسخرية! ماركس قلب ساعة رمل الجدل الهيجلي الذي كان في رأيه يمشي على رأسه بدلا من قدميه لكن النظام السائد مستعينا بعصا التكنولوجيا السحرية قلب معادلة التحرر الماركسية على رأسها في عرض من اغرب عروض الخفة التاريخية فالتكنولوجيا التي تغنى الكثيرون بفتنتها والتي كان من المؤمل أن تحرر البشر من الحاجة المادية أضحت مدخلا لتوليد العبودية و بات الناس يميلون في ظل ذلك إلى أدوات سلبية في ظل النظام السائد .
كما إن التكنولوجيا قلصت دور البروليتاريا في الإنتاج وبرز العلم كقوة منتجة ونتيجة لذلك- وحسب وصف غارودي- تقلصت شمولية عذابات هذه الطبقة الثورية وسرعان ما حدثت تبدلات في بنيتها الطبقية مما جعل منها طبقة محافظة!(1)

خوارج العالم المعاصر

يصور ماركوز (المجتمع الرأسمالي) كمجتمع بلا أجانب ،بلا خوارج،بلا لامنتمين بل ان هذا المجتمع يسم المشروع اللاانتمائي بالجنون وتفرم ماكنته ادمغة الرافضين من دون حاجة إلى أن تطلق رصاصة واحدة .
لا اقل من تزييف وعي الفرد وجعل الحجارة التي يرمي بها النظام ترتد عليه في نوع من الإسقاط المضخم :-هل تحسب المجتمع لاعقلانيا؟! راجع نفسك جيدا وستجد انك خير من يستحق هذا الوصف !. شبكة هذا الاتهام المتعجرف تجر الميل الثوري في الفرد الى قفص الاتهام وترتد صرخاته الخارجية على وجهه وتقدم له مرآة تعكس صرخاته الداخلية صورة المريض النفسي في ملامح وجهه المجعد :- انك بحاجة الى علاج يجعلك اكثر انصياعا واشد تكيفا فكيف نستغرب رواج تجارة التحليل النفسي في الغرب التي تطرد شبح الثائر وتكيف الهيكل الخارجي للانسان وفقا لمتطلبات النموذج المقبول والمعقولية السائدة وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانحسار الجاذبية التي كان يتمتع بها الفكر الماركسي ترسخت مثل هذه الرؤية واصبح شائعا تقافز المفكرين الماركسيين عن قطار الثورة وتراجعهم عن الدعوة الى نسف أسس المجتمع الرأسمالي والمطالبة بدلا عن ذلك بإصلاحه مثال على ذلك كتاب رالف ميليباند( الاشتراكية لعصر شكاك) حيث يرى ميليباند انه( ليس معقولا) ؟ استبدال الرأسمالية بنظام يختلف عنها تماما وان (الاكثر معقولية)! هو ان ندفع باتجاه المزيد من الاصلاحات ضمن نطاق النظام الحالي فنحقق بالتالي رأسمالية أكثر إنسانية.؟!. (2)كما ان الحركات المناهضة للعولمة اليوم لا ترفض العولمة جملة وتفصيلا بل تناهض العولمة المفروضة من قبل المنظمات التي قامت في أعقاب الحرب العالمية الثانية نتيجة لاتفاقات بريتون وودز المالية والاقتصادية عام 1946وتدعو لبديل ملائم في أطار موجة العولمة السائدة أي عولمة ذات وجه ومضمون أنساني.
كما حاولت بعض المجتمعات الغربية دفع قطار الثورة نحو طريق وسط(الطريق الثالث) يحاول التأليف بين ايجابيات الرأسمالية وحسنات الاشتراكية وهكذا تطورت حركة جديدة (الاشتراكية الديمقراطية) تحل محل (الاشتراكية الدولية) وأفرزت أحزابا جديدة مثل الحزب الديمقراطي الامريكي الجديد وسائر احزاب يسار الوسط في كندا وامريكا الجنوبية واوروبا .و هكذا تم تبني هذا النهج من قبل حكومة توني بلير العمالية في بريطانيا وحكومة غيرهارد شرودر الاشتراكية الديمقراطية في ألمانيا كما تبنته حكومة بيل كلنتون الديمقراطية في الولايات المتحدة.
اما في بلداننا النامية فلا تزال الخيارات موجعة. ثورينا يختار التقاعد المبكر في المقاهي او يختار الانتحار على طريقة كامو أو الصمت على طريقة فنجستين أو يصبح نسخة رديئة من لامنتمي كولن ولسن كما صوره أبطال روايته (ضياع في سوهو) أو إذا كان من قلة القلة المحظوظة يهتدي إلى الايمان بانجيل الفن بعد كفره بتوراة الثورة كما فعل اندريه مالرو.
ووسط جبال الامية وصحراء القهر والغبن وتحت سماء لا تني تتسع باضطراد من بطالة يضيق فبها أفق فرص الأجيال الطالعة ليس إمام الغالبية من سيئي الحظ ،سوى الوقوع في ثقب الأصولية الأسود مع ما يحمله من بلسم كاذب ووهم خادع لجنة موعودة كبديل أخروي عن إفلاس مشاريع الجنة الأرضية،جنة التحرير والتنمية والتقدم المقرون بمشاريع التحرر الوطنية، متبعين في ذلك خطى الرومانسي الثائر (بن لادن)الذي يطمح من فوق حصان الأصولية الدينية إلى تغيير العالم(بل تفجيره وإمحائه) بإيديولوجيته الراديكالية الغيبية وبن لادن في وهم مثل هولاء ليس اقل من غيفارا جديد، كمايسهل شحن المخيلة بمحفز النظر إلى، أحداث الحادي عشر من أيلول ،كأول حدث ثوري يقوم بإشعال فتيله، أول خوارج العالم المعاصر. ولكن الحدث الثوري المزعوم تم قلبه وفق أجندة النخبة العالمية(التاريخ يسخر مرة اخرى) ليصبح المسمار الأخير في نعش المجتمعات التقليدية المصدرة للنفط والإرهابيين على حد سواء والتي يجب قلبها وتثو يرها بالقوة وفقا لمدخلات معادلة ديمقراطية الموجة الرابعة ومخرجات نتائج الحملة الثورية العالمية ضد الإرهاب!و التي ستطال تلك المجتمعات الخاملة المتعفنة التي لبس ثوريوها بدلات الجنرالات ودخنوا سيكارهم الكوبي في الوقت الذي أقاموا فيه حروب الكلمات وشيدوا جمهورية الشعارات وصنعوا ماكينة فرمت لحم الثوري الحقيقي لتصنع منه عجينة لينة لكرسي الحكم البغيض


رهانات الطريق المسدودة

ماركوز لا يكتفي بالإعلان عن إن البروليتاريا لم تعد عامل التغيير الاجتماعي بل يضيف أن هذا العامل لم يعد له وجود في المجتمع المغلق وإذا كان ثمة من أمل فأن ماركوز يعلقه على القوى التي لم يتمكن المجتمع المغلق من دمجها ( المنبوذين ،اللامنتمين،العاطلين عن العمل،الطبقات والعروق والألوان الأخرى المستغلة التي لم تدخل في لعبة المجتمع المغلق او لم يستطع إدخالها ) (3) وذلك في الوقت الذي راهن فيه آخرون على الحركات الطلابية في الستينات من القرن الماضي فضلا عن التيار المدافع عن حقوق السود وحركة تحرير المرأة بل وهناك من أضفى قيمة سياسية على الحركة الهيبية وذلك على الرغم من إن الهيبيين لا يريدون العمل في السياسة ويعتنقون عقيدة مبهمة قائمة على مزيج من الاستشراق الغامض والبدائية المزيفة ولا تتجاوز أسلحة النضال لديهم صنوف الإثارة الجنسية،المخدرات،الشعر الطويل،المتاريس،أحجار الشوارع،كوكتيل مولوتوف وسائر صنوف محاربة الوقار.(4)ولكن من يرسم لنا اليوم خلاصات أزمنتنا الراهنة، المعلبة برموز الكولا كولا ،والموشاة برقصة المكارينا التي ترفع السعرات الحرارية لمأكولات ماكدونالد في أجسادنا إلى مستوى التمثل الخالص لمجتمع الاستهلاك وثقافته السائدة ؟.
في زمن بات فيه الإذعان للسوق قانونا وانتهاج مبدأ الربحية دينا وفي ظل القوة الرهيبة لرأس المال على من نعلق أملنا ؟ هل من وجود لقوى مقاومة تعمل لخدمة الشعوب ضد عدم التوازن السائد وتعمل على إحداث التغيير المطلوب في قرية(بل كوخ) العولمة التي تتمثل أحدى تجلياتها بوصفها ثورة تكنولوجية تمتطيها نخبة تكنولوجية صناعية في ظل سعيها المحموم لتدعيم سوق كوني واحد وحكم العالم المعاصر ضمن دائرة توحد وتوحيد(مصطنع)، حيث لا يمكننا دون جهد جهيد، تبين قوى الثورة، ضد هذه الثورة الكونية المضادة ، سواء في داخل البلدان المتقدمة أو على صعيد بلداننا النامية؟ ربما لكي نحيط بذلك علينا التقدم خطوة للإمام لكي نستنطق بعض الأصوات الرافضة.

لغز القطع غير المتلائمة

في رسالة مفتوحة عن النظام العالمي الجديد كتب ماركوس قائد الزاباتيسا(حركة متمردين يقاتلون للتحرر من الدولة المكسيكية) عن صورة عالم اليوم التي لا تتلاءم قطعه البائسة مع نفسها حيث يرى أن الكوكب الأرضي بات ساحة معركة للحرب العالمية الرابعة وهدف الدول المتحاربة هو غزو العالم برمته من خلال السوق.وبالتالي حكمه من خلال مراكز قوى تجريدية(الأعمدة الضخمة للسوق)والتي لا تخضع سوى لمنطق الاستثمار.العولمة لدى ماركوس هي مجرد هيمنة توتاليتارية لمنطق الأسواق المالية على جميع مظاهر الحياة.في غضون ذلك، تسعة أعشار النساء والرجال على الأرض يعيشون مع القطع المثلمة التي لا تتلاءم مع بعضها البعض .(5)وحين يحاول ماركوس أن يلائم بين هذه القطع غير المتلائمة ليظفر منها بصورة واضحة لعالمنا يجد إن هناك كثيرا من القطع المفقودة. مع ذلك يبدأ بسبع منها محاولا حل هذا اللغز العالمي.وذلك على الرغم من إن هذه القطع السبع لن تتلاءم مطلقا مع نفسها لتقدم إي معنى. هذا الغياب للمعنى، هذا العبث، في نظره هو مرض النظام الجديد.
و حين نقوم بلصق القطعة الثالثة من قطع اللغز بالقطعة السابعة نصل إلى تصور معين للمقاومة العالمية فالقطعة الثالثة تتناول فائض النظام العالمي و هذه القطعة مستديرة كدائرة ماكرة.تتألف من هجرة قسرية حيث يحاول الأكثر قدرة على المغامرة،بين أولئك الذين لا يملكون شيئا،أن يهاجروا كي يبقوا على قيد الحياة.مع ذلك يعمل النظام الجديد ليلا ونهارا وفق مبدأ يرى أن أي شخص لا ينتج،أو يستهلك،وليست له نقود يضعها في البنك،هو فائض.وبالتالي يعامل المهاجرون،والمشردون الذين لا يملكون أرضا،كنفاية النظام ولذلك يجب أن يبادوا.(6)
كما إن القطعة السابعة من اللغز لها جيب. وتتألف من جميع أنواع جيوب المقاومة ضد النظام الجديد التي تتطور في انحاء العالم .وهناك بالاضافة الى الزاباتيستا جيوب أخرى،في ظروف مختلفة ولكن ليس لها برنامج سياسي مشترك ،ذلك لأنها توجد،في اللغز المحطم؟ومع ذلك فإن تغايرها يمكن أن يكون وعدا.الشيء المشترك بين هذه الجيوب هو دفاعها عن الفائض، عن الذين سيأتي دورهم على قائمة الابادة،(7)
ولكن الى أي حد يمكن فيه الاعتماد على مثل قوى المقاومة هذه لإحداث تغيير على مستوى عالمي؟

البديل للسيستام العولمي

قد يكون الاعتماد على الحركات المناهضة للعولمة خطوة على طريق أصلاح قطار الثورة اليوم ولا سيما بأن هذه الحركات قد أخذت بالاتساع،منذ أواخر تسعينات القرن الماضي ،وسرعان ما تحولت الى حركة دولية دشنت لقيام المجتمع المدني العالمي بل اصبح مصطلح المجتمع المدني العالمي متداولا في الخطاب الإعلامي وأصبح له مريدوه وتسابيحه وكهنته واعداؤه. وخلق الإدراك المشترك لمستوى التحدي الذي يفرضه السيستام العولمي على وضع البشرية أرضية للقاء والانخراط في نسيج مقاومة مشتركة بين كل من الحركات الاجتماعية والعمالية والحركات النسائية والبيئية والمنظمات الشبابية،والمنظمات غير الحكومية.وهناك الكثير ممن يعقدون الأمل على البديل السياسي الذي يمكن أن تقدمه هذه الحركات،ففي كتابه(ازالة العولمة) يراهن ويلدن بيلو walden bello وهو كاتب فيلبيني الأصل ،على الحركة المناهضة بوصفها القوة الصاعدة القادرة على إحداث مثل هذا التغيير وهذه الحركة بنظره ليست حزبا سياسيا كما أنها ليست تيارا سياسيا معينا انما هي قوة جماهيرية بالمفهوم العريض. لها قدرات تنظيمية محددة. وقد استطاعت أن تقيم تنظيما بديلا في مواجهة النخبة العالمية عندما اجتمع نحو 12الف ممثل للمجتمع المدني العالمي في بورتو أليغري في البرازيل في الوقت الذي كانت تجتمع نخبة النظام القائم في دافوس (سويسرا) في أواخر كانون الثاني 2001في محاولة من هذه النخبة للبحث عن مغزى انتشار هذه الحركة المناهضة للعولمة. وقبل دافوس وبعدها كانت اجتماعات هذه النخبة في سياتيل وواشنطون وملبورن وكيبيك(كندا) وبراغ وغوتنبرغ وجنوا ،حيث تمكن 200الفا من مناهضي العولمة من محاصرة القمة السنوية لمجموعة الدول الغنية في أواخر تموز 2001 وإفشالها وجاء بعد ذلك الاجتماع في دولة قطر حيث ظنت نخب المتعولمين إن الصحراء يمكن أن تحميهم وان الحركة المناهضة يمكن أن تدفن هناك.(8)
وفي أطار بحثه عن بديل للنظام (النيوليبرالي المعولم والمسلح) يلاحظ سمير أمين وجود حركات اجتماعية(يتجنب أمين استخدام صيغة المفرد للإشارة إلى هذه الحركات على أنها واحدة) ظاهرة أو اقل ظهورا، منظمة بشكل علني أو تعمل تحت الأرض.ولكن الجديد والمميز في هذه الحركات الاجتماعية(أو المجتمع المدني بتعبيرات الموضة) حسب تعليق أمين، إنها مفتتة ولا تشعر بالثقة في السياسة أو في الصياغة الايديولوجية.ويرى أمين إن هذه الحركات الاجتماعية موجودة ويتقوى وجودها وتحركها في كل مكان في العالم.ويجري التعبير عنها بواسطة الطبقات والصراع بينها ،وحركات النضال من اجل الديمقراطية ومن اجل حقوق المرأة وحقوق الفلاحين ومن اجل احترام البيئة....الخ وان الانضمام إلى هذه الحركات يعمل على بلورة البديل الذي سيغير العالم(9)
وإذ يلاحظ أمين بأن الشعوب لها عدو واحد هو رأسمال القلة الاحتكارية المعولم والامبريالي المسيطر والى جانبه مجموع القوى السياسية التي تقف في خدمته اليوم. وان هذا العدو(القوي للغاية) يتحرك في إطار استراتيجية اقتصادية ،سياسية ،أيديولوجية،عسكرية مشتركة.ولديه مجموعة من الهيئات المجندة لخدمته: المنظمة الأوربية للتعاون والتنمية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية وحلف شمال الأطلسي..الخ فأنه ينوه بشيء من الأسى، إلى انه حتى الآن ،فإن الغالبية العظمى من الحركات والمناضلين الذين ينشطون بها يتخذون موقفا ذيليا ويستجيبون بقدر من التأخير وبكفاءة أكثر أو اقل لهذه الاستراتيجية أو الخطاب .(10)
كما يلاحظ آخرون بأن مثل هذه المقاومة مجزأة ومبعثرة رغم الصلات والروابط التي أقيمت.فالروابط ضعيفة جدا،إن وجدت أصلا،بين انتفاضة السكان الأصليين في إقليم تشاياباس على سبيل المثال ،وإضراب للدفاع عن حقوق العمال في بيوريا،ومظاهرات طلابية ضد خفض الحد الادنى للأجور في باريس.وتستغل هذه التجزئة بسهولة من قبل أولئك الذين يريدون دفع قوى العمل المختلفة والشعوب والمجتمعات فيما بينها في سياق (السباق إلى القاع).(11)

اعادة إكتشاف مفهوم الثورة

وعلى الرغم من ذلك يذهب ليسلي سكلير في كتابه(الحركات الاجتماعية والرأسمالية العالمية)إلى انه بينما تنتظم الرأسمالية عالميا بشكل متزايد فأن بامكان المقاومة ضدها أن تكون فعالة في المكان الذي تستطيع فيه تعطيل سيرها السريع محليا وبإيجاد طرق لعولمة هذه المقاومة لكنه يلاحظ بأنه لم تظهر أي حركة اجتماعية حتى ولو من بعيد،من المحتمل أن تهزم الدعامات المؤسساتية الرئيسة الثلاث للرأسمالية العالمية التي حددت بالذات في: الشركات عبر القومية،الطبقات الرأسمالية العابرة للقوميات والإيديولوجية الثقافية للنزعة الاستهلاكية.(12) لذا حدد سكلير برنامج عمل المقاومة للحركات المضادة للنظام الرأسمالي العالمي بتحدي الشركات عبر القومية في المجال الاقتصادي ومعارضة الطبقة الرأسمالية عبر القومية والمؤسسات الفرعية المحلية في المجال السياسي والترويج لثقافات وأيديولوجيات مضادة معادية لاستهلاكية الرأسمالية في المجال الاقتصادي، كما ينبهنا سكلير إلى ضرورة الانتباه بشكل اكبر لحركات اجتماعية مثل الجماعات النسائية،منظمات الجوار،البيئيين،جماعات الحقوق المدنية وحركة السلام(13)
ويقترح سنكلير اقتراحا غير مألوف كإحدى الاستراتيجيات ضد شرك الحداثة والعولمة،و يتمثل ذلك بمحاربة النزعة الاستهلاكية .حيث يحاجج سنكلير بأن الاستهلاكية،كونها جزءا من الحداثة حلت تماما محل أيديولوجيات أخرى(نظم العقيدة) وشتت انتباه الناس عن الأضرار الحقيقة التي يعانون منها كنتائج العولمة وثقافة فكر الاستهلاك تعلن حرفيا، إن معنى الحياة يوجد في الأشياء التي تملكها، وبذلك ف(أن تستهلك) يعني تماما أننا أحياء، ولكي نبقى أحياء تماما يجب أن نستهلك باستمرار وينبه سنكلير إلى انه قد بات أمرا عاديا تقريبا أن يصنف المجتمع المعاصر شرقا وغربا،شمالا أو جنوبا،فقيرا أو غنيا على انه مجتمع استهلاكي. وحسب تعبير سنكلير ليس هناك شيء أو أحد محصن ضد التحول الى سلعة،والتحول الى تجارة،وضد أن يشترى ويباع كما يشير الى انه حتى ما يدعى بالثقافات المضادة يندرج اليوم في ثقافة الاستهلاك ليتحول الى قوة عظيمة للنظام الرأسمالي وللثراء الشخصي فقد أصبحت على سبيل المثال احتفالات الذكرى العشرين للثورات الطلابية في الستينات مناسبات في وسائل الأعلام،واستغلت بقسوة بشكل تجاري برغبة وربما بمشاركة مربحة للذين يكرسون أنفسهم للعمل على إسقاط النظام الرأسمالي. كما إن المخصصات الاستهلاكية للذكرى المئوية الثانية للثورات الفرنسية والأمريكية هي أمثلة أخرى مثيرة للاهتمام ، ويثير فينا سنكلير الفضول لمعرفة ما ستفعله الثقافة الاستهلاكية بالثورة البلشفية عام 2017؟!!(14)
وعلى الرغم من إن هذه الحركات الاجتماعية المضادة تنتظم في وجه الاعداء المحليين فقط،لكنها بنظر سنكلير تحتاج لأن ترتبط مع حركات اخرى حول العالم لتقف بنجاح ضد النخبة الرأسمالية العالمية. كما ينبغي ايجاد صيغ جديدة لاتعيد أنتاج الإخفاقات ولكن بالاحرى تعيد انتاج النجاحات مما يعني تعطيل الرأسمالية محليا وإيجاد طرق لعولمة هذه الإعاقات والتشويشات.(15)
ولكن الى أي مدى يمكننا أن نتقدم بالبديل الثوري إلى الأمام؟


التقدم الى الفجر

في كتابه الجميل(سادة العالم الجدد) الذي يفضح فظائع النهابين(سادة رأس المال المالي المعولم) ومرتزقتهم المخلصون لهم في منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي يشير المفكر السويسري جان زيغلر إلى شكل لدكتاتورية العولمية الجديد عبر الاستشهاد بمفهوم ال((تينا))الذي يقتبسه من تشومسكي والاخيرة تعتبر ملخصا للعبارة الانكليزي There is no Alternative أي: ليس من بديل. وهذا المفهوم حسب زيغلر هو أساس إمبراطورية النهابين.وبالنسبة لتشومسكي فإن البيان المؤسس ل((تينا)) هو التالي:ليس من بديل للنظام المركنتيلي(التجاري) الذي أتت به المؤسسات المستندة إلى الدولة،والذي انحرف بمساعدة شعارات مختلفة مثل العولمة وحرية التبادل. وعلى النقيض من ((تينا)) يضع زيغلر المطالبة بالمبدأ الأخلاقي الكامن في كل واحد منا كجوهر مضاد فالإنسان هو الفاعل الوحيد في التاريخ،في تاريخه الذاتي كما في تاريخ العالم حسب تعبير زيغلر.(16)
و مثل أقرانه السابقين يحذر الكاتب من تبعثر القوى العاملة ضد هولاء النهابين لذا يؤكد على ضرورة بناء جبهات المقاومة فتلك هي الطريقة التي يطبقها المجتمع المدني العالمي في التاريخ. وان جبهات المقاومة هذه هي التي تعرقل استراتيجية النهابين والتي تضم بدورها حركات عديدة ناشطة في القارات الخمس تتحالف فيما بينها الآن،فالنساء والرجال يأتون في المجتمع المدني العالمي الجديد من جبهات رفض شديدة التنوع.فساحات نضالها يفصلها عن بعضها الآخر الآف الكيلو مترات .ومنشأ كل واحدة منها ذاكرة جماعية وإرث ثقافي مختلف وأعضاؤها يتكلمون لغات مختلفة،ويحلمون بانتصارات محلية،ويواجهون المرتزقة بمختلف صنوفهم الذين يخدمون السادة أنفسهم.(17)
وويضع زيغلر اجتماع المنتدى العالمي الأول الذي عقد في بورتو أليغري في البرازيل في كانون الثاني 2001 كلحظة حاسمة أخذ عندها المجتمع المدني العالمي يبني جهازه وينظم نفسه.وهكذا كلما اجتمع السادة ومرتزقتهم في مكان ما من العالم يكون رجال ونساء المجتمع المدني العالمي حاضرين. فتعبئتهم تكاد تكون دائمة.في دافوس وواشنطن ومونتريال وبراغ ونيس وجنوى،وفي أي مكان يجتمع فيه السادة،سواء لحضور اجتماع المنتدى الاقتصادي العالمي أم اجتماع الثمانية الكبار أم منظمة التجارة العالمية أم المجلس الوزاري للاتحاد الأوربي أم مجلس البنك الدولي أم صندوق النقد الدولي،يظهر المقاومون بأسلحتهم السلمية وتندفع جموعهم المتظاهرة لمحاصرة مكان الاجتماع مما يغضب أتباع السادة .(18) اذن يلاحظ زيغلر بإعجاب انه على مدى القارات الخمس،في كل مكان،يصدم هولاء الرجال والنساء بسادة الكون ويعملون على كسر إمبراطوريتهم.ولكن حتى وإن كانوا يناضلون في جبهات مبعثرة فأنهم يتميزون بالقوة التي يرى زيغلر إنها تأتي بالضبط من العدد الذي لايحصى من الجبهات المحلية.وبهذا يرد المجتمع المدني العالمي حسب رأي زيغلر على التركيز العالمي لسلطات السادة. وينبه زيغلر على إنه من الخطأ الاعتقاد بأن هذا التجمع من الاحتجاجات المبعثرة تجمع هش بالضرورة.ذلك أن جميع هذه الاحتجاجات يسندها اقتناع وأمل مشتركان.ثم إن المقاومة بجبهات متعددة أكثر تأثيرا من هجوم مضاد من جبهة واحدة.(19)
ولكن هذا لايعني انعدام الروابط بين تعبيرات المقاومة المتنوعة حيث ذهب كل من جيرمي بريتشر وتيم كاسيلو في كتابهما (القرية الكونية) الى إن تعبيرات المقاومة بدأت بإيجاد الروابط فيما بينها بوسائل تتدرج من الزيارات الشخصية العابرة للحدود على المستوى القاعدي إلى شبكات الكومبيوتر العالمية إلى الاجتماعات المضادة التي تعقدها المنظمات غير الحكومية بالتوازي مع الاجتماعات السنوية للبنك والصندوق الدوليين.وبدأت هذه التعبيرات بتطوير برامج مضادة لإدارة الاقتصاد الدولي مثل برنامج حملة((خمسون سنة تكفي)) و((مبادرةالتجارة والتنمية المستدامة في شمال امريكا)) وتمثل هذه المبادرات التي شارك بها عشرات الملايين من الناس في رأي الكاتبين أحجار بناء محتملة لحركة عالمية الاتساع لمقاومة الانهيار اللولبي،حركة عولمة من الاسفل!(20)
مما تقدم يمكن عد الأفراد الذين يكونون الحركات الاجتماعية قوة تحتكر فكرة الثورة وقد يكون معنى الثورة في عصرنا ينسج في ضوء إيجاد رابط عالمي بين تعبيرات المقاومة المحلية وتنسيق عملها في سياق عولمة انسجام ثوري جديد! وقد حذر دوبريه في حوار له مع جان زيغلر من الافراط في التفكير عالميا فهذا بحسب تجربته يعد سببا في أخفاق حرب العصابات الطليعية في أمريكا اللاتينية.لكنه من جهة أخرى يؤكد على وجوب أن نفكر عالميا ،ولكن أن ننشط محليا على الدوام .الناس محليون أولا،وينبغي أن يقام سبيل للذهاب والإياب بين المحلي والعالمي حسب تعبيره.(21)ولكننا نؤكد من باب الانطلاق بتفكيرنا على نحو كوني وفي ضوء إدراكنا لحدود عالم الاعتماد المتبادل والتأثيرات العابرة للحدود بل ولنوافذ غرفنا الشخصية والمخترقة لمسام جلدنا، على أمكانية، أن يصيغ الادراك المشترك ،للمشاكل والتحديات ذات الطابع العالمي والتي لا يمكن التصدي لها، الا على نحو كوني، أرضية مشتركة، للقاء والعمل بين مختلف الحركات الاجتماعية، بل قد يكون الحديث واجبا ألان حول الحركة الاجتماعية الدولية(تجاوز صيغة الجمع) لبلورة المجتمع المدني العالمي الذي يتكون من مواطنين عالميين يؤمنون إن بالامكان تحطيم أيقونة نهاية التاريخ وتجاوز ايديولوجية ال((تينا)) وتغيير مسار التاريخ من خلال تأسيس مجتمع مدني عالمي. وقد نأمل مع زيغلر بأن تتحقق قريبا نبؤة الروائي الفرنسي برنانوس(ومن جديد سوف تهز خطوة الفقراء العالم).

الهوامش
1-جورج طرابيشي ،الاستراتيجية الطبقية للثورة،دار الطليعة،بيروت،1970،ص285-286.
2-رالف ميليباند،الاشتراكية لعصر شكاك،ترجمة:نوال لايقة،دار المدى للثقافة والنشر،دمشق،1998،ص21.
3-هربرت ماركوز،الانسان ذو البعد الواحد،ترجمة:جورج طرابيشي،دار الاداب،بيروت،الطبعة الثالثة،1988
،ص20-21.
4-جان فرانسوا ريفيل،رياح التغير الجديدة،تعريب فؤاد موريساتي،منشورات دار الافاق الجديدة،بيروت،ص139.
5-جون بيرغر،أهلا بكم في جحيم العولمة،في كتاب:نهاية البشرية،ترجمة:أسامة سبر،دار التكوين،دمشق،2003،ص48-49.
6-المصدر نفسه،ص49-50.
7-المصدر نفسه،ص51.
8-سمير كرم،حركة مناهضة العولمة والبديل الذي تطرحه،مجلة المستقبل العربي،بيروت،العدد 302لسنة 2004،ص88.
9-سمير أمين،البديل للنظام النيوليبرالي المعولم والمسلح،مجلة المستقبل العربي،بيروت،العدد298لسنة2003،ص14-15.
10-المصدر نفسه،ص15-16.
11-جيريمي بريتشر وتيم كاسيللو،مقاومة العولمة،ترجمة:الحارث النبهان،مجلة النهج،العدد 36 لسنة 2004،ص149.
12-ليسلس سنكلير،الحركات الاجتماعية والرأسمالية العالمية،في كتاب:من الحداثة الى العولمة،الجزء الثاني،ترجمة:سمر الشيشكلي، ،سلسلة عالم المعرفة،الكويت،2004،ص250.
13-المصدر نفسه،ص240.
14-المصدر نفسه،ص245-246.
15-المصدر نفسه،ص242،232.
16-جان زيغلر،سادة العالم الجدد،ترجمة محمد زكريا أسماعيل،مركز دراسات الوحدة العربية،بيروت،2003،ص249.
17-المصدر نفسه،252،235.
18-المصدر نفسه،253-254.
19-المصدر نفسه،244-245.
20-جيريمي بريتشر،مصدر سابق،ص166-167.
21-دوبريه وجان زيغلر،كي لا نستسلم،ترجمة:رينيه الحايك وبسام الحجار،المركز الثقافي العربي،بيروت،1995،ص111.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل ساعدت كوريا الشمالية إيران بهجومها الأخير على إسرائيل؟ |


.. مسلسل يكشف كيفية تورط شاب إسباني في اعتداءات قطارات مدريد في




.. واشنطن تؤكد إرسال صواريخ -أتاكمس- بعيدة المدى لأوكرانيا


.. ماكرون يدعو إلى أوروبا مستقلة أمنيا ودبلوماسيا




.. من غزة| 6 أيام في حصار الشفاء