الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مسرحيات أبسن= إسترجاع الماضي + المناقشة + الشخص الثالث.

صباح هرمز الشاني

2019 / 4 / 30
الادب والفن


مسرحيات أبسن= إسترجاع الماضي + المناقشة + الشخص الثالث.

صباح هرمز

1- هيدا جابلر:

يقول الكاتبان مالكم برادبري وجيمس ماكفارلن في كتابهما (الحداثة) في الجزء الثاني منه: (نشرت مسرحية هيدا جابلر في إسكندنافيا في عام 1890. في عام 1892 ترجمت هذه المسرحية ونشرت في المانيا ثلاث مرات، وفي إنكلترا وأمريكا مرتين، كما ترجمت ونشرت في فرنسا وهولندا في عام 1895، ترجمت الى اللغات الايطالية والاسبانية والبولندية. والأكثر من ذلك، وبعد مرور سنة على تأليفها، مثلت في ميونيخ برلين، هلسنكي، ستوكهولم، كوبنهاكن، كرستيانا، روتردام، لندن وباريس. وفي السنة اللاحقة 1896 مثلت في بيتسبورغ وروما. ولم يسبق أن أستحوذ كاتب مسرحي على خشبة المسرح الأوروبي أو أحتكر المناظرات العامة كما فعل أبسن.)1
كتب أبسن هذه المسرحية عام 1881، وتتكون من أربعة فصول، وسبع شخصيات، ثلاث منها رجالية، وأربع نسائية، وكمعظم مسرحياته تجري حوادثها في غرفة أستقبال، وتبدأ بزيارة (مس تسمان) لبيت أبن شقيقها (جورج تسمان) زوج (هيدا جابلر) للأطمئنان على أحوالهما، بعد عودتهما من رحلة الزفاف، وتتكرر نفس البداية في مسرحيتي (أيولف الصغير) و(البطة البرية)، في الأولى، بزيارة (أستا) وهي أخت الفريد غير الشقيقة، (ويتبين فيما بعد لا تمت إليه بصلة) للأطمئنان على إبنه (ايولف الصغير)، والثانية بزيارة (أكدال) الثقيلة وغير المرغوبة لبيت (لوفبورج).
ومثلما يستخدم أبسن في هذه المسرحية الشخص الثالث لأثارة المشكلة القائمة بين الزوجين، ودفعها بقوة الى أمام، وهي شخصية (لوفبورج)، فهو كذلك يستخدم نفس التقنية في مسرحية: أيولف الصغير، وبيت الدمية، والبطة البرية، ففي المسرحية الأولى تلعب شخصية (أستا) هذا الدور، وفي الثانية ( كروبشتاد)، والثالثة (جر يجرز).
بأستثناء شخصية (لوفبورج)، تظهر كل شخصيات المسرحية في الفصل الأول، كاشفة عن معالم وأبعاد قوتها وضعفها، بما فيها شخصية لوفبورج، من خلال الحوار الدائر بين الشخصيات، وتتميز من بينها شخصية هيدا جابلر القوية، بفرض سطوتها على الشخصيات الست للمسرحية. وبشكل خاص زوجها الطيب الوديع، والراضخ لكافة مطالبها التي هي في الحقيقة أوامر، يقوم بتنفيذها كمطي خنوع، ذلك لأنها أبنة جنرال، وتزوجته لا تيمناً بشبابه، أو إعجابا بثقافته، بل لكي لا تصبح عانساً. (وولدت في طبقة محدودة التجربة ضيفة الأفق، تعتمد في سلطانها على المظهر، السالب للقوة، ألا وهو الإكراه وإستعراض العضلات.)2 أو كما يلخص برنادشو شخصيتها، (بالجري وراء المظهر الأجتماعي والزواج الغني.)3
أما الناقد البريطاني المعروف كينيث تاينان، يرى هيدا جابلر، (أنها إمرأة عقيم، مفترسة في عقمها، فكأنما هي جرادة في أحد المروج، تأكل كل ما تقع عليه من زرع نضير وتحل محله الخراب.)4. بينما عند الكاتبة جيني لى (ليست إمرأة، بل سلاحا فتاكا. إنها هي نفسها ذلك المسدس الذي يحكم أحداث المسرحية ويبرز وسطها كسيف القدر. والمسدس في رأيها هو بطل المسرحية، بدلا من هيدا جابلر، إنه يدور، رمز لشيء أكبر منه، هو العاطفة الجنسية المكبوتة عند هيدا.)5. (ويأتي فهم شخصيتها على هذا النحو، إستناداً لجملة اسباب، وتأتي في مقدمتها إهانتها للعمة تسمان في أول لقاءها، من خلال تنسيب قبعتها، لقبعة إحدى الخادمات، مع أنها رهنت معاشها السنوي، لتعطي ضمانا بالثمن والأثاث والسجاجيد الموجودة في دار هيدا. وحديثها مع زوجها بشكل غير مؤدب، وما يوحي الى عدم إحترامه. وغيرتها من غريم زوجها الذي كانت تربطها في يوم ما علاقة به، خشية أن يشغل الوظيفة التي تطمح أن يحتلها زوجها، وأنتقامها منه في النهاية، بتمزيق مخطوطة كتابه، وموته بالمسدس الذي تهديه له في بيت مومس. يقول الدكتور علي الراعي في المقدمة التي كتبها لهذه المسرحية: (فما قصد أبسن قط أن يكتب مأساة حين كتب هيدا جابلر. وإنما أراد فقط أن يدرس نفسا بشرية في ظروف ذاتها. وهو نفسه يقول الكلام بالضبط في رسالة بعث بها الى المترجم الفرنسي للمسرحية، فهو يحدد هدفه من المسرحية بقوله: قصدت بها أن أصور الشخوص الأنسانية، وأحوالها النفسية، ومنازعها في ضوء مواقف محددة أتخذتها هذه الشخوص، وتحت ظروف خاصة تمر بها.)6.
ويضيف: ويذكر أدموند جوس أن أبسن فكر في كتابة هيدا جابلر عقب قراءته نبأ في إحدى الصحف عن إمرأة أنتحرت لمجرد أن الملل قد أشتد بها.)7.
وتظهر في الفصل الأول شخصية نسائية أخرى، وهي شخصية (مسز الفستد) الشبيهة بشخصية (نورا) في مسرحية بيت الدمية بتمردها على زوجها وتركها لبيتها، بحثاً عن معلم أطفال زوجها، وغريم جورج تسمان الكاتب الموهوب (لوفبورج) التي تلعب دوراً رئيساً في توضيح علاقة الشخصيات بعضها بالبعض، وتساهم في إرتياد (لوفبورج) الى منزل هيدا للقاء بـ (مسز الفستد) مع أنه ينجذب الى هيدا، بسبب علاقته القديمة بها.
ويطرح أبسن في هذا الفصل كل أحداث المسرحية، تاركاً الدخول في التفصيلات لبقية الفصول. من خلال ثلاث شخصيات نسائية، وهي هيدا ومسز الفستد ومس تسمان، الأولى بطموحها وعنادها وتحديها، والثانية خيانتها، والثالثة طيبتها، وتقابلها ثلاث رجالية أيضاً تتحلى بنفس الصفات، وهي لوفبورج مع الفستدا، و هايدا، وبراك مع هيلدا، وجورج تسمان مع عمته، ليشكلا ثلاثة خطوط، أثنان منهما في مواجهة الآخر، وهما الخط الاول والثاني، والثالث كلتا الشخصيتين يسيران في نفس الأتجاه وبدون مواجهة. ولرجحان كفة الأول والثاني على الثالث، المتمثلين بالطموح والعناد والتحدي والخيانة على الطيبة، هما اللذان قادا أحداث المسرحية لأن تنحو بأتجاه مقتل لوفبورج وإنتحار هيلدا، ويوحي أبسن وعلى لسان هيلدا الى هذا المعنى في نهاية الفصل الأول، وهي تخاطب زوجها بأختصار الى مسدساتها، أي مسدسات الجنرال والدها، الرامزة الى الطموح والتحدي. وهذا المعنى يتوضح أكثر في بداية الفصل الثاني، عندما تقوم هيدا بحشو المسدس وتصويبه نحو براك. ويحدث نفس الشيء في بداية الفصل الأول لمسرحية (أيفانوف) لكاتبها تشيكوف، عندما يصوب (بوركن) مسدس نحو وجه (أيفانوف)، حيث ينتحر أيفانوف في نهاية المسرحية، وفي هذه المسرحية هيدا جابلر.
*مسرحية (أيفانوف):
أيفانوف جالس أمام الطاولة يقرأ كتابا. ويظهر بوركن في آخر الحديقة منتعلاً جزمه خاصة بالرماية وحاملا مسدسا. عند رؤيته لأيفانوف، يقترب منه بحذر على رؤوس أصابعه، ولدى دنوه منه، يصوب المسدس نحو وجهه.
أيفانوف (يرى بوركن ويثب فجأة): ميشا يا إلهي! ماذا ...لقد أخفتني وأنت بالطبع مسرور للغاية...
بوركن (يضحك بشدة) أنا آسف أنا آسف (يجلس الى جانبه) لن افعل ذلك ثانية، بصدق لن أفعل.
*هيلدا جابلر:
هيلدا: (ترفع المسدس وتصوبه) والآن سأرميك بالرصاص أيها القاضي براك.
براك: (مناديا دون أن يظهر) كلا، كلا! لا تقفي هكذا وتصوبي المسدس نحوي!
هيدا: هذه عاقبة من يتسللون من الأبواب الخلفية (تطلق النار).
براك: (يزداد صوته إقترابا) هل فقدت صوابك ؟!
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا بألحاح هو الفارق القائم بين هذين المشهدين من حيث توظيف مسوغاتهما فنياً، بالأحرى غلبة وتفوق أحدهما على الآخر جمالياً. ولعل الأجابة على هذا السؤال يقودنا الى القول، أن أبسن أستوحى هذا المشهد عن تشيكوف، لأن مسرحية (أيفانوف) مكتوبة قبل مسرحية (هيدا جابلر) بثلاث أو أربع سنوات. فقد عرضت الأولى عام 1887، ونشرت الثانية عام 1890.
لقد عمد أبسن أن يأتي هذا المشهد في بداية الفصل الثاني، وذلك بعد أن هيّأ الظروف الموضوعية له في الفصل الأول، بعكس تشيكوف الذي أستهل مسرحيته به، وهذا يعني أنه لم يأت بشكل مفاجيء في المسرحية التي نحن الآن بصددها، بينما جاء بشكل مفاجيء في مسرحية (أيفانوف)، ولكن هذا لا يقلل من شأنها، لأن عملية الأنتحار تحدث في النهاية. ويستفيد أبسن من هذا المشهد في توظيفه بشكل أعمق. اذ لا تقوم شخصية أخرى بتصويب المسدس الى وجه المنتحر، كما يحدث في مسرحية أيفانوف، بتصويب بوركن وكيل أعمال أيفانوف الى وجه أيفانوف، وإنما يقوم بهذه المهمة، الشخصية نفسها التي تؤدي الى قتل إحدى الشخصيات، وإنتحارها وأعتقد أن هذا المنحى أكثر إقناعا. ولكن. بالمقابل أن اطلاق النار من قبل هيدا، يعطي إنطباعا، الى أن حدوث عملية القتل أمر لا مناص منه، ولا بد من وقوعه في نهاية المسرحية، وبهذا يكون المؤلف قد تسرع في إعطاء أهم العناصر الدرامية للمتلقي بشكل مجاني، وهو التشويق بينما في أيفانوف، يبقى هذا العنصر قائما الى نهاية المسرحية، لأكتفاء بلوكين بممازحة أيفانوف، عبر تصويب فوهة المسدس نحوه، دون إطلاق الرصاص، موحياً المؤلف بأحتمال وقوع عملية القتل، وترك المتلقي في فرضية هذه الاحتمالات. وبوسع الكاتب المسرحي أن يهيء الأذهان الى حادثة ما أو للنهاية، كماحدث في مسرحية (آل روزمير) بأنتحار زوجة روزير الأولى إذ أن لقائه بريبكا ينذر بوقوع الفاجعة وتتصاعد نبرة التوجه نحو القتل الى نهاية الفصل الثاني، وخاصة في الحوارات الدائرة بين هيلدا وبراك، وتبدأ من وصف هيلدا لحجرات البيت مشبعة برائحة اللاوندة وأوراق الورد الجافة، وأن فيها شيئاً من رائحة الموت، الى شعورها بالملل وقتل نفسها، وبين هيلدا ولوفبورج من استفسارها لوفبورج عن سبب عدم اطلاق هيلدا عليه النارو بين مسز الفستد وهيلدا، في خوف الأولى من الثانية.
بين هيلدا ولوفبورج:
لوفبورج: (يقبض أصابعه بشدة) أوه..لماذا لم تنفذي وعيدك
لماذا لم تطلقي على النار؟
هيلدا: لأنني خشيت الفضيحة.
بين هيلدا وبراك
براك : والآن؟ بعد أن جعلناها بيتا جميلا من أجلك؟
هيلدا: اغ! إن الحجرات مشبعة برائحة اللاوندة وأوراق الورد الجافة. ولكن لعل العمة جوليا هي التي أحضرت معها هذه الرائحة.
بين هيلدا ومسز الفستد
هيلدا:.....( تقبض عليها بعنف بين ذراعيها) أظن أنني يجب أن أحرق شعرك من على رأسك مهما يكن الأمر!
مسز الفستد: دعيني! دعيني! إنني خائفة منك يا هيلدا. وفي الفصل الثالث يكشف المؤلف عن لغز المسرحية وعقدتها الكامنة في ضياع رزمة كتاب لوفبورج، والعثور عليها من قبل جورج تسمان الذي يسلمها الى زوجته هيلدا على أمل إعطائها له فيما بعد التي تحرقها، وإتهام لوفبورج لديانا ذات الشعر الأحمر بسرقة محفظته، وبعد أن تغلق كل الطرق أمامه، يحاول إنهاء حياته، وتطلب منه هيلدا أن تقترن محاولته هذه بطريقة جميلة، وتهديه المسدس الذي صوبته إليه ذات مرة لأستخدامه لوفبورج: (ينظر إليها) هذا؟ أهذا هو التذكار؟
هيلدا: (توميء) ببطء أعرفته لقد صوب إليك مرة.
لوفبورج: كان ينبغي أن تستخدميه وقتذاك.
هيلدا: خذه.. وأستخدمه أنت الآن .
لوفبورج: (يضع المسدس في جيب صدره) شكراً لك!
هيلدا: بطريقة جميلة يا أيارت لوفيورج، عدني بذلك.
إلآ أنه يموت بطريقة ذليلة في بيت أحدى الدعارة.
وفي هذا الفصل تلتحم ثلاثة عناصر ميلودرامية مع بعضها، وهي الأثارة والتآمر والشاعرية، ليأتي أكثر نضجا من الفصلين الأولين والأخير من حيث حبكته الفنية المحكمة الصنع، متمثلاً الأول بأهداء هيلدا المسدس (لوفبورج، بحرق رزمة كتاب لوفبورج من قبل هيلدا، والثالث تشبيه عملية تمزيق الكتاب بعملية قتل الطفل.
مسز الفستد: هل تعلم يا لوفبورج أن ما صنعته بالكتاب..سأظل أذكره الى يوم وفاتي كما لو أنك قتلت طفلا صغيراً.
لوفبورج: نعم، أنت على حق..أنه أشبه بقتل طفل
مسز الفستد: كيف أمكنك إذن..! ألم يكن طفلي أيضا؟
هيلدا: (بصوت لا يكاد يسمع) آه..الطفل..
وهنا في هذه العبارة الأخيرة التي تطلقها هيلدا، لا يظهر الجانب الآخر من شخصية هيلد المتمثل بالجانب الأنساني المحروم عن إنجاب الأطفال. وحب البراءة فحسب، وإنما يكشف هذا التناقض عن شخصيتها المعقدة-المركبة، والقوية. ولعل هذا ما أدى بها الى الأنتحار، الى جانب خداعها لزوجها وعدم حبها له.
كما إن مجيء عبارة (قتل الطفل) أكثر من مرة على لسان لوفبورج ومسز الفستد، تذكرنا بالطفل (أيولف) في مسرحيته) (أيولف الصغير) وهو يموت غرقاً، نتيجة إهمال والديه له، وبالتشابه القائم بين معاناة أبطال المسرحيتين، مع أن مسرحية هيلدا جابلر، كتبت قبل مسرحية أيولف الصغير بأربع سنوات، إذ كتبت الأولى عام 1890 والثانية عام 1894.
وفي الفصل الرابع وهو الأخير تخبر هيلدا زوجها، بحرقها للمخطوطة وينتحر لوفبورج بأطلاق الرصاص على نفسه. ويبدو أن الشجاعة التي واتت لوفبروج تنسحب الى هيلدا وتتطور من كون ما أقدم عليه لوفبورج (شعور بالحرية) الى (الموت خير لها)، لأكتسابها الشجاعة التي كانت تنقصها من لوفبروج، وخشيتها من وقوفها أمام المحكمة ومع ديانا المومس، للأجابة عن سبب إعطاء المسدس لـ لوفبروج.
وعندما تجد نفسها وسط مأزق لا يمكن الخروج منه بسلام، ترفع لأول مرة رأسها الى براك بذل، وهي تطلب منه الرحمة، والخضوع لأرادته وأوامره، بل وعبدة بين يديه، ولكن براك يرد عليها بسخرية، (يتعود الناس غالبا قبول المحتوم).
وهنا ترد هيدا على سخريته بمثلها، وتسير نحو المكتب وتكتم إبتسامة لا إرادية وتقلد نبرات زوجها ماضية في طريقها، وهي تمر يدها برقة خلال شعر مسز الفستد، الى الحجرة الخلفية وتسدل الستائر، وتسمع طلقة من الداخل. يهب تسمان ومسز الفستد وبراك على أقدامهم.
تسمان: اوه لقد عادت الى اللعب بتلك المسدس ثانية. (يزيح الستائر ويسر ع الى الداخل وتتبعه مسز الفستد ترقد الفستد ممدودة على الأريكة بلا حراك، إضطراب وصراخ، تدخل برتا من اليمين مذعورة.
تسمان: (صارخا براك) ضربت نفسها بالرصاص في الصدغ! تصور!
براك: (يكاد يغمي عليه في الكرسي) يا الله الناس لا يفعلون مثل هذه الأشياء.
يؤكد أبسن كثيرا على قوة شخصية هيدا، من خلال تحديها للآخرين، وغيرتها، وصلافتها، وبالمقابل ضعف وطيبة شخصية زوجها، وبالغ في تصويرهما من هاتين الناحيتين، حدا بلغ، أن ظهرت هيدا بمظهر المرأة العدوانية، وتسمان بمظهر الرجل الساذج الأقرب الى الغباء. وجملة ( أنها ستدق الجرس أذا أرادت شيئا)، التي يطلقها تسمان أدل نموذج على ذلك. وهي إن دلت على شيء، فأنما تدل على تعامل هيدا مع زوجها كتعاملها مع خادم المنزل، أو تعامل الموظف مع الفراش في الدوائر الحكومية، وما على هذا الخادم، أو الفراش إلآ أطاعة سيده. ولو تابعنا مثل هذه الجمل، لوجدنا العديد منها. وجملة (أنني مسرور من أجل هيدا، طالما قالت قبل خطوبتنا أنها لا تحب أن تسكن إلآ فيلا أرملة الوزير فالك)، هي الأخرى تعبر عن نفس الشيء، وهكذا أيضا جملة (هذه الخادمة لا تصلح لنا) التي تلفظها هيدا، و( لقد تركت قبعتها القديمة على كرسي) وتقصد هيدا مسز تسمان. وقولها لزوجها ( أنت لا ترى شيئا)، و(دعيني)، و(أرجو أن تسكت)، و(أرغام مسز الفستد على الجلوس)، و( لايعرف أكثر من النبش في الكتب)، و(شخص لا يتغير)، و(تزوجته من أجل إيصالي الى المنزل، ولأنها تعبت من العنوسة)، و(ألا تنتهي من هاتين العمتين)، (وأشفقت عليه)، إلآ أن أغرب سذاجات زوجها، هي عدم معرفته أن هيدا تظهر حبها له على هذا النحو، إنطلاقا من أنها لم تستطع أن تحتمل فكرة أن أنسانا آخر قد يحجب عنه الأضواء. ، الخ. . . وعلى هذا الأساس، أساس حبها الجارف له، فيجب أن تشاركه العمة جوليا، سعادته هذه.
وإلى جانب التقنية الأولى في رسم الشخصيتين الرئيسيتين القائمة على التضاد بينهما، لا كغريمين متنافسين، وإنما كسيد وعبده، فقد عمد أبسن الى إستخدام تقنية الأيحاء، بالتركيز على شخصية هيدا تحديدا، وجاءت أول ما جاءت على لسان الخادمة (برتا)، لأنتقالها من منزل العمة جوليا الى منزل هيدا، عبر جملة (أنا خائفة كل الخوف ألآ أعجب السيدة الصغيرة، لأنها متكبرة جدا). وهي إشارة واضحة الى تعاملها بشكل سيء مع الناس عامة، وأن هناك من يخافها وليس من جانب الخادمة فحسب، وإنما يكاد هذا الخوف أن ينسحب الى كل شخصيات المسرحية، وفي مقدمتها مسز ألفستد، لأنها كانت تجذب شعرها، عندما كانا زميلتين في الدراسة، ومرة قالت لها، أنها ستحرقه من على رأسها. وفي نهاية الفصل الثاني تجرها في شيء من العنف. وكلا الفعلين، يومئان الى ما تؤول إليه المسرحية، وهي إحراق هيدا لكتاب صديقها وصديق مسز الفستد، لوفبورج، كما أن زوجها يخاف منها، لأنها هددته بالمسدس، عندما أخبرها وبخجل وتردد، بأن عليهما أن يعيشا في الحاضر بدون مجتمع، فما كان عليها، إلآ أن ترد عليه ( بدون خادم ولا حصان الركوب)، مشيرة الى أقصى الغرفة وهي تقول ( حسنا لدي شيء واحد لأقتل به الوقت) ، صائحة ( مسدساتي يا جورج، مسدسات الجنرال جابلر) . في إشارة الى قوة وجبروت وعزيمة والدها في عدم التراجع عن قراراته، وأن هذه الصفات ورثته منه.
وهذا التهديد بالسلاح، لم يتوقف عند حد زوجها، وإنما تعداه وصولا الى براك وأيلرت لوفبورج. الأول من خلال تصويب المسدس نحوه، ومن ثم رفعه، وهي تطلق النار، والثاني عبر عدم جرأتها على إطلاق النار عليه. أما قولها جملة ( أن أقتل نفسي من الملل)، وتكرارها لمفردة (الملل)، ثماني مرات، فعدا كون ثيمة المسرحية مبنية على هذه المفردة، فأن هيدا تنتحر في نهاية المسرحية.
كما إن جملة ( هكذا سريعا) التي تأتي عن غير قصد في المرة الأولى على لسان هيدا، وتروم موته، بيد أنها في المرة الثانية تطلق جملة (أن الصدر مكان جيد)، أي أصابة الرصاص في هذه المنطقة، تدل ما لا يقبل الشك، أنها تتمنى للوفبورج الموت، لكي تطمئن من عدم جرها الى المحاكم، جراء إحراقها لكتابه.
وجملة ( يا له من شعوربالحرية ذلك الذي يجده الأنسان حين يفكر في العمل الذي أقدم عليه أيلرت لوفبورج)، مثلها مثل الجملة السابقة ( أن أقتل نفسي من الملل)، والتي أطلقتها هيدا، تهدف الى الأنتحار أيضا، حيث تتحقق أمنيتها بالوصول الى هذه الحرية، بأنتحارها في نهاية المسرحية.
والتقنية الثالثة، كمعظم مسرحيات أبسن، هي الأسترجاع التي أستخدمها مرتين فقط، مرة ومسزألفستد، ترجع بهيدا، الى أيام دراستهما معا، والثانية في الحوار الدائر بين هيدا ولوفبورج، حول صداقتهما، قبل أن يتزوجا، إذ كان لوفبورج، يجيء الى منزل أبيها بعد الظهر، وكان الجنرال يجلس بالقرب من النافذة يقرأ الصحف، لتتحول تلك الصداقة الى حب، والتقنية الرابعة التي أستخدمها كثيرا، وفي مسرحية (سيد البنائين) أيضا، تقنية المناقشة.

2- أيولف الصغير:
كتب أبسن هذه المسرحية عام 1894، وتتكون من ست شخصيات هي: الفريد المرز. صاحب أملاك وأديب. كان يوما مدرسا. ريتا زوجته. أيولف أبنهما عمره تسع سنوات. أستا المرز أخت الفريد الصغيرة وغير الشقيقة. بورغم مهندس. الزوجة الفأر. وتقع في ثلاثة فصول.
وتجري أحداثها حول الفريد الذي كان من المزمع أن يؤلف كتابا في الجبال عن مسؤولية البشر ، إلآ أنه بشكل مفاجيء وغير متوقع يعود الى المنزل دون أن يكمل مشروعه هذا، ذلك لتوجيه عنايته بأبنه الكسيح وصرف إهتمامه به بدلا من إهدار وقته في شأن آخر، ويحض هذا الموقف الزوجة الى الغيرة لا على شقيقة المرز(أستا) فقط، لأنها تحب شقيقها وأبنه الى حد كبير، وإنما تمتد حتى الى أبنها المعوق الذي يسير بوساطة العكازة، النابعة من عاطفتها المفرطة تجاه زوجها التي تأبى أن يشاركها فيها حتى فلذة كبدها، ويقف القدر بوجه الفريد بالمرصاد حائلا دون تحقيق حلمه في تنفيذ مشروعه ليخطف أبنه منه بغرقه في مياه الجدول القريب من منزلهم، حيث يبدأ الزوجان بتوجيه الأتهامات الواحد للآخر بتسبب غرق أبنهما، الى أن يقر الزوج والزوج بأخطائهما تجاهه وذلك بعد أن يسمعا صيحات الأطفال الفقراء، ليجدا فيها العزاء الذي يذكرهم بأبنهما إنطلاقا من عدم موته عبثا، ويكرسا حياتهما لرعاية الأطفال الفقراء.
هذه هي بأختصار أحداث المسرحية، وهي في الحقيقة تكاد أن تخلو من ألأحداث ما عدا حدث غرق أيولف. ولعل تكثيف الحدث على هذا النحو كان سببا في ضخها بالرموز والبناء الفني المحكم . وتبدأ بوصول (أستا) القادمة من المدينة الى منزل شقيقها الفريد لرؤية أيولف، وتستقبلها في المدخل زوجة شقيقها (ريتا) مستغربة من مجيئها المبكر، وما أن تقع عيناها على حقيبة شقيقها وريتا تفرغها من محتوياتها حتى تفطن بأن ألفريد قد عاد من الجبال، وتخبرها ريتا أنه من شدة تعبه لأنه جاء مشيا كان على وشك السقوط، وخلال فترة غيابه التي لم تتجاوز ستة أسابيع شعرت بوحشة وفراغ كبيرين، بلغت حدا كما لو أن شخصا قد مات. إذ من هذه الجملة تشرع حبكة المسرحية التي توحي الى حدوث شيء من هذا القبيل في أسرة الفريد، وهو موت أيولف، ويتكرر نفس المعنى في جملة شعرت أني لو تركته يخرج مرة واحدة فلن يعود ثانية، ذلك أنها توحي الى الموت أيضا، وريتا بصدد الحديث عن مكوث الفريد في الجبال مع أستا. ويتأكد هذا أكثر عندما تبدي أستل عدم خشيتها من فقدان أحد، ويغيض ريتا هذا الرد، لتقرنه أستا بمكان تواجد شقيقها وهي تقول (نائم ؟ )، أو كما لو كانت تريد أن تتأكد أنه ما يزال على قيد الحياة وليس ميتا.
ربما لأن الفريد لم يكتب حرفا واحدا من كتابه (مسؤولية البشر )، أو لأن تغيرا ما طرأ فعلا على تفكيره، فبدأ يظن أن التفكير أهم من الكتابة ليستاء الأبن والأم من التصريح الذي أدلى به الأب، غير أن الأخير يقول وهو يمسح على شعر أبنه نعم يا ولدي إذا قلت ذلك. ولكني
أقول لك أن هناك شخصا سيخطفني ويكتب هذه الأشياء.
بقدر ما توحي هذه الجملة هي الأخرى الى موت أبنه لأنه يخاطبه تحديدا و لجوئه وزوجته في نهاية المسرحية الى الجبال لرعاية ألأطفال الفقراء، بنفس القدر توميء الى أن الشخص الذي سيختطفه هو الكتاب المزمع تأليفه تحت عنوان (مسؤولية البشر ) من خلال تكريس بقية حياته لرعاية الأطفال الفقراء.وأن سبب موت أيولف والتأخر في رعايته بالأضافة الى التعامل بدونية مع هؤلاء الأولاد وهو يقول في يوم ما سيعرفون من السيد هناك، دفعه لتأنيب الضمير، وهذا الشعور هو الشخص الذي سيقوم بكتابة هذه الأشياء. ويتبلور معنى هذه الجملة أكثر، أو تفسر هكذا بأقترانها بالجملة التي تليها والأب يرد على سؤال أبنه بأنه ربما يستطيع تسلق الجبال الشاهقة إذا ما أسترد صحته، في إشارة الى إيجاد البديل عنه بتسلق هذه الجبال متمثلا بأبناء أطفال الفقراء الذين يتمتعون بصحة جيدة.
ويخبر أيولف عمته بأنه قد رآى المرأة الفأر التي تسمى (الأم لوبوس) ومعناه الذئب، وهي تتجول في البلد تطرد الفئران، وبينما هم بصدد الحديث عنها تدخل الزوجة الفأر، وفي هذه الأثناء يتشبث أيولف بتنورة عمته كما لو كان خائفا وهي تبدي سرورها بإنقاذهم من الأشياء التي تقرض، وبعد أن توعز إليها ريتا بالجلوس، تشرح لهم العمل الذي تمارسه يوميا في الليل على الجزر، حيث أرسلوا الناس في طلبها، مع أنهم لا يريدون ذلك ، ولكن لعدم وجود خيار آخر أمامهم وأنتشار الوباء بينهم، أضطروا لسد رمقهم بسبب الفئران والفئران المولودة الجائعة أن يغرسوا أسنانهم في التفاحة المرة، ثم جاءت هي مع كلبها الصغير وقضيا على كل القوارض.
ولعل نعت أيولف لوجه الكلب الصغير، بأنه أبشع وجه يراه في حياته، ورد المرأة الفأر عليه بجملة (ستغير رأيك)، ليغيره في الوصف الثاني له وهو يقول (أنه جميل) بعكس الوصف الأول، إن أوحى في رأي الزوجة الفأر الى موت أيولف وندمه على وصفه الأول، فأن وصف أيولف الثاني يوحي الى إنبعاثه من خلال رعاية والده لأطفال الفقراء، ولم يأت أبسن بشخصية المرأة الفأر لترمز الى الشر فقط، وإنما وظفها للخير أيضا، مقرونة بطبيعة عملها في كلا المنحيين، عبر مقارنة غرق أيولف بالقوارض من جهة وعطفها عليها من جهة أخرى، إذ مثل القوارض تسحب المرأة الفأر أيولف الى المياه وتغرقه، وبالمقابل فهي تصف عملها الشائن هذا، أو الحيوانات التي تغرقها بالملائكة الصغيرة، في إشارة الى أيولف، وهي تصف القوارض بعد غرقها بالرقة التي تشبه وصف الأنسان وليس الحيوان، هكذا ثم تحصل على الظلام والهدوء والسلام الذي نتمناه – تلك الملائكة الصغيرة. هناك تنام نوما لذيذا طويلا. .
في بداية المسرحية، عندما تدخل أستا المنزل يشير المؤلف الى أنها كانت تحمل تحت ذراعها حقيبة أوراق كبيرة مغلقة. وبوضع خطين تحت كلمة (مغلقة)، يتبين أن القصد منها هو إحتوائها على سر كبير وخطير، وبعد مغادرة المرأة الفأر يدور الحوار بين الفريد وأستا حول خطابات العائلة التي طلبت أم أستا من أستا أن تقرأها، ووجدت فيها شيئا مثيرا، لذلك تريد أن يقرأها الفريد كذلك، وعندما لا يستجيب لطلبها توعده أن تقرأها له في ليلة هادئة، ولا ينكشف هذا السر إلآ في نهاية الفصل الثاني، أي بعد مرور خمسين صفحة على بداية المسرحية.
ويأتي الشر الذي تركته المرأة الفأر في منزل الفريد بشكل مباشر على لسان ريتا وهي تقول تلك المرأة البشعة ! لقد أحضرت رائحة الموت الى البيت. وكانت بشاعتها من الحدة ما جعلت ريتا وهي بالحجرة أن تشعر بالمرض، ويقرن الفريد أنتياب هذا الشعور في الجبال، عندما يكون المرء وحيدا، حيث يشعر بتلك القوة التي تجبر وتسحب الأشياء.
وهذا الفهم من جانب الفريد هو الآخر قابل للتأويل بأتجاه سحب هذه القوة المتمثلة بالمرأة الفار لأيولف للموت من جهة، والفريد للتغيير.
وتتكرر كلمة (التغيير) أثنتي عشرة مرة في الفصول الثلاثة بنصيب مرتين في الفصل الأول وستا في الفصل الثاني وأربعا في الفصل الثالث. وتأتي في المرة الأولى على لسان أستا ردا على فهمه لرائحة الموت وهي تقول له شيء ما حدث. لقد تغيرت. وريتا تعرف ذلك. بينما تتكرر كلمة (الشريرة) ست مرات، بنصيب ثلاث مرات في كل واحد من الفصل الأول و الفصل الثاني.
ويقر الفريد بتغيره، لكنه نحو ألأفضل، وليس نصيحة الطبيب هي التي دفعته الى الجبال، وإنما لأنه لم يجد الهدوء ليكتب أكثر من ذلك، مسيئا إستخدام مواهبه الحقيقية وإهداره للوقت في آن، لذلك يبدو له تأليف الكتاب أقل أهمية من أداء واجبات الأبوة تجاه الأبناء، لعدم مغادرة وقعة أيولف المؤلمة من باله أبدا، سيما والكل يعرف أن لا أمل في شفائه.وهو ليس بوسعه أن يجمع بين الكتابة وتحقيق ذات أيولف، سيحقق مثله العليا عن مسؤولية الأنسان من خلال حياته ذاتها.
وتتزامن خبطة بورغيم السريعة على الباب ودخوله مع القرار الذي أتخذه الفريد بشأن التفرغ لرعاية أيولف، ليتبين أن بورغيم قد أنتهى من تنفيذ الطريق الذي أنشأه في الضيعة وهو الآن بصدد إبرام عقد جديد لطريق كبير يشق في الشمال.
لقد أحدث أبسن عملية المونتاج حيث طفقت الأزمة تطفو على سطح الحدث في الخطين الرئيسين للمسرحية اللذين هما التغير الحاصل في شخصية الفريد التي تواجه العوائق من قبل زوجته، والتغير الحاصل في شغل بورغيم الجديد المعرض للعقبات أيضا من قبل الجبال الرامزة للتصدي الذي يلقاه في البداية من إنجذاب أستن إليه، ريتا عبر تنحيها عن الفريد، وأستا من خلال رفضها في أول الأمر التمشي مع بورغيم. وكلا الخطين يسيران معا بشكل متوازي الى أن يلتلقيا في النهاية بتحقيق هدفهما المنشود.
وبقدر ما أتسمت عملية المونتاج بمسوغاتها الفنية، بنزوع المؤلف الى المقاربة بين الخطين الرئيسيين لحبكة المسرحية، بنفس القدر أتسم الربط من حيث تم القطع بما يبرره فنيا، بأثارة الفريد موضوع زواج أستل ببورغيم، هذا الزواج الذي يسعد ريتا لأنها ستتخلص منها وسيبقى زوجها لها وحدها، ومبررات هذا الربط بالقطع تبرز في ديمومة حالة تذمر ريتا وإنتقالها من الموضوع الأول الى الموضوع الثاني، تحديدا من تنحيها عنه للدلالة الى عدم رضاها الى أن تقول لأنها ستضطر لأن تسافر معه بعيدا ولن تستطيع العودة لزيارتنا ثانية. ويتم بناء هذه التشكيلة الجمالية المتكونة من القطع والربط والديمومة وبالرغم من إختلاف الموضوعين الواحد عن الآخر، ذلك أن الأول يدور حول أيولف والثاني حول أستا، في ألأحتفاظ على إيقاع الحدث، وإيقاع الحدث هنا هو الحالة التي تمر بها أستا بين القطع والربط وهو التذمر في كلتا الحالتين.
ولكن هذا لا يعني أن إيقاع هذا الحدث يتوقف عند حد معين أو يسير على وتيرة واحدة، بل بالعكس يأخذ بالتصاعد كلما أشتدت حدة الحوارات الدائرة بين الزوجين، سيما من جانب ريتا الساعية الى التفرد لوحدها بزوجها، رافضة أن يشاركها شخص آخر وحتى لو كان هذا الشخص أبنها أيولف في حبه، وبلغت درجة أنانية تملكها لزوجها حدا تلغي فيها غريزة الأمومة بأبتهالها الى الله بعدم ولادة أبنها، لأنها خلقت لتحمل طفلا لزوجها وليس لتقوم بدور الأم. وتصل ذروة هذا التملك في الجملة التي لا تكملها ريتا التي تدعو فيها الى موته وتوحي إليه في الوقت نفسه وهي تقول عندما تذكر أسم أيولف يصبح صوتك رقيقا وترتجف .[تهدده وقد تشابكت يداها] أكاد أتمنى أن – آه – حسن . لينظر اليها الفريد مرتعدا وهو يقول لها ماذا تتمنين يا ريتا ؟.
وهنا يصعد بورغيم وأستا من الحديقة لتتم عملية المونتاج الثانية وبنفس الطريقة الأولى من حيث إشتراك الأربعة بمعضلة من دون أن يستطيعوا حلها، الفريد وريتا معضلة أيولف، وبورغيم وأستا معضلة زواجهما.وإذا كان الفريد يحذر ريتا بعدم أندفاعها نحو الشر، فأن بورغيم يعلن بأنه لوحده سيقوم برحلة طويلة. وما أن يقول بورغيم هذا الكلام حتى تحملق فيه ريتا وتقول أراهن أن عينا شريرة أصابتك هنا. ولكن من غير المتوقع أن تكون هذه العين كما تقصد هي أن تكون عين الطفل بالأشارة الى عين أبنها أيولف. وفي الوقت الذي يصدم فيه بورغيم من إيمانها بالعين الشريرة، ويصدم زوجها من الرأي الذي أبدته، تتهم زوجها بأنه هو الذي جعلها كذلك.
وعقب هذه الجملة تسمع صرخات متداخلة لأستغاثة الطفل الغريق الذي هو أيولف، حيث الوحيد من بين أصدقائه لا يعرف السباحة، وتصرخ ريتا فجأة في خوف ( أين أيولف؟).وهي تشبك يديها فوق رأسها بينما يطلق بورغيم وأستا صرخة مكتومة، لتشير حركة الثلاثة عبر اليد والحنجرة ومن دون التفوه بأية كلمة, وعودة ريتا تصرخ وهي تدخل الحجرة وتغوص في المقعد الى أن الغريق وبشكل مؤكد هو أيولف، وينتهي الفصل الأول بجري الفريد عبر الحديقة شارد الذهن وهو يقول يجب . يجب . حياة قيمة. حياة قيمة. .
إن قصة موت أيولف تشبه الى حد كبير بقصة خطيئة آدم وحواء من خلال إغراء ريتا زوجها ونسيان أبنهما الطفل، الأمر الذي أدى الى سقوطه وبالتالي العوق الذي أصابه وجراء ذلك عدم قدرته السباحة ومقاومة المياه ليلقى حتفه غرقا، وإذا كان هذا الأغراء ليس جديدا لأن سبق وأن عرج إليه المؤلف في الفصل الأول، إلآ أن حيثياته تتضح أكثر في الفصل الثاني أثناء أحتدام النقاش بين الزوجين حول المتسبب منهما الى موته، ويبدأ هذا الوضوح من جملة الفريد وهو يقول ثم أتيت – وأغريتني. وترد هي عليه قائلة كن رجلا وأعترف بأنك نسيت الطفل.
وفي الجملة التي يرد عليها بأنها في تلك اللحظة حكمت على أيولف الصغير بالموت. تتجلى المقاربة بين إغراء حواء لآدم وإغراء ريتا لألفريد، حيث في كلتا الخطيئتين يموت الأنسان وينال جزاؤه، أو كما يقول الفريد إذا أردت نحن كلانا مذنبان . إذن كان هناك جزاء في موت أيولف. والمقصود نيل الأنسان جزاء الموت وعدم الخلود للخطيئة التي أقترفها في أكل التفاحة .
وترد في الحوار الدائر بين الشخصيات العديد من المفردات والجمل والعبارات التي توميء الى هذا المعنى كالمفردات الثلاث التي يرددها الفريد الحياة- الخلق- القدر. بالأضافة الى قوله ها هو ذا أيولف على وشك إكتشاف الحياة. ويقصد سر الموت .
والمرأة الفأر تقابل خطيئة التفاح في آدم وحواء، إذ مثلما يوقع التفاح آدم وحواء بالخطيئة، كذلك فأن المرأة الفأر تسحب أيولف نحو المياه، وكلاهما آدم وحواء و أيولف ليس لهما تجربة سابقة، الأولان في قضم التفاحة والثاني في السباحة.
كما أن رفض ريتا بقفزها في الخليج لتلحق بأبنها وتتخلى عن الحياة مقابل دخولها الى الجنة، ورد الفريد عليها لا نحن ننتمي الى هذا العالم على هذه الأرض حيث نعيش. وتعقب عليه ريتا نعم هنا السعادة التي نفهمها. كل هذه الجمل بالأضافة الى جمل عديدة أخرى، تدل على أن الأنسان ما دام يعيش على هذه الأرض فهو معرض للخطيئة، وجزائها هي الموت.
ولا يفوت أبسن إستخدام الطريقة الأسترجاعية كما هو عهده في معظم مسرحياته مستخدما إياها في هذه المسرحية مرتين، مرة في الفصل الأول والمرة الثانية في الفصل الثاني. ففي الفصل الأول يقارن الفريد بين ماضيه وحاضره، متذكرا يتمه مع أستا وهما لا يمتلكان بنسا، وفي الفصل الثاني الفريد مع أستا أيضا متذكرين طفولتهما، وقياسا بالفصل الأول، فأن الطريقة الأسترجاعية التي يعول عليها في الفصل الثاني طويلة جدا، إذ تقع في ثلاث صفحات تقريبا، بينما لاتتعدى في الفصل الأول أكثر من جملة واحدة، وتبدأ في الثاني من جملة هذا مثل ايام زمان، وتنتهي بجملة كان بنا كثير من الوقار وأخذنا أنفسنا مأخذ الجد وكنت دائما أناديك أيولف.
وتتمحور فكرة المسرحية أساسا حول التغيير، وهذا ما يحدث في نهاية المسرحية، إذ تتغير كل الشخصيات الرئيسة وهي أربعا. ريتا من أنانية تملكها لزوجها وبمعيته الى رعاية الأطفال الفقراء ، وأستا من التردد بالزواج ببورغيم الى موافقتها، ولا يسافر بورغيم لوحده كما كان مقررا وإنما مع أستا، وبذلك يتحقق هدفه في إجتياز الطرق الصعبة في الجبال. و يلتقي الخطان الرئيسان في النهاية في نقطة واحدة وهي الحب .

3- سيد البنائين:
يبدو لي أن هذه المسرحية هي من أصعب مسرحيات أبسن وأكثرها نضجا لا لأنها من أواخر مسرحياته وتتناول سمات القرن التاسع عشر بروية وعمق، وإنما أيضا لتزاحم الثيمات والتقنيات الفنية على حد سواء وبنفس المستوى فيها.
ولم يكتب بعدها سوى مسرحيتين أخريين، هما ( جون جبريل بوركمان) 1896، و( عندما نسقط نحن الموتى) 1899، بينما كتب المسرحية التي نحن بصددها عام 1892.
وتتكون من ثلاثة فصول، وسبع شخصيات، وهي:هالفارد سولنس: البناء العظيم، آلين سولنس:زوجته، دكتور هردل:طبيب، كنوت بروفك:مهندس معماري سابق، ويعمل الآن في مكتب سولنس، راجنربروفك:أبنه، كايا فوسلي:أبنة أخيه، كاتبة (فتاة محفوظات)، الآنسة هيلدا وأنجل.
وتدور حوادثها في غرفة الرسامين للخرائط المنزلية بدار هالفارد سولنس (صاحب المكتب)، حول رغبة كنوت بروفك أن يقوم أبنه راجنر ببناء البيت الريفي الذي أعد رسوماته وأعجبت الزوجين اللذين من المزمع أن يسكنا فيه، إلآ أن سولنس يقف بالضد من هذه الرغبة، بالرغم من مرض الأب وتوسلاته في تحقيق حلمه هذا قبل موته، بذريعة تلك هي فطرة سولنس التي فطر عليها ولا يستطيع أن يغير ما فطر عليه.
ومع أن سولنس لم يسمح لراجنر أن يعمل لذاته مستقلا عن إستشارته، فهو لا يرغب أن يتخلى عنه، لأنه يرتبط بعلاقة حب مع خطيبته (كايا)، لذلك يحاول أن يضغط علىيها بأن تطرد من ذهن راجنر هذه الأفكار، لأنه بذلك سيحتفظ بها أيضا.
وآلين زوجة سولنس ترتاب في علاقة زوجها مع كايا، ويناقش الطبيب هردل هذه المسألة مع سولنس الذي لا يكتفي الأقرار بعلاقته معها، وإنما يتباهى بها، ولا يخبر زوجته بهذه الحقيقة، إنطلاقا من إنه يجد نوعا من تعذيب النفس المحبب في أن يدع آلين بأفكارها. ويتهم الطبيب أنه كان يراقبه أثناء حديثه، لأنه يظن به كما تظن آلين بأنه مريض، ومع ذلك فأن الحظ لم يأته إلآ من خلال أسرة آلين بأحتراق منزلهم، ولكنه يخاف أن يسرق منه هذا الحظ من قبل الجيل الجديد.
وبقوله (أن الجيل الجديد الآن على بابي، تلك هي إذن هي نهاية هالفارد سولنس)، تطرق هيلدا على الباب، ويدور حوار طويل بينهما حول لقائهما الأول قبل عشر سنوات، عندما كانت وقتئذ مجرد طفلة في الثالثة عشر من عمرها، وكان هو قد جاء الى المدينة التي تسكن فيها، حيث ألتقيا بمنزل والدها، وتطلب منه أن يسمح لها بقضاء هذه الليلة في منزله، ذلك أنها لا تعرف غير عائلة سولنس في هذه المدينة، ولم تجلب معها إلآ الثياب التي ترتديها.
وبعد أن يغادر الطبيب الغرفة لفحص مرضاه وزوجة سولنس لتهيئة غرفة النوم لهيلدا، تعود هيلدا بسولنس عشر سنوات الى الوراء لتذكره بالأحداث التي مرت بهما أثناء تواجده في مدينتها، سواء أثناء صعوده أعلى البرج أو زيارته لوالدها في المنزل، وتخبره بأن الفتاة الصغيرة التي أندفعت نحو البرج وهو في أعلى قمته وكادت أن توقع به أرضا من ذلك العلو كانت هي بصياحها: (مرحى بالبناء العظيم سولنس). وتبرر إندفاعها هذا لعدم تصديقها بأستطاعة بناء تشييد برج شامخ ولا تصيبه بادرة من الدوار، وقد عرفت أنه لم يكن كذلك بالفطرة لأنه غنى وهو في الأعلى، كما وتخبره بحادثة تقبيلها، ولأنها في ذلك اليوم كانت تشعر بكثير من المرح والأنطلاق فقد قال لها بأنها ستكون أميرته.
وإذا كان سولنس قد أنكر في البداية مسألة تقبيله لها، إلآ أنه سرعان ما عاد ولم يقر بفعلته هذه فحسب وإنما ذهب أكثر وهو يصف ما قام به كان يفكر به ويرغب فيه، لا وبل أراده وتاقت نفسه إليه، وها هي الآن جاءته ليحقق الحلم الذي وعدها به وهو أن يجعلها أميرة وبالأضافة الى ذلك أن يعطيها مملكة.
ومثلما جاءت هيلدا تبحث عن حلمها، كذلك فقد عاد راجنر بعد أن يأس من إقناعه أن يعمل بشكل مستقل عنه، عاد يرجوه ويتوسل إليه أن يحقق حلم أبيه من خلال كتابة بضع كلمات على أحد رسومه تتضمن موافقته ليقرأها قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة لتدهور صحته، غير أن سولنس يرد على طلبه بقساوة، ما يدفع بهيلدا أن توبخه، وتنعت تصرفه هذا بالقبيح والفظ والقاسي والفظيع والرديء، ويرى أنه يتصرف كذلك لأنه دفع غاليا لكي يبلغ الى مركزه، دفع أكثر من أي أنسان، ووضع سلام روحه في كفة الموازنة، وليبرهن على ذلك يحكي لها حادثة الشرخ الذي لاحظه في المدخنة قبل أن تحترق ولم يبادر الى علاجه أو إصلاحه، مع أنه هو الشخص الوحيد الذي لاحظه ولم يخبر أحدا، إذ كان يؤجل العمل به، لأنه كان يدير شيئا ما في رأسه، كأن عبر هذا الشرخ، يغدو بناء، وقد أفادته هذه النار، وجعلت منه بناء، ومع أنه أحس بالحرية والسعادة حين أنتهى من بناء برج الكنيسة في مدينة هيلدا، بيد أنه قرر ألآ يبني بعد ذلك شيئا من هذا القبيل، لا كنائس ولا أبراج كنائس، ويقوم بدلا من ذلك ببناء البيوت للبشر، ويحز في نفسه لأنه أخطأ في إندلاع الحريق، بالرغم من إنه لم يكن له يد في الموضوع، وتخشى هيلدا أن يكون سولنس مريضا، أثر تكلمه بهذه الطريقة، ذلك أن الشرخ الصغير لا صلة له بالحريق، وإن النار شبت أولا في صوان ملابسه، أي في مكان آخر من المنزل، ويقرن سولنس ثقته هذه بندرة من الناس قد وهبت القوة والأمتياز في أن ترغب شيئا، حتى ليحدث، ولكن ليس وحده هذا الأنسان يستطيع أن يصنع مثل هذه الأشياء العظيمة، وإنما بتعاون المستخدمين والمساعدين له، ورغم قناعته بالدورالذي يلعبه الناس المشتركين معه بالعمل إلآ أنه، يحس كأن هناك جزءا ضخما في صدره، وأن هؤلاء المساعدين والخدام يظلون ينزعون قطعا من جلد الآخرين لكي تلتئم قرحته، وللمرة الثانية ردا على تصريحه هذا لا تتوانى أن تنعته هيلدا بالمريض، والقصد من هذا الوصف هو أنها تريد أن يكون ضميره قويا جدا وليس ضعيفا.
وإذا كان سولنس كذلك، فأن هيلدا لا تقل عنه ضعفا في الضمير، بدليل أنها بالرغم من حبها الشديد لوالدها، إلآ أنها قررت ألآ تعود الى البيت إطلاقا، وقد غادرته وفاء لعهد سولنس بعد إنقضاء عشر سنوات ليجعلها أميرته، وهي بذلك مثله فيها شيئا من المارد الذي يستدعي القوى الخارجية، وما على المرء إلآ أن يرضخ له شاء ذلك أم أبى.
وبعد أن يشبه سولنس هيلدا بالطائر البري ثم بالطائر الجارح وأخيرا بيوم مشرق، يظن أنه دعاها إليه في سره، لأنها الجيل الجديد الذي يخشاه ويحن إليه ، لتستغل هيلدا أنجذابه هذا إليها وتدعوه الى موافقته على رسوم راجنر، لكي يهب ووالده الفرحة قبل أن يفترقا، ولا يوافق سولنس لأنه في شبابه أنتزع من والده الذي كان مهندسا معماريا عمله منه، حين كان يعمل في مكتبه، وهو الآن يخشى أن ينقلب عليه راجنر كما أنقلب هو على أبيه، أو كما يسميه بالجيل الجديد.
سولنس: نعم ثقي بذلك، أنه لقادر عليه، أنه الجيل الجديد الذي يقف متأهبا ليقرع بابي . . ليضع نهاية سولنس!
هيلدا : ولذلك أنت تعرفه . . تبا لك يا مستر سولنس!
ويدب اليأس في نفس سولنس، خوفا من أن يفلت الحظ من بين يديه، وينال ثمن الجزاء الذي أقترفه بحق والد راجنر، غير أن هيلدا تطلب منه ألآ يتحدث بهذه الطريقة لأنه بذلك يريد أن يقتلها وأن يسلب منها ما هو أكثر من الحياة، لأنها تتوق أن تراه عظيما، وهنا توعز إليه أن يكتب موافقته على الرسوم الذي لا يتوانى ملبيا رغبتها. ولكن والد راجنر لم تتح له فرصة البهجة، لأن موافقة سولنس وصلت بعد فوات الأوان، أي أنه كان فاقد الوعي، لذا يطلب سولنس من راجنر أن يعود الى البيت ليظل بجانب أبيه، فيخبره أنه لم يعد بحاجة إليه لأن كايا تجلس بجانب سريره، ويرد عليه:عد الى البيت من أجله ومن أجلها. أعطني الأكليل.
ولاتصدق هيلدا بما ينقله راجنر عن سولنس في أنه قد عرقل تقدمه في العمل، ما حدا بوالده ألآ يثق به وألآ يثق هو بنفسه، وأستيلائه على عقل كايا، بدليل عجزها التخلي عنه بالأضافة الى إرتباطه بعلاقة معها، وعلى أساس عدم تصديقها بهذه الحقائق، تكذبه وتحذره من مغبة غروره، وتشرع بالثناء على سولنس وقدرته الفائقة على الأرتفاع عاليا، وتدخل معه في رهان على أنه سيفعلها اليوم مرة أخرى، وفي هذه الأثناء يكون سولنس قد أخذ الأكليل معه ليصعد أعلى البرج، وعندما تنتبه زوجته الى أنه يريد أن يعيد تجربته السابقة، تسعى لمنعه، لأن الطبيب هردل كان قد أخبرها عنه أشياء كثيرة ومختلفة، وقبل أن يصعد البرج يعترف لهيلدا بأنه خائف، ليس من السقوط، بل من جزاء الله.
وتنتهي المسرحية في الحوار التالي:
هيلدا:أن ما يفعله الآن هو المستحيل، أتستطيع أن ترى أحدا آخر معه في القمة.
راجنر:لا أحد غيره.
هيلدا:بل هناك الواحد الذي يتبارى معه.
راجنر:أنك مخطئة.
هيلدا:أذن أنت لا تسمع أغنية تتخلل الهواء أيضا.
راجنر:لا بد أنه صوت الريح في فم الأشجار.
هيلدا:أنظر أنه يلوح بقبعته. .
مسز سولنس:أنه يسقط . . يسقط.
ثمة تضارب بين ما جاء في رأي الناقد الكبير الأراديس نيكول وبين مترجم هذه المسرحية الشاعر صلاح عبد الصبور، حول الفترة التي كتبها أبسن، ومستواها الفني، أذ يعتقد (الأول بأنه كتبها في فترة شبابه، وأن الرمز فيها صريح ظاهر لدرجة تجعله يبدو لنا أمرا لا يدل على نضوج وإكتمال بل يكاد يبعث على (الضحك والسخرية)8.، بينما يذهب الثاني الى أنها من (أواخرمسرحياته، وليست مسرحية سهلة، تعطيك مستواها من أول قراءة، ولكنها عمل ضخم متداخل شأن الأعمال العظيمة جميعها)9.

عاش أبسن ثمانية وسبعين عاما، فقد ولد عام 1828 وتوفي في 1906. وإذا كانت هذه المسرحية من أواخر مسرحياته، وكتبها عام 1892، أي قبل وفاته بأربعة عشر عاما، فهذا يعني أنه كان في الرابعة والستين من عمره عندما كتبها، وليس في ريعان شبابه كما يقول الأراديس نيكول . كما أنها لو كانت من أولى المسرحيات التي كتبها، لأتسمت بالشعر الذي تتردد فيه أنفاس فاوست لجوتيه، بينما هي مكتوبة نثرا. ثم أن الأعمال العظيمة كما هو شأن هذا العمل، غالبا ما تأتي بعد تجربة طويلة للكاتب، أي في آخر أعماله وليس بدايتها.
وضخ المسرحية بالرموز لا يعد نقصا، حتى إذا أفرط الكاتب في توظيفها، سيما إذا كان هذا الآسلوب يتبعه أبسن في معظم مسرحياته. بأختصار، يبدو لي أنه جمع كل تجاربه وصبها في هذه المسرحية، وبشكل خاص في ما يتعلق بالجانب الرمزي. ويستطرد نيكول قائلا: (ورغم علم سولنس بأن عقله لا يقوى على تحمل هذا العلو الشامخ الذي تدفعه إليه هذه الشابة، إلآ أنه يدفع نفسه الى الصعود، فيشعر بدوار ويهوى هشيما الى حتفه. . . )10.
يبدي ناقدنا الكبير هذا الرأي الغريب، ناسيا أن الثيمة الرئيسة للمسرحية هي مناقشة مفهوم (العظمة)، عبر التصدي للصراع الدائر بين الجيل الجديد والقديم، وسعي الجيل الثاني البرهنة، متمثلا بسولينس، أن الرجل العظيم هو الذي يمتاز على الآخرين، أو كما يقول صلاح عبد الصبور( والعظمة تدير الرأس، لأن العظيم يكون عادة شديد الأحساس بعظمته، حاد الأدراك لما في روحه من خصب وما في نفسه من قوة، وهو يدأب على المقارنة بينه وبين الأشخاص العاديين، ويخرج من هذه المقارنة بأحساس منتصر)11.
ما من مسرحية كتبها أبسن تضم قدر هذه المسرحية من المفردات والتراكيب اللغوية التي توحي الى مختلف قضايا الحياة، كالشيطان والمريض والمارد والشك والطبيعة الغريزية والبرج والقلعة والجيل الجديد والقديم والببت الجديد والقديم والأحتراق الرامزة الى الموت والصراع بين جيلين والعظمة والحرية والأنطلاق والأنانية والتضحية.
وتأتي مفردة (المريض) الموحية الى الموت، وتتكرر كثيرا، موت بروفك وسولنس، في مقدمة هذه المفردات والتراكيب اللغوية لأقترانها بنهاية المسرحية، وتبدأ المسرحية أول ما تبدأ بشكوى( بروفك) من ضيق التنفس، معززة (كايا) شعوره هذا بجملة أنك تحس بالمرض، مؤكدا هو الآخر بدوره إساءتها يوما بعد يوم. وتأتي في المرة الثانية على لسان سولنس، متهما الطبيب هردل بظنه به كما تظن زوجته من خلال إعتقاده أنه كان يراقبه أثناء حديثه معه، والمرة الثالثة من لدن هيلدا ردا على إرتيابه بمساعديه.
تذكرني مفردة (المريض) بمسرحية الأب لسترندبيرغ، تحديدا بشخصية الكابتن الذي توصمه زوجته بهذه الصفة وبأتفاقها مع الطبيب، وهذه المسرحية هي الأخرى كمسرحية الأب لا تخلو من شخصيتي الزوجة والطبيب، إلآ أن الزوجة هنا لا تلعب دورا خبيثا وتآمريا من أجل أستشعار زوجها بأنه يعاني من مرض، كما فعلت (لورا)، بل بالعكس فأنها رغم معرفتها بخيانته لها مع كايا وهيلدا، تسعى الى الأحتفاظ به وتحرص على سلامته. وتجمع بين الشخصيتين أكثر من صفة، وأبرزها أصرارهما على تنفيذ ما يريانه صائبا حتى وإن أدى الى هلاكهما، فالكابتن يصاب بالجنون أثر تمسكه برأيه في إكمال أبنته لدراستها في المدينة ومعارضة زوجته، مما أدى لأن تتخذ منه موقفا عدائيا عبر أستشعاره بالمرض ومن ثم الجنون فالموت، بينما يأتي عزم سولنس من الصعود الى أعلى البرج من خلال تغلب الجانب الأيجابي فيه على السلبي وبحض هيلدا له للأقدام على هذه الخطوة، مع ما فيها من خطورة على حياته، لأن الطبيب هيردل كان قد أخبر زوجته (عنه أشياء كثيرة مختلفة)، وبالرغم من غموض هذه الجملة، إلآ أنها عندما تأتي على لسان الطبيب وتسعى مسز سولنس منع زوجها من الصعود الى البرج، فلابد والحال هذا أن يكون سولنس يعاني من خلل ما في صحته كالدوار الذي أصاب رأسه أثناء سقوطه من أعلى البرج. أقول بالرغم من ذلك لأن ليس من المعقول ألآ يكون الطبيب قد أخبره بمرضه في الوقت الذي فيه أخبر زوجته، أقول ، صعد أعلى البرج بكل شجاعة، متحديا مرضه ومحققا أمنيته.
ولعل تكرار جملة (يصاب بالدوار) ونقيضها (رأسه لا يدور) أدل نموذج على ذلك.
مسز سولنس:لا تتصوري شيئا كهذا ! زوجي أنه عادة يصاب بالدوار.
هيلدا: يصاب بالدوار! لا لا أنا أعرف جيدا أن رأسه لا يدور.
أما جملة فتلك هي فطرتي التي فطرت عليها ولا أستطيع أن أغير ما فطرت عليه، التي يطلقها سولنس بوجه بروفك ردا على عدم موافقته على رسوم خرائط أبنه، تقترن بقضية الطبيعة الشخصية التي سيطرت على التفكير الفلسفي القائمة على الشك، وسولنس وقوعا تحت تأثير هذا الفكر، يخشى أن يمنح فرصة العمل للآخرين كراجنر مثلا، بأعتباره يمثل الجيل الجديد ظنا منه سيسحب البساط من تحت قدميه ويأخذ مكانه، وثمة شخصية أخرى تمثل هذا الجيل وهي شخصية هيلدا، ولكن لا يتعامل الجيل الجديد بشقيه راجنر وهيلدا مع الجيل القديم الذي يمثله سولنس بنفس المستوى، فأذا كان تعامل راجنر سلبيا كرد طبيعي لردة فعل سولنس، وبالتالي حدوث القطيعة بينهما، فأن تعامل هيلدا مع سولنس، جاء بعكس ذلك، فقد أتسم بالتفاعل المقرون بالتزاوج، وتقبل الجديد للقديم وبالعكس.ولكن لأفتقار هذا التزاوج الى التكافؤ، فقد أنهار في أول تجربة.
كما تذكرني هذه الشخصية بشخصية (أنطونيوسيرا) في مسرحية (الملزمة) للويجي بيرانديللو، من حيث ما تعتمل في دواخله من شكوك حيال صديقه أندريه، أثناء رصده للحظة تقبيل جوليا التي هي زوجة أندريه، وشخصية كايا بشخصية جوليا، فأذا كانت علاقة جوليا بيرانديللو في الملزمة مع زوجها أندريه قائمة على التناقض بين حبها له من جهة وخيانتها من جهة أخرى، فأن علاقة كايا بخطيبها راجنر هي كذلك، فهي من جهة تحبه ومن جهة أخرى تخونه مع سولنس.
إن حذاقة أبسن تتجلى في هذه المسرحية في قدرته الغريبة، بالرغم من سلوك سولنس المشين حيال بروفك وزوجته، قيادة هذه الشخصية بأتجاه تعاطف المتلقي معها بدلا من كرهها. وقد أتبع لتحقيق هذا الهدف طريقة حديث الشخصيات الأخرى عنها، كهيلدا وزوجته، لأبراز الوجه الآخر المخفي وغير المعلن فيها، وفي الوقت نفسه لتغطية العيوب التي يتحلى بها، وهي طريقة ذكية وناجحة وتستخدم في حياتنا اليومية، ذلك أن وقع حديث الشخص الآخر عن الشخص المعني أكثر تأثيرا من حديث الشخص عن ذاته.
مسز سولنس:هو في غاية الرقة والعطف في الحقيقة.

1-هيلدا:هو؟
مسز سولنس :أن لم تعرفيه حقا للآن يا آنسة
2-راجنر:أنصحك أن تأخذي حذرك لأنك لا تعرفينه جيدا حتى الآن
هيلدا:لا أحد يعرفه كما أعرفه أنا.
إن الأضطهاد الذي يلقاه بروفك ونجله على يد سولنس قد لا يبدو طبيعيا في زماننا هذا، ولكنه يبدو كذلك في القرن التاسع عشر، ذلك أن هذا القرن كما يقول مترجم هذه المسرحية صلاح عبد الصبور، هو( زمن العظمة، والعظمة أمتياز، والرجل العظيم هو الذي يمتاز على الآخرين)12.
كما يقول في مكان آخر ( والأخلاق بالنسبة لهذا النوع من الأذكياء قيد يشل الخطى وهم يجتازون هذا القيد بلا مبالاة، والآخرون بالنسبة لهم مجرد أدوات يستطيعون أن يستغلوها لأثبات عظمتهم. . . )13.
وهي مثل مسرحية (يهودي مالطة) لكريستوفر مارلو التي ترتكز فكرتها على مبدأ الميكافيلية، أي الغاية تبرر الوسيلة الشائع أسلوبه في الفترة التي كتبها، ولاقت شخصيتها (بارباس) إستحسانا من قبل الجمهور الأليزابيثي، حيث دفعتعهم جرائمه الى القيام برحلات أستكشافية وأضرمت فيه شهوة المال وبناء القصورالعامرة بالأثاث الفاره، كذلك فأن الفكرة التي ترتكز عليها هذه المسرحية، من خلال شخصيتها سولنس تعبر عن هذا المبدأ بشكل أو بآخر، وتعكس واقع عصر العظمة الفردية الذي عاشه أبسن في القرن التاسع عشر، أو كما يقول صلاح عبد الصبور(عرف هذا القرن نابليون الذي أجتاح أوروبا، وعرف سياسيين كانوا يمتازون بالختل والخديعة مثل مترنيخ وبسمارك. وعرف المصارف الكبرى وبيوت المال والأئتمان الضخمة والملكيات التي تحسب بالملايين وعرف الأستعمار في أبشع صوره دليلا تتخذه الدولة على عظمتها.)14.
وثقة سولنس الكبيرة بنفسه وشعوره بتفوقه على الآخرين، جعله ألآ يخون الشخص الذي تتلمذ على يديه وهو بروفك، عبر عدم منح الفرصة لنجله راجنر العمل بشكل مستقل فحسب، وإنما أن يخون زوجته ومع طفلة في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة من عمرها وهي هيلدا، ومراهقة هي كايا خطيبة راجنر.
ولا تقتصر خبرة سولنس وذكائه في البناء والأرتفاع الى أعلى الأبراج والصعود على أكتاف الآخرين، وإنما يتميز خبرة ويتوهج ذكاء في إغواء الصبايا وبعلم ومعرفة زوجته. ولو تتبعنا الخطوات التي يخطوها أبسن بأتجاه سوق سولنس في خضم إغوائه لكايا وهيلدا بالأضافة الى الطريقة التي يتبعها في كشف زوجته خيانته لها، لتبين لنا أن النسوة الثلاث، يتنافسن للحصول على رضاه. وبشكل أوضح أن ثلاثتهن ينجذبن إليه.
إن كايا، بالرغم من أن راجنر أبن عمها وخطيبها، إلآ أنها على إستعداد لأن تفسخ خطوبتها عنه من أجل سولنس، كما أنها لا تستطيع أن تتركه، وتطلب منه أن يكون رحيما بها. أما هيلدا فتذكره بتقبيله لها قبل عشر سنوات، آخذا إياها بين ذراعيه، ومحنيا رأسها الى الوراء ومقبلالها عدة مرات. ومجيء هذه الجملة في البداية والنهاية، بغض النظر الى أنها تؤكد على عظمته، فأن إقترانها بمخاطبة الله بعدم الحكم عليه بما يبدو أن الأفضل له، لأنه بعد الآن لن يبني إلآ أجمل شيء في الوجود، إشارة واضحة الى أنه يضع نفسه مقام الله على الأرض والتي سيحولها الى جنة.
هيلدا: أخبره بذلك.
سولنس:وبعدئذ سأقول له: الآن سأهبط وألقي بذراعي حولها ثم أقبلها.
هيلدا:مرات كثيرة قل ذلك.
وإذا كان المغزى الكامن وراء هذه القبلات في بداية المسرحية ينطوي على قدر من البراءة، إلآ أنه في الفصل الثاني منها يكشف عن فحواه بوضوح، وهيلدا تخاطب سولنس، إذا كان قد دعاها إليه في سره، في إيماءة مفضوحة الى ممارسة العملية الجنسية، ويرد عليها بما يظن أنه قد دعاها، موظفا أبسن هذا الغزل رمزا للصراع بين الجيل الجديد والقديم من جهة والتزاوج بينهما من جهة أخرى، ولعل هذين المعطيين يتوضحان أكثر في نهاية المسرحية، متمثلا المعطى الثاني في جملة سولنس وهو يقول:سأهبط وألقي بذراعي حولها ثم أقبلها، والمعطى الأول في سقوط سولنس من أعلى البرج، وهي إشارة واضحة الى وأد هذا التزاوج وعدم نجاحه بين الجيلين.
ومثل المفردات والتراكيب الآنفة الذكر، تتكرر مسألة أرتياب آلين بخيانة زوجها لها، ويتضمن هذا المعنى للمرة الأولى في جملة آلين أخشى أن أكون قد أزعجتكما، الموجهة الى زوجها وكايا، وفي المرة الثانية مخاطبة زوجها بجملة هل هي الآنسة وانجل التي تفكر فيها وأنت جالس هناك؟ ردا على سؤاله، إن كانت ما تزال نائمة. والمرة الثالثة في قولها يا للسموات، يا لعينيها المخادعتين. وتقصد كايا. والرابعة وهي تقول لهيلدا ظننت أنك أردت أن تدخلي.

4- الأشباح:
كتب أبسن هذه المسرحية عام 1881، وهو في الثالثة والخمسين من عمره، وتقع بين مسرحيتيه (بيت الدمية)1879، و(عدو الشعب) 1882. وتتكون من خمس شخصيات وثلاثة فصول. وتجري أحداث فصولها الثلاثة في منزل مسز الفنج الريفي بالقرب من الخلجان الكبيرة في غرب النرويج.( وتقع في المرحلة الثالثة من تطور أبسن الفني، كما يقول عبدالحليم عبدالله، وهي المرحلة الواقعية التي بدأها بمسرحية رابطة الشباب.)15.
مثلما أحدثت بيت الدمية، ضجة كبيرة، بعد عرضها، كذلك أحدثت هذه المسرحية نفس الضجة، وأدت الى إنقسام بين أنصار التجديد ومحبي القديم، وبلغ حدة هذا الأنقسام، أن نعتها الناقد الأنكلبزي كليمنت سكوت، ( بأنها أشبه ببالوعة قذرة، بينما تصدى للدفاع عنها الناقد وليم آرثر وبرنادشو، بأعتبارها تحفة فنية رائعة سواء في الشكل أو المضمون)16.
وتدور حول سقوط الأب (الكابتن الفنج) في أحضان الرذيلة، بممارسة غير شرعية مع الخادمة جوانا، أم (رجينا)، تاركا النتائج الوخيمة للوثته هذه الى إبنه (أوزفولد) وزوجته (مسز الفنج) ، الأول عبر إنتقال هذا المرض إليه، والثاني لحرمانها من تربية أبنها، لأنها بعثته الى فرنسا وهو في السابعة من عمره، تجنبا لأحتكاكه بهذا الجو العفن .
وتبدأ المسرحية بعودته وهو شاب في مقتبل العمر. ولكنه منهوك القوى، ويعاني من نوبة صداع في رأسه، وقد أخبره الطبيب بأنها لو عاودته مرة أخرى، لن ينجو من الموت.
وإذا كانت هذه هي الموضوعة الرئيسة للمسرحية، إلآ أن هناك فروعا متعددة، تتشعب منها، قد تختلف أحداثها معها، ولكنها في النهاية تصب في المجرى الرئيس الذي تشعبت منه، كموضوعة بناء الملجأ وإحترقه، والصراع بين التقاليد القديمة والجديدة، متمثلا الأول بالقس (ماندرز) والثاني بمسز الفنج، بالأضافة الى توق رجينا الى الحرية والعيش في المدينة، بعيدا عن زوج أمها (انجستراند) الساعي الى إستغلال جمالها للعمل معه في إحدى البواخر الناقلة للجنود.
ما من مسرحية لأبسن، بما فيها (سيد البنائين)، تبلغ تقنيا مستوى المسرحية التي نحن بصددها، لتناغم العمليات التي تقوم عليها الدراما، بعضها مع البعض، من شخصيات وحبكة وبناء، في تركيب هارموني، يفضي الكل الى الجزء، وبالعكس الجزء الى الكل، بحيث تبدو كتحفة فنية نادرة، لشدة أقتتضاب وأختزال مفرداتها، يختل تشكيلة هذه التحفة، إذا ما أزيل عنها، مفردة من المفردات. ولتماسك خيوطها، فأنها تتكون من العرض في الفصل الأول، والعقدة في الفصل الثاني، والمناقشة في الثالث، وهي من أقصر مسرحياته، بدليل أنها المسرحية الوحيدة التي تتكون من ثلاثة فصول، الى جانب مسرحية (بيت الدمية)، إضافة الى أنها تتكون من أقل عدد من الشخصيات .
تتناغم عناصرها الدرامية بعضها، مع البعض الآخر، من خلال إلتقاء الأحداث الفرعية بالحدث الرئيس، لا مضمونا فحسب، وإنما بالأضافة الى ذلك شكلا، أي بناء كذلك. وندرة من كتاب الدراما، بوسعهم إنجاز هذه التقنية المتطورة.
إن إنتقال لوثة الأب الى الأبن، كحدث رئيس، يوازيه بالمقابل، الأفكار الرجعية التي يحملها القس، وكلا الشخصيتين، أوزفولد وماندرز، أنتقل إليهما هذا المرض، خارج إرادتهما، أوزفولد بأبعاده أمه عن الجو العائلي، وماندرز وقوعا تحت تأثيرات الكنيسة، كما أن النجار أنجستراند يلتقي معهما في هذا الجانب أيضا، بفعل العوامل الخارجة عن إرادته، ولعل عرج قدمه، وتكراره لأربع مرات لجملة (إغراءات الدنيا )، دليل على إنتقال عدم الأستقامة عنده حالة موروثة، ولا يستطيع السيطرة على ملذاته، أزاء الأغراءات.
وإذا كان أوزفولد قد أصيب بلوثة الأب، فأن رجينا قد، أصيبت بلوثة الأم، إلآ أن وفاة أوزفولد السريع والمفاجيء، وإكتشاف الأم للعلاقة القائمة بينهما، بالأضافة الى بوحها بالسر الخطير في الرابطة التي تجمع بينهما، وهي كونهما شقيقين، حالت كل هذه العوامل، أن تبلغ حد والدتها التي أنجبتها بطريقة غير شرعية من الكابتن الفنج. وتكاد الأم، الشخصية الوحيدة التي تنجو من هذا المرض، بأعتبارها الأمل المرتقب والرمز لشفاء المجتمع النرويجي من التقاليد البالية السائدة فيه آنذاك، فترة كتابة هذه المسرحية.
إن إتنقال هذا المرض الى الشخصيات الأربع للمسرحية، لا يعني في أي حال من الأحوال ، إنها شخصيات سلبية، بما فيها شخصية أنجستراند، وإذا كان من شخصية سلبية، فهي شخصية الكابتن الفنج التي لا تظهر على المسرح. وما يحدو بالقس الذي لا يخلو من الطيبة وعمل الخير، أن يقع في بعض الأخطاء، وتسيء بعض تقديراته كأحتراق الملجأ وعدم تأمينه، هو عدم الأعتماد على رأيه، وإنما على رأي الناس المحيطين به، وبشكل أوضح، عدم قدرته على التمرد، وأرثه لكم هائل من الثقافة التي تتسم بالتوافقية. وأنجستراند هو الآخر يتحلى بالطيبة، ولكنه أنتهازي، ويتحين الفرص لأستغلال طيبة القس ورجينا. ولكن أطيب هذه الشخصيات بلا شك، هي رجينا.
يعمد أبسن بقصد تشكيل هارموني لبناء معمارية مسرحيته الى التفاعل بين معالم أبعاد شخصياته، والأرضية التي تتحرك عليها، من خلال التعويل على الطقس تارة، والأيحاء تارة ثانية، وإقتران البداية بالنهاية تارة ثالثة، بالأضافة الى تقنية إسترجاع الماضي، موظفا المفردة الأولى المتمثلة بجملة (تساقط المطر) ثلاث مرات، مرة في الفصل الأول ومرة ثانية في الفصل الثاني والمرة الثالثة في الفصل الثالث، ولكن بأستخدام كلمة (الشمس) التي يحجبها المطر. وفي كل مرة بصيغة تختلف عن الأخرى، وتمنح معنى آخر.
وأول ما تبدأ المسرحية، تبدأ بهذه الجملة، وأول من ينطقها هي رجينا، طالبة من أنجستراند، أن يتوقف عند باب غرفة الحديقة، لئلا تتساقط قطرات الماء منه في الغرفة، فيعترض عليها قائلا: أنه مطر رباني مبارك، يا أبنتي. فترد: أنه مطر شيطاني لعين.
تكسب هذه الجملة هنا معنيين، أولهما توحي الى الصفة الخاصة التي يتحلى بها أنجستراند، وهي أنتهازيته، وثانيهما توحي الى الجو العام السائد في المسرحية، وهو القتامة والسوداوية . ولكن هذه المفردة، تمنح معنى مغايرا للمعنى الأول، عندما تأتي على لسان رجينا أيضا، وهي تخاطب القس ماندرز بجملة: ومع ذلك فأنه خير وبركة للفلاحين. ردا على قوله:أنه لأمر متعب هذا المطر المنهمر، موحية الى طيبته وحبه عمل الخير للناس . أما عندما تأتي على لسان أوزفولد في الفصل الثاني، وهو يقول لأمه: وهذ المطر الذي لا ينقطع! أنه يستمر أسابيع متتالية، وأحيانا شهورا لا نرى الشمس أبدا.. توحي الى حتمية نهايته القريبة.
بينما توحي كلمة الشمس وهو يلفظها في أنفاسه الأخيرة، وهي آخر كلمة تأتي في المسرحية، الى حبه للحياة وتشبثه بها، عبر توقف تساقط المطر الذي يحجب نور الشمس عن الحياة.
والمسرحية تفيض بالأيحاءات. فأذا كان أنجستراند، يعلن بدون خجل لرجينا، أن صاحب اليخت قد دفع لأمها خمسين جنيها، وهي لم تكن أجمل من أبنتها، إنما يوحي لها، أن تحذو حذو أمها، بالعمل معه على اليخت الخاص بنقل الجنود.
كما أن قوله لها: أتفكرين فيه هو؟ أي بأوزفولد، إشارة واضحة الى وجود العلاقة بين الأثنين، مع أن رجينا لم تتصرف، لما يدعو أنجستراند أن يأتي بهذه الجملة، وكل ما أرادته هو إخراجه من المنزل، وعدم إيقاظ أوزفولد من نومه. وبمعنى آخر، أن الجملة التي أطلقتها رجينا، أفتقرت الى المسوغات التي أنبنت عليها جملة أنجستراند.
وهذا ما ينطبق أيضا على إحتراق الملجأ، بإشارة مسز الفنج الى إندلاع النار فيه يوم أمس، متهمة فيه إهمال أنجستراند في إستخدام أعواد الثقاب، وهذا ما يحدث في الفصل الثالث، إذ يحترق الملجأ، ولكن ليس بأعواد ثقاب أنجستراند، وإنما بشموع القس ماندرز. ومثلما تنسحب هذه التقنية على الأيحاءات الآنفة الذكر، فهي في الوقت نفسه، تنسحب على تقنية إقتران البداية بالنهاية.
كما أن تشبيه ماندرز أوزفولد بوالده في جملة: عندما ظهر أوزفولد في المدخل والغليون في فمه بدا لي وكأن والده عاد الى الحياة من جديد، هذه الجملة التي تعترض عليها مسز الفنج، خشية إنتقال إنحلال والده إليه، توميء هي الأخرى الى الأيحاء بحدوث شيئا من هذا القبيل، لذا فتشبه مسز الفنج أبنها بها: كيف تقول هذا؟ أن أوزفولد يشبهني.
يجري هذا الحوار بين مسز الفنج وماندرز في الفصل الأول. وفي الفصل الثالث، وفي الحوار الجاري بين الأم وأبنها، يخبرها أوزفولد من الحالة التي يشكو منها، كما قال له الطبيب، وهي:
أن خطايا الآباء تحل بالأبناء.
ولا يكتفي أبسن بأعطاء نموذج واحد، للوثة التي سيرثها عن أبيه، وإنما بعدة نماذج. ويتمثل النموذج الآخر، ويخص التدخين أيضا، ولكن عندما كان طفلا صغيرا، حيث سمح له والده بتدخين غليونه، مشجعا إياه على سحب الدخان بشدة، ثم شعر بالدوار وتساقطت من جبهته قطرات كبيرة من العرق، وتقيأ.
يأتي أوزفولد على ذكر الحالة التي مرت به في الفصل الأول أيضا، وتتكررنفس الحالة في الفصل الثالث، وهو يشرحها لوالدته: في باديء الأمر ظننت أنها مجرد حالات الصداع العادية التي أعتدت عليها كثيرا وأنا طفل. . .

إلآ أن أبرز الأيحاءات التي يستخدمها أبسن في هذه المسرحية، لأنتقال لوثة الأب الى الأبن، هي أكتشاف مسز الفنج لخيانة زوجها لها مع الخادمة جوانا، وحدوث نفس الشيء لأبنها مع الخادمة رجينا، أبنة جوانا.
مسز الفنج: هنا في بيتنا هذا. كان في غرفة الطعام عندما أكتشفت الأمر لأول مرة . كان هناك شيء أريد عمله هناك، وكان الباب مواربا ثم سمعت الخادمة تأتي من الحديقة لتسقي الزهور هناك. بعد لحظات سمعت ضحكة قصيرة للآن لا أدري كنت أضحك أم أبكي- سمعت خادمتي تهمس : كفى عن هذا يا مستر الفنج. دعني.
في نفس الفصل الأول، يتكرر ذات الحدث الذي جرى للأب، يجري للأبن.
من غرفة الطعام يسمع صوت قرقعة كرسي سقط على الأرض. في نفس الوقت تقول رجينا بحدة ولكن بصوت منخفض: أوزفولد أجننت ؟ أتركني!
والهدف الجوهري من إستخدام هذه التقنية في إشاعة، فيض من الأيحاءات، هو إثارة عمليتي الشفقة والتطهير لدى المتلقي، وقوعا تحت تأثيرات المسرح الأغريقي. وتتجلى هاتان العمليتان، أكثر من الأيحاءات الأخرى في إكتشاف مسز الفنج لخيانة زوجها، وبالتالي للعلاقة القائمة بين أبنها ورجينا، وذلك من خلال الرعب الذي يتركه هذان المشهدان في نفس المتلقي، وتخيلها لهما لأبنها ورجينا، بأنهما ليسا إلآ أشباحا، يعود الأثنان في المشتل. ومتسائلا ماندرز : رجينا- أهي الأبنة؟.
يمكن تأويل الجملتين اللتين يطلقهما الفنج وماندرز على أكثر من صعيد، ترى هل تقصد الفنج من كلمة (الأثنان)، الكابتن الفنج وأبنه، أم أوزفولد ورجينا؟ ومن جملة ماندرز، رجينا مع أمها. و كذا الحال بالنسبة الى كلمة الأشباح التي تأتي على لسان الفنج، هي الأخرى قابلة للتأويل، فقد تأول الى عدم تصديق الفنج ما سمعته، والى إنحدار المجتمع الى مستوى الحضيض، والى السوداوية وسوء القدر الذي ينتظر مصير أوزفولد. وهكذا قائمة طويلة من التأويلات.
ولعل توظيف كلمتي المطر والغليون، بوجهيهما الكالحين، وترديدهما على لسان أكثر من شخصية، وخاصة أوزفولد، جعل منهما هذا التوظيف، جسرا حقيقيا، ترتكز عليهما حياة أوزفولد من طفولته الى أيامه الأخيرة. وليحيا على أساسهما، حياة بائسة، شقية. وفي هذا البؤس والشقاء غير المحتملين، تحدث عمليتي الشفقة والتطهير. فأذا كانتا في الأولى، يظهران في إعتراف أوزفولد لأمه بالمرض الخطير الذي أصابه أثناء تواجده في باريس، وهو أبشع وأرعب خبر تتلقاه الأم. فأنهما في الثانية، يتجليان في مدى قساوة الأب تجاه أبنه، وهو يحثه على سحب الدخان من الغليون بشدة، ليخرج نسخة منه، وبالتالي ينتقل مرضه إليه، ليموت مثله منحلا.
أما تقنية إسترجاع الماضي الذي يستخدمها أبسن في معظم مسرحياته، فقد جاءت في مسرحيته هذه، شروعا من قول ماندرز لمسز الفنج: أنسيت ما كاد يمر كبيرا، إذ لا تنتهي إلآ مع نهاية الفصل الأول. مرورا بسماع مسز الفنج لرجينا وإبنها في غرفة الطعام، وقد بدا لها وكأنها ترى أشباحا. وتحتل هذه التقنية، بحدود صفحة ونصف الصفحة. وتنتهي بدخول أنجستراند. وإنتهاء بحديث أوزفولد عن أصابته بالمرض لوالدته، أثر عودته الثانية الى باريس، وتنتهي بطلبه منها شرابا.
يبدو لي، أن أبسن كتب هذه المسرحية، ردا على المسرحية التي كتبها قبلها بعامين، وهي مسرحية (بيت الدمية) التي لاقت معارضة شديدة من الجمهور النرويجي، أثناء عرضها، لتمرد نورا على زوجها، بخروجها من البيت وهي تصفق الباب بقوة. مما أضطر أبسن أن يخضع لضغط الجمهور، وأن يعيد نورا بالرغم عنها الى بيت الطاعة الزوجية، ولكن بعد مرور ما ينيف على قرن ونصف قرن على ولادتها ، أثبتت صحة رأي أبسن، وخطأ رأي الجمهور. لذا فقد أعتمد في نشرها على النص الأصلي الذي كان أبسن يحتفظ به.
يبدو لي كذلك، أن أبسن كتب هذه المسرحية، ردا على بيت الدمية، ذلك أن شخصية مسز الفنج في تمردها على المجتمع والتقاليد البالية السائدة فيه، تشبه الى حد كبير بشخصية نورا.
صحيح أن الفنج، مثل نورا تعود الى الطاعة الزوجية، بعد أن كانت قد تركت زوجها لفترة، أثر أكتشافها للعلاقة التي تربطه بجوانا، ولكنها نادمة على عدم المواصلة في الخطوة التي أقدمت عليها، وتعد نفسها جبانة، لعدم أبلاغ أبنها، بأن والده كان شخصا منحلا، وتعتبر رجوعها عن موقفها جريمة.
إن ما أبغي، أن أفصح به هنا، هو أن ما لم يستطع أبسن، أن يبوح به في عرض بيت الدمية، وليس النص، أستطاع أن يعلن عنه جهارا في الأشباح على كلا الصعيدين العرض والنص . أي بالرغم من أن مسزالفنج، عادت الى زوجها، ولكنها أستطاعت، أن تعوض ما فاتها، بالأفكار النيرة التي طرحتها في المسرحية من خلال حوارها وسجالاتها الجادة حول تقاليد وأعراف المجتمع القديمة مع ماندرز.
إذا كان الفصل الأول مكرسا، للملمة كل ما يمت بصلة لأحداث المسرحية وشخصياتها، فقد كرس الفصل الثاني، لتأزيم هذه الأحداث، وبلورة معالم وأبعاد الشخصيات. والفصل الثالث، لتصعيد الأزمة ذروتها، حيث تنتهي المسرحية، بدون أن يعرف المتلقي، إن كانت مسز الفنج، قد أعطت السم لأبنها أم لا؟.
يقول مترجم هذه المسرحية، عبدالله عبد الحافظ: ذات يوم سأل الناقد وليام آرثر أبسن، عما كانت في نيته أن يجعل مسزالفنج تعطي السم لأبنها الوحيد لتخلصه من العذاب الذي يهدد كيانه؟. عندئذ أبتسم الكاتب الكبير، وقال:(لا أدري. يجب أن يتبين كل إنسان ذلك بنفسه. أنني لا أفكر قط في إجابة مثل هذا السؤال الدقيق. ولكن ما رأيك أنت ؟).
يسطر أبسن في الفصلين الثاني والثالث، مأساة حقيقية لمجتمع يعاني من التخلف، لتكون ضحيتها، مسز الفنج وأبنها مع رجينا الخادمة، شقيقة أزفولد من الأب. هذه المأساة التي لا أكون مغاليا، إذا قلت، أنها ترتقي الى مستوى المسرحيات الأغريقية.
لقد وجه أبسن في نهاية الفصل الأول، صفعة قوية على خد المتلقي، تمهيدا لتليها صفعات أقوى، في الفصلين الثاني والثالث، ومسز الفنج تجفل في فزع، وماندرز غاضبا، وهما يكتشفان العلاقة القائمة بين أوزفولد ورجينا، ليعيد التأريخ نفسه من جديد، في الحلة القديمة التي كان يرتديها والد أوزفولد ووالدة رجينا.
وتبدأ هذه الصفعات في الفصل الثاني من شعور مسز الفنج، أن في أعماقها شيء أشبه بالشبح،لا تستطيع الفكاك منه أبدا، ويمتد هذا الشعور، ليعم الكل، لتظنهم أشباحا. وتولد هذا الشعور، أثر أكتشافها لعلاقة زوجها بجوانا، وأبنها برجينا، وعجزها ألأعلان عن حقيقة زوجها وحض أبنها الزواج برجينا، خوفا من المجتمع.
1- مسز الفنج: كان من الواجب ألآ أخفي الحقيقة حول حياة الفينج .
2- مسز الفنج: لو أنني لست جبانة لقلت له تزوجها، أو أعمل الترتيبات التي تحلو لك، طالما أنت أمين وصريح.
إذن، فالأشباح تتمثل في التقاليد البالية للمجتمع النرويجي الذي لا يستطيع الفرد، أن يتخذ القرار الذي يرى أنه في صالحه، خشية خروجه عن الأعراف، والمألوف السائدين. أو كما يقول عبدالله عبدالحافظ: ( هذه صرخة عقل يحتج على كل أشكال الأعتقاد التي لا تقوم على المنطق، وعلى الأشباح التي تعيش في الظلام وتبطش بالضحايا الأبرياء).
وإعتراف أوزفولد لأمه، بأنه محطم نفسيا، وإن إرادته قد سلبت، ولا يستطيع العمل بعد الآن، يعد من أقسى مشاهد المسرحية، وأكثرها مأساة الى جانب مشهد دعوة أوزفولد لأمه أن تمنحه السم ليشربه. أن قساوة ومأساة هذين المشهدين، لا تكمن فقط، في إثارتهما لعمليتي الشفقة والتطهير لدى المتلقي، وإنما أيضا في أسلوب الحوار الذي يعول على الأيقاع البطيء وشق الأنفس، في أيصال المعلومة من قبل الطرفين المحاورين.
ويبدأ أعتراف أوزفولد، شروعا من قوله لأمه: هل لي أن أجلس على الأريكة معك؟. لتفسح مكانا له، وهي تقول: طبعا يا أبني العزيز.
وقبل أن يبلغها بمرضه، يقوم وأمه بمجموعة من الحركات، بقصد إثارة المتلقي، وتشويقه للأطلاع على الخبر بسرعة، لتسير عملية الحوار ببطؤ، ومن هذه الحركات، الجلوس، التوتر، التحملق في فراغ، في نفس الوضع السابق، القبض على الذراع بشدة، النهوض، الجذب الى الأريكة، محاولة النهوض، الجذب الى الأريكة ثانية، والأمساك بالرأس. وفي الحركة الأخيرة، يقر أوزفولد لأمه بمرضه، وهويلقي بنفسه في حجرها، ويغطي وجهه بيديه وينتحب. وبالمقابل، يبدو وجه الأم شاحبا، وهي ترتعد، غير مصدقة ما تسمعه منه، بينما هو ينظر إليها في يأس، قائلا لها: أن أموت وأنا ما زلت على قيد الحياة، أيمكنك أن تتصوري شيئا فظيعا كهذا؟ . وبعد أن تطرح عليه بعض الأسئلة، يشرح لها وقت وكيفية إصابته بالمرض، وأثناء مراجعته للطبيب، أخبره (أن الديدان نخرته منذ مولده)، وعندما لم تفهم الأم ماذا يعني الطبيب بهذه الجملة، وأوزفولد كوالدته، وقتها لم يفهم المقصود منها، ولكنه عندما طلب منه، أن يفسرها له بطريقة أكثر وضوحا قال الطبيب:( إن خطايا الآباء تحل بالأبناء) . وهو المرض الذي لا أمل من الشفاء منه. وهنا تنهض الأم في بطء، وتردد مع نفسها جملة أن خطايا الآباء تحل بالأبناء، أكثر من مرة، وهي تمشي في الحجرة. وكأنها تقارن مصدقة تشخيص الطبيب، لمشهدي الأب والأبن مع جوانا ورجينا.
وفي زحمة هذا الحدث المأساوي، يخلق أبسن جوا رومانسيا، شبيها بالأجواء الجنائزية التي تنذر بالوداع الأخير، وهو يطلب من رجينا، أن تحضر مصباحا وصينية، عليها نصف زجاجة شمبانيا، ليدور الحديث عن رجينا، بأعتبارها خلاص أوزفولد الوحيدة ومنقذه، لتدفقها ببهجة الحياة، ويطلب منها أن تحضر كأسا لها، وهذا ما تؤكده والدته لها أيضا. ويخبر والدته بأن رجينا سترحل معه كزوجته. وهنا تعترض والدته وهي تقول: والآن أستطيع أن أقول الحقيقة. وما تريد أن تتفوه, حتى تصيح رجينا: لقد أشتعلت النار بالملجأ.. وينتهي الفصل الثاني.والحقيقة التي كانت تريد الفنج أن تبوح بها، هي أن رجينا شقيقة أوزفولد .
وإذا كان الفصل الثاني، بأجوائه المأساوية والرومانسية الجنائزية، بالأضافة الى إشتعال النار بالملجأ، تمهيدا للفصل الثالث، أو لنقل لتصعيد هذه الأجواء، وإماتة أوزفولد في هذا الفصل، فهو في الوقت نفسه، يتصدى الى جانبين مهمين أيضا، أثيرا من الفصل الأول، وهما الألتزام بالأعراف، وأنحلال شخصية الأب، وكلا الجانبين يرتبطان بشكل مباشر بقضية إحتراق الملجأ. وذلك من خلال عدم بقاء شيء يذكر الناس بوالد أوزفولد، لأن الملجأ شيد على ما تبقى من ثروته، وعدم الألتزام بالأعراف الذي كان يتشدق بها ماندروز، عبر إشتعال الملجأ بناره، وليس نار أنجستراند، وهذا المسوغ دليل آخر، الى أن أبسن كتب هذه المسرحية، إمتدادا لمسرحيته التي كتبها قبلها، وهي بيت الدمية. وبالأضافة الى كل ذلك، أن إحتراق الملجأ هو أيضا، رمز لموت أوزفولد، وها هو يقول: كل شيء سيحترق. لن يبقى أي شيء يذكر الناس بوالدي. أنا أيضا أحترق.
وهو مثلما يدعو رجينا في الفصل الثاني، إحضار صينية ومصباح، فأنه كذلك في الفصل الثالث، يدعوها الى غلق الأبواب، وهذه الدعوة بحد ذاتها، تثير الخوف والرعب في نفس الأم ورجينا، لأنها تنم عن سر خطير يجهلانه، ويرغب كما يبدو، أن يبوح أوزفولد به. لذا فأنهما يزيحان الشال على رأسهما، وتجلس الأم بجانبه ورجينا، تبقى قريبة منه.
وبعد حديث طويل للأم عن سيرة الأب لأبنها، ومغادرة رجينا الدار نهائيا للألتحاق بأنجستراند للعمل معه على يخت نقل الجنود، بعد أن تطلع على الحقيقة، وتعرف أن أوزفولد شقيقها، تظن الأم أنها قد خلصت أبنها من القلق وتقريع الذات، ولكن سرعان مايخيب ظنها، عندما يسألها:( ومن يخلصني أنا من الخوف ؟ ). وتتكرر كلمة الخوف على لسانه في الصفحات السبع الأخيرة من المسرحية، ست مرات. تتكرر لا خوفا من الموت، وإن كان يود أن تطول به الحياة عل قدر الأمكان، وإنما كما يقول هو:( لكن هذا أمر يثير الأشمئزاز لدرجة كبيرة – أن أعود من جديد الى حال طفل يريد ولا يستطيع أن يطعم نفسه – أن أكون- و- أوه- لا أطيق التفكير في هذا !
وبقدر ما تحاول الأم، أن تنتشله من هذا الجو الكئيب الذي يرسمه لنفسه، وتجره الى الأجواء التي يسودها روح التفاؤل والأمل، من خلال ترديدها للمفردات التي تعبر عن هذه الروح، كمفردة الصباح والفجر والمشتل والجبال والشمس، فهو بنفس القدر، يضع العراقيل أمامها، بغية الوصول الى الهدف الأساس الذي يروم الوصول إليه، ألا وهو، أن تعطيه السم ليموت. وعندما تقول له (أنا أمك؟ وأنا التي أعطيتك الحياة)، أي أنى لها أن تعطيه السم؟ يطلب منها أن تأخذ منه هذه الحياة. لذا تجد نفسها عاجزة عن إقناعه، الأمر الذي يدفعها لطلب النجدة، غير أنه سرعان ما يتبعها، رافضا ذهابها الى أي مكان، ومجيء أي شخص للمنزل.
وتضطر بعد لحظة سكوت، أن تعده بأعطاء السم، لو لزم الأمر، فيشكرها، ويحس بالهدوء، وفجأة يقول: أمي أعطني الشمس، لتجفل وهي تقول: ماذا قلت.
يكرر أوزفولد بصوت رتيب لا نغم فيه: الشمس الشمس!. . . تتجه نحوه. يبدو أوزفولد وكأنه ينكمش في كرسيه، تشد شعرها بكلتا يديها وتصرخ وتهمس كما لو كانت قد فقدت كل أحساس: لا أستطيع إحتمال هذا لا، أين وضعتها ( تبحث متلمسة صدريته) ها هي تتراجع بضع خطوات الى الوراء، وتصرخ لا لا. تقف بضع خطوات منه، ويداها تفتل شعرها، وقد أخرستها الصدمة وهي تحملق فيه في فزع.
أوزفولد: (لايزال بلا حراك) الشمس الشمس!.

5- بيت الدمية:
تتكون هذه المسرحية من تسع شخصيات، إلا أن الشخصيات الرئيسة فيها خمسا هي : تورفالد هيملر، نورا زوجته، الدكتوررانك، مدام لند، ونيلز كروجشتاد.
تجري حوادثها في بيت آل هيملر. وتدور حول زوجة هيملر (نورا) التي أستدانت مبلغا من المال من كروجشتاد، لعلاج زوجها، دون علمه. وعندما يعين هيملر في منصبه الجديد، مديرا لأحد البنوك، يأتي كروجشتاد الى منزله، مهددا زوجته، تبليغ زوجها بالمبلغ الذي أستدانته منه، وبالخطأ الذي أرتكبته بتزوير توقيع والدها على الصك، في حالة إزاحته زوجها من القسم الذي يترأسه، لذا تجنبا من إثارة المشاكل بينها وبين زوجها، يطلب منها أن تتوسط لديه، لأبقائه في الموقع الذي يحتله. ولا تتوانى نورا، خوفا من إفتضاح أمرها عند زوجها، أن تفاتحه بذلك، غير أنه يرفض طلبها وبشدة، لما بحوزته جملة ملاحظات عن كروجشتاد. الأمر الذي يدعو الأخير، أن ينفذ تهديده عن طريق الخطاب الذي يرسله الى زوجها، وهنا تضطر نورا أن تبوح بهذا السر لصديقتها مدام لند، لمساعدتها على حل هذه المشكلة والتي كانت تربطها سابقا بعلاقة حب مع كروجشتاد، لتأخذ هذه المهمة على عاتقها، ولكنها بدلا من أن تطلب منه، أن يسحب الخطاب الذي أرسله لهيملر، تطلب منه بألآ يسترده. وذلك أثرعودة العلاقة بينهما. وبعد وصول الخطاب الأول الى هيملر، يبعث كروجشتاد بخطاب ثاني إليه، يتبرأ فيه، ما جاء في خطابه الأول، مما يدعو هيملر، أن يغير الأسلوب الذي أتبعه مع نورا، عندما عرف بخطئها، من أسلوب شديد اللهجة الى غاية في المرونة والتسامح. ولكن لعدم إستسلام نورا لأرائه الدائرة في مصلحته الشخصية، هذه المصلحة التي يفرضها عليه المجتمع، تغادر المنزل، وهي تصفق الباب وراءها بقوة.
وكتابات أبسن، كما يقول كامل يوسف:( تكاد تكون في مجموعها قصيدة مطولة في إمتداح الأرادة الأنسانية. وهو عندما يريدنا الى القوة والمثابرة، لا يريد منا أن نتشبه بالنموذج الوحشي الفظ الذي يريده نيتشه، وإنما يطالبنا بالتمسك بحقوقنا والدفاع عنها حتى الممات. وهو لهذا يشن حربا شعواء بين الأراء الحرة والأراء المفتعلة)17.
إن أيسر طريقة لفهم تقنية هذه المسرحية، هي متابعة وصف مؤلفها أبسن لمشاهد فصولها الثلاثة. ناعتا مكان الفصل الأول الذي هو غرفة، (الشعور من تأثيثها بالذوق السليم، وغمغمة نورا بلحن مرح). إن هذا الوصف إن دل على شيء، فأنما يدل أن نورا، تعيش مع زوجها وأبنائها الثلاثة في منتهى السعادة، وبالنتيجة فقد بدأ هذا الفصل، عارضا العلاقات القائمة بين الزوجين، والمبنية على الحب والأحترام المتبادل بينهما، وذلك من خلال تدليل الزوج لزوجته كدمية ، وتلبية كافة رغباتها التي تراها ضرورية، وبحاجة ماسة لأسعاد أطفالها. ونفهم من وصف الفصل الثاني، (بتجريد شجرة الميلاد من زينتها)، إن عقدة المسرحية، قد بدأت، متمثلة بضيق الخناق على نورا من قبل كروجشتاد، لعدم تلبية زوجها لندائه. أما (من فتح الصالة في الفصل الثالث)، نفهم أن أبسن، يستخدم فيه، تقنية المناقشة التي تجري بين الزوجين قبل نهاية المسرحية بقليل..
أو كما يقول جورج برنادشو: ( من قبل كانت المسرحية المحكمة تتكون من العرض في الفصل الأول، والعقدة في الفصل الثاني، والحل في الفصل الثالث، أما الآن- أي بعد أبسن- فأن المسرحية تتكون من العرض، والعقدة، والمناقشة. والمناقشة هي محك الكاتب المسرحي.)(18). أي أنفتاح المسرحية، وتأويلها على مختلف الحلول.
ثمة تشابه بين الشخصيات الرئيسة في هذه المسرحية، ومسرحية (هيدا جابلر) ما عدا شخصية هيملر التي تختلف عن شخصية جورج تسمان، من حيث قوة الأولى، وضعف الثانية، وإن كانتا تلتقيا في جانب واحد فقط، وهو تدليلهما لزيجاتهما. ولعل أكثر الشخصيات، تشابها في المسرحيتين، هو بين شخصية (مسز الفستد) في هيدا جابلر، وشخصية ( مدام لند) في هذه المسرحية، وذلك من خلال، مرورهما بنفس المعاناة ، الأولى بتمردها على زوجها، واللجوء الى منزل صديقتها القديمة، في المدينة، بحثا عن صديقها(أيلرت لوفبورج) الذي تلتقيه في منزلها، بعد الحصول على عنوانه، والثانية مثل الأولى، تقوم بزيارة صديقتها نورا ، قادمة بالباخرة من مدينة أخرى، أثر سماعها، بتعيين زوجها بمنصبه الجديد، لتعمل كموظفة في المصرف المزمع، أن يتولى إدارته، وتلتقي بكروجشتاد في منزل نورا الذي كانت ترتبط به بعلاقة سابقة، ويتزوجا في النهاية.
وإذا كان كروجشتاد، على حد قول (رانك)، مصاب بأنحلال خلقي، فأن أيلرت لوفبورج، لا يقل شأنا عن كروجشتاد، في إصابته لهذا الأنحلال، لأنتقاله في عقد صداقات من إمرأة الى أخرى، لتؤدي به في النهاية الى مصرعه في منزل مومس.
إن رد مدام لند على وصف رانك لكروجشتاد : إن المرضى هم أحوج الناس الى الرعاية، إيحاء الى عودة العلاقة بينها وبين كروجشتاد، وما يعزز هذا الأيحاء،هو إنفجار نورا في الضحك، وهي تصفق بيديها قائلة: مالي أنا والمجتمع بعقده ومشاكله، ردا على قول رانك للند: (هذا الأتجاه هو الذي يجعل من مجتمعنا شيئا أشبه بالمستشفى.
أما بالنسبة لجملة (يجب أن تشتعل النار) التي تطلقها نورا، وهي تغلق باب المدفأة وتنقل الكرسي الهزاز جانبا، في حوارها الدائر مع رانك ومدام لند، حول كروجشتاد، فتعبر عن نفس المعنى السابق، وهو هدم العلاقة المبنية على الزواج من رجل توفيت زوجته، وتركت له دزينة من الأطفال. وقد توحي، بذكر كروجشتاد الى إشتعال هذه النار في منزلها.
إلآ أن كلا الأمرين، وإن بدا في أول الأمر، بفعل سوء نوايا كروجشتاد بأتجاه نورا، لهدم علاقتها الزوجية، إستحالة عدم ترجمتهما على أرض الواقع، وبالرغم من أن نورا كانت صادقة في ظنها، وأشتعل النار في منزلها، بتركها للمنزل في نهاية المسرحية، يحدث تحول كبير في شخصية كروجشتاد من رجل شرير الى رجل صالح، وذلك بتأثير مدام لند، وهذا التغير لم ينحسر في سحبه للخطاب الأول فحسب، وإنما أمتد الى الزواج بمدام لند، مع أنها كانت قد تخلت عنه وتزوجت رجلا آخر أغنى منه. وبالمقابل، فقد ضحت بتربية دزينة من الأطفال، أنجبتها زوجة كروجشتاد الميتة. أقول تزوجته، ذلك أن أبسن، لا يعطي الحلول، وإنما يترك النهايات مفتوحة، عبر هذا الحوار الدائربينهما:
كروجشتاد: سأنتظرك في الشارع.
لند: نعم. نعم. سآتي أليك لترافقني في الطريق الى البيت.
كروجشتاد: هذه أسعد لحظة مرت في حياتي.
لند: ما أعظم الفرق بين ما كنت فيه وما أنا مقبلة عليه! إنسان أعيش له ، وغاية أحيا من أجلها، وبيت أنعم بالراحة في ظله.
قد تكون مدام لند قد جاءت الى المدينة، بحثا عن العمل، وهذا ما يبدو في الظاهر، ويؤكد عليه المؤلف، بيد أنها جاءت بالدرجة الرئيسة، وهذا ما يخفيه ولا يقوله المؤلف، ويتضح عبر حوارات شخصيات المسرحية، من أجل اللقاء بكروجشتاد، بدليل أثر أطلاعها على أزمته مع نورا، تبادر الى حلها، عبر الأتصل به، والبحث عنه، كما أن قول رانك لها : (أفبهذ تعالجين الأرهاق في العمل؟) ردا على قولها، (بأنها جاءت بحثا عن عمل)، تدل على أن الأولوية عندها،هي اللقاء به، ويأتي العمل في الدرجة الثانية، وهي بهذا تنحو نفس منحى مسز الفستد في (هيدا جابلر)، ومدام لند تخاطب كروجشتاد قائلة: (هل فات الأوان لنبدأ من جديد؟).
يبدو لي، أن المؤلف يلعب مع شخصياته في هذه المسرحية، لعبة القط والفأر، من خلال أرغام المتلقي، على التعاطف معها في بعض الأحايين، وبالعكس، عدم التعاطف، في أحايين أخرى، وصولا حد البغض. وذلك عبر سبر أغوارها وما يعتمل في دواخلها من صراعات بين الصفات المكتسبة والصفات الموروثة.
وإذا كان المتلقي، يتخذ الموقف الأول مع هيملر، في البداية، فأنه مع كروجشتاد، يتخذ الموقف الثاني، وبالعكس في النهاية، مع هيملر، الموقف الثاني، ومع كروجشتاد الموقف الأول. بينما يسير تعاطف المتلقي مع هيدا ومدام نيد، من بداية المسرحية الى نهايتها بأستقامة واحدة. وإن دل التغيير الحاصل في شخصية هيملر على شيء، فأنما يدل وقوعه تحت تأثيرات تقاليد المجتمع، والتغير الحاصل في شخصية كروجشتاد الى التمرد على هذه التقاليد، مع أن الأتزان الذي يظهر على شخصية هيملر، سواء في تعامله مع زوجته، وتعلقه بأطفاله، بالأضافة الى المنصب المزمع تعيينه فيه، ترشحه لأن يكون أكثر جدارة من كروجشتاد المصاب بأنحلال خلقي، كما يصفه رانك، في حل المشاكل التي تواجه أسرته بعقلانية. إلآ أن بناء علاقاته هذه على الزيف والمظاهر وحب الظهور أمام المجتمع بالزوج المثالي، كل هذه الأسباب حالت أن يكشف عن وجهه الآخر له، أي للمجتمع. لذلك سرعان ما أنقلب هذا الوجه الوديع الى وحش كاسر، لمجرد أن خدشت كرامته من بعيد أو قريب. ولكن عندما زالت مسوغ الأسباب التي تلطخ سمعته، عاد كما كان في البداية، يستخدم نفس الأساليب.
بينما كروجشتاد المصاب بأنحلال خلقي، والرجل الذي حطمته الأنواء، ويتشبث بحطام الحياة، كما يصف هو نفسه، فمثل هذا الشخص، بمنأى عن تفكير هيملر البورجوازي، وغير متمسك بتقاليد المجتمع وعاداته، بقدر تمرده لا على المجتمع فحسب، وإنما على نفسه أيضا، بدليل أنه تزوج مدام لند بالرغم من أنها كانت قد تخلت عنه وتزوجت غيره، لأن الذي تزوجته كان أغنى منه، تزوجها لسبب واحد فقط، وهو أنه كان يحبها بجنون، وها هو يدلي بحبه وجنونه لها قائلا: عندما فقدتك خيل ألي أن الأرض قد مادت تحت قدمي.
كما أن شخصيتي براك، ورانك، متشابهتان جدا، إذ كلاهما صديقا العائلتين، ويحبان هيدا ونورا. براك هيدا، ورانك نورا.
تنشأ عقدة المسرحية، إبتداء من الفصل الثاني، متمثلة بتمرد نورا، تحديدا من جملة وهي تقول:( مؤكد أنه لم يكن جادا في إدعائه. أمر كهذا بعيد الأحتمال . . .
لا يصدق . . . فأن لي ثلاثة أبناء).
فمن فقرة لي ثلاثة أبناء، تأخذ نورا التفكير، بترك المنزل، لو قدر، أن أبلغ كروجشتاد زوجها، إستدانتها مبلغا من المال منه لعلاجه، بدون علمه، بالأضافة الى تزويرها لتوقيع والدها على الصك، مرورا بجملة:( لقد تعودوا ألآ تفارقهم أمهم، مؤكدة على هذا التمرد في الجملة الثالثة وهي تقول:( أتظنين أنهم قد ينسون أمهم إذا رحلت عنهم؟). وفي الجملة الرابعة، وهي تخاطب المربية :( خبريني يا آنا . لطالما عجبت كيف طاوعك قلبك على أن تتركي أبنتك بين أناس أغراب).
والخامسة بجملة: ( ولو قدر لأولادي أن يفقدوا أمهم، فلا ريب أنك. أوه . . . ما هذا التخريف).والسادسة: (أن أغيب عن الدار)، وإنتهاء بالجملة الأخيرة التي تلفظها في نهاية الفصل الثاني، وهي تعد الساعات المتبقية لها العيش مع أطفالها وزوجها: (الخامسة. سبع ساعات حتى منتصف الليل. ثم أربع وعشرون، وسبع؟ إحدى وثلاثون ساعة هي كل ما تبقى لي من الحياة). وتتكرر مثل هذه الجمل كثيرا الى نهاية المسرحية. كجملة: ( ستندم يا تورفالد على إنك لم تسمح لي بالبقاء ولو لمدة نصف ساعة، وجملة: ( لن أراه ثانية أبدا. . لن أرى أطفالي الأعزاء. . سأفقدهم الى الأبد. . . ).
إن نورا بغريزتها الأنثوية، تحدس إنجذاب الدكتور رانك الثري إليها، لذلك فهي تحلم، لحاجتها سد القرض الذي بذمتها، أن يموت هذا العجوز، تاركا في وصيته، كل ممتلكاته إليها. وهنا أيضا يتغاضى المؤلف عن ذكر هوية هذا الثري العجوز، ولكنه ينكشف عند مغازلتها:
نورا: فيم هذه النظرات الفاحصة؟
رانك: أنى لي أن أعلم؟
نورا: (تركزنظرها إليه لحظة) قلة حياء! (تضربه على أذنه بالجوارب) عقابا لك.
رانك: ألن يسمح لي بمشاهدة شيء آخر؟
أن رانك هنا، مثل مدام لند، أقترنت زيارته يوميا لمنزل هيملر، ليس حبا بصداقته له، وإنما تولها بحب نورا.
أي أن أبسن، في هذه المسرحية، يستخدم أسلوبا جديدا، لم يسبق وأن أستخدمه في مسرحياته السابقة، وهو أسلوب عرض التفاصيل، عن طريق إخفاء الأحداث المهمة أحيانا، كما في زواج مدام لند، وأحيانا أخرى، التصدي لها بشكل غير مباشر، عبر طرح جزء من هذه التفاصيل.
أو كما يقول: عبدالحليم البشلاوي: ( فهو هنا يبني وينشأ ذلك النوع الذي يعرف الآن بالمسرحية ذات التحليل الرجعي. بمعنى أن المسرحية تتعرض لتحليل حادث معين تم حدوثه بالفعل قبل أن يبدأ تسلسل الحوادث، ومن سياق المسرحية وإطراد حوادثها، يأخذ ذلك الحادث السابق في الظهور شيئا فشيئا، وينكشف للمشاهد بالتدريج. الأمر الذي يضاعف قوة المسرحية ويزيد تأثيره في نفوس الجمهور.)(19).
إن بيت الدمية بأختصار، تعبر أصدق تعبير عن الصراع الدائر بين الواقعية والمثالية، متمثلة الأولى بنورا، والثانية بهيملر، ومتجاوزا الزوجين، الى الصراع الدائر بين هيملر من جهة، وبين كروجشتاد ومدام نيد من جهة أخرى.

المصادر:
1-الحداثة: الجزء الثاني لمؤلفيه مالكم برادبري وجيمس ماكفارلن. ترجمة مؤيد حسن-دار المأمون للترجمة والنشر بغداد 1990
2- مقدمة نص مسرحية هيدا جابلر، المجلد الثالث، مختارات أبسن.
3- المصدر السابق نفسه.
4- المصدر السابق نفسه.
5- المصدر السابق نفسه.
6- المصدر السابق نفسه.
7- المصدر السابق نفسه.
8-المسرحية العالمية ، الأراديس نيكول، الجزء الثالث،ترجمة الدكتور عبدالله عبدالحافظ.
9-مختارات أبسن، المجلد الثالث- هيدا جابلر- أيولف الصغير- سيد البنائين، ترجمة صلاح عبدالصبور، القاهرة.
10- المصدر نفسه.
11- المصدر نفسه.
12- المصدر نفسه.
13- المصدر نفسه.
14- مختارات أبسن، المجلد الثالث، سيد البنائين، ترجمة صلاح عبد الصبور، الطبعة الأولى2006.
15- مختارات أبسن، المجلد الثاني، ترجمة عبد الحليم عبدالله، الأشباح، الطبعة الأولى.
16- المصدر السابق نفسه.
17- مختارات أبسن، المجلد الأول، بقلم كامل يوسف. الطبعة الأولى2006.
18- مختارات أبسن،المجلد الأول، بقلم عبدالحليم البشلاوي. الطبعة الأولى 2006.
19- المصدر نفسه.










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با


.. شراكة أميركية جزائرية لتعليم اللغة الإنجليزية




.. الناقد طارق الشناوي : تكريم خيري بشارة بمهرجان مالمو -مستحق-


.. المغربية نسرين الراضي:مهرجان مالمو إضافة للسينما العربية وفخ




.. بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ