الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حول احتمال وجود قوانين للتطور الاجتماعي

باقر جاسم محمد

2006 / 5 / 1
ملف بمناسبة الأول من أيار 2006 - التغيرات الجارية على بنية الطبقة العاملة وحركتها النقابية والسياسية


مقدمة
تثير المقولات الفكرية المستمدة من الشق الأيديولوجي من الماركسية، في الغالب، نقدا ً هو أقرب إلى الحوار منه إلى التفنيد؛ لما تتضمنه من آراء و تنبؤات ذات طابع قطعي فيما يخص التطور التاريخي للمجتمعات البشرية. و لكن البعض سرعان ما يتهم من يمارسون مثل هذا النقد بالتحريفية حتى و إن كانوا من داخل الخيمة الأيديولوجية للماركسية. و في تقديري أن مثل هذه التهمة تشين من يطلقونها و تشرف من تطلق عليهم. فهي تكشف عن نزعة تقديسية للنصوص مهيمنة في نفوس القوم و عقولهم؛ و هي تنزع عن الفكر الماركسي، في الوقت نفسه، أهم مقوماته، أعني حيويته و صلته الدائمة بأسئلة الواقع و قضاياه و تحولاته و بالتجربة البشرية في تنوعها و تطورها. و لعلنا نتفق جميعا ً بأن العالم الراهن قد شهد تطورات جسيمة كما ً و نوعا ً تجعله عالما ً مختلفا ً على نحو جوهري عن العالم الذي استند كل ماركس و انجلس و لينين على معطياته في تحليلاتهم و استنتاجاتهم. و هذا مما يجعل من تلك التحليلات و الاستنتاجات تراثا ً لا يصادر حق مفكري عالمنا الراهن في فحص معطياته الجديدة بل يفرض عليهم مهمة شاقة ألا و هي تفعيل الجوهر الجدلي للعلاقة بين الفكر و الواقع، التي هي سمة أساسية في الفلسفة الماركسية ( و أنا أميز دائما ً بين الفلسفة الماركسية و الأيديولوجيا المستمدة منها) ، بغية السعي للكشف عن فهم أفضل للعالم في تحولاته و صيرورته. و لعلنا أيضا ً نتفق أن إحدى أهم المقولات الأساسية، و لكن الخلافية، في الفكر الماركسي الأيديولوجي، و في المادية التاريخية تحديدا ً، هي قضية وجود سياق للتاريخ البشري يمكن التنبؤ به. وهو سياق مقرر سلفا ً بحكم قوانين للتطور. و مسألة وجود مثل هذا السياق من عدمه قضية شائكة تناولها أكثر من باحث مهتم بالدراسات الماركسية. و من أهم هؤلاء الدكتور سمير أمين الذي سعى إلى محاولة إثبات وجود هذه القوانين و لكن ليس على الصيغة التي طرحها ماركس، وذلك في بحث مهم نشره ملحقا ً بكتاب ( خروج العرب من التاريخ ) للدكتور فوزي منصور. و سأحاول أن أستفيد من بعض كلام الدكتور أمين في طرح المسألة بصيغة سؤال: هل يترتب على القول " بأن الإنسانية واحدة منذ بداياتها" أن نبذل جهودا ً للبحث في " احتمال وجود قوانين للتطور الاجتماعي عالمية النطاق"؟ ( فوزي منصور: 214 -215) و نظرا ً لجسامة السؤال الذي قد لا ينجح الباحثون في الإجابة عليه إجابة حاسمة و نهائية سواء أكان ذلك بالسلب أم بالإيجاب، فأنني سأركز الكلام في هذه المقالة على مسألتين لم يتطرق إليهما الباحث مدفوعا ً باعتقاد أنهما ربما تسهمان في تأسيس المهاد العلمي للجواب للنقاش حول هذه القضية الجوهرية. و المسألتان هما:
1. القراءة المعرفية للعنصر الفلسفي الذي تتضمنه أية إجابة محتملة بالسلب أو بالإيجاب بوصف أن القضايا الكبرى تنطوي بالضرورة على بعد فلسفي.
2. البحث في البعد المعرفي لمفهوم القانون، و هو المفهوم الذي يتردد كثيرا ً في كتابات القائلين بوجود مثل هذه القوانين.
إن نفي وجود قوانين للتطور الاجتماعي ذات بعد عالمي، كما يذهب إلى ذلك كثير من المفكرين و على رأسهم كارل بوبر في " بؤس التاريخانية"، يؤدي بالضرورة إلى التوكيد على الوقائع العينية لتاريخ كل مجتمع على حدة و استبعاد أي احتمال لوجود إطار موضوعي عام و شامل للتجربة البشرية ، و هذا هو الحد العلمي الوحيد الممكن في نظر هؤلاء. وهو إطار لا يرقى إلى مصاف القانون؛ لأنه ينطوي على نفي للتاريخ بتحويله إلى نوع من القصص المسلية من جهة، و إقرار بالسوسيولوجيا الآنية أو الوصفية و تثبيت لها بوصفها الحقل المعرفي الوحيد الذي يمكن أن يقترب من العلوم الطبيعية دون أن يضارعها في دقتها، من جهة أخرى. و يدرك القائلون بهذا الرأي، و هم في الغالب من الوضعيين المنطقيين، أنهم ينزعون إلى التوكيد على نوع من تفرد التجربة الاجتماعية و نسبيتها، و إلى التركيز على الوجوه و المقومات المحددة و الخاصة بكل مجتمع على حدة و ذلك على حساب البعد الفلسفي الشامل للتجربة البشرية. و هم لا ينفون ذلك ولا يأنفون منه، بل يعتبرونه ميزة لهم لأنهم، كما يزعمون، أقرب إلى الواقعية، و إلى الوصف الأمبريقي ( التجريبي ) و ابعد عن الميتافيزيقا من سواهم.
أما الرأي الآخر الذي يؤكد وجود مثل هذه القوانين، فإن من الحق أن نؤكد بأن العنصر الميتافيزيقي ماثل في كل قول بوجود قوانين تنتظم تاريخ التطور البشري منذ الأبد و إلى الأزل. و يستند هذا الزعم إلى نقطتين: النقطة الأولى هي أن التجربة البشرية لم تفرز مثل هذه القوانين المزعومة التي تفتقر للوجود الموضوعي. فالتجربة البشرية أعطت و تعطي إشارات متوافقة أحيانا ً، و هي بذلك قد تغري بالتعميمات الفلسفية، أو تعطي إشارات متضاربة تقضي على أية إمكانية لصوغ تعميمات فلسفية في أحيان أخرى. و هذه الإشارات، سواء أكانت متوافقة أم متضاربة، يمكن أن تـُقرأ قراءات مختلفة تتوصل، في نهاية المطاف، إلى نتائج شديدة الاختلاف. لذلك يمكن القول إن مثل هذه "القوانين" لا تمثل إلا جزءا ً تكوينيا ً من بنية فكرية ميتافيزيقية في عقول القائلين بها. و النقطة الثانية هي أنه حتى لو افترضنا جدلا ً وجود مثل هذه القوانين فإن ذلك يستلزم ضرورة الإقرار بوجود عقل متعال و كلي و مطلق و شامل هو من أوجد هذه القوانين و قام بفرضها. و هذا الرأي قد يوحي بأصداء فلسفية تتردد من فكرة الروح الكلي و المطلق الذي قالت به الميتافيزيقا الهيجلية، كما أنه يمثل عودة إلى الفكر الديني في شتى تجلياته و بخاصة نظرية الاستخلاف الإلهي. وهو ما سيجمع في الأقل بين الاتجاهات الدينية و الاتجاهات الماركسية على صعيد غائية التاريخ المقررة سلفا ً. و من هنا فهو قول ينطوي ضمنيا ً على موقف الانتساب الصميمي إلى شبكة التصورات الميتافيزيقية بكل ما في هذه الكلمة من معنى.
و لعل القارئ الكريم قد لاحظ أن المحور الأساس للمسالة الفلسفية الخاصة بطبيعة التجربة البشرية هو وجود " القوانين " الشاملة التي تسمح لنا، حسبما يزعمون، بالقول إن السياق المستقبلي للتطور الاجتماعي سيتخذ هذه الشاكلة لا تلك، و سيكون على هذا النحو لا ذاك. و قد يصل الأمر إلى حد الزعم بإمكانية " تخطيط " مثل هذا التطور أو التأثير عليه للتعجيل بوتائره. إذ بوجود جملة معطيات مستمدة من الواقع الاجتماعي الراهن، و باستعمال منظومة مقولات تفسيرية مستمدة من التجربة البشرية، و هي المنظومة تعزى لها صفة القوانين، يمكننا أن نتـنبأ بما سيحدث دون احتمال لأن تكذب الوقائع الفعلية اللاحقة ما قررناه من تنبؤات. و هكذا يمكننا أن نؤثر في سياق الأحداث استنادا ً إلى قوى اجتماعية بعينها. و هذا يظهر أن هذا الأمر يستدعي فحصا ً معرفيا ًً لمفهوم القانون المستعمل هنا بصيغة الجمع لأنه يمثل الركن الأساس في مثل هذه المناظرات؛ و ذلك من أجل تحديد المعنى الذي يقصده كل من الفريقين من استعماله لهذا المصطلح. فهل يعني هذا المصطلح الشيء ذاته لدى الفريقين أم أن معناه يختلف من فريق إلى آخر؟ و ما الذي يمكن استنتاجه في كل حالة؟
في إشكالية مصطلح القانون
يستعمل مصطلح القانون في العلوم الطبيعية مثل الفيزياء و العلوم الرياضية مثل المثلثات و علوم الحياة مثل الوراثة و العلوم الاجتماعية مثل الاقتصاد و القانون بوصفه علما ً بمعان تتفق في دلالاتها الاصطلاحية حينا ً و تختلف في أحيان أخرى. و هذا الاختلاف و التباين يكون استنادا ً إلى القواعد العلمية المقررة في كل علم أو حقل معرفي على حدة. و يمكن لنا أن يكون نفهم هذا الاختلاف في معنى المصطلح استنادا إلى معطيات فلسفة العلم نفسها. و إذا كان الأمر على ما وضحنا فإنه يجعل من التعرف على حدود التشابه و الاختلاف في الدلالة الاصطلاحية لكلمة ’ قانون ‘ ضرورة مطلقة لتحديد المهاد المفهومي أو المعنى الدقيق للمصطلح في كل علم مما ذكرنا سابقا ً. وهو ما سيؤدي بنا لاحقا ً إلى فحص و تقرير الفروق الدقيقة في معنى مصطلح القانون بين الفرقاء الفكريين في حقل التاريخ نفسه. و من ثم يمكننا أن نبني استنتاجا ً حول طبيعة القوانين في هذا الحقل.

مصطلح القانون في بعض العلوم
في علم الفيزياء يستعمل مصطلح القانون للوصف الموضوعي المطلق في موضوعيته الذي يقرر، و على نحو شامل، السلوك الحتمي لظاهرة ما ضمن شروط التجربة ذاتها في الماضي و الحاضر و المستقبل. و لذلك يمكن التثبت من صحة القانون العلمي من خلال إعادة التجربة أو استعمال أجهزة القياس و التسجيل. و ذلك لأن الباحث أو العالم الذي يكتشف القانون و يصوغه ليس عنصرا ً داخليا ً من عناصر الظاهرة . ففي الفيزياء التقليدية كان هناك قانون للجذب العام صاغه الفيزيائي اسحق نيوتن ( 1643- 1727 م). فهذا القانون يصف، على وفق ما شرحنا، ظاهرة التجاذب بين الأجسام في الماضي و الحاضر و المستقبل دونما أي احتمال لحدوث أي نسبة من الشذوذ عن منطق هذا القانون. و حين تطورت علوم الفيزياء الحديثة على أيدي كبار الفيزيائيين و منهم أينشتاين ( 1879-1955) الذي قدمت نظريته النسبية العامة فهما جديدا ً للظواهر نفسها التي وصفها و فسرها قانون نيوتن في الجذب العام، لم يؤد ذلك إلى نقض قانون الجذب العام بل جرى تحديد نطاقه. و فضلا ً عن ذلك يمكن أن نضيف بأن هذا القانون هو صيغة ’عقلية‘ مشتقة من المشاهدة للظاهرة الطبيعية الموجودة سلفا ً في تكرارها السرمدي منذ الأزل و إلى الأبد. لذلك فهو كشف عقلي مبدع لما هو موجود فعلا ً . و في العلوم الرياضية يختلف المهاد المفهومي للقانون لأنه هنا ليس مشتقا ً من مشاهدة حسية لأية ظاهرة طبيعية خارجية و إنما هو يقرر سلوك ظاهرة هي في الأصل عقلية لأن الرياضيات، من حيث الجوهر، من العلوم العقلية. و أما في حقل علم الوراثة فإن قوانين مندل هي صياغات عقلية مشتقة من ملاحظة ظاهرة موضوعية هي انتقال الصفات الوراثية من الخلف إلى السلف و احتمالاتها. و المدهش أن صوغ تلك القوانين قد تم قبل التوصل إلى اكتشاف الكروموسوم و المورثات الجينية بزمن طويل. بمعنى أن التطور اللاحق في علم الوراثة لم يفند هذه القوانين و إنما عززها.
مصطلح القانون في بعض العلوم الإنسانية
يختلف الأمر كثيرا ً عند استعمال مصطلح القانون في العلوم الإنسانية التي تدرس الظواهر البشرية؛ لأننا هنا نتحدث عن ظواهر نحن جزء منها، بمعنى أننا نلاحظ الظاهرة بعينين: واحدة خارجية عند مشاهدة الظاهرة كما تتجلى لدى الآخرين، و أخرى داخلية لأننا ندخل تصوراتنا القبلية، الدينية و الأيديولوجية عن أنفسنا و عن علاقاتنا بالعالمين الطبيعي و الاجتماعي المحيطين بنا ضمن فهمنا للظاهرة، و لعل من المؤكد أنني أفعل شيئا ً مما ذكرته توا ً في هذه اللحظة، و بما يؤثر على الصفة العلمية لاستنتاجاتنا و لما نزعم من نظريات و " قوانين ". كما تتصف هذه الظواهر بكونها غير قابلة للتكرار من جهة و هي عصية على التقنين التام و الدقيق للعوامل الكثيرة الداخلة في الظاهرة، لنلاحظ هنا أننا لا نكاد نتحدث عن تجارب بل عن مشاهدات لحالة حيوية في تمظهرها و تجددها. و هي ظاهرة تنطوي على عوامل كثيرة مؤثرة في الظاهرة بحيث لا يمكن معرفة مقدار تأثير كل عامل منها على حدة. و كل ذلك يقلل إلى أدنى حدٍ من إمكانية القول بأن ظاهرة إنسانية ما يمكن أن تتكرر على نحو بعينه ناهيك عن الزعم بوجود قوانين تنتظم الحراك الاجتماعي و ظواهره التاريخية. و كما اختلفت جزئيا ً دلالة مصطلح ’ القانون‘ بين الفيزياء و الرياضيات فإن دلالة هذا المصطلح تختلف بين علم اجتماعي إنساني و آخر على نحو أكبر، و ذلك آخر فضلا ً عن اختلافها بعدا ً أو قربا ً عن دلالة المصطلح في العلوم الطبيعية.
ففي علم الاقتصاد نتحدث عن قانون الغلة المتناقصة من حيث ثبات و اطراد الظاهرة المشاهدة في الماضي و الحاضر و المستقبل. و أية مشاهدة أو دراسة لاحقة ستعمل على تعزيز منطق ذلك القانون مع إمكانية ضئيلة جدا ً لحدوث شذوذ عن ذلك المنطق. و بالرغم من نقطة الاختلاف هذه في دلالة مصطلح القانون بين الفيزياء و الاقتصاد، إلا أنه يظل أقرب من حيث الدلالة و المهاد المفهومي إلى دلالة القوانين بالمعنى الذي تستعمله العلوم الطبيعية. أما في حقل علم القانون فإن هذا المصطلح يكتسب دلالات متعددة و مختلفة تماما ً. فالقانون الدستوري مثلا ً يقتصر في دلالته على تنظيم الدولة و أسلوب ممارسة السلطة و العلاقة بين السلطات التشريعية و التنفيذية و القضائية و العلاقة بين الحاكم و المحكوم و الموازنة بين الحقوق و الواجبات و على ضرورة أن تصدر القوانين التنفيذية و التفصيلية بما لا يتناقض مع جوهر الدستور و نصوصه. فهو إذن ليس وصفا ً لظاهرة موجودة بقدر ما هو توصية بما يجب أن يكون. و إذا كان القانون الدستوري لدولة ما منسوخا ً من القانون الدستوري لبلاد أخرى و كان نتاجا ً لتجربة بعينها عاشتها تلك البلاد فإن ذلك لا يضمن قط أن الأمور في المجتمع الذي يتبنى مثل هذا الدستور سوف تسير على السياق نفسه الذي مرَّ به المجتمع الذي اُخذ عنه الدستور. أما في القانون الجنائي فنحن لسنا بصدد تبيان كيفية حدوث الجرائم التي قد توصف في مواد القانون و فقراته بقدر ما نحن بصدد صوغ النصوص التي تجرم و تحدد العقوبات لتلك الجرائم من أجل الحيلولة دون ارتكابها مستقبلا ً. و قل مثل ذلك عن القانون التجاري الذي يحدد العقود و ما يترتب عليها من حقوق و التزامات بين المتعاقدين كما ينظم أسلوب ممارسة المهن. من هنا نلاحظ أن دلالة القانون في علم القانون تنصرف إلى تحديد المباح أو ما يجب أن يكون و غير المباح أو ما لا يجب أن يكون. و من الطبيعي أن المباح و غير المباح لا يتطابقان بالضرورة بين مجتمع و آخر. لذلك فمصطلح القانون في حقل علم القانون ينطوي على سمة النسبية التي تجعل منه أقرب إلى مفهوم القواعد المنظمة لحياة كل مجتمع على حدة. و حتى مبادئ ما يسمى بالقانون الدستوري أو التجاري، و هي ما يصطلح عليه بالقواعد القانونية، تختـلف كليا عن مفهوم القانون في الفيزياء أو في الاقتصاد بسبب من صفة النسبية المتأصلة فيها.
و نلاحظ الآن أن هناك الكثير مما يجمع بين دلالة مصطلح القانون في العلوم الطبيعية و بعض قوانين الاقتصاد مثلا ً العموم في الدلالة زمانا ً و مكانا ً ومجتمعا ً ، و ندرة أو انعدام حالات الشذوذ، أما من حيث الوظيفة فإننا نلاحظ أن وظيفة القوانين في مثل هذه العلوم هي زيادة فهمنا للظواهر المشاهدة أو المفكر بها على نحو يمكننا من السيطرة على تلك الظواهر. فدلالة القانون هنا لا تشمل حالة أو معنى ما مرغوب فيه أو آخر غير مرغوب فيه ؛ إنما هي تصف ظواهر متكررة الحدوث بالكيفية نفسها. أما دلالة مصطلح القانون في علم القانون فهي مختلفة تماما ً إلى الحد الذي يجعلها تنصرف إلى أمور دستورية و تنظيمية و عقابية ذات وظيفة اجتماعية. و السمة الجوهرية الأخرى التي تميز بين دلالة مصطلح القانون بين العلوم الطبيعية و الإنسانية هو أن القانون في حالة العلوم الطبيعية لا يكاد يخضع للتأويل ، بمعنى أنه قطعي الدلالة دائما ً؛ أما في العلوم الإنسانية فإن إمكانية التأويل تكاد تشمل القوانين كافة حتى كأن علم التأويل hermeneutics يجد في " القوانين" الاجتماعية ساحة ممتازة لإظهار براعته و جدواه.

مصطلح القانون في الدراسات التاريخية
و الآن، كيف يمكن أن نحدد المهاد المفهومي و الدلالة الاصطلاحية لمصطلح القانون في حقل الدراسات التاريخية؟ و هل تسمح وقائع التاريخ الملموسة لمجتمع ما في حضارة ما في زمن ما بأية إمكانية لاستنباط " قوانين " عامة يمكن تعميمها على بقية المجتمعات؟ و هل يجدي إضفاء كلمة " قانون " على حوادث تاريخية بعينها في جعلنا قادرين، و بأية درجة من درجات اليقين، أن نقرر باطمئنان بأن هذه الحوادث ستتكرر حتما ً في المستقبل؟
بداية نقول أن من يذهبون إلى نفي وجود القوانين يستندون على جملة حجج لعل من أهما عدم انطباق صفة القانون بالمعنى المعروف في العلوم الصرفة و ذلك بملاحظة الصلة بين القانون و الظاهرة التي يفترض أنه يقننها. فهم إذن يستعملون مصطلح القانون بالمعنى نفسه الذي نجده في بقية العلوم الطبيعية. و لكن قد يقرر المؤرخ البريطاني المعروف آرنو توينبي ( 1889-1975) بأن القانون في التاريخ هو دورات النكوص و الصعود نتيجة لمنطق التحدي و الاستجابة. و لكن التجربة المريرة أثبتت أن العرب مثلا ً لم يكونوا يمتثلون لهذا المنطق على الرغم من كونهم قد اطلعوا عليه و عدّوه فكرة تمثـل أملا ً عزيزا ً على أنفسهم فكانوا أكثر احتفاء ً به و تهليلا ً لـه من البريطانيين أنفسهم! كما لم يستجب لـه أغلب الأفارقة الذين ارتكس لديهم حلم التقدم بعد الاستقلال فتحول إلى حروب أهلية طاحنة!
و قد يقول ماركس بأن القانون هو الصيرورة التاريخية ’ التقدمية ‘( التقدمية صفة تقويمية، و الصفات التقويمية ليس لها وجود قط في القوانين العلمية ) من المشاعية البدائية إلى العبودية إلى الإقطاع إلى الرأسمالية إلى الاشتراكية فالشيوعية( دون أن ينسى طبعا ً أن يشير إلى نمط الإنتاج الآسيوي بوصفه سياقا ً مختلفا ً عن السياق الأوربي للتطور التاريخي ). و أن محرك هذه الصيرورة التاريخية هو الصراع الطبقي الذي تقوده في المرحلة الرأسمالية الطبقة العاملة. و لكن هل كان بإمكانه، حتى لو عاش كفاية ليشهد ما شهدناه، أن يفسر لنا السبب في عدم نضوج الظروف الموضوعية لقيام الطبقة العاملة بثورتها المأمولة حتى الآن!؟ أو لماذا فشلت التجربة الاشتراكية في بلدان بعينها‍‍!؟ ‍‍ أشك في ذلك لأن من أخطأ مرة قد يخطئ مرة أخرى.

خاتمة
يظهر الفحص المعرفي لدلالة استعمال مصطلح القانون في حقل الدراسات التاريخية ، و بعد قراءة مدققة و دراسة للمهاد المفهومي للمصطلح نفسه في العلوم الطبيعية و الإنسانية و دلالاتها الاصطلاحية، أن هذه الدلالة بعيدة كل البعد عن الاستجابة للتوصيف العلمي لمصطلح القانون. فهي تعبر عن رغبات و تصورات و انحيازات و تنبؤات مسبقة؛ و هي لا تتطابق مع أهم حدود مصطلح القانون العامة إلا و هي: العموم و الوصفية الموضوعية و إمكان تكرار الظاهرة موضوع القانون دون أية حالات شذوذ. و هي بذلك تنتسب إلى حقل الأيديولوجيا عن جدارة. فأنا حين أقرر بكامل الاطمئنان أنه إذا غمر جسم ما في مائع ما فإنه يفقد من وزنه بقدر وزن المائع المزاح. ، فلن ينظر إلى أحد، بعد التحقق من مطابقة الواقعة الملاحظة مع ما قلته، و يقول لي: يا لك من متنبئ عظيم!
لأنه ببساطة يعرف جيدا ً أنني أقرر قاعدة معروفة و صحيحة دائما ً قالها أرخميدس في القرن الثالث قبل الميلاد. أما إذا قلت، و بعد دراسات مستفيضة، بأن السياق المستقبلي للتطور سيكون على نحو بعينه ثم جاءت الأحداث لتثبت صحة ما قلته فأن من حق أي فرد أن يصف ما قمت به على أنه نبوءة صدقت، و ليس على أن ما قلته قانون أثبتت صحته الأحداث. تلك الأحداث التي ربما لن تتكرر قط. أليس كذلك؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نداءات لتدخل دولي لحماية الفلسطينيين بالسجون الإسرائيلية | #


.. غارات إسرائيلية استهدفت بلدة إيعات في البقاع شرقي لبنان




.. عقوبات أوروبية منتظرة على إيران بعد الهجوم على إسرائيل.. وال


.. شاهد| لحظة الإفراج عن أسرى فلسطينيين من سجون الاحتلال الإسرا




.. مسؤول أمريكي: الإسرائيليون يبحثون جميع الخيارات بما فيها الر