الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يؤثَّثُ الفراغَ ويضحكُ- مجموعة الراحل -حميد العقابي- القصصية التي صدرت بعد وفاته

سلام إبراهيم
روائي

(Salam Ibrahim)

2019 / 5 / 1
الادب والفن


"يؤثَّثُ الفراغَ ويضحكُ" مجموعة الراحل "حميد العقابي" القصصية التي صدرت بعد وفاته

الأعزل نبوءة وطن يتفتت

سلام إبراهيم

يؤثث الكاتب في قصص مجموعته الواحدة والثلاثين عالم شخصية الأعزل، الفاقد كل بواعث الاستمرار في الحياة، فكل ما يراه او ويحيط به من أصغر تفصيل يومي إلى أعمق تفسير فلسفي مجرد عبث لا طائل منه، وعاجلا أم آجلا سيأتيه الموت والعدم، إذن لا جدوى، ولامعنى للحياة نفسها، وبالتالي لا معنى لهذا الوجود، هذه "التيمة" الجوهرية أو الفكرة الأساسية التي قامت عليها القصص بأحداثها وأفكارها. وهذه الفكرة فرضت بالضرورة على بنية القصص أن تكون ملامح وسمات الشخصية وأفكارها وسلوكها ونظرتها واحدة في القصص القصيرة جدا جميعها، إذ شعرت بأنني أتابع شخص واحد يجوب في كل أحداث القصص في السجن، والشقة، والبار، والشارع، والأماكن المكتظة والمهجورة، شخص يضع جداراً غير مرئي بينه وبين البشر والأشياء، شخص تساوت لديه كوابيس النوم بكوابيس اليقظة في خضم الحياة الواقعية.
يبني "حميد العقابي" قصصه منطلقاً من فكرة فلسفية تكون الركيزة لتيمة النص ومنها ينسج هيكله وأغراضه، الشخصية وأفكاره، الحدث ومساره، ويكون اختيار الجملة الابتدائية ومدخل النص مدروساً ومعتني به والجملة الختامية واضحة ومصاغة سلفاً في هذا النمط من البناء القصصي؛ فهي خلاصة الأفكار وفلسفة الكاتب والشخصية بآنٍ واحد، وبشكل عام يناسب هذا النمط القصصي قالب القصة القصيرة جداً باعتبارها خلاصة مكثفة لتجربة تبغي تقديم خبرة معرفية.
والمجموعة مرتبة ترتيباً رياضياً محسوباً، يتناغم مع بنية كل قصة وفكرتها الجوهرية التي تتضافر مع القصة التي تليها، وكأنها تطرح فرضيات يجري إثباتها في توالي القصص التي تتناول جوانب حياة وأفكار وكوابيس الأعزل ليختتم في القصة الأخيرة الطويلة الوحيدة في الكتاب من ص121-147 "دقائق الأعزل" التي تقدم جرداً يكاد يكون فكرياً عن دقائق الأعزل في يومه مقسمه من لحظة الاستيقاظ فيقدم ملامح شخصية تشبه شخصية الكاتب، فهو يفكر بكتابة كوابيسه حال الاستيقاظ ليبني منها قصصا قصيرة أو فصولاً من رواية كابوسيه، ويذهب إلى نشأته فنتعرف على صورة "حميد العقابي" في صباه وطفولته فهو كتب الشعر مبكرا، وخاض كجندي مكلف في حرب طويلة، وهرب إلى المنفى ليحافظ على كينونته، لكنه سقط في وحشة حياة الأعزل القاحلة، المتأرجحة بين كآبة التفاصيل وفكرة الانتحار، وليعيش يومه سائراً على حافة المجهول.
(قد يُجرب الأعزلُ الانتحارَ وهي فكرةً تراوده دائماً لكنه يتراجع في اللحظات الأخيرة ليس خوفاً بل لأنه يستمتعُ بفكرة السير على شفا الهاوية مغمض العينين ليحيا موته ويعرف جيدا أن الموتَ نهايةُ الحياة ولا يريد لهذه اللعبة أن تنتهي) ص147
ينهي أخر قصة وأطولها في المجموعة "دقائق الأعزل" بهذه الخلاصة التي تنظر إلى الحياة كونها لعبة بكل ما تحمله اللعبة من ثقل معناها كونها لا غائية لها إي مجرد عبث، وهو "الأعزل" مجبر على العيش وغير قادرٍ على الانتحار ولسان حاله يقول مادامت الحياة عبث فلم لا أقضي فترة وجودي مستمتعاً بهذا الخواء في معادلة شديدة التشاؤم.
هذه الخلاصة "الحياة مجرد لعبة" تعود بالقارئ إلى القصة الأولى "اللعبة" التي تقدم عرضاً وافياً عن تكوين شخصية الأعزل وفلسفته وأحلامه وغربته من خلال مسار الحدث المتقطع، فقصص حميد كما ذكرت ليست بها حبكة فهي قصص أفكار وأحداثها محصورة بأبعاد الفكرة والشخصية الشديدة التشاؤم التي تضيق عليها الحياة فلا ترى في وسعها غير سجنٍ مفتوح أشد وطأة من الزنزانة، وهذا ما تخلص إليه القصة التي تدور حول اللعبة والحياة، فالشخصية ما أن يدفع به إلى زنزانة مكتظة حتى يعرض عليه سجين لعبة ورهان يتعلق بحزر عدد القمل في قميصه هل هو زوجي أو فردي؟. تلك التجربة كانت الأولى والحاسمة بتكوين شخصية الأعزل، ففي مرات عديدة يحجز في زنزانات انفرادية، ليتعلم لعب الحديث مع الجدران والتأمل والتذكر، وإعادة صياغة الماضي من المخيلة وتكوين سيرة حياة هي غير السيرة الحقيقة، أي الامعان في الاغتراب فتستحيل أحلامه أقرب إلى الوهم منها إلى الحقيقة حسب صياغة السارد ص9. وبتقنية التداعي المختلط مع بنية الأحلام يحّن الأعزل إلى الأم فسحة الأمان الوحيدة في وجوده المضطرب، فيصور أوبته إلى غرفة الطفولة والأم والنهر الذي سرقوه منه منذ الطفولة، ومنذ تلك اللحظة التي فقد فيها الحضن الدافئ والنهر والطفولة عاد غير واثقٍ من كل شيء، وكأنه سجين يحلم بالهرب من المحيط، ملقياً الضوء على قلق وخوف واضطراب وضعف الأعزل لنقرأ هذا المقطع:
( كنتُ طليقاً إلا أن شيئاً غريباً يشدّني إلى السجن ولم تزل فكرةُ الهرب تراودني وأنا في أسعد اللحظات وفي أجمل الأماكن، أهربُ من يقيني من شكّي من فرحي من حزني من شوقي من عشقي من بغضي من ظّللي من نفسي من صوتي، حتى وجدتني في هروب دائم) ص10
والأعزل يولّد الآخر في وحدته ويدخل في حوارات فلسفية مضنية تحيل أبسط تفاصيل الحياة الجارية مثقلة بالهم والأفكار، إذ يدخل في صراع وعدم تفاهم مع ذاته الثانية التي يكون حضورها ضرورة توازن وجوده، ففي هذه "اللعبة" وهي القصة الأولى التي حاولت أن ترسم صورة بانوراميه عن تكوين شخصية الأعزل، يستعيد تجربة سجنه في مكان نشأته الأول بعد خمسة وعشرين عاماً وهو في منفاه الدنماركي، وتلك اللعبة التي وجد نفسه يلعبها مع الآخر في عزلته، لعبة تتحول إلى جدل وحوار عويص ورغبة بتمزيق الشخصية وظلها.
يتفنن الأعزل في اللعب بالأفكار والأخيلة، إذ تفرض الحياة المغلقة في ردّ فعل طبيعي، خيالاً ملتهباً بالتأمل والاختلاق، فيبتدع في قصة "البديل" فكرة خلق شخصاً أخر يقوم بما يقوم به في تفاصيل يومه، يجلس يراقبه ساخراً وهو يتجشم عناء متطلبات النهار، فالأعزل يرى في حياة طبيعية عناء ومشقة، ثم يجعل "البديل" يسخر منه وهو يعلق ضاحكاً بأنه ليس جبانا حتى يقوم بخلق بديل له ويهرب، مما يجعله يتمنى خنقه وهو يتمادى قائلاً في جملة النص الختامية:
( ما جدوى وجودك الآن؟).
تشكل قصة "أولمبياد 56" ذروة الصوغ الفني في قالب القصة القصيرة جدا المبنية على أساس الفكرة، أو المتولدة كبنية وأحداث منها، فالشخصية متسابق يوصف وقفته في زحمة متسابقين عند خط الشروع بانتظار طلقة البدء، متضايقاً من الزحمة فهو لا يجيد التدافع فيتراجع إلى الخط الأخير، وينطلق خلفهم مجاهدا للحاق بالطابور دون جدوى، لكنه يواصل الركض ولا مفر من الاستمرار فيلف المتسابقون حوله لفات فيتعرض لسخرية المتفرجين، يغمض عينيه ويواصل إلى يسود الصمت فيفتح عينيه ليجد الملعب فارغاً وهو يدور رغماً عنه، لينقط سطرين ثم يختم النص القصير بـ:
_ وما زلتُ راكضاً.
وإذا علمنا أن "حميد العقابي" من مواليد 1956 ندرك ما رمز إليه في بناء شخصية المتسابق المتأخر في ملعب الحياة، فهو يلهث ويعيش رغماً عنه وحتى إلى ما يدري، وظلَّ يفعل ذلك حتى موته المباغت وهو في زيارة لبيت صديق له في مدينة غير مدينته، حيث ختام ذلك السباق المهلك ليغمض "الأعزل" عينيه ويستريح.
ينتقل بالأعزل في القصة التالية "القطار" إلى نصف الحياة الأهم "المرأة" وهنا لدى هذا النمط من الشخصيات تبتعد عن واقعها الفيزيقي المحدد وتكون فتاة الأحلام المستحيلة التي راودت كل فرد أحب أو لم تتح له فرصة الحب، في صيغة تكوين مثالي لا يتجمع أبداً في امرأة واقعية واحدة، بل نجده في الأساطير والقصص والروايات والأشعار. فيضفي عليها في هذه القصة غموضاً لاهثاً، فبينما هو في قاع عزلته تتصل به امرأة وتخبره لاهثة أو يتخيلها هكذا أنها تعيش وحيدة في كوبنهاجن وفي طريقها إليه إذ ستستقل القطار المتجهة نحو مدينته، فينتظرها مشتعل الهواجس والأفكار لكنها لا تصل، إذ يتوقف القطار في منتصف الطريق، وتخبره ضاحكة أنها تنتظر حتى يتحرك القطار وحينما يسألها إلى أين يصل تخبره ضاحكة:
- إلى اللا مكان ص23
وتغلق الخط والقصة. جو ومناخ يتأرجح بين الحلم والواقع، الكابوس والمعقول، لكنها المرأة الغامضة التي تجوب عزلة الأعزل وأحلامه.
في قصة مكثفة أخرى "دخان" يذهب الأعزل إلى عالم المرأة في تجربة محبطة أخرى بسلسلة تجارب الإحباط التي ترسخ عالم عزلته. إذ يتعلق بجارة تسكن في نفس طابق البناية يلتقيها في المصعد وهي تبكر صباح كل يوم في طريقها إلى عملها ويجد صعوبة كبيرة في تجاوز خجله وتكوينه كمحروم عراقي ليس لديه تجارب مع المرأة، وبعد أيام من الحث الداخلي يتجرأ ويحكي معها في صباح فتستقبله في البيت، ليقطع السرد مصوراً الشخصية وهي ترتدي ملابسها وتضع أجر المضاجعة على الطاولة وتخرج مقفلة موضوع حب الجارة، فقد تبين أنها تمتهن العهر سراً.
أفق الأعزل يُقْفَل دون كل شيء مضيء، ليس على مستوى التجارب المحض خاصة وسرية التي تناولتها، لكن حتى في التجارب التي تخرج عن الذات وهي تدخل في علاقتها بالآخر، ففي نص "الغريق" يصور الكاتب زوجاً فقد أبنه غرقاً في نزهة، فتتركه زوجته بعد أن تسأله:
- لماذا عدت إذن؟
فيعيش حياة الكابوس مفكرا طوال الوقت بالانتحار لشعوره بالذنب.
في نص مكثف أعده من أجمل النصوص القصيرة جدا يكثف الكاتب محنة الحياة نازلاً إلى تراجيدية حدثها فيصور لحظة تراجيدية قصيرة زوج يلاحق سرير زوجته ذي العجلات وهم يدفعونها إلى غرفة العمليات لإزالة نهدها المصاب بالسرطان، يصور اللحظات المتوترة تلك وعلاقته بهذا النهد منبع الحياة الشهوة والرضاعة في مبنى فني محكم يصور كل ما حول الطبيعة والشتاء والتداعي إلى لحظة أخبارهم بالإصابة فيستعيد مجد النهد الحسي في العلاقة ليسقطها في عدم الأعزل، سارد النص.
يتفنن "حميد" في تصوير عدمية شخصية الأعزل موظفاً تراث حكايات الكتب السماوية في منحى يخدم فلسفة "الأعزل" التشاؤمية وهي فلسفة عبثية لا إنسانية تتجلى في نصه القصير " الفائض عن الحاجة" إذ يجد القبطان "نوح" أن وجود الأعزل فائض عن الحاجة فلا زوج له، فيلقونه في اليم. وهذا الكشف هو الجانب القاسي من تحصيل الفكر البشري وهو يتأمل الوجود.
وحميد العقابي كمثقف مؤمن بلا عدالة الحياة بالرغم من عيشه في ظل ظروف مجتمع –الدنمارك- وفرّ له حياة كريمة ظاهراً لكن وعيه الفلسفي يغور خلف الواقع والترتيب الظاهر لأرقي المجتمعات مما يعمق عزلته وغربته ويجعله يشعر بوحدته ووحشته فلا يرى في المحيط سوى شبح الموت الحائم حوله تارة بفكرة الانتحار، وأخرى في أخيلة عزلته التي يرى نفسه فيها ميتاً، فيتخيل في نصٍ دون عنوان ص57 اللحظة التي سيشيع بها إلى قبره، فيصور حزن بنتيه وزوجته، وتعلق مشيعٍ متدين يسخر من الطقس الديني، وسخرية الميت الذي يخبرنا في الحكاية.
هذه المجموعة القصصية مهمة عراقياً وعربياً من نواحٍ عدة كونها تلخص فلسفة اليأس التي تعم وتحتل عقول سكان العراق والشرق الأوسط وكأن يأس نصوص "حميد" الفنية المكتملة بنية جمالية تضيء ما يرزح به العراقي والعربي والشرق أوسطي سواء أكان في بلده أو في منفاه.
قصص تنبأت بحالنا وصدرت وكاتبها مات قبل أن يراها ترى النور في القاهرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* * صدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب (سلسلة الإبداع العربي) 2017 القاهرة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا


.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما




.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في