الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حالية نظرية التنظيم اللينينية على ضوء التجربة التاريخية

إرنست ماندل

2019 / 9 / 13
مواضيع وابحاث سياسية


(1)

لم يترك لنا ماركس نظرية مكتملة عن تشكل الوعي الطبقي البروليتاري. للسبب ذاتهن لم يترك لنا نظرية مكتملة عن الحزب. ثمة في مؤلفاته شذرات لنظرية من هذا النوع، لكنها تبدو غالبا كما لو كانت متناقضة، لأنها تبرز تارة هذا وطورا ذاك من وجوه تكون هذا الوعي الطبقي التي تغلب في التحليل الماركسي. تارة العنصر الذي يخلص إلى الإنضاج الذاتي للبروليتاريا على المدى الطويل -تبعا للوضع البروليتاري بالذات، أي تبعا للموقع الذي تحتله البروليتاريا في سيرورة الإنتاج الرأسمالي، وفي المجتمع البرجوازي عموما. وطورا العنصر الذي يبرز انعدام النضج الذاتي المباشر للبروليتاريا ذاتها- تبعا لثقل البؤس والاستلاب والتخبل ولا سيما الخضوع لعبودية أيديولوجيا الطبقة المسيطرة، تلك السلبيات التي تنجم عن الشرط البروليتاري ذاته.
إن للينين الفضل التاريخي في دمج هذه العناصر المتناثرة لصياغة نظرية متماسكة حول تكوّن الوعي الطبقي البروليتاري، نظرية تشكل قاعدة نظريته عن التنظيم. إن الكثير من التطورات الخاطئة إزاء هذه النظرية من التنظيم، والكثير من الدعاوى غير المبررة، على النية، المقامة ضد لينين طوال القرن العشرين ناجمة عن رفض فهم نقطة الانطلاق النظرية تلك.
طبعا، عندما يجري الكلام على نظرية لينينية في التنظيم، ثمة نزعة إلى الرجوع حصرا إلى كراس "ما العمل؟" وإرجاع أكثر من ربع قرن من النشاط الحثيث في حقل التنظيم إلى المبادئ المذكورة في هذا الكراس دون غيرها. بقدرما لا يُرى في لينين ماكيافلي منافق، يخفي عن وعي قسما من نواياه عندما يكون "الظرف غير مناسب" وبقدرما يجري الاعتراف له بالحد الأدنى من الصدق والتماسك الايديولوجيين اللذين بدونهما يفقد نقاش أفكاره كل معناه، فإن هذه المحاولة الاختزالية هي بالطبع دون أساس. ثمة في نتاج لينين ثبات في بعض الموضوعات الجوهرية التي نجدها معروضة بأوضح الصور وأكثرها إقناعا في "ما العمل؟". لكن كلما اغتنت تجربة لينين أكثر فأكثر -لا سيما تجربة النضالات الثورية للبروليتاريا الروسية عامي 1905-1906 وعام 1917، وإلى حد لا يمكن إغفاله تجربة الحركة العمالية الأممية إبان الحرب العالمية الأولى وغداتها -فإنه يدمج في نظريته حول التنظيم سلسلة من العناصر الإضافية، سوف نجدها مبلورة على الأخص في الكتابات عن إفلاس الإشتراكية-الديموقراطية بين سنة 1914 وسنة 1916، في "الدولة والثورة" وكتابات أساسية أخرى عام 1917، في وثائق المؤتمرات الأولى للأممية الشيوعية وفي "مرض اليسارية الطفولي". إنّ مجمل هذه العناصر المجمعة حول الموضوعات الأساسية لكراس "ما العمل؟" والمصححة لها في بعض الوجوه، تشكل النظرية اللينينية في هذا الميدان، وليس لحظة من هذه النظرية، محدودة في الزمان.
ثمة ملاحظة تمهيدية أخرى تخص محاولة العديد من النقاد دحض النظرية اللينينية عن التنظيم معتمدين على الممارسات البيروقراطية في الاتحاد السوفياتي بعد لينين … إنه خطأ منهجي واضح.
طبعا إن وحدة النظرية والممارسة التي يطالب بها الماركسيون -والتي كان لينين ليضطلع بها من جهته قبل غيره- تسمح باستمرار بمواجهة النظريات بنتائجها العملية. لكنها تتطلب أن يقدم البرهان على أن هذه النتائج تنجم عن النظرية، -وليس عن عوامل مختلفة، لا بل نظريات معاكسة. إن إدانة كتاب في الجراحة لأن جرّاحا فشل في عملية جراحية بعد أن تلقى دروسه على أساس هذا الكتاب ليست طريقة علمية جدية للغاية. ينبغي كذلك تقديم البرهان على أن ما سبب موت المريض إنما هو تطبيق النظريات المعروضة في الكتاب، لا واحد من آلاف العوامل المختلفة التي يمكن أن تؤثر على مجرى العملية الجراحية، بدون علم المنظّر، أو نتيجة لرفض واع لاتِّباع الدرس المتلقى.
أخيرا، من الضروري تمييز ما يملك في النظرية اللينينية عن التنظيم قيمة شمولية، أي ينطبق على مجمل عصر الأزمة العامة للرأسمالية، وينتج هكذا عن مجمل الخصائص الأساسية للمجتمع البرجوازي، للإنتاج الرأسمالي وللطليعة الطبقية للبروليتاريا، -وما ليس إلاّ عرضيا، ناتجا عن شروط نوعية خاصة بالزمان والمكان. نكتفي بمثل واحد: كم من المرار جرى الاستشهاد بالمقطع الوارد في "ما العمل؟" ضد انتخاب لجان الحزب، ولصالح تعيينها من قبل المركز، كبرهان على التصرفات "المعادية للديموقراطية" للغاية، من جانب لينين؟ جرى تناسي إضافة أن لينين يبرر هذه الطروحات حصرا بالشروط الصعبة للسرية التي كان يعيشها الحزب الاشتراكي-الديموقراطي العمالي الشاب في روسيا القيصرية، وأن كراس "ما العمل؟" ينادي في الوقت ذاته بضرورة الانتخاب والعلنية الأوسعين لكل اللجان وكل مندوبي الحزب، مذ يجري ضمان الحد الأدنى من الحريات الديموقراطية، وأن طروحات المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية تؤكد من جديد على مبدأ انتخاب كل اللجان، غير تاركة للاستثناآت إلاّ بالنسبة لشروط السرية القيصرية على وجه الحصر.

(2)

تنطلق النظيرة اللينينية في تكون الوعي الطبقي البروليتاري من التمييز، الجوهري بالنسبة للماركسية، بين الطبقة في ذاتها والطبقة لذاتها، الذي سبق وأرساه ماركس في "بؤس الفلسفة". يتفرع عن هذا التمييز مفهوم الوجود الموضوعي للطبقات الاجتماعية، بالاستقلال عن مستوى الوعي لديها، ومفهوم النضال الطبقي الموضوعي، بالاستقلال عن مستوى الفهم الذاتي للمصالح التاريخية للطبقات المعنية. إن هذين المفهومين عن الطبقة الموضوعي، والنضال الطبقي الموضوعي، لا غنى عنهما للتماسك الداخلي للمادية التاريخية ولفهم التحديد المشهور، في البيان الشيوعي، الذي يقول: "كل تاريخ البشرية هو تاريخ الصراع بين الطبقات". بديهي أن عبيد العهد القديم وأقنان العصر الوسيط كان وعيهم لمصالحهم الطبقية التاريخية أقل بكثير مما هي الحال مع الشغيلة البريطانيين أو الأمريكيين في أيامنا هذه. إن إنكار طابع الصراعات الطبقية على مجابهات كبرى بين الرأسمال والعمل، على أعمال طبقية كبرى تقوم بها البروليتاريا، كما على سبيل أمثال الإضراب العام في إيطاليا بتاريخ 14 يوليوز 1948 أو الإضرابات العامة في بلجيكا عام 1950 وعامي 1960-1961، بحجة أن وعي البروليتاريين المنخرطين في تلك المعركة لم يكن على مستوى متطلبات التاريخ، أو أن هؤلاء كانوا يقاتلون من أجل أهداف سياسية لا تخرج من ميدان الديموقراطية البرجوازية، إنما هو دفن لمفهوم الطبقة الموضوعية والنضال الطبقي الموضوعي، ووضع لنقطة استفهام على كل المادية التاريخية. لا يعود الوجود الاجتماعي هو الذي يحدّد الوعي، بل الوعي -والوعي وحده- هو الذي يسمح بالحكم على حقيقة نضال اجتماعي يُشرك ملايين الأشخاص.
لكن كما أن النظرية اللينينية عن التنظيم ترفع دعوى التبرير ضد شطحات تلك النزعة الذاتية القصوية، فهي تعارض بحزم الموضوعية التي ليست أقل ميكانيكية والتي ترى، محتجة بأن الصراع الطبقي هو بالنسبة لماركس النتيجة المحتومة لوجود المجتمع الرأسمالي وللتناقضات التي تمزقه، أن الوعي هو الانعكاس الآلي للوجود الاجتماعي، وتمحور هكذا الخصوصية الأساسية للنضال الطبقي البروليتاري، تلك التي تميزه عن كل نضال طبقي حدث في الماضي: عنينا واجب الطبقة العاملة في استبدال مجتمع واقتصاد تحكمهما قوانين عمياء أو موضوعية ببناء واع لمجتمع واقتصاد جديدين تديرهما قيادة واعية يضطلع بها منتجون متشاركون.
بما أنه لا يمكن لبناء الاشتراكية أن يكون النتيجة الآلية للنضال الطبقي داخل المجتمع البرجوازي أو لمجرد تحرير عناصر المجتمع الجديد القائمة داخل المجتمع القديم، بل لتنظيم واع للمنتجين فإن مستوى وعي هؤلاء المنتجين سوف يحدد إلى درجة لا يستاهان بها حظوظ نجاح المشروع.
بتعابير أخرى: استنتج لينين من تمييز ماركس بين مفهوم الطبقة في ذاتها والطبقة لذاتها تمييز مفهوم النضال الطبقي الابتدائي -وهو النتيجة التلقائية المحتومة للتناقضات الطبقية التي يدخلها نمط الإنتاج الرأسمالي بذاته إلى المجتمع البرجوازي- والنضال الطبقي الثوري، الذي وحده يسمح بتحويل الأول إلى هجمة ناجحة ضد الاقتصاد الرأسمالي والدولة البرجوازية والذي يتوقف بصورة أساسية على مستوى وعي البروليتاريا وتنظيمها وقيادتها.
لاشك أن مأخذ "النزعة الإرادية" الموجه غالبا ضد لينين لا مبرر له، لأن النضال الطبقي الثوري، في نظريته، لا يفصل أبدا بصورة ميكانيكية عن النضال الطبقي الابتدائي. لا يمكن أن يكون إلاّ ناتج هذا الأخير، في بعض الشروط التاريخية الموضوعية، المحددة بوضوح. بعكس الشعبويين، للم يؤمن لينين أبدا بأن مجرد "الإرادة الثورية" أو "التربية الثورية" يمكن أن تنتجا ثورة ظافرة في ظل القيصرية. لقد اهتم دائما بالاشارة على وجه الدقة إلى أن على تلك "الارادة" وهذه "التربية" أن تنطلقا من النضال الطبقي الابتدائي لطبقة اجتماعية محددة، هي البروليتاريا، التي منحها تطور الرأسمالية في روسيا قدرات في النضال والتنظيم لم تكن تملكها أي طبقة اجتماعية في روسيا ما قبل الرأسمالية. لم ينس كذلك أن يوضح أنه، فقط، ضمن شروط ناريخية محددة تماما -شروط تسمح بإنتاج أزمات ما قبل ثورية بصورة دورية بفعل التناقضات المراكمة داخل المجتمع الروسي في ظل القيصرية- كان يمكن للجهد من أجل تحويل النضال الطبقي الابتدائي إلى نضال طبقي ثوري أن يعطي ثماره.
خارج هذه المقدمات التي تسمح دون غيرها بتفسير كيف يمكن للنضال الطبقي المألوف أن ينتج "طبقة في ذاتها"، أن ينتج وعيا طبقيا بروليتاريا، لم يكن يمكن لعمل طليعة ثورية أن يلاقي النجاح. إنه لمفيد تفحص الأسس الاجتماعية-الاقتصادية لتلك المقدمات، ضمن إطار المادية التاريخية. سوف نعود إلى ذلك بعد قليل. لكن فليبق الآن في ذهننا الشيء التالي وحسب: إن ما يميز النظرية اللينينية حول التنظيم عن نظريات أخرى إوالية أو إرادية، ليس كونها تنكر الروابط الواضحة بين النضال الطبقي الابتدائي والنضال الطبقي الثوري، ولا كونها تنكر أن الأول يشكل الشرط المسبق للثاني (أن اتساعا عظيما للأول لا يمكن إلاّ أن يسهل بزوغ الثاني). إن ما يميزها هو كونها تنكر وجود علاقات آلية وتلقائية بين الأول والثاني، وكونها تعتبر أن الثاني لن ينجم عن الأول إلاّ إذا انضافت إلى الشروط الموضوعية التي ينبغي أن تسبق بزوغه سلسلة من الشروط الذاتية التي ليست نتيجة طبيعية محتومة لها. هنا بالذات نقع على كل تعميق النظرية الماركسية حول تكون الوعي الطبقي البروليتاري الذي تمكن لينين من تقديمه عن طريق نظريته في التنظيم.

(3)

إن المستوى الدقيق لوعي البروليتاريا ليس النتاج الآلي لموقعها من سيرورة الإنتاج ولا الناتج الآلي لتجربتها (إذن لاتساع نضالاتها الماضية والحاضرة). إنه ينجم عن مجموعة من العوامل الأكثر تعقيدا بكثير، التي يسمح تفاعلها وحده بتفسير لماذا هذا المستوى هو على ما هو عليه في زمن محدد ومكان محدد.
إن النظرية اللينينية عن تكون الوعي الطبقي البروليتاري تفسر قبل كل شيء أن هذا التكون يمثل سيرورة غير متساوية وغير متصلة. هذه السيرورة غير المتساوية وغير المتصلة لتكون الوعي الطبقي البروليتاري هي أولا انعكاس السيرورة التاريخية غير المتساوية وغير المتصلة لتكون البروليتاريا ذاتها.
إن مجموع المأجورين، كما يبدون في فترة معينة في بلد معين، لم يُقضَ عليهم في الفترة ذاتها وفي الظروف ذاتها بأن يبيعوا قوة عملهم. بعضهم عمال صناعيون، أولاد عمال صناعيين منذ عدة أجيال. وغيرهم جرى اقتلاعهم حديثا من قريتهم التي ولدوا فيها ومن زراعة الأجداد. بعضهم تأثروا بالحياة والإنضباط الجماعيين في المصنع الكبير. بعضهم تأثروا بروحية جمعيات الحرف السائدة في المنشأة الصغيرة والعمل شبه الحرفي. بعضهم موسومون بحضارة المراكز المدينية الكبى حيث الحياة الجماعية خارج المصنع تشكل امتدادا طبيعيا للدوافع التضامنية المنبثقة عن العمل الصناعي بالذات. وآخرون يخضعون للتأثير المستلب المزدوج للوضع البروليتاري وللمسكن نصف الريفي المعزول والمُذَرِّر. هؤلاء تربوا منذ طفولتهم في منظمات عمالية. وأولئك خاضعون للتأثير الأيديولوجي للطبقة البرجوازية الذي نقلته تنظيمات كهنوتية أو "محايدة". إن تفريعا Stratification يعكس الأصول التاريخية وشروط الحياة المختلفة لشرائح بروليتارية متنوعة.
تنضاف إلى الجذور الموضوعية لتفريع البروليتاريا ذلك جذور ذاتية ليست أقل أهمية. لن يخضع كل عامل بالطريقة ذاتها والدرجة ذاتها لتأثير الطبقة المسيطرة الأيديولوجي. إن اختلافات في التجربة والذكاء والمزاج والطبع سوف تستثير ردود فعل مختلفة لدى أعضاء مختلفين من طبقة اجتماعية واحدة، خاضعة لقوى الاستغلال والاضطهاد ذاتها. عاجلا أو آجلا سوف تنخرط الأكثرية الساحقة من الطبقة في النضال، -لكن لواقع كون البعض يفعلون ذلك قبل غيرهم، ويفهمون بصورة أفضل المرمى العام لذلك النضال أهمية حاسمة بالطبع على السلوك اليومي لهؤلاء وأولءك -لاسيما خارج فترات النضالات الكبرى. إذا كان للتفريغ الإجتماعي للبروليتاريا أسباب موضوعية، فإن التفريغ الذاتي يؤدي، في اتصال به، إلى الطابع غير المتواصل لتطور الوعي الطبقي. ينجم هذا بدوره عن خصيصة أساسية للمجتمع الرأسمالي وللشرط البروليتاري ينبغي التذكير بها في هذا الصدد.
تخضع الطبقة العاملة للاستغلال الرأسمالي، لا تبعا لخيار أيديولوجي مسبق، بل تبعا لالتزام اقتصادي محتوم لا يمكن أن تتملص منه، في شروط "عادية". لا يمكنها التوقف عن العمل على الدوام، دون أن يقضي عليها بالموت جوعا (إن تعويضات البطالة، في البلدان الرأسمالية الجديدة ذات التشريع الاجتماعي "السخي"، تنقطع دون شفقة بعد فترة إذا توصلت السلطات البرجوازية إلى خلاصة أن الشقي "لا يرغب في العمل"). يعني ذلك أنها عاجزة عن النضال على الدوام، وأنه خارج النضالات الثورية التي تضع على جدول الأعمال قلب النضال الرأسمالي، ينفذ كل نضال طبقي في ظل هذا النضام حتما إلى "إعادة الطبقة جزئيا إلى المنطق الفردي الخاص"، ما أن تنتهي المعركة. فقط العناصر الأكثر وعيا، الأكثر حمية، الأكثر عنادا، تقاوم نزعة العودة إلى "النضال من أجل الوجود"، إلى "الحياة الخاصة" التي تنجم عن بنية المجتمع والاقتصاد الرأسمالي بالذات.
تنعكس كذلك تلك البنية الموضوعية ذاتها بنية ذهنية. أيديولوجية، بنزعة إلى استبطان علاقات الإنتاج الرأسمالية والقبول اليومي بها. حتى العمال الأكثر "عصيانا" يشترون خبزا، يدفعون إيجارات وضرائب، يعيدون هكذا كل يوم إنتاج علاقات السوق التي تشكل أساس نمط الإنتاج الرأسمالي ولا يفقهون شيئا. لقد خاضوا على امتداد عشرات السنين نضالات طبقية شرسة، بما فيها انتفاضات (كانتفاضة عمال ليون)، دون أن يفهموا مع ذلك أن الرأسمالية مستحيلة دون تعميم علاقات السوق، دون تحويل قوة العمل إلى سلع، ووسائل الانتاج إلى رأسمال
لا غنى عن جهد إعلام وتكوين نظري لكشف كل أسرار الاستغلال الرأسمالي وألغازه. إن هذا الجهد، من حيث تحديده، لا يمكن أن يكون إلاّ فرديا (أو في أحسن الأحوال بهمة مجموعة ضعيفة من الأفراد). لا يمكن أن يكون الحاصل المباشر للتجربة. والحال أن الجمهور العريض لا يتعلم إلاّ بالتجرية. ما أن يصل تكون وعي البروليتاريا الطبقي إلى طوره الأعلى، طور بلورة النظرية العلمية وهضمها، حتى يصبح إذن حتما سيرورة مفرّدة (بفتح الراء) ومفرّدة (بكسر الراء) (إن هذا في كل حال هو إحدى الأواليات الأساسية التي يمكن أن يكسب بها العامل المستلب والمسلوبة إنسانيته فردية مستقلة. لكن هذه قضة أخرى). تصل للسبب ذاته سيرورة تفاضل داخل الطبقة العاملة.

(4)

إن المفهوم اللينيني عن الوعي الطبقي البروليتاري، مرفوعا إلى أعلى مستواه، يعتمد كذلك على الدور المستقل نسبيا للنظرية الماركسية في السيرة التاريخية. إنه يستتبع، بتعابير أخرى، استحالة بلوغ وعي إجمالي للوضع البروليتاري وشروط تخطيه -وعي إجمالي للرأسمالية والاشتراكية- على أساس تجريبي بحث، اختباري، برغماتي.
إن تجربة الشغيلة ومجموعات قطاعية من الشغيلة هي بالضرورة تجربة تجريبية ومجزأة للواقع الاجتماعي، يحدها الأفق الدقيق الذي يدور فيه وجودهم: بضع مؤسسات، بضعة أحياء، بضع مدن. إن النضالات التي تنطلق من هذه التجربة المباشرة مطبوعة للسبب هذا بخاتم وعي مجزأ يعكس - حتى وهو يحاول الإنكار- العمل المجزأ الذي هو خاصة البروليتاريا، ونتيجته الطبيعية المحتومة التي هي التشييء والإستيلاب و"الوعي الزائف".
إن الطابع الحرفي المحتوم لهذه النضالات يستتبع أن يستدعي الوعي الطبقي الابتدائي الناتج عن النضالات الطبقية الابتدائية وجوهريا عديدة تتناقض مع نضال طبقي بالمعنى العميق والتاريخي للكلمة. ذلك أن هذا الوعي المجزأ ينقل انقسامات داخل البروليتاريا، تنتج عن شروط الانتاج الرأسمالي بالذات وتحاول البورجوازية أن تحافض عليه مهما كان الثمن. لا تصبح البروليتاريا طبقة لذاتها -لا "تشكل في طبقة" وفقا لصيغة ماركس- إلاّ بقدر ما تتراجع عوامل الانقسام القطاعي والحرفي والمحلي والاقليمي والقومي والعرقي هذه لصالح وعي توحيدي للمصالح المشتركة لكل البروليتاريين بالاستقلال عن خصوصيات المهنة، والشغل، والكفاءة والمسكن والعرق والدين والقومية.
لكن إذا كان نمط الإنتاج الرأسمالي يسهل حتما، في طور من نموه، انفجار نضالات توحيدية وعامة على مستوى الطبقة العاملة، فإن تلك النضالات تحتاج إلى الكثير من أجل التوصل إلى استبدال الوعي التجزيئي والمجزأ بوعي كلي شامل لكن التناقضات الرأسمالية وكل شروط انتصار الاشتراكية. بمعزل عن العوامل المذكورة أعلاه التي تعيق تكوّن وعي شامل كهذا، ثمة واقع كون تلك النضالات المعممة ليست إلاّ مرة أو مرتين إبان حياة كل جيل عمالي (وحتى ولا مرة واحدة في حياة بعض الأجيال العمالية: ألمانيا بين 1933 و1968!). ضمن هذه الشروط، فإن الأصل التجريبي البحث لوعي جماهيري كهذا، قائم حصرا على أساس ما عيش فعليا، يجعل العوامل التي تحدد الطابع التجزيئي للوعي العمالي أقوى بكثير جدا من العوامل التي تعمل في الاتجاه المعاكس.
إن إحدى الأفكار الأساسية في "ما العمل؟" التي تحتفظ بكل قيمتها الشاملة اليوم كما حين كتب هذا الكراس هي أن البروليتاريا لا تستطيع بلوغ وعي كلي للواقع الرأسمالي- لواقعها الخاص بها- إلاّ عبر ممارسة اجتماعية شمولية أي عبر ممارسة سياسية. وبصورة أدق: إنه لا يبلغ هذا الوعي الطبقي المرتفع به إلى أسمى تعابيره إلاّ تلك الأقلية من الطبقة العاملة المستعدة لمتابعة نشاط سياسي متواصل والقادرة على ذلك، حتى في فترات تراجع الحركة الجماهيرية، حتى في مراحل "إعادة أكثرية الشغيلة إلى المنطق الفردي الخاص، حتى في مراحل صعود تأثير الأيديولوجية البورجوازية والبورجوازية الصغيرة داخل الطبقة العاملة. هذا هو الأساس المادي لضرورة حزب الطليعة التي ينادي بها لينين.
إن الطريقة التي يمنح بها لينين، عن وعي، قسمة خاصة لتلك الممارسة السياسية، التي تثير على الدوام كل وجوه الواقع الرأسمالي، والمعاكسة للممارسة التريديونيونية "ذات النزعة الاقتصادية" التي تكتفي بتحريض الشغيلة ضد الاستغلال والاضطهاد المباشرين، اللذين يتعرضون لهما في المؤسسة التي يعملون فيها، في الحي، في المدينة (وفي الحالة القصوى: المنطقة، البلاد) هي في أساس الكثير من سوء الفهم والتأويلات سيئة النية. إن الأساس النظرية لهذا التصور هي مع ذلك واضحة للعيان. إن ما ينكره لينين (وما أنكره قبله ماركس وإنجلز، خلا ربما في بعض الجمل من كتابات الشباب، المعزولة عموما عن سياقها) هو أن المراكمة التدريجية والمتقطعة للنجربة المباشرة تؤدي "في نهاية المطاف" إلى إعادة إنتاج تحليل نظري، كان وحده جهد خاص قد تمكن من إنتاجه في البدء (طبعا في سياق تاريخي يحدده الوجود المسبق للمجتمع البورجوازي وللنضال الطبقي البروليتاري). إن مئة إضراب من أجل مطالب مباشرة، لن تؤدي بالضرورة إلى وعي طبقي شامل، اشتراكي، حتى ولو خيضت باستبسال ليس له نظير. يكفي دراسة تجربة النضالات الطبقية في بريطانيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتجربة النضالات الطبقية في الولايات المتحدة في الفترة ما بين 1940-1970، لملاحظة ذلك مباشرة.
فقط نشاط يتخطى النضالات "الاقتصادية" يمكن أن يؤدي في النهاية إلى وعي يتخطى وعي التريديونيونية. يمكن أن نقبل بصعوبة مقدمات الجدل المادي، النظرية الماركسية في المعرفة، وإنكار صحة أطروحات لينين هذه في الوقت ذاته. إن ضرورة حزب عمالي طليعي تنجم إذن عن ضرورة خوض نشاط من هذا النوع على الدوام وعن استحالة أن يخوضها الجمهور العمالي بمجمله بصورة متواصلة في ظل النظام الرأسمالي، تبعا لتفريعه الموضوعي الخاص به وللمعيقات الذاتية القوية التي تمنع مراكمة ثابتة، تدريجية ومتواصلة للوعي الطبقي في داخله.
إن حزب الطليعة يعمل هكذا موضوعيا كالذاكرة الجماعية للطبقة العاملة، تلك التي تمنع أن تضيع المعارف المراكمة خلال مراحل النضالات المعممة في المراحل التالية الحتمية لتراجع تلك النضالات المعممة في المراحل التالية الحتمية لتراجع تلك النضالات، تلك التي تضمن تواصل مراكمة الوعي ضمن شروط عدم تواصل النشاط السياسي للجماهير.

(5)

هكذا فإن مفهوم الحزب الطليعي يقودنا من جديد إلى مفهوم دورية النضالات الطبقية المعممة، الطابع الدوري للانفجارات العمالية الكبرى. نكتشف هكذا أساسا ماديا إضافيا للنظرية اللينينية في التنظيم. ذلك أن المنظمة المنفصلة للطليعة العمالية هي رهن المهام التي ينبغي إنجازها. إنها أداة عمل لبلوغ هذه النهاية المحددة: تحويل الإنفجارات العمالية المعممة إلى هجمات ناجحة ضد الاقتصاد الرأسمالي والدولة البرجوازية، قلب النظام الرأسمالي بنجاح واستبداله بدولة عمالية-بديكتاتورية البروليتاريا- تباشر بنجاح بناء مجتمع اشتراكي.
إن منظمة الطليعة، بصورة منفصلة عن الجمهور، ليست النموذج الوحيد الممكن للتنظيم العمالي. إنها نتيجة رئاية تاريخية محددة: رئاية حتمية انفجارات ثورية على المدى المتوسط أو البعيد، لن تتحول إلى ثورات ظافرة إلاّ بفضل نشاط الطليعة المنظمة. خارجا عن حالية الثورة هذه، لا يتبرر التنظيم المنفصل للطليعة إلاّ تبعا لدوافع إيديولوجية صرفة، يمكن أن تنحط إلى عصبوية. عندما تكون النضالات المتوقعة الوحيدة نضالات جزئية، فإن التراكم التدريجي للتجارب يبقى وحده ممكنا بالنسبة لجماهير عريضة، وإن الدور الوسيط الوحيد الذي يمكن للطليعة أن تلعبه يصبح دور نقل المعارف عبر الدعاية والتربية -دورا لا يبرر تنظيما منفصلا، ويتحقق داخل منظمات جماهيرية، شريطة أن تحترم هذه حدا أدنى من الديموقراطية الداخلية.
ينبغي الإشارة في هذا الصدد إلى أن لينين لم تكن لديه رؤية دقيقة لحالية الثورة، قبل عام 1914، إلاّ بالنسبة لروسيا وحدها (وبعض البلدان الأخرى في أوروبا الشرقية). تبعا لهذه الرئاية، امتنع عن المناداة بالمنظمة المنفصلة للطليعة بالنسبة للأحزاب الاشتراكية-الديموقراطية الجماهيرية قبل الرابع من غشت 1914. إكتفى بتشجيع تنسيق رخو بين تيارات يسارية شتى داخل الأممية الثانية، لاسيما بمناسبة النقاشات التي دارت فيما يخص السلوك الذي يجب تبنيه حيال الحرب الامبريالية التي كانت تبدو على الأبواب. وهو لم يمد مبدأ التنظيم المنفصل للطليعة إلى مجمل الكرة الأرضية ولم يعلن ضرورة خلق الأممية الشيوعية، إلاّ حين أقنعه انفجار تلك الحرب بأن النظام الرأسمالي العالمي انتقل إلى طور أزمة عامة تاريخي يضع ثورات عديدة على جدول الأعمال في عدد كبير من البلدان.
إن الطابع الدوري لانفجار نضالات شاملة كبرى للبروليتاريا، ثورية كامنة، يتفرع عن تعقيد الظروف الضرورية لزعزعة المجتمع البورجوازي عميقا ودفع الشغيلة لتخطي مرحلة النضالات من أجل المطالب المباشرة. لا تجتمع مجمل العوامل الضرورية إلاّ استثنائيا، سواء كانت العوامل الموضوعية (أزمة عميقة في علاقات الإنتاج الرأسمالية) أو العوامل الذاتية (إنعدام الوحدة والشلل المتناميين للطبقات المسيطرة؛ وهن جهاز القمع، السخط المتنامي للجماهير الكادحة وقد بلغ مستوى غضب مكتوب؛ شعور متعاظم بأن أسباب السخط لا يمكن أن تجد علاجها عن طريق الاصلاحات التدريجية ووسائل تصحيح "شرعية" متنوعة بل عن طريق عمل مباشر؛ وثيقة متعاظمة لدى الجماهير بقوتها الخاصة بها، أي بقدرتها على تفجير عمل كهذا، الخ..). بديهي أنه نظرا للاجتهادات العميقة لاستبطان العلاقات الرأسمالية ولإعادة جمهور من العمال إلى المنطق الفردي الخاص غداة نضالات جزئية، وهي اتجاهات ملازمة لنمط الانتاج الرأسمالي بالذات، فإن المصادقة التي تجعل الوضع ناضجا للانفجارات الثورية أو الثورية الكامنة، لا يمكن أن تكون إلاّ استثنائية. للأسباب ذاتها -التي يضاف إليها في هذه الحالة وزن الهزيمة والشكوكية التي تولدها - لا يمكن لانفجار فاشل لم يحقق هدفه أن يعقبه على المدى القصير موجة صاعدة أخرى من النضالات المعممة، لا بل سيعقبه انحدار في قتالية الجماهير إلى أن تنفجر مجموعة جديدة من الظروف الملائمة صعودا جديدا. نتكلم هنا على "انفجارات"، ليس بمعنى أحداث معزولة، بل بمعنى مراحل نضالات طبقية متفجرة ومتعممة تدريجيا، بالتضاد مع مراحل نضالات متفرقة، محصورة وحول أهداف مباشرة وحسب (لا يمكننا أن نعالج هنا الصلات التي توجد بين الدورة الاقتصادية ودورة النضالات الطبقية، لكننا سنشير فقط عابرين إلى أن هذه الصلات ليست صلات علاقة ميكانيكية وسببية مباشرة)..
إن الدور الذي على تنظيم الطليعة أن يلعبه حيال انفجارات دورية لنضالات معممة ينبغي أن يجري تفحصه في آن معا بالنسبة للمراحل الاعدادية للنضالات الثورية الكامنة ولمراحل النضالات المعممة بحصر المعنى. يتعلق الأمر بنظهر مزدوج للعلاقات الجدلية "طليعة/جماهير" التي ينبغي إيضاحها. لكن طبيعة الثورة الاشتراكية البرجوازية تستتبع ضرورة عمل تركيبي واع لنضالاتمبعثرة وإن كانت ذات اتساع جبار. إذا كان يمكن للمجتمع البرجوازي فعليا أن يبدأ بالتفكك في الأطراف، في مراحل أزمة ثورية حادة فإن هذا التفكك لا يمكن أن يصل اطلاقا إلى حل آلي للدولة البرجوازية. إن هذه ينبغي أن يجري تدميرها بوعي. فإذا لم يجر إنجاز عملية التدمير تلك، يمكن أن يجري الشروع بسيرورة مضادة للثورة وبنجاح على يد قوى محدودة عدديا، تقف في وجه جماهير جد وافرة. إن الدور الذي لعبته بقايا من الجيش الامبراطوري خلال الأسابيع الحاسمة من نوفمبر 1917-مارس 1919 في ألمانيا، هو أفضل دليل على ذلك، وقد كان له نتائج تاريخية من أكثرها مأساوية.

(6)

إن الرابط بين الطليعة والجماهير غير الثورية هو قبل كل شيء رابط وساطة تربوي. لا تعمل منظمة الطليعة فقط كذاكرة جماعية للطبقة، بل تجتهد باستمرار في إيصال المعارف المراكمة بفضل النضالات والتجارب الماضية إلى أكبر عدد ممكن من البروليتارييت.
عندما نتكلم على سيرورة تربوية، لا ننسى بالطبع الطابع الجدلي لهذه السيرورة التي ليس فيها حقيقة جاهزة تنقل بصورة سلبية إلى جمهور يُفترَض أنه جاهل، بل تمثل تجارب، مداً وجزراً مستمرين لانطباعات وأفكار، بين الجمهور الأقل تسيسا والطليعة المنظمة. تتخطى الطليعة نهائيا خطر التحول إلى تنظيم عصبوي أو "دكان"، فقط عندما يجري تمكين هذا المد في الإتجاهين، تلعب حقا عند ذاك دور الذاكرة والمراكمة لتجارب جماعية لكل الطبقة.
إن الوساطة بين البرنامج، الذي يلخص كل دروس النضالات الماضية وتعميمها النظري، والجمهور الذي تبقى اهتماماته متمحورة حول أهداف مباشرة، لا يمكن أن تحدث بالاستناد حصرا إلى تربية أدبية -وإن كان لينين أشار بحق إلى أن ما يفصل الثوري عن الإصلاحي أو الوسطي هو كون الثوري يتابع الدعاية الثورية وإعداد الثورة ذاتها في المراحل غير الثورية. تشترط تلك الوساطة كذلك شكلاً نوعيا خاصا من العمل. إن "الخطة الاستراتيجية الكبرى" التي وضعها لينين في "ما العمل؟" والتي تقوم على تحويل حزب الطليعة إلى ملتقى ومحرض لكل حركات الإحتجاج والتمرد ضد النظام القائم التي ليست رجعية موضوعيا، قام فيما بعد بتمديدها باتجاه مفهوم المطالب الانتقالية الذي استعاده تروتسكي في برنامجه الإنتقالي لعام 1938.
تستتبع استراتيجية المطالب الإنتقالية وضع مطالب، فيما تنطلق من اهتمامات الجماهير المباشرة، لا يمكن تحقيقها واستيعابها في إطار النظام الرأسمالي. عندما تصبح دوافع أعمال معممة للطبقة العاملة تتجه إذن إلى تحطيم إطارات الاقتصاد الرأسمالي والدولة البرجوازية. إذا طرحت الجماهير على ذاتها مباشرة أهدافا كهذه لأعمالها، وفقط في هكذا حالة، يمكن لتلك الأعمال أن يمتصها النظام بصعوبة، عن طريق إصلاحات. والحال أن الجماهير لا تطرح على نفسها أهدافا كتلك الأهداف إبان إضراب عام إذا لم يتم إعدادها مسبقا وبصورة منهجية، سواء بالدعاية أو بـ"أعمال نموذجية" لذلك وبتكوين إطارات عمالية داخلها تجسد كل السيرورة الوساطية تلك وتنقلها يوميا إلى رفاقها في العمل.
إنه من قبيل الإيمان بالمعجزات افتراض الجمهور قادرا على أن يجد غريزيا أثناء انفجار ثوري كبير المطالب الضرورية لإنجاح الثورة، وقادرا على أن يجد الاستعراض ذا الألف مناورة ومناورة إصلاحية التي أفسحت المجال أمام خنق كل الانفجارات الثورية في أوروبا الغربية، رغم موازين القوى الملائمة جدا في حينها للثورة.
إن مركزة الحزب التي أصر عليها لينين بتلك القوة في الجدال الذي تمحور حول "ما العمل؟" هي قبل كل شيء مركزة سياسية، تكمن في فهم واقع أن الجمهور العمالي لن يبلغ الوعي الطبقي عند مستواه الأرفع إلاّ شرط تخطي الأفق الضيق للتجارب الناجمة عن نضالات جزئية أو، بتعابير أخرى، شريطة مركزة تجاربه. إن الوجه التنظيمي الصرف لهذه المركزة هو ثانوي في استدلال لينين، وهو متأثر ‘لى حد بعيد كذلك بشروط اللاشرعية النوعية الخاصة التي بنيت ضمنها الاشتراكية الديموقراطية الروسية.
إن ضعف محاجة روزا لكسومبورغ ضد لينين ناجم عن كونها تركز نيرانها على الوجه التنظيمي للمركزة اللينينية، متجاهلة إلى حد بعيد وجهها السياسي. إنها مضطرة، فيما تقوم بذلك، إلى الايحاء بنظرية تكوُّن للوعي الطبقي البروليتاري مختلفة عن نظرية لينين، أكثر تبسيطية بكثير وأكثر تفاؤلا بكثير في الوقت ذاته، تعتبر أن هذا الوعي الطبقي لا يمكن أن يكون إلاّ نتيجة للنضال وأن هذا النضال كاف لضمان تكونه. إن التجربة التاريخية، ولا سيما تجربة الثورة الألمانية، تكذب هذه الأطروحة. حتى النضالات الأكثر اتساعا، الأكثر صخبا، والأكثر طولا (فلنفكر بفترة الاضطراب والنضالات الجماهيرية غير المنقطعة تقريبا بين 1918-1923) لم تكن كافية لتضمن بذاتها مستوى وعي مرتفع كفاية للجماهير العمالية الألمانية بحيث يسمح لها بإنجاز ثورة ظافرة. بما أن تلك النضالات محكوم عليها بالانحدار الدوري، فإن نظرية ترى في تكون ذلك الوعي مجرد نتيجة لتجربة نضال غير منقطع، دون دور مراكم للتجارب، ممركز لها، وذاكرة جماعية للحزب الطليعي، تحكم على هذا التكون بأن يكرّر عمل سيزيف المأساوي.
ينبغي أن نضيف، لإحقاق حق روزا لكسمبورغ، أنه منذ عام 1914، ولاسيما منذ انفجار الثورة الألمانية، فهمت تماما أن تفاضل البروليتاريا الأيديولوجي لا يمكن تخطيه عن طريق اتساع النضالات بالذات. لذا نادت بالتنظيم المنفصلة للطليعة العمالية، وهو مفهوم أدخلته في كتاباتها البرنامجية من مثل "ماذا تريد عصبة سبارتاكوس؟". يمكن أن نقول إذن أنها أصبحت في هذا الصدد لينينية أيضا، في نهاية حياتها.

(7)

عندما نتفحص العلاقات "طليعة/جماهير" في الفترة الثورية، يتغير المشهد، وتبدوا ثغرات نقاشات 1902-1903 بوضوح. بصدد تلك الثغرات على وجه الخصوص، أدخل لينين تصحيحات مهمة على نظريته في التنظيم، بعد عام 1905، بعد غشت 1914، وخصوصا عام 1917.
لقد برهنت التجرية التاريخية في الواقع أن وجود حزب اشتراكي-ديموقراطي منظم (إذ استعدنا مصطلح لينين لسني 1902-1903) ليس ضمانا للدور الموضوعي الذي سيلعبه في الأزمة الثورية. لقد قدم لنا التاريخ مثل أحزاب عدة كانت أعلنت طيلة سنوات قناعتها الماركسية، بينما ليست فقط لم تحاول، إبان أزمة ثورية، أن تقود هذه حتى استيلاء البروليتاريا على السلطة، بل حاولت حتى أن تكبح بكل الوسائل الحماس الثوري للبروليتاريا تلك بالذات، لا بل أخذت مبادرة تنظيم انتصار الثورة المضادة بصورة واعية. إن سلوك الاشتراكية-الديموقراطية أثناء الأزمة الثورية بين 1917-1919 هو المثال الأكثر نموذجية على ذلك - لكن ليس الوحيد. إن وصول هتلر إلى السلطة ليس إلاّ النتيجة النهائية لخنق الثورة الألمانية، وهو خنق كانت مسؤولية أمثال نوسكي وإبرت وشيدمان التاريخية فيه مسؤولية ساحقة.
كان تروتسكي وروزا لكسمبورغ قد توقعا ذلك الاحتمال فبل لينين، منذ سنوات 1903-1906. لقد فهما، بتعابير أخرى، أن الجماهير العمالية ذاتها التي كانت، ضمن شروط "انتظام" عمل الرأسمالية، واقعة بشدة تحت تأثير الايديولوجيا البرجوازية والبرجوازية الصغيرة، يمكنها في أوقات الأزمة الثورية أن تبرهن على مبادرة، إنطلاق ثوري، وقتالية تتخطى إلى حد بعيد تلك التي يتميز بها مناضلون تثقفوا طيلة سنوات بالنظرية الماركسية.
عندما ندقق في حساب تاريخ النضالات الطبقية منذ عام 1914 نجد أنفسنا مجددا أمام هذا الدرس، لا مرة أو اثنين، بل عشرات المرات. إن تعداد كل لائحة الانفجارات الثورية التي تخطى فيها الأحزاب العمالية نشاطُ الجماهير الثوري، إنما يعني وضع جدول بكل الأزمات الثورية التي تتابعت عمليا في البلدان الامبريالية-وبالكثير من الأزمات في البلدان نصف المستعمرة كما في البلدان المستعمرة أيضا.
هل يعني ذلك أن التاريخ برهن على أن المبادرة العفوية للجماهير (بما فيها الجماهير غير المنظمة) هي شرط كاف لانتصارات ثورية وأنه يكفي تصفية "الكوابح المنظمة" من أجل أن نتمكن من ضمان سقوط الرأسمالية؟ كلا إطلاقا. ذلك أن الموازنة التاريخية المزدوجة في هذا الصدد. فمن جهة، أثبتت الجماهير في العديد من المرار أنها "أكثر ثورية" من الأحزاب. لكن هذه الجماهير ذاتها أثبتت كذلك أنها عاجزة عن أن تضمن بذلك قلب الرأسمالية.
في غياب طليعة تنتزع السيطرة السياسية داخل تلك الجماهير وتركز طاقة هذه الأخيرة على أهداف محددة - تدمير جهاز الدولة البرجوازية، الاستيلاء على وسائل الإنتاج وتنظيمها وفقا لنمط مشرَّك السلطة، بناء سلطة جديدة - فإن هجوماتها الأكثر شجاعة وحتى انتصاراتها الأكثر جرأة، تبوء بالفشل. لقد قدمت التجربة الإسبانية لشهر يوليوز 1936 المثل الأكثر مأساوية والأكثر إقناعا في هذا الصدد.
نستخلص بالتالي سلسلة من الخلاصات من هذه الموازنة التاريخية التي تسمح بإيضاح النظرية الينينية في التنظيم، -إيضاح أنجزه لينين بذاته خلال الفترة ما بين 1914-1921.
إنه واضح قبل كل شيء أن الدياليكتيك "جماهير/أحزاب" يتعقد ويتوسع على ضوء الرابع من غشت 1914. يصبح "جماهير -أحزابا لا تتبع خطا ثوريا- أحزابا ثورية". لم يعد وجود أحزاب ضمانا ضد امتصاص الأيديولوجيا البرجوازية الصغيرة والبرجوازية للطبقة العاملة. على العكس، يمكن أن يصبح ذلك الوجود محرك ذلك الإمتصاص وعربته، كما كانت الحال بالنسبة للاشتراكية-الديموقراطية في البدء، ثم بالنسبة لسلسلة من الأحزاب الشيوعية الجماهيرية (في فرنسا، إيطاليا، اليونان، الخ…) فيما بعد. لم يعد يتعلق الأمر بمعارضة بسيطة وميكانيكية للـ"عفوية" بـ"التنظيم"، بل بالنظر بناء إلى أي الشروط النظرية والعملية يرفع التنظيم وعي البروليتاريا الطبقي، يحرض عداءها حيال المجتمع البرجوازي بمجمله، يُعدُّ تدخلها الكثيف في الأزمات الثورية، باتجاه تعميقها وتعميمها، وتثقيف مناضليه الخاصين به (الطليعة) باتجاه تدخل في الأزمات الموجهة نحو تحويلها إلى ثورات اشتراكية ظافرة.
واضح أن اتساع نشاط الجماهير، إبان أزمات ثورية، لا يسمح بحشر السيرورة التاريخية في العلاقة المتبادلة الوحيدة "أحزاب-جماهير غير منظمة". إن أي أزمة ثورية في بلد مصنع حتى بصورة نصفية أدّت دائما تقريبا إلى خلق أكثر تنظيم ذاتي للجماهير (سوفياتات، مجالس عمالية)، أجنة السلطة البروليتارية القادمة وأدوات مباشرة لازدواجية سلطة فعلية. إن الوجه الثوري العميق لأجهزة التنظيم الذاتي والحكم الذاتي للجماهير تلك، ناتج عن كونها تطول بالتحديد مجمل البروليتاريا والمستغلين، بما فيهم هذا القسم من بينهم الذي يبقى غير منظم أو غير نشط أثناء الفترات "الهادئة" أو أثناء نضالات طبقية جزئية فقط.
لقد أدرك لينين الأهمية الأساسية لظاهرة السوفياتات متأخرا قليلا عن تروتسكي الذي كان يرى فيها منذ عام 1906 شكل التنظيم العام للثورة الروسية الظافرة المقبلة، وشكل التنظيم العالمي للثورات البروليتارية. إلاّ أنه فهمها عميقا وليس فقط بصورة "إنتهازية" وفي الفترات الثورية وحسب كما يأخذ عليه نقاد معاصرون معادون. ولقد فهم لينين أفضل من تروتسكي الديالكتيك الخاص "سوفياتات-حزب ثوري" الذي لم يستوعبه هذا الأخير بعمق إلاّ عام 1917: إذا كان يستحيل قيام ثورة في بلد مصنع دون تنظيم من النموذج السوفياتي -وهذا لا يستتبع بالطبع أن يكون المصطلح هو ذاته في كل مكان- لمجمل البروليتاريا، فيستحيل كذلك قيام ثورة ظافرة دون أن تكتسب الهيمنة السياسية داخل السوفياتات طليعة منظمة، عبر عمل شرح ودعاية وتحريض لا يكل، دون تأثيرها التنظيمي، التركيزي، على الطاقة الواسعة للجماهير التي تحررت إبان الأزمة الثورية.
إن هذا "الدور القيادي للحزب" لا يستتبع مفهوم الحزب الواحد (الذي يناقض على العكس مفهوم التنظيم السوفياتي. لأن هذا الأخير، بمقدار ما ينبغي أن يكون تنظيم مجمل الشغيلة، ينبغي حتما أن يعكس تنوع مستويات الوعي والانتماء الايديولوجي والتنظيمي للبروليتاريا ذاتها، أي أنه يستتبع التعددية الحتمية للأحزاب العمالية والاتجاهات العمالية)، ولا مفهوم هيمنة يتم كسبها بتدابير إدارية أو قمعية. إن تاريخ الثورة الروسية يثبت ذلك: كان استخدام تدابير من هذا النوع يتناسب دائما بصورة معكوسة مع الهيمنة السياسية التي كان يتمتع بها الحزب البلشفي داخل البروليتاريا والجماهير الأكثر اتساعا. طالما كانت تلك الهيمنة -المكتسبة عن طريق خطه السياسي وقدراته على اقناع الجماهير بذلك الخط- في متناوله، لم يكن عليه أن يلجأ إلى أي تدبير قمعي داخل الطبقة العاملة والتنظيم السوفياتي بالذات (اللهم إلاّ تدابير دفاع ذاتي ضد أولئك الذين فجروا الكفاح المسلح ضد سلطة السوفياتات). إن أي تدبير إداري وقمعي اضطر إلى اتخاذه داخل الطبقة العاملة نتج عن انحدار مسبق لتأثيره السياسي الراجح داخل قطاعات محددة من تلك الطبقة.
يمكن البحث عن أسباب لذلك الانحدار في هذا أو ذاك الخطأ السياسي الذي اقترفه القادة البلاشفة، في فترة محددة أو أخرى؛ إن اللنقاش في هذا الصدد يدوم منذ نصف قرن ولن ينتهي في وقت قريب. لكن أيا يدرس تلك الحقبة التاريخية بحد أدنى من الحس الموضوعي يرى أن من البديهي أن لا تكون الأسباب الأساسية للانعزال التدريجي للبلاشفة داخل الجماهير عامي 1920-1921 تكمن في هذا أو ذاك الوجه الثانوي للوضع أو لسياية لينين، بل في شروط موضوعية كانت تؤدي بدورها إلى سلبية متعاظمة من جانب الجماهير. (من البديهي ألاّ نستخلص من ذلك الاستنتاج المنشفي بأنه كان من الأفضل "عدم الاستيلاء على السلطة في بلد متخلف"، أو الاستنتاج التبريري بالنسبة للستالينية الذي يرى أن "الاشتراكية لم تكن ممكنة البناء في روسيا إلاّ بوسائل بربرية، "إرهابية". إن كل شيء يتبع الدرجة النسبية لنشاط الجماهير. كان يمكن لسياسة صحيحة للحزب، بعد سنة 1923، أن تطلق ذلك النشاط بقوة).
هنا يمكن التعرف إلى أي درجة يخطئ أولئك الذين على خطى روزا لكسومبورغ عام 1903 -كانت روزا 1917 قد أصبحت أكثر حذرا!- ما يزالون يعتقدون إلى اليوم أن اللجوء إلى نشاط الجماهير هو العلاج التاريخي الوحيد لمخاطر البقرطة المحافظة للحزب. فيما يخص حال الاتحاد السوفياتي على الأقل، سبقت السلبية المتنامية للجماهير (وحتمت إلى حد بعيد) بقرطة الحزب المتنامية. ويمكن الاعتراف للينين بهذه المزيّة التاريخية في أنه لو قرنا درجة نشاط الجماهير في السوفياتات التي قادها البلاشفة سياسيا بدرجته في سوفياتات أخرى، مدة العمل الفعلي للسوفياتات في روسيا بمدة عمل أجهزة من النموذج السوفياتي في البلدان التي لم يكن فيها بلاشفة مهيمنين داخل الطبقة العاملة، فإن وجود حزب ثوري طليعي من النموذج اللينيني و"دوره المهيمن" لا يمكن اعتبارها متناقضين مع منظمة مستقلة للجماهير في أجهزة من النموذج السوفياتي، لا بل إنهما يضمنان لها العكس وجودا أطول وعملا أفضل وأكثر فعالية.

(8)

إنه لواضح أنه أثناء جدال 1902-1903 بخس لينين تقدير الأخطار التي يمكن أن تولد بالنسبة للحركة العمالية بفعل تشكل بيروقراطية داخلها. كان آنذاك يركز نيرانه على الانتليجنسيا البرجوازية الصغيرة وعلى "التريديونيونيين" ذوي الأفق الضيق. إن روزا لكسمبورغ التي استوعبت في تلك الحقبة جد الغامضة تجربة الاشتراكية-الديموقراطية الألمانية بصورة أفضل، تمكنت أفضل من لينين أن تتوقع أن يكون الخطر الأعظم الكامن في الاتجاه المحافظ وفي التكيف مع الوضع الراهن لن ينبثق من الانتليجنسيا تلك ولا من التريديونيونيين، بل من الجهاز الاشتراكي-الديموقراطي بالذات. إن هذا الجهاز المركز في منظمات جماهيرية وفي تعويضات الديموقراطية البرجوازية، كان في الواقع قد سبق و"حقق الاشتراكية لحسابه الخاص". كان سيتبنى توجها محافظا بصورة أساسية، عقلنته ضرورة "الدفاع عن المكتسب". إن المراجعة والنزعة الاصلاحية تمدان جذورهما المادية والاجتماعية، لا بل الأيديولوجية في كل ذلك. إن "ديالكتيك الفتوحات الجزئية" هذا امتد فيما بعد إلى المستوى العالمي على يد البيروقراطية الستالينية.
على ضوء التجربة التاريخية، أدرك لينين بصورة أفضل بكثير، إنطلاقا من عام 1914، الدور الأساسي الذي تستطيع بيروقراطية المنظمات العمالية أن تلعبه في تحويل تلك المنظمات من أداة لدفع ثورات اشتراكية إلى أداة للدفاع عن الوضع الراهن الاجتماعي. لقد أعطى أهمية سياسية، في نضاله ضد الاشتراكية-الديموقراطية العالمية، لتحليل بقرطتها. أدرك منذ عام 1917 خطر بقرطة أول دولة عمالية وكرّس قسما مهما من سنوات حياته الأخيرة لمصارعة هذا الخطر.
إن لينين، فيما كان يقوم بذلك، رفع هذه المشكلة من الحقل الأيديولوجي ("العادات البيروقراطية"، "الأساليب البيروقراطية"، "الذهنية البيروقراطية") إلى المستوى الإجتماعي. إن البيروقراطية بالنسبة إليه هي شريحة اجتماعية تدافع عن مصالح اجتماعية محددة (بصورة أساسية في حقل مستوى الأجور، نمط العيش، المداخيل. هذا هو السبب في أنها ليست طبقة اجتماعية، لا تحتل مكانة خاصة وضرورية تاريخيا في سيرورة الإنتاج، كما فعلت، على الأقل في حقبة معينة من تاريخها كل الطبقات الاجتماعية). ومنذ عام 1918، نقل قسما كبيرا من هذا الاستدلال إلى حقل الدولة السوفياتية وإلى النضال ضد التشويه البيروقراطي لتلط الدولة.
لقد أُخذ على لينين ما فحواه أن نموذج تنظيم الحزب الذي نادى به سهّل سيرورة البقرطة في الاتحاد السوفياتي. بما أن هذا المأخذ قد جوبه به عمليا منذ 1902-1903 فهو يأخذ بعد فوات الأوان مظهر تحليل تنبؤي. سبق وأجبنا أعلاه على التنفيد الذي يرى أن لينين نادى بنموذج تنظيم غير ديموقراطي إلاّ أن كل مسألة نموذج التنظيم الممكن للأحزاب العمالية تستحق تحليلا أكثر تفصيلاً.
إذا وضعنا جانبا نادي النقاش أو التجمع اللاشكلي والمنقطع لمجموعة أفراد، فإن التاريخ قدم لنا نموذجين أساسيين لتنظيم الأحزاب العمالية: النموذج المؤسس على الاختيار الفردي للمناضلين، تبعا لمستوى وعيهم الفردي ونشاطهم؛ ونموذج الفروع القائمة على أساس الدائرة الانتخابية، التي تجمع كل أولئك الذين يؤكدون اعتناقهم للمبادئ الاشتراكية. هذان النموذجان، وأحدهما "واسع" والآخر "ذيق"، يوافقات تماما قسمة الاشتراكية-الديموقراطية الروسية بين "مناشفة"، و"بلاشفة".
أي من هذين النموذجين أثبت أنه الأكثر ديموقراطية؟ نقول على ضوء التجربة التاريخية أن الأول تبقرط بصورة أسرع بكثير مما فعل الثاني، وأن هذا الأخير، تحول كليا في كل حال عبر تبقرطه إلى النموذج الأول.
ليس صعبا أن نفهم أن تجمع عدد كبير من الأعضاء السلبيين -الذين يتغيبون عموما عن الاجتماعات- دون مستوى وعي و"التزام" رفيعين، يمكن تحريكه بصورة أسهل بكثير، على يد جهاز أو ديماغوجيين فرديين، مما هي الحال مع جماعة فعاليين ملتزمين عموما بكل واحد على ضوء المساهمة التي يقدمها للدفاع عن تلك القضية. كلما استوعب حزب "واسع" عناصر سلبية أكثر، كلما سهّل البقرطة. وكلما كان حزب طليعي مؤلفا على وجه الحصر من مناضلين نشاطين كلما كان الضمان أكبر ضد البقرطة. إن ستالين في كل حال، بإغراقه العناصر الواعية والفاعلة ضمن عدد كبير من المنضمين السلبيين، قد سهّل إلى حد بعيد بقرطة الحزب البلشفي بعد موت لينين، -تماما كما كان لينين توجّس في "وصيته" المشهورة.
إن مشكلة بقرطة الحزب العمالي -وهي ظاهرة اجتماعية يسهلها أو يعيقها نموذج تنظيم محدد، لكن ليس هذا الأخير سببه إطلاقا- مرتبط بشكل وثيق بمشكلة الديموقراطية العمالية، أي بإمكانية رقابة الأعضاء على الجهاز، وبلورة خط سياسي تبعا لمصالح الطبقة التي ينبغي الدفاع عنها (وليس لغايات متعلقة بمصالح قطاعية، أو لغايات تبرير ذاتي، وهذا خطر يهدد كل تنظيم في مجتمع مؤسس على الانتاج السلعي وتقسيم العمل الاجتماعي). إن الموازنة التاريخية واضحة في هذا المجال أيضا. كان الحزب البلشفي إبان حياة لينين حزبا حيا وديموقراطيا يختار دوريا نقاشات محتدمة الاتجاهات، تسمح بالتعبير عن آراء غير متفق مع آراء القيادة (أو أكثريتها)، ولا تلقي الحرم على مواقف معارضة، بحيث تسمح للتجربة نحسم التباينات التكتيكية. يمكن التأكيد أن هذا الحزب كان أكثر ديموقراطية، وسمح لنقاشات اتجاهات أكثر منهجية من أي حزب عمالي مهم في التاريخ، -وبالتأكيد من الأحزاب الاشتراكية-الديموقراطية.
صحيح أنه حين كانت عزلة البلاشفة في أقصى درجاتها، إبان إدخال السياسة الاقتصادية الجديدة (النيب)، اقترح لينين منع التكتلات في الحزب وتم له ذلك. لم يقترح هذا الأمر في كل حال إلاّ لأسباب عارضة وكتدبير عابر، لا كمسألة مبدئية. يمكن التفكير أ هذا القرار كان مخطئا، -وعلى ضوء التاريخ، نعتقد أنه كان كذلك فعلا لأنه سمح لستالين أن يخنق تدريجيا حق الاتجاهات وبالتالي كل ديموقراطية داخلية في الحزب.
لكن الذين يوردون ظافرين هذه "الخطيئة" للينين كمثبتة لـ"خطيئته الأصلية" المزعومة مناهضة للديموقراطية ينسون بسهولة فائقة أنه في الوقت ذاته الذي تطوع فيه لينين لصالح إلغاء حق التكتل أثبت علنا حق المعارض شليابنيكوف بفرض طبع وجهات نظره المعارضة وتوزيعها على حساب الحزب على كل عضو في الحزب، بمئات لآلاف النسخ: دُلُّنا لإذن على حزب اشتراكي-ديموقراطي واحد مورس فيه هذا، ونحن لا نقول منهجيا، بل عرضاً!
وفي المؤتمر العاشر ذاته للحزب الشيوعي الروسي الذي تم فيه اتخاد قرار منع التكتلات، أثبت لينين مجددا بصورة ليست أقل علنية حق الاتجاه، وهو يقف في وجه تعديل تقدم به ريازانوف الذي أراد أن يمنع في المستقبل انتخاب اللجنة المركزية على أساس برامج الاتجاهات. إذا انفجرت تباينات أساسية، لا يمكن منع حسمها أمام مجمل الحزب، هكذا صاح لينين ("الأعمال الكاملة" الجزء 32 ص 267 من الاصدار الألماني، ديتزفرلاغ برلين، 1961). إنه منذ منعت البيروقراطية نقاشات من هذا النوع، وحق الاتجاه هذا، توقف الحزب عن أن يكون الأداة الثورية التي صنعها لينين.
لقد أوردت حجة أخرى أيضا لتبرير "النزعة البيروقراطية الملازمة" لمفاهيم التنظيم البلشفية. أن لينين ذاته اضطر إلى التصدي لـ"جهازه" الخاص به، في كل مرة شرع بانعطاف لاتجاه "الحركة الثورية للجماهير"، وقبل كل شيء في أبريل 1917. إن المدافعين عن هذا التصور ينسون تفصيلا صغيرا: ذلك أنه لم يكن في هذه الدراما التاريخية ثلاثة أشخاص رئيسيين وحسب. البطل "الإيجابي": الجماهير الثورية؛ و"الخائن": الجهاز المركزي للحزب، ولينين المتنقل بين تلك وهذا. كان هناك كذلك آلاف المناضلين العماليين البلاشفة. إن الالتزام الحازم لهؤلاء العمال الطليعيين هو الذي سمع لـ"موضوعات أبريل"، التي كتبها لينين، ان تنتصر بتلك السرعة على مقاومة أكثرية اللجنة المركزية، في بداية الثورة الروسية. إن غياب تلك الشريحة الوسطية الحاسمة هو الذي منع لينين من تحقيق النجاح ذاته في عامي 1922-1923، إبان "معركته الأخيرة" ضد ستالين.
ها نحن إذن عدنا إلى مقولة سوسيولوجية، عوضا عن اعتبارات سيكولوجية وأيديولوجية صرفة. إن مقولة الشغيلة الطليعيين هذه، الشغيلة المجسدين للوعي الطبقي للبروليتاريا، شبه الوحيدين في مرحلة تراجع أو ركود للحركة الجماهيرية، الذين يكونون على صلة وثيقة بأكثرية طبقتهم حين تبلغ هذه الحركة الجماهيرية ذاتها مستواها الأرفع، تلك المقولة هي التي تشكل الحلقة المركزية في التصور اللينيني للتنظيم. سوف نوجز هذا التصور بتأكيدنا أنه ينجح في بناء وحدة عناصر التواصل والانقطاع، التربية والتمرين الدائم للمربين، المركزة والديموقراطية، تلك العناصر الملازمة للنضال البروليتاري. إنه يجسد هكذا التراث الأنسى والثوري الأكثر قيمة في التاريخ المعاصر.




--------------------------------------------------------------------------------

التنظيم، البيروقراطية والعمل الثوري


إلاّ أن ثمة إشكالا في هذا الصدد لم يدركه لينين (1903-1905) أو لم يفهمه كفاية (1908-1914) في السنوات الأقسى من النضال ضد المناشفة. وهنا بالذات تبرز قيمة الإسهام التاريخي الذ قدمه تروتسكي وروزا لكسمبورغ لفهم الدياليكتيك "طبقة عاملة -شغيلة متقدمون -حزب العمال". إنه بالتحديد عدم نضج الوعي الطبقي لدى الجماهير الواسعة الذي أثبت ضرورة وجود طليعة، فصل بين الحزب والجماهير. يتعلق الأمر هنا بإسهام ديالكتيكي معقد، شدّد عليه لينين عدة مرات، يدور حول وحدة الفصل والدمج، ويتناسب مع الخصوصيات التاريخية للنضال الثوري من أجل قلب اشتراكي للمجتمع. طبعا، يتكون الحزب داخل المجتمع البرجوازي. لا يمكن أن يتجرد من بصمات التقسيم العالمي للعمل والانتاج السلعي، الملامة لهذا المجتمع، والتي تؤدي إلى تشيء كل العلاقات الانسانية[38]. وهذا يعني أن إرساء جهاز حزبي مقطوع عن جمهور الشغيلة يخفي إضفاء الاستغلال على هذا الجهاز بالذات. حين ينتج هذا الاتجاه في فرض نفسه، يتحول الجهاز من أداة لبلوغ هدف (نجاح النضال الطبقي البروليتاري) إلى هدف بحد ذاته. هنا يوجد بالضبط جذر تشويهات الأمميتين الثانية والثالثة، وتبعية الأحزاب الاشتراكية-الديموقراطية والشيوعية في أوروبا الغربية لبيروقراطيات محافظة وإصلاحية أصبحت جزءا من الوضع الراهن[39]. إن البيروقراطية نتاج لتقسيم العمل، أي لعجز الجماهير الواسعة عن الاضطلاع مباشرة لوحدها بكل المهام التي تتحكم بها وذلك لكونها لا تشارك إلى حد بعيد في سيرورة الإنتاجالثقافي والنظري في ظل الرأسمالية. يتناسب تقسيم العمل هذا مع الشروط المادية، وليس بدعة موظفين. إذا تجاهلنا هذه الشروط نصل إلى الظاهرات ذاتها التي نصل إليها تحت تأثير البيروقراطية: تقنية التنظيم -المشكلة ذاتها التي قمنا بعرضها: ليس نمط الانتاج الرأسمالي الإطار المثالي لتربية على النشاط- الذاتي البروليتاري؛ إنه لا يعلم الشغيلة آليا أن يكتشفوا ويستخدموا عفويا أهداف وأشكال تحررهم.
لقد بخس لينين، في مجادلاته الأولى مع المناشفة، تقدير خطر إضفاء الاستقلالية على الجهاز وبقرطة الأحزاب العمالية. كان يرى المشكلة المركزية في انتهازية الجامعيين البرجوازيين الصغار كما المدافعين البرجوازيين الصغار عن "النقابية الصرفة" وكان ليسخر من نضال العديد من رفاقه ضد خطر البيروقراطية.
في الواقع برهن التاريخ أن خطر الانتهازية الرئيسي في الاشتراكية الديموقراطية لما قبل الحرب العالمية الأولى لم يكن يأتي لا من الجامعيين ولا من المدافعين عن "النقابية الصرفة"لكم من بيروقراطية الحزب الاشتراكي-الديموقراطي بالذات، وباختصار: من ممارسة "شرعية" كانت تقتصر من جهة على الانتحابية والنشاط البرلماني، ومن جهة أخرى على النضال من أجل إصلاحات مباشرة في الميدان الاقتصادي والنقابي. (يكفي أن نصف هذه الممارسة ليصبح واضحا إلى حد تشبه ممارسة الأحزاب الشيوعية الحالية في أوروبا الغربية).
لقد لاحظ تروتسكي وروزا لكسمبورغ هذا الخطر بصورة أدق وأبكر مما فعل لينين. منذ عام 1904 أشارت روزا لكسمبورغ إلى أن "فصلا بين الجماهير المتحركة واشتراكية-ديموقراطية مترددة" هو أمر ممكن[40]، لكن فقط في حالة "المركزية القصوى" للحزب، وفقا للمثال اللينيني. بعد ذلك بعامين، صاغ تروتسكي المشكلة بدقة وافية: "إن الأحزاب الاشتراكية الأوروبية، لاسيما أكبرها، الحزب الاشتراكي-الديموقراطي الألماني، تمّت نزعتها المحافظة بالنسبة ذاتها التي اعتنقت الجماهير العريضة وفقا لها الاشتراكية، وهذا بمقدارما أصبحت تلك الجماهير أكثر تنظيما وضبطا. نتيجة لذلك يمكن للاشتراكية-الديموقراطية، وهي التنظيم الذي يحيط بالتجربة السياسية للبروليتاريا، أن تصبح في وقت ما عائقا مباشرا في وجه تطور الصراع بين العمال والرجعية البرجوازية. بتعابير أخرى، إن النزعة المحافظة لدى الاشتراكية الدعاوية في الأحزاب البروليتارية يمكن في أحد الأوقات أن تكبح البروليتاريا في النضال المباشر من أجل السلطة"[41].لم يكن لينين يريد في البدء أن يرى ذلك هكذا. وهو لم يغير رأيه إلاّ في بدء الحرب العالمية الأولى في حين كان اليسار الألماني قد توقف منذ سنوات عدة عن تغذية الأوهام حول قيادة الحزب الاشتراكي-الديموقراطي[42].


--------------------------------------------------------------------------------

نظرية التنظيم، البرنامج الثوري، الممارسة الثورية.


بعد الصدمة الشديدة التي تلقاها لينين في الرابع من غشت 1914، قام بالخطوة الحاسمة في هذه المسألة. لم يعد يفهم التنظيم في وظيفته وحسب، بل كذلك في مضمونه. لا يتعلق الأمر فقط بمعارضة "التنظيم عموما بالـ"عفوية" على وجه العموم، وكما فعل لينين في "ما العمل؟" وفي "خطوة إلى الأمام، خطوتان إلى الوراء". ينبغي من الآن وصاعدا أن يقوم تمييز دقيق، وأكثر بكثير، بين التنظيم المحافظ موضوعيا والتنظيم الثوري نوضوعيا، إنطلاقا من مقاييس موضوعية (البرنامج الثوري، نقل هذا البرنامج إلى الجماهير، الممارسة الثورية، الخ…). ينبغي اعتبار إرادة النضال العفوية لدى الجماهير كأهم من الأعمال الإصلاحية المحافظة للتنظيمات الجماهيرية.
يمكن للمقدسين "الساذجين" للتنظيم أن يزعموا أن لينين التحق بعد عام 1914 بوجهة نظر اللكسمبورغية حول "العفوية" عندما يدافع، في حال الخلاف بين "الجماهير غير المنظمة" والتنظيم الاشتراكي الديموقراطي، عن الأولى ضد الثاني وعندما يتهم الاشتراكيين الديموقراطيين بخيانة الجماهير[43]. أكثر من ذلك، أصبح لينين بفكر مذ ذاك أن الشرط المسبق لتحرر ذاتي للبروليتاريا هو في تحطيم تلك التنظيمات التي أصبحت محافظة[44].
إن التصحيح أو التكملة التي أدخلها لينين عام 1914 على نظريته في التنظيم، لم تكن تعني مع ذلك خطوة إلى الوراء تضفي طابعا مطلقا على العفوية الصرفة، بل خطوة إلى الأمام في التمييز بين حزب ثوري وتنظيم على وجه العموم. مكان اشتراط أن ينمي الحزب وعيا سياسيا لدى الطبقة العاملة، تظهر مذ ذاك الصيغة التالية: إن على الطليعة الثورية مهمة إيقاظ وتنمية معي ثوري في صفوف الشغيلة المتقدمين. إن بناء الحزب الثوري يعني دعم برنامج الثورة الاشتراكية بتجربة النضال لدى أكثرية الشغيلة المتقدمين[45].
إن صحة "الخطة الاستراتيجية" اللينينية بالنسبة للبلدان الامبريالية في أوروبا الغربية اليوم ترتبط إذن مباشرة بمسألة طبيعة المرحلة التاريخية التي نعيش فيها. لا يمكننا، من وجهة نظر المادية التاريخية، أن نستنتج مفهوما عن الحزب من "حالية الثورة" إلا إذا انطلقنا من الفرضية -الصحيحة والقابلة للبرهان بنظرنا- التي تقول إن النظام الرأسمالي العالمي يعيش، منذ الحرب العالمية الأولى، وعلى أبعد تقدير منذ ثورة أكتوبر، مرحلة أزمة بنيوية[46]، ينبغي أن تقود بالضرورة دوريا إلى حالات ثورية. إذا سلكنا على العكس أننا ما نزال إلى الآن في مرحلة صعود للرأسمالية، ينبغي عند ذلك رفض فهم من مثل ذلك على أساس -أنه "إرادوي"، لأن ما هو حاسم في خطة لينين الاستراتيجية، ليس الدعاية الثورية التي ينبعي بالطبع على الثوريين أن يمارسوها حتى في الفترات غير الثورية بل التوجه المتحور حول أعمال ثورية سوف تحدث على المدى القصير أو المتوسط. كانت أعمال كهذه ممكنة أيضا في فترة صعود الرأسمالية (كومونة باريس)، لكنها كانت تظل استثناءات غير ناجحة. إن بنية للحزب مركزة حول الإعداد لانخراط فعال في أعمال من مثل تلك الأعمال لا يعود لها مذ ذاك أي معنى.
إن الفرق بين "حزب عمالي" (من وجهة نظر أعضائه أو حتى ناخبيه) وحزب عمالي ثوري (أو نواب حزب من ذلك النوع) لا يكمن فقط في برنامجه أو وظيفته الاجتماعية الموضوعية -تشجيع لا إضعاف كل الأعمال الجماهيرية الثورية موضوعيا، كما المطالب وأشكال العمل التي تضع موضع الاتهام أسس نمط الانتاج الرأسمالي والدولة البورجوازية- بل كذلك في قدرته على نقل هذا البرنامج بصورة مثقِّفة.
يمكن تحديد المسألة بدقة بالصورة التالية: هل يقتصر خطر إضفاء الاستقلال على الجهاز على المنظمات "العمالية" الانتهازية والإصلاحية، أو أنه يهدد كل منظمة، حتى تلك التي تملك برنامجا وتتبع نهجا ثوريا؟ هل البيروقراطية هي النتيجة المحتومة لكل تقسيم العمل، بما فيه بين "القيادة" و"الأعضاء" في مجموعة ثورية؟ وانطلاقا من ذلك، ألا يمكن القول إن كل تنظيم ثوري، مذ يتخطى اتساعا معينا، محكوم بأن يصير في مرحلة من تطوره وتطور النضالات الطبقية كابحا للتحرر الذاتي للبروليتاريا؟
إذا وافقنا على صحة هذه المحاجة، لا يبقى إلاّ استخلاص نتيجة هي استعباد التحرير الاشتراكي للطبقة العاملة والبشرية جمعاء. لأنه ينبغي اعتبار إضفاء الاستقلال هذا وذلك التشيء، المزعومة حتميتهما، لأي منظمة، كأحد طرفي المأزق الذي يعني طرفه الآخر عند ذلك الإسقاط المحتوم في "الوعي المزيف" البورجوازي لكل الشغيلة غير المنظمين، لكل المثقفين المتقوقعين في ممارسات قطاعية، لكل هؤلاء الذين على هامش الانتاج العام للسوق. إن الممارسة الثورية التي تهدف إلى الوعي الكلي وإلى إغناء النظرية هي وحدها التي تمنع نفاذ "ايديولوجية الطبقة المسيطرة" حتى إلى صفوف ثوريين فرديين. لا يمكن لهذه الممارسة إلاّ أن تكون منظمة وجماعية. إذا كانت المحاجة المذكورة أعلاه صحيحة، فينبغي أن نستنتج منها أن الشغيلة المتقدمين، أكاموا منظمين أو غير منظمين، ينحكمون إذ ذاك بعدم اكتساب وعي طبقي سياسي أو بفقدانه.
إلاّ أن هذه المحاجة هي في الواقع مغلوطة لأنها تماثل بين بدء سيرورة ونتيجتها النهائية؛ لأنها تستنتج بصورة جامدة وقدرية من خطر ضفاء الاستقلال ذلك. ليس هذا قابلا للبرهان، لا بصورة تجريبية ولا على الصعيد النظري. ذلك أن شدة خطر التشويهات البيروقراطية لمنظمة ثورية للطليعة -وبالأحرى لحزب ثوري- لا تتوقف فقط على نزعة إضفاء الاستقلال التي تولدها عمليا كل المؤسسات في المجتمع البرجوازي، لكن كذلك على نزعات معاكسة، كما على سبيل المثال: دمج منظمات ثورية في حركة أممية مستقلة عن المنظمات "القومية" وقادرة على مراقبتها نظريا (ليس عبر جهاز، بل بفضل النقد السياسي)؛ المساهمة في نضال الطبقات وفي المعارك الثورية التي تسمح باختيار دائم للكوادر عبر الممارسة، المحاولة المنهجية لتخطي قسمة العمل بكفالة تبادل متواصل بين المؤسسة والجامعة ومراكز المتفرغين، الضمانات المؤسسية (إنقاص مدخول المتفرغين، الدفاع عن قواعد الديموقراطية الداخلية في المنظمة وعن حرية الاتجاه والتكتل، الخ…).
إن حل هذا التناقض يتوقف على النضال الداخلي بين هذه الاتجاهات، الذي يحكمه هو ذاته عاملان اجتماعيان[47]: من جهة، درجة الامتيازات الاجتماعية التي تقدمها "المنظمة المضفى عليها الاستقلال".ومن جهة أخرى درجة النشاط السياسي لطليعة الطبقة العاملة. فقط إذا اندترت هذه الأخيرة بصورة حاسمة يتجلى العامل الأول هو الآخر بصورة حاسمة. إن المحاجة بكاملها ترجع إجمالا إلى حشو مضجر: كل ما كانت الطبقة العاملة سلبية، كلما قل عملها النشط من أجل تحررها. لا تبرهن مع ذلك هذه الحاجة في شيء أنه عندما تصبح طليعة الشغيلة أكثر نشاطا، تكون المنظمات الثورية أدوات غير فعالة لتحرير البروليتاريا وأن "حرية اختيارها" يمكن وينبغي أن يحد منها النشاط الذاتي للطبقة (أو جناحها الأكثر تقدما). إن المنظمة الثورية أداة لتحقيق الثورة. والثورات البروليتارية مستحيلة إطلاقا دون نشاط سياسي متنام للطبقة العاملة.


--------------------------------------------------------------------------------

نظرية التنظيم، المركزية الديموقراطية وديموقراطية المجالس


يؤخذ على النظرية اللينينية في التنظيم أنها تمنع عبر مركزة مبالغ بها تطور الديموقراطية الداخلية للحزب. يستند هذا المأخذ على سوء فهم. عندما يركز لينين التنظيم حول أعضاء نشيطين، يعملون تحت رقابة جماعية، يوسع في الواقع اكثر بكثير مما يضيق هامش الديموقراطية داخل الحزب. مذ يتخطى تنظيم عمالي عددا معينا من الأعضاء، يصبح هناك نموذجان (Models) إثنان عن التنظيم ممكنين بصورة أساسية: نموذج جمعية الناخبين (أو المنظمة الإقليمية) التي تتناسب اليوم سواءا مع الأشكال التنظيمية للحزب الاشتراكي أو مع تلك التي للحزب الشيوعي، أو نموذج عصبة محاربين يستندون إلى أعضاء نشطين وواعين. صحيح أن الأول يترك نظريا هامشا معينا للمناورات إلى المعارضين، لكن فقط طالما لا يتعلق الأمر إلاّ بمسائل طفيفة. إن الجمهور العريض للأعضاء غير المسيسين والسلبيين- الذين يتبع قسم مهم منهم حتى ماديا للجهاز (أكثرية الشغيلة والمستخدمين البلديين ومستخدمي الإدارة، المستخدمون في المنظمة العمالية ذاتها، الخ)- يقدم في هذه الحالة للجهاز قاعدة استفتائية قابلة للتحريك في كل حين، لا علاقة لها في كل حال بالوعي الطبقي. أما المنظمة القتالية على العكس التي ينخرط أعضاؤها بصورة واعية ونشطة فتستند إلى مصالح كل منهم وتعطيهم على الأقل إمكانية حكم مستقل. إنه لأصعب بكثير على "طالبي وجاهة صرفين" أو على وصوليين صرفين أن يلمعوا في منظمات من مثل هذه، مما في جمعيات منخبين مبتذلة. إن التباينات تنحسم فيها بالخضوع المادي أو بإخلاص مطلق أقل بكثير مما بنقاش معمق. بالتأكيد، إن بنية تنظيمية كهذه لم تصبح حصانة كافية ضد البقرطة، لكنها تخلق مع ذلك الشروط القادية على مضايقتها[48].
إن العلاقات بين التنظيم الثوري (نواة الحزب او الحزب) والجماهير العاملة تتعدل فجأة مذ تبرز حالة ثورية. عند ذلك الحين تبدأ البذور التي نشرتها المجموعات الثورية و الأشتراكية الواعية تنبت. إذ ذاك أيضا يمكن للجماهير العريضة أن تبلغ مباشرة وعيا طبقيا ثوريا. وتستطيع المبادرات الثورية للجماهير العريضة أن تتخطى بكثير مبادرات العديد من التجمعات الثورية.
لقد أشار تروتسكي عدة مرات في "تاريخ الثورية الروسية" الى أن الشغيلة الروس كانوا يلتحقون بالحزب البلشفي في بعض اللحظات العصيبة من الثورة[49]. لا يمكن مع ذلك تعميم هذا الواقع، ينبغي قبل كل شيء تذكير أن الحزب البلشفي، ما قبل "موضوعات أبريل" للينين، كان مزودا بتصور استراتيجي غير كاف حول طبيعة وأهداف الثورة الروسية[50]. عندما بدأ هذا النقص يبرز بصورة قاسية في داخل الحزب، تدخل لينين وكتب "موضوعات أبريل". لقد أمكنه أن يقوم بذلك بنجاح لأن أكثرية الشغيلة البلاشفة المكونين كانوا يدفعون في الاتجاه ذاته ولأن هؤلاء كانوا يعبرون من جهتهم عن التجذر الشديد للطبقة العاملة الروسية.
لا شك في أن تقويما موضوعيا وشموليا لدور تنظيم الحزب البلشفي في الثورة الروسية يتطلب صياغة مختلفة بعض الشيء. ومع أن الكوادر القيادية للحزب بدت عدة مرار كما لو كانت العائق الأساسي في وجه انتقال الحزب إلى المواقف التروتسكية للنضال من أجل ديكتاتورية البروليتاريا (السلطة للسوفياتات)، فلقد تكشف أن وجود منظمة مكونة من إطارات عمالية ثورية مرباة على امتداد عقدين على التنظيم والنشاط الثوري، سمح بالانعطاف الاستراتيجي الحاسم من أجل النجاح. وإذا أصرّ أحد على تبيان علاقة بين البيروقراطية الستالينية "المفهوم اللينيني عن الحزب"، كان عليه على الأقل أن يقر بهذا العنصر الحاسم في العملية: لم يكن نجاح ستالين عائدا إلى "النظرية اللينينية في التنظيم" لكن إلى اختفاء لحضة مهمة في هذا المفهوم. إن ما كان ينقص بعد موت لينين إنما هو شريحة واسعة من الكادرات العمالية الثورية المكونة، القادرة على القيام بنشاط سياسي في علاقة دقيقة بالجماهير. أن يكون المفهوم اللينيني عن الحزب أمكن تحويله إلى نقيضه، فإن لينين بالذات لم يكن ليجادل في ذلك أبدا[51]. إن نظام السوفياتات هو الجواب الوحيد الشامل التي أعطته الطبقة العاملة حتى الآن لمسألة تنظيم نشاطها المستقل أثناء الثورة وبعدها. يسمح هذا الجواب بجمع كل قوى الطبقة -وكل الشرائح المتقدمة في المجتمع- في مواجهة مفتوحة متزامنة لكل الاتجاهات المختلفة الموجودة داخل الطبقة. إن نظام سوفياتات حقيقيا -أي نظاما يجري إنتخابه بالفعل من قبل جمهور الشغيلة ولا يفرضه عليهم جهاز السلطة الخاص هذا أو ذاك- يعكس التنوع الاجتماعي والايديولوجي للشرائح البروليتارية. إن مجلسا عماليا هو في الواقع جبهة واحدة لمختلف المجموعات السياسية التي تتفق على نقطة مركزية: الدفاع المشترك عن الثورة ضد العدو الطبقي. (في الطريقة نفسها تعكس لجنة اضراب أكثر الاتجاهات المختلفة اتساعا بين العمال، مع استثناء وحيد، إنها تضم فقط تلك الاتجاهات التي تشارك في الاضراب حيث لا يوجد أي مكان لأعداء القضية العمالية في لجنة الاضراب).
لا يوجد بالتالي أي تناقض أساسي بين منظمة ثورية وفقا للنموذج اللينيني وديموقراطية سوفياتية أو سلطة سوفياتات فعلية. على العكس، فبدون عمل في التنظيم المنهجي لطليعة ثورية يسقط نظام السوفياتات تحت تأثير البيروقراطيين الإصلاحيين أو نصف الاصلاحيين (كما نظام السوفياتات الألمانية بين عامي 1918-1919) أو يفقد قوته السياسية الضاربة لأنه لا يتوصل إلى الإضطلاع بالمهام السياسية المركزية (كما اللجان الثورية الاسبانية بين يونيو 1936 وربيع 1937). إن الفكرة القائلة إن نظام السوفياتات يجعل الحزب "نافلا" هي فكرة غير معقولة؛ إما أنها تفترض مسبقا أن السوفياتات تؤدي الى انسجام الطبقة العاملة في ليلة و ضحاها، تجعل الفروق الأيديولوجية والاختلافات في المصالح تختفي، و"توحي" آليا وعفويا للطبقة بأكملها "الحلول الثورية" لكل المشكلات الاستراتيجية والتكتيكية؛ أو أنها ليست سوى لإعطاء مجموعة صغيرة من "القادة" المنصِّبين أنفسهم امكانية التلاعب بالجماهير، بمقدار ما تمنع بصورة منهجية أن تتواجه الجماهير بالمسائل الاستراتيجية والتكتيكية للثورة أي أن تناقش بحرية وتتمايز سياسيا (كما هي الحال مثلا في نظام التسيير الذاتي اليوغسلافي).
إن المنظمة الثورية تسمح بأن يضمن للشغيلة في نظام السوفياتات درجة نشاط مستقل ووعي ذاتي، إذن وعيا طبقيا أرفع بكثير مما يمكن أن يفعله نظام تمثيل غير متمايز. ينبغي دون شك أن تستثير النشاط المستقل للشغيلة باتجاه هذا الهدف. وهنا تكمن بالضبط الميزة الرئيسية لنظام السوفياتات. هل يمكن التوفيق بين درجة عالية من النشاط الذاتي للـ"قاعدة" والمفهوم الينيني عن التنظيم؟ بالتأكيد، لأن هذا المفهوم مدعوما باستراتيجية ثورية سليمة (بتقدير سليم للسيرورة التاريخية الموضوعية)، يعني شيئا آخر غير توحيد نشاط الجماهير، إنه الذاكرة الجماعية والمنسق للتجارب التي تقوم بها الجماهير.
حول هذه المسألة أيضا برهن التاريخ أن ثمة فرقا أساسيا بين حزب يسمى ثوريا وحزب ثوري هو ثوري بالفعل. عندما لا يفعل فريق موظفين غير معارضة مبادرة ونشاط الجماهير، بل يحاول بكل الوسائل، بما فيها القوة العسكرية، أن يحطمها (فلنفكر بالمجر في أكتوبر-نوفمبر 1956.أو بتشيكوسلوفاكيا في غشت 1968) وعندما لايجد هذا الفريق أي رابطة تربطه بنظام السوفياتات المولود عفويا من النضالات الاجتماعية، بل يحطم هذا النظام بحجة الدفاع عن "الدور القائد للحزب"[52]. لا نعود أمام حزب ثوري للبروليتاريا بل أمام جهاز يدافع عن المصالح النوعية الخاصة بشريحة ذات امتيازات ومعادية للنشاط المستقل للجماهير: عنينا البيروقراطية. لإن واقع إمكان إنحطاط حزب ثوري إلى حزب للبيروقراطية لا يشكل مع ذلك حجة ضد المفهوم اللينيني عن التنظيم أثر مما يشكل واقع كون أطباء قتلوا أكثر من مريض بدلا من إنقاده حجة ضد المفهوم الفهوم الينيني الطبي. إن أي خطوة إلى وراء هذا الفهم باتجاه العفوية "الصرفة" للجماهير تقارن بعودة من العلم الطبي إلى الشعودة.


--------------------------------------------------------------------------------

سوسيولوجيا النزعة الاقتصادية والبيروقراطية والعفوية


فيما نحن نشرح كون المفهوم اللينيني عن التنظيم هو في الواقع مفقوم عن حالية الثورة البروليتارية، كنا قد وضعنا الأصبع على اللحظة المركزية للنظرية اللينينية عن الوعي الطبقي البروليتاري: مسألة الذات الثورية في النظام الرأسمالي.
بالنسبة لماركس ولينين (كما بالنسبة لروزا لكسمبوررغ وتروتسكي، وإن كان هاذان لم يستخلصا قبل عام 1914 الاستنتاجات الضرورية) إن الذات الثورية هي الطبقة العاملة الحقيقية، الثورية بصورة كامنة ودورية، كما تشتغل وتفكر وتحيا في النظام الرأسمالي[53]. إن النظرية اللينينية في التنظيم تنبع بصورة طبيعية من هذا التحديد للذات الثورية، لأنه بديهي أنه وفقا لذلك التحديد لا يمكن لتلك الذات إلاّ أن تكون متناقضة، فالبروليتاريا هي من جهة معرّضة لعبودية الأجرة، للعمل المستلب، لتشيء كل العلاقات الانسانية، لتأثير الايديولوجيا البرجوازية الصغيرة، لكنها من جهة أخرى، وبصورة دورية، تحزم أمرها على الانخراط في نضالات طبقية تجذيرية، أو حتى في أعمال ثورية علانية ضد نمط الانتاج الرأسمالي وجهاز الدولة البرجوازية. إن تاريخ النضال الطبقي الحقيقي للمئة وخمسين سنة الماضية يعبر عن نفسه في هذه التموجات الدورية. إنه ببساطة يستحيل علينا أن نصف بصورة ملائمة تطور الحركة العمالية الفرنسية أو الألمانية مثلا خلال المئة سنة الأخيرة، عن طريق النظر إليها بصورة حصرية، إمّا من زاوية "سلبيية متنامية" أو من زاوية "نشاط ثوري غير منقطع". يتميز هذا التطور بصورة واضحة بوحدة هذين العنصرين، ووحدها التشديدات حينا على هذا الشكل وحينا آخر على ذال، من بين الأشكال المختلفة التي تعبر هذه الوحدة عن نفسها عبرها، قد خضعت لتبدلات مستمرة.
إن الانتهازية والعصبوية، منظورا إليها كموقفين إيديولوجيين، جذورهما النظري في تحديد غير جدلي للذات الثورية. يرى الانتهازيون أن العمل العادي هو الذات الثورية. إنهم محمولون على تقليد مسبقاته بخنوع، على "تأمل دبره بورع ديني" حسب تعبير بليخانوف. إذا كان العامل يهتم بصورة رئيسية بالمسائل الداخلية في المصنع، فإن الانتهازي يُصبح "نقابيا على وجه الحصر". إذا جرفت العمال زوبعة الحمى الوطنية، يصبح الانتهازي اشتراكيا-وطنيا أو اشتراكيا-امبرياليا. إذا استسلم العمال لدعاية "الحرب الباردة"، يصبح فارسها: "إن الجماهير على حق باستمرار". إن التعبير الأكثر دعوة للرثاء عن هذه الانتهازية يتجلى في واقع أن البرنامج -حتى الإتخابي- لم يعد مرتكزا على تحليل علمي للمجتمع، لكن على تحقيقات عن الرأي العام. لحسن الحظ فإن الحالة النفسية للجماهير لا تدوم. فإذا كان العمال لا يفهمون اليوم إلاّ بالأمور الداخلية للمصنع، فهم سوف ينزلون إذا إلى الشارع في تظاهرات سياسية. اليوم هم "مع" الدفاع عن الوطن الامبريالي ضد "العدو الخارجي" وغذا سيقرفون من الحرب ويرون العدو الرئيسي في الطبقة المسيطرة في بلادهم. اليوم يقبلون سلبيا بالـ"عمل المتفق عليه"، وغذا سيشهرون الاضراب "البري" ضده. ولأن الأمور هكذا، فإن منطق الانتهازية يقود إلى ما يلي: بعد القيام، في مرحلة أولى، بتبرير الاندماج بالمجتمع البرجوازي بـ"سلوك الجماهير"، يمكن الانقلاب عليه منذ تبدأ تلك الجماهير تتحرك ضد ذلك المجتمع.
أما العصبويون فيختزلون الذات الثورية تماما كما يفعل الانتهازيون، لكن في الاتجاه المعاكس. ففي حين لا يهم الانتهازي إلاّ العامل العادي. أي ذلك الذي يتكيف مع الشروط البرجوازية عن طريق استبطانها، فإن العصبوي، من جهته، لا يريد إلاّ البروليتاري "المثالي"، ذلك الذي يتصرف كثوري. إن العامل الذي لا يتصرف كثوري يتوقف آليا عن أن يكون ذاتا ثورية؛ يصبح "بورجوازيا". في الحد الأقصى، إن بعض العصبويين كما على سبيل المثال بعض العفويين أقصى اليسار، بعض الستالينيين وبعض الماويين - مستعدون حتى لمماثلة الطبقة العاملة بالطبقة الرأسماليية حالما ترفض الموافقة كليا على أيديولوجيا بدعتهم[54].
إن الموضوعية القصوى -"كل ما يفعله العمال ثوري"- والذاتوية القصوى _"وحده الذي يوافق على مذهبنا هو ثوري"- (أو بروليتاري) تلتقيان في التحليل الأخير حين تنكران الطابع الثوري موضوعيا للنضالات الاجتماعية والسياسية التي تخوضها جماهير درجة وعيها متناقضة. بالنسبة للموضوعيين الانتهازيين ليست تلك النضالات ثورية، لأن "الأكثرية سوف تقترع في الشهر القادم لمصلحة الحزب الاشتراكي الألماني (أو ديغول)". أما بالنسبة للذاتويين العصبويين فلا علاقة لها بالثورة "لأن الفريق الثوري (أو فريقنا!) ما يزال جد ضعيف".
ليس صعبا أن نكتشف الأصل الاجتماعي لهذين الاتجاهين. إنه يتناسب مع المثقفين البرجوازيين الصغار -يمثل الانتهازيون بينهم عموما المثقفين المرتبطين بالبيروقراطية العمالية في المنظمات الجماهيرية أو في جهاز الدولة البرجوازي، بينما يمثل العصبويون بالمقابل المثقفين المنحِّين أو التأمليين الصرفين والمقطوعين عن الحركة الحقيقية[55]. في الحالتين، فإن هذا التفكيك للعنصرين الموضوعي والذاتي في الوحدة المتناقضة للذات الثورية يعيد في الواقع الشقاق القديم بين النظرية والممارسة، وهذا الشقاق لا يمكن أن يقود بدوره إلاّ إلى ممارسة انتهازية وإلى "نظرية" لا تفعل غير إعادة إنتاج "وعيهم المزيف" على المستوى الايديولوجي.
إنه في الواقع لغريب أن يكون الكثير من الانتهازيين (ومن بينهم البيروقراطية النقابية) والكثير من المثقفين العصبويين يأخذون بالضبط على الماركسيين الثوريين كونهم مثقفين بورجوازيين صغارا يريدون أن "يخضعوا" الطبقة العاملة[56]. تلعب هذه المسألة كذلك دورا كبيرا في النقاشات التي تدور داخل الحركة الطلابية الثورية، هذا هو السبب في أنه يبدو مفيدا أن نناقش بصورة أدق ما هو الفهم السوسيولوجي للنزعة البيروقراطية، وللنزعة الاقتصادية والعفوية (كما للنزعة الحرفية في مسألة التنظيم).
إن العمل الفكري والعمل اليدوي، التراكم والانتاج تتلاقى في نقاط عدة من المجتمع البورجوازي، وإن على مستويات مختلفة، مثلا في المصنع. إن ما يلخصه المفهوم العام للـ"متقفين"، للـ"بورجوازية الصغيرة المثقفة" أو للـ"مثقفين التقنيين"، يدل في الواقع على عدة نشاطات في نموذج مختلف، علاقاتها بالنضال الطبقي الفعلي متمايزة جدا. يمكن أن نميز بصورة رئيسية المجموعات التالية (لا ندعي بهذا التصنيف بلوغ تحليل شامل):
(1) الوسطاء بحصر المعنى بين الرأسمال والعمل في سيرورة الانتاج، أي "ضباط صف" الرأسمال: الوكلاء والكوادر الآخرون في المؤسسة الذين مهمتهم هي الحرص على انضباط العمل لمصلحة رأسمال المؤسسة.
(2) الوسطاء بين العلم والثقنية، كما بين التقنية والانتاج: مِخبريون، مساعدون علميون، باحثون تكنولوجيون، تقنيو المشاريع، رسامون، الخ. بعكس الفئة (1) لا تجعل هذه الشرائح من نفسها دعامة لامتلاك فائض القيمة؛ إنها تساهم في السيرورة المادية للإنتاج وهي انطلاقا من ذلك أغلب الأحيان ليست مستغلة بل منتجة لفائض القيمة.
(3) الوسطاء بين الانتاج وتحقيق فائض القيمة: مختصون في الإعلان، معاهد دراسات للسوق، علميون يشتغلون في قطاع التوزيع، إختصاصيون في التسويق، الخ.
(4) الوسطاء بين شاري وبائعي السلعة التي تشكلها قوة العمل. نجد هنا في رأس القائمة الموظفين النقابيين وبالمعنى الأوسع، كل موظفي المنظمات الجماهيرية المبقرطة في الحركة العمالية.
(5) الوسطاء بين الرأسمال والعمل في فلك البنية الفوقية، المنتجون الأيديولوجيون (أي أولئك الذين يقوم عملهم على إنتاج الايديولوجيات): قسم من السياسيين البورجوازيين ("مكونو الرأي العام")، أساتدة بورجوازيون في "العلوم الانسانية"، كما يسمونهم، الصحفيون، قسم من الفنانين، الخ.
(6) الوسطاء بين العلم والطبقة العاملة، المنتجون النظريون، أي المثقفون الذين ينتقدون النظام البورجوازي في كل حقول العلوم الطبيعية والاجتماعية التي ليست مرتبطة مباشرة بالممارسة (تضم هذه الفئة كذلك قسما من الفنانين).
ويمكن إضافة مجموعة سابعة، تشملها في الواقع بشكل جزئي كل المجموعتين الخامسة والسادسة. ففي المجتمعات البورجوازية الكلاسيكية المستقرة، يقع التدريس، كمهنة، ضمن الفئة الخامسة، بسبب سيادة الايديولوجية البرجوازية، وبسبب الميزة الايديولوجية والمطلقة لكل أنواع التدريس المحترف. إلاّ أنه مع نمو الأزمة البنيوية في الثاويات والجامعات الرأسمالية الجديدة، فإن تغييرا يحصل في معاييرها الموضوعية. فمن جهة أولى، تقود أزمة الرأسمالية الجديدة تثار في وجهها التساؤلات بشكل متزايد، ومن جهة أخرى، فإن التعليم لا يقوم بتلقين المبادئ الايديولوجية المطلقة، بقدر ما تقوم بدور الإعداد التكنوقراطي للمثقفين المستقلين (المنتمين إلى الفئتين 2 و3)، لكي يتم استيعابهم في عملية الانتاج. وهذا ما يجعل من الممكن لمثل هذا التعليم أن يرتبط أكثر فأكثر بالتغريب الفردي الذي يعاد إدراكه، بالإضافة إلى النقد الاجتماعي في مجالات متعلقة به (وحتى للنقد الاجتماعي بشكل عام).
ليس صعبا أن نحدد أي قسم من المثقفين يمارس تأثيرا سلبيا على تطور الوعي الطبقي للبروليتاريا: إنهم قبل كل شيء المجموعات (3)، (4)، (5) (ليست المجموعة (1) مأخوذة بالاعتبار، لأنها تقف في كل حال بعيدا عن المنظمات العمالية). إن الأخطر بالنسبة للنشاط الذاتي للبروليتاريا، ولوعيها المستقل، هو الاتحاد الوثيق أو الإندغام بين المجموعتين (4) و(5)، كما حصل على مستوى كبير منذ الحرب العالمية الأولى في الأحزاب الاشتراكية-الديموقراطية وبصورة جزئية في الأحزاب الشيوعية المنحازة لموسكو.
بالمقابل لا يمكن للمجموعتين (2) و(6) إلاّ أن تساهما في تقوية البروليتاريا والمنظمات الثورية، لأنهما تقدمان لها المعارف التي لا غنى عنها لنقد المجتمع البورجوازي ولنجاح عملية قلب البمجتمع هذا. باختصار: لاستعادة وسائل الانتاج على يدي المنجين المتشاركين.
إن أولئك الذين ينفجرون مهددين في وجه التضامن المتنامي بين مجموعات الشغيلة وفئتي المثقفين (2) و(6) يساعدون إذن الفئات (3) و(4) و(5) على تدعيم تأثيرها السلبي على البروليتاريا. لأن الصراعات الطبقية مضاعفة على الدوام بمنازعات أيديولوجية[57]. إنه لفي أقصى الأهمية إذن أن نوضح أي ايديولوجية تنمو داخل البروليتاريا، إذا كنا سنرى نمو ايديولوجية برجوازية صغيرة أو حتى برجوازية، أو النظرية الماركسية. إن من يعارض "كل تأثير فكري من الخارج" على البروليتاريا، ينسى أو يتناسى واقع أن التأثير الذي تمارسه المجموعات (3) و(4) و(5) يفعل باستمرار في البروليتاريا عن طريق المجتم البرجوازي والاقتصاد الرأسمالي، وأن "العفويين" اليساريين لا يمتلكون أي دواء عجائبي لإبعاد تأثير المثقفين البرجوازيين هذا. فالتهجم على نفوذ المثقفين الماركسيين داخل الطبقة العاملة يعني ببساطة السماح لنفوذ المثقفين البورجوازيين بالانتشار من دون ما يعترضه[58]. أكثر من ذلك: عبر معارضة تطوير منظمة ثورية وتثقيف ثوريين بروليتاريين محترفين، يساهم المناشفة و"العفويون" موضوعيا في تأبيد قسمة العمل بين عمل يدوي وعمل ذهني، أي في التبعية للشغيلة إزاء المثقفين وفي بقرطة المنظمات العمالية. ذلك أن العامل المشدود باستمرار إلى مركز عمله في سيرورة الانتاج الرأسمالي، يبقى تابعا على الدوام "للاختصاصيين البرجوازيين الصغار". بالمقابل، فبمساعدة منظمة ثورية يصبح ممكنا، عن طريق اخراج العمال مؤقتا من المصانع، خطو خطوة حاسمة نحو التحرر الفكري على الأقل للشغيلة المتقدمين والبدء وإن جنينيا بالغاء قسمة العمل داخل الحركة العمالية بالذات.
هذه الملاحظات لا تستفيد مع ذلك مشكلة سوسيولوجية العفوية. ينبغي أن نطرح على أنفسنا السؤال التالي: في أي شريحة من البروليتاريا يشتد أكثر الحذر من المثقفين؟ طبعا في الشرائح التي تتعرض بفعل وضعها الاجتماعي-الاقتصادي أكثر من غيرها إلى نزعات مع العمل الذهني، قبل كل شيء إذن لدى عمال المشاريع الصغيرة والمتوسطة التي يهددها التقدم التقني، لدى أولئك العصاميين الذين خرجوا من وضع الجمهور الواسع بجهدهم الشخصي، ولدى العمال الذين ارتفعوا إلى قمة المنظمات البيروقراطية. بتعابير أخرى، إن القاعدة الاجتماعية للنزعة الاقتصادية والعفوية والبيروقراطية وللعداء للمثقفين داخل الطبقة العاملة مكونة من العمال اليدويين و"الحرفيين" وليس من بروليتاريا المشاريع الكبرى، والمدن الكبرى والفروع الصناعية التي في حالة توسع. هذه الشرائح كانت كذلك دعامات الاشتراكية-الديموقراطية الأكثرية في السنوات الحاسمة للثورة الألمانية ما بين 1919-1923.
من جهة أخرى، وبين عمال المصانع والمدن الكبرى، وعمال الفروع الصناعية الأكثر تقدما تكنولوجيا، فعبر التعطش للمعرفة، والاطلاع الأوسع على العمليات التقنية والعلمية، وفي مواجهة الوقاحة الكبرى في التمرس بمبدأ غلبة القوة سواء في المصنع أو في الدولة، يجد العمال أنفسهم أكثر قابلية لفهم الضرورة الموضوعية لدور المنظرين الثوريين ودور التنظيم الثوري.
تولد الاتجاهات العفوية للحركة العمالية غالبا، لكن ليس دائما، على هذه القاعدة الاجتماعية. كان هذا صحيحا خصوصا بالنسبة للنقابية-الفوضوية في البلدان اللاتينية قبل الحرب العالمية الأولى، كما بالنسبة للمناشفة التي كانت تتخطاها البلشفية كليا في المشاريع المدينية الكبرى، لكن التي كانت تجد دعامتها البروليتارية في المدن الصغيرة بالمناطق المنجمية والنفطية جنوبي روسيا[59]. إن كل المحاولات اليوم لإحياء هذه الايديولوجية "العمالوية"، في عصر الثورة الصناعية الثالثة، بحجة "الاستقلال العمالي" لن تفعل غير تشتيت قوى البروليتاريا المتقدمة، الثورية بالقوة، تماما كما كان يحصل في الماضي، وسوف تشجع المجموعات المتخلفة، نصف الحرفية والمبقرطة في الحركة العمالية، التي تتلقى تأثير الايديولوجيا البورجوازية.


--------------------------------------------------------------------------------

المثقفون العلميون، العلم الاجتماعي والوعي الطبقي البروليتاري


إن إعادة الادخال الكثيفة للعمل الذهني في سيرورة الإنتاج التي ولدتها الثورة الصناعية الثالثة، التي توقعها ماركس والتي تمد جذورها في الثورة الصناعية الثانية[60]، قد خلقت الشروط الاجتماعية لوعي جديد، لدى قسم كبير من المثقفين العلميين، لاستيلابهم الخاص بهم، الذي يخضعون له كأي كان في المجتمع الرأسمالي، لكن الذي كانوا قد توقفوا عن الشعور به حين تم استبعادهم من سيرورة الانتاج المباشر لفائض القيمة فتحولوا إلى مستهلكين مباشرين أو غير مباشرين لها. هذه التغرات تشكل القاعدة المادية ليس فقط للتمردات الطلابية في البلدان الامبريالية بل كذلك لتنامي عدد العلميين والتقنيين الذين أصبح ممكنا دمجهم في الحركة الثورية.
قبل الحرب العالمية الأولى، كانت مساهمة المثقفين في الحركة الاشتراكية الكلاسيكية، تتبع عموما خطا منحنيا متناقضا: وإذا كانت ضخمة في البدء فهي قد ضاقت كلما توطدت الحركة الجماهيرية للطبقة العاملة. عام 1910، وفيمحاجة غير مشهورة ضد ماكس أدلر، أبرز تروتسكي الخطوط العريضة لتحليل ماركسي من بدايات هذا التطور: التبعية الاجتماعية المتنامية للمثقفين حيال البرجوازية الكبرى والدولة البورجوازية؛ عجز الحركة العمالية، المنظمة في "مجتمع-مضاد"، عن مواجهة المجتمع البورجوازي بخيار معادل. كان تروتسكي يتنبأ بأن هذا الوضعسيتعدل على الأرجح بصورة سريعة في المرحللة الثورية، عشية الثورة البروليتارية[61].
إلاّ أنه كان بدأ يستخلص من مقدمات صحيحة خلاصات تكتيكية خاطئة، مهملا مثلا بعكس لينين إنبعات الحركة الطلابية حوالي 1908-1909 في عز إنتصار الثورة المضادة الذي كان يرى فيه لينين مؤشرا سابقا للصعود اللاحق للحركة الجماهيرية الثورية (التي لم تنفجر إلاّ عام)1912). توصل تروتسكي حتى إلى الإعتقاد أنه كان "خطأ" المثقفين الثوريين القادة الاشتراكية-الديموقراطية الروسية إذا كان يمكن أن تنشر داخلها "كل خصوصياتهم الاجتماعية: الروح العصبوية، الفردوية الثقافية، التيمية الايديولوجية"[62]. كان إذ ذاك يبخس، كما اعترف فيما بعد، تقدير الأهمية السياسية-الاجتماعية لصراع الأجنحة بين البلاشفة والمصفين الذي لم يكن يفعل غير تشكيل امتداد للصراع السابق بين البلاشفة والمناشفة. إن التاريخ قد كشف إن هذا الصراع لم يكن بنتاج "لعصبوية المثقفين" بل للفصل بين وعي اشتراكي ثوري وبورجوازية صغيرة إصلاحية[63].
إلاّ أنه صحيح أن مساهمة المثقفين الثوريين الروس في بناء الحزب الثوري للبروليتاريا الروسية تحققت انطلاقا من اختيار فردي على وجه الحصر ودون جذور اجتماعية عميقة. وقد انعكس ذلك(وكان سينعكس) بصورة حتمية، بعد أكتوبر، ضد الثورة البروليتارية لأن جمهور المثقفين التقنيين لم يكن قادرا على الانتقال إلى معسكر الثورة، لأنهم خرجوا في البدء جهاز الإنتاج الإقتصادي وجهاز التنظيم الاجتماعي، بحيث انتهى ذلك "بشراء" تعاونهم بأجور مرتفعة، وبتحولهم أخيرا إلى محركين لبقرطة هذه الثورة وانحطاطها.
بما أن مكانة المثقفين التقنيين في سيرورة الانتاج المادي -قبل كل شيء من هم الفئة (2) المشار إليها أعلاه- تعدلت بصورة حاسمة، وبما أن المثقفين التقنيين كانوا يصبحون تدريجيا جزءا لا يتجزأ من الطبقة المأجورة، فإن مساهمتهم في السيرورة الثورية وفي بناء مجتمع جديد هي البوم أكثر احتمالا بكثير مما في الماضي. سبق وأوضح فريدريك إنجلز دورهم التاريخي الحاسم: "لكي نتملك وسائل الانتاج ونستثمرها، نحتاج إلى جمهور من الناس المعدمين تقنيا.ليسوا في متناولنا (…) أتوقع أننا سنجند في الثماني إلى العشر سنوات القادمة، ما يكفي من التقنيين الشباب الأطباء ورجال القانون والمدرسين لنستطيع إدارة المعامل والملكيات الكبرى بواسطة رفاق في الحزب، لمصلحة الأمة. يصبح وصولنا إذ ذاك إلى السلطة جد طبيعي ويجري -نسبيا- دون صعوبات. إذ بالمقابل، وبسبب حرب، وصلنا باكرا إلى السلطة، يصبح هؤلاء التقنيون عند ذلك أعداءنا الرئيسيين، يخدعوننا ويخونوننا ما أن يتم لهم ذلك. سوف يتحتم علينا أن نستخدم ضدهم الإرهاب"[64]. كانت تلك نبوءة مأساوية عما حصل فعلا في روسيا فيما بعد.
ينبغي بالطبع أن نضيف أن البروليتاريا أصبحت خلال الثورة الصناعية الثالثة أمهر بكثير جدا وأنها تبرهن عن طاقات على إدارة المعامل أكبر بكثير مما في أيام إنجلز. لكن قدرة الرقابة السياسية-الاجتماعية للجماهير العريضة على "الاختصاصيين" (وهي قدرة كان ينسج لينين حولها الكثير من الأوهام عام 1918) تتطلب كذلك قدرات تقنية. إن الانعدام المتنامي بين المثقفين التقنيين والبروليتاريا الصناعية والمساهمة المتنامية للمثقفين الثوريين في الحزب الثوري لا يمكن إلاّ أن يسهلا سيرورة الرقابة تلك.
كلما ازدادت التناقضات بين التشريك الموضوعي للانتاج والعمل من جهة والتملك الفردي من جهة أخرى (أي أزمة علاقات الانتاج الرأسمالية) -ونحن الآن نجرب شكلا جديدا وحادا لهذا التناقض تعطينا صورة عنه أحداث 8 ماي 1968 في فرنسا والنضالات الجماهيرية في إيطاليا عام 1969- كلما حاولت الرأسمالية الجديدة أن تؤخر ساعة موتها عبر رفع مستوى استهلاك البروليتاريا، كلما أصبح العلم أكثر فأكثر قوة انتاج ثورية في وجهتين: إنه ليس فقط يُنتج، عبر الأتمتة والمراكمة المتنامية للسلع، أزمة على مستوى سيرورة الانتاج وتحقيق الرأسمال المرتكزة إلى إنتاج السلع المعمَّم، بل هو يُنمي كذلك الوعي الثوري. باختصار: إن دور كشف الزيف الذي تلعبه العلوم الاجتماعية النقدية يمكن أن يمارس وظيفة ثورية حقا في يقظة الوعي الطبقي، وذلك بالضبط لأن الحاجز الرئيسي الذي يمنع اليوم نمو وعي طبقي سياسي لدى الطبقة العاملة يمكن في واقع أنها خاضعة باستمرار لتأثيرات الإيديولوجيا والتزييفات البرجوازية الصغيرة والبرجوازية أكثر بكثير مما في بؤسها أو الضيق المفرط لأفقها الحيوي. إن هذا الدور يتطلب مع ذلك توسطا ملموسا مع البروليتاريا، لا يمكن أن يحققه إلاّ الشغيلة المتقدمون من جهة والمنظمة الثورية من جهة أخرى. وهذا يفترض مسبقا بالمقابل ألاّ يضع المثقفون العلميون أنفسهم، من موقع المازوشيين المتواضعين، في "خدمة الشعب" لدعم نضالاته على صعيد الأجور، بل أن يحملوا إلى الشغيلة النقديين المعارف العملية الضرورية التي تسمح لهم بفهم الاستغلال المقنَّع والسيطرة المستورة والنفاذ إليها بكل ما ينطويان عليه من معنى.


--------------------------------------------------------------------------------

التربية التاريخية وتكوّن الوعي الطبقي


إذا فهمنا أن نظرية التنظيم اللينينية تحاول إعطاء جواب على مسألة حالية الثورة والذات الثورية ندرك كذلك الصلة بين هذه النظرية ومهمة تربية تاريخية: هي مشكلة تحويل الوعي الطبقي الكامن، التريديونيوني إلى وعي طبقي حقيقي، سياسي وثوري. لا يمكن حل هذه المشكلة إلاّ على ضوء تفريع الطبقة العاملة المحدد أعلاه -جمهور الشغيلة، الشغيلة المتقدمين، الكوادر الثورية المنظمة. لبلوغ الوعي الطبقي، تحتاج كل شريحة إلى تربية خاصة بها، وتتبع سيرورة تكوينها الخاصة بها، وتشترط شكلا خاصا من الاتصال بالطبقة العاملة وبالانتاج النظري. يمكن تلخيص الدور التاريخي للحزب الثوري الطليعي الذي تصوره لينين بتمفصل صيغ التربية الثلاث تلك.
لا تتعلم الجماهير العريضة إلاّ عبر العمل: إن إرادة "تلقينها" الوعي الثوري عبر الدعاية تبقى دون فعالية ودون أفق. لكن وإن كانت الجماهير لا تتعلم إلاّ عبر العمل، فإنه ما كل عمل يسمح بالضرورة بتنمية جماعية لوعي طبقي ثوري. إن أعمالا تتناول أهدافا اقتصادية وسياسية تبغي تحقيقها مباشرة ويمكن بلوغها في إطار النظام الاجتماعي الرأسمالي لا تخلق وعيا طبقيا ثوريا. كان ذلك أحد الأوهام الكبرى للاشتراكيين-الديموقراطيين "المتفائلين" ومن بينهم إنجلس في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرنالعشرين الذين كانوا يعتقدون أن نجاحات جزئية في الحملات الانتخابية وفي الاضرابات قد تفتح طريقا واسعة لتطور وعي طبقي ثوري ولتدعيم روح القتال عمليافي توطيد وعي الذات وإرادة النضال لدى البروليتاريا[65] (كان الفوضويون مخطئين عندما يرفضون هذه النضالات الجزئية بصورة جازمة)، لكنها لم تكن تهيئ العمال للنضالات الثورية. إن افتقار الطبقة العاملة الألمانية للخبرة في النضالات الثورية من جهة، ووجود مثل هذه الخبرة لدى الطبقة العاملة الروسية، من جهة أخرى، كان الفارق الأكثر أهمية بين وعي الطبقتين عشية اندلاع الحرب العالمية الأولى. وقد ساهم هذا الفارق بشكل حاسم في النتائج المتباينة لثورتي 1917-1919 في كل من روسيا وألمانيا. وبما أن هدف الأعمال الجماهيرية عموما هو إرضاء الحاجات مطالب لم يعد بالإمكان دمجها بالنظام الاجتماعي الرأسمالي وتفجر دينامية ثورية تؤدي إلى امتحان القوة بين الطبقتين الحاسمتين في المجتمع. تلك هي استراتيجية الحلول الإنتقالية التي أدخلها لينين بصورة صريحة إلى المؤتمر الرابع في برنامج الأممية الشيوعية والتي استعادها تروتسكي كجزء أساسي في برنامج الأممية الرابعة[66].
لا يمكن تطوير الوعي الطبقي الثوري إلاّ إذا راكمت الجماهير تجاري نضال لا تقتصر على المطالب الجزئية الممكنة التحقيق في إطار النظام الرأسمالي. إن إدخال هذه المطالب في نضالات كبرى لا يمكن أن ينجح إلاّ بفظل الشغيلة المتقدمين الدين يوصلون، وينشرون ويجربون في المؤسسة، في النقابات، في مجموعة المؤسسات، أهدافا سياسية -لا تنبثق عفويا من التجربة اليومية- إلى أن تصبح الحالة ناضجة لتصير هذه المطالب ذاتها موضوع إضرابات كبرى وتظاهرات كبرى.
إذا كان الوعي الطبقي للجماهير العريضة لا يتكون إلاّ عبر تجارب نظالات ثورية موضوعيا، فهو يتشكل لدى الشغيلة المتقدمين عبر تجارب الحياة والعمل ونضال لا ينبغي عموما أن يكون بالضرورة ثوريا. إنهم يستخلصون الاستنتاجات الضرورية من الصراعات الإجتماعية اليومية؛ يعترفون بإلحاح حشد القوى، والعمل الجماعي والتنظيم. إن أنماط وأشكال تلك الأعمال وذاك التنظيم لا يمكن تحديدها إلاّ من حالة إلى حالة وفقا للشروط الموضوعية والتجارب الملموسة. هنا بالضبط يتدخل نشاطالطليعة الثورية الذي يسمح للشغيلة المتقدمين باجتياز العتبة التي تفصل تجربة قصور البنى الاجتماعية القائمة عن تحويلها. بديهي أنه لا يمكن للطليعة أن تلعب دور الحفاز catalyseur هذا، لا آليا ولا بالإستقلال عن الشروط الموضوعية، لكن شريطة أن تكون هي ذاتها على مستوى مهمتها، أن يكون عمل الاعداد النظري والدعاية ونشر المنشورات الذي تقوم به يتناسب في مضمونه مع حاجتت الشغيلة المتقدمين، ويتفق مع قوانين التربية السياسية(مع تجنب كل قصوية) ويكون في الوقت ذاته مرتبطا بالنشاط العملي والآفاق السياسية التي تسمح بتصديق الاستراتيجسة الثورية كما التنظيم الذي ينشرها.
لكن حتى ولو كان نشاط الطليعة الثورية يلبي هذه المتطلبات، فمن الممكن أن لايبلغ هدفه إذا كنا في فترة جزر في النضال الطبقي وتراجع في ثقة البروليتاريا بذاتها. أولئك الذين يتخيلون أنه يكفي الدفاع عن "تكتيك سليم " و"خط سليم" لكي تتشكل قوة ثورية وتنمو، كما بصورة عجائبية، حتى في فترة جزر في النضالات الطبقية، يفكرون في الواقع كعقلانيين بورجوازيين وليس وفقا للجدل المادي(ولنقل عابرين إن معظم الانقسامات داخل الحركة الثورية ناجم عن هذا الوهم). هذا لا يعني لذلك أن عمل الطليعة الثورية المنجز في ظروف موضوعية غير ملائمة ينبغي أن يبقى دون نجاح لدى الشغيلة المتقدمين. إنه طبعا لايلاقي نجاحا كبيرا مباشرا لكنه عمل إعدادي في غاية الاهمية، لا بل حاسم، بالنسبة للفترة التاريخية التي تشهد مواصلة النضال. إن الاعداد الصبور والممل الذي قدمته منظمة الطليعة، أحيانا خلال أعوام من العمل الصغير اليومي، يحقق ربائح غنية يوم يعود "القادة الطليعيون للطبقة"، الذين ما يزالون مترددين، فيأخذون على عاتقهم فجأة، إبان إضراب كبير، أو مظاهرة كبرى، حل الرقابة العمالية على الانتاج فيجعلون منه موضوع نضالهم[67]. من أجل القدرة على إقناع الشغيلة المتقدمين والمثقفين الجذريين لبلد ما بضرورة توسيع الصراعات الاجتماعية المهمة وبانتقالهم من مستوى الحلول الانتقالية، لا يكفي مع ذلك المنظمة الثورية الطليعية أن تنسخ باجتهاد قائمة المطالب كهذه لدى لينين وتروتسكي. ينبغي لها أكثر بكثير أن تعرف كيف تمارس تقنية مزدوجة للاقتراب من الواقع وفهمه. يجب أن تقوم من جهة بامتلاك تجارب النضالات الطبقية الثورية للبروليتاريا العالمية، ومن جهة أخرى أن تكون قادرة على تحليل الواقع الاجتماعي المعاصر- تحليل يسمح بتطبيق قراءة التاريخ على الوضع الحالي المعطى. وفقا لنظرية المعرفة الماركسية، إن الممارسة هي مقياس الامتلاك النظري الحقيقي للواقع الحاضر. وهذا يعني: أن ممارسة كهذه تفترض مسبقا تنظيما أمميا.
يستحيل أن نحدد بصورة علمية دقيقة تناقضات المجتمع الرأسمالي الجديد الحالي -في العالم أجمع أو في بلد واحد- أو التناقضات الملموسة لتطور الوعي الطبقي البروليتاري ونموذج الصراع الذي يمكن أن يؤدي إلى حالات ما قبل ثورية دون أن نمتلك التجربة التاريخية للحركة العمالية الأممية من ثورة 1848 إلى أيامنا هذه. إن التاريخ هو المختبر الوحيد للعلوم الاجتماعية. بدون معرفة دروس التاريخ، ليس ماركسي اليوم إلاّ "طالب طب" يرفض الدخول إلى غرفة التشريح.
ينبغي ضمن هذا السياق البقاء منتبهين إلى واقع أن كل محاولة لـ"تحرر" الحركة الثورية المنبعثة من "إنقسامات الماضي" تشهد على عدم فهم كلي للطبيعة الاجتماعية-التاريخية للتمايزات داخل الحركة العمالية الأممية. إذا أغضينا عن الجوانب الشخصية والعارضة التي ترافق بصورة حتمية تمايزات كهذه، يتضح أن المجادلات الكبرى للحركة العمالية الأممية منذ خلق الأممية الأولى -المجادلة بين الماركسية والفوضوية، تلك التي بين البلشفية والمنشفية، بين الممية والاشتراكية-الوطنية، بين أنصار ديكتاتورية البروليتاريا وأنصار الديموقراطية البورجوازية، بين التروتسكية والستالينية، بين الماوية والخروتشوفية- كانت تتناول المسائل الأساسية للثورة، لاستراتيجية وتكتيك النضال الثوري، التي تنبعث من طبيعة الرأسمالية بالذات، ومن طبيعة البروليتاريا والنضال البروليتاري. هذا هو السبب في كونها تبقى حالية طالما لم تجد مشكلة تحقيق مجتمع بلا طبقات حلها العملي. ما من "تكتيك" مهما يكن حذرا، ما من "انفتاح على المساومة" مهما يكن أريحيا، يمكن أن يمنع ألا تعود هذه المسائل مع الوقت فتنبعث، دائما من جديد، من الممارسة بالذات. إذا تجنبنا هذه المشكلات، تكون النتيجة الوحيدة هي التالية: بدل تحليلها وحلها عمليا وبصورة مخططة، يبقى هذا العمل غير منهجي، صدفويا ودون توجهات.
إن امتلاك المادة التاريخية للنظرية الماركسية ضروري بالتأكيد، لكن فقط من حيث هو خطوة أولى نحو تطوير وعي طبقي ثوري لدى الشغيلة المتقدمين والمثقفين المجذرين. ينبغي فوق ذلك القيام بتحليل منهجي للوقت الراهن، وإلاّ فلن تقدم النظرية الأدوات الكفيلة بكشف "الحلقات الضعيفة" في نمط الإنتاج وفي المجتمع الرأسمالي الجديد، وبصياغة الحلول الإنتقالية الملائمة (والتربية التي تناسبها). وحده دمج تحليل نقدي كلي للمجتمع المعاصر برسملة دروس تاريخ الحركة العمالية يمكنه أن يقدم الأدوات الملموسة الضرورية للسيطرة النظرية لمهام طليعة ثورية[68].
وفي غياب تجربة نضالات ثورية، لا تكتسب الجماهير العريضة وعيا طبقيا ثوريا؛ دون تدخل واع للشغيلة المتقدمين، يدخلون مطالب انتقالية في نضالات عمالية، لا تجارب ثورية للجماهير العريضة؛ دون نشر مطالب انتقالية على يد الطليعة الثورية، لا إمكانية لدى الشغيلة المتقدمين للتأثير في النضالات الجماهيرية باتجاه معاد للرأسمالية؛ دون برنامج ثوري، دون استيعاب لتاريخ الحركة العمالية، دون تطبيق دروسه على الحاضر ودون برهان عملي على قدرة الطليعة الثورية أن تلعب بنجاح دورا قياديا، على الأقل في بعض القطاعات وفي بعض الحالات، ليس ثمة إمكانية واحدة لإقناع الشغيلة المتقدمين بأهمية المنظمات الثورية، إذن ليس ثمة إمكانية واحدة (أو إمكانية غير كافية وحسب) تجعل الشغيلة المتقدمين يستوعبون الحلول الانتقالية التي تتناسب مع الوضع الموضوعي: نرى هنا كيف تتداخل العوامل المختلفة وراء تطور الوعي الطبقي وكيف تثبت حالية الفهم اللينيني للتنظيم. إن التمفصل بين سيرورةة تربية الجماهير غبر العمل، سيرورة تربية الشغيلة المتقدمين بالتجربة وسرورة تربية الكادرات الثورية عبر وساطة النظرية والممارسة الثوريتين يشكل وحدة سيرورة بناء الحزب الثوري. إن التعلم والتعليم هما هنا في تداخل متواصل، حتى لدى الكادرات الثورية التي ينبغي أن تصبح قادرة على التخلي عن الغطرسة النظرية.
هذا الفهم قائم على إدراك أن النظرية لا تبرهن على مبرر وجودها إلاّ في علاقتها بالنضال الطبقي الحقيقي وبقدرتها على تحويل الوعي الطبقي الثوري الكامن لدى الشرائح الواسعة للشغيلة إلى وعي طبقي ثوري حقا.
إن كلمة ماركس المشهورة: يحتاج المربي هو ذاته للتربية[69]، تصف بصورة دقيقة واقع الحال هذا. لا يعني هذا أنه حتى بدون تربية ثورية يكون ممكنا تحويل ثوري واع للمجتمع. يتكامل مفهوم ماركس في الواقع بالفكرة التالية: فقط "في النشاط الثوري (…) يتطابق تحويل الذات مع تحويل الظروف"[70]



--------------------------------------------------------------------------------

هوامش
[1] ) ليس هذا المفهوم ابتكاراً للينين. إنه ينضوي في تراث السنوات الممتدة ما بين سنة 1880 و1905 وهو تراث يبدأ مع إنجلز ويمر بكاوتسكي وصولا إلى المذهب الكلاسيكي للاشتراكية-الديموقراطية. لقد جاء في برنامج هاينفرلدر الذي أعدته الحركة الاشتراكية-الديموقراطية النمساوية ما بين 1888 و1889 ما يالي: "ينبغي للوعي الاشتراكي أن يُدخل من الخارج إلى النضال الطبقي البروليتاري، وهو لا يتطور من ذاته، بصورة عضوية، داخل هذا النضال". لقد نشر كاو تسكي عام 1901 في "نيوزايت" مقالا حول "الجامعيين البروليتاريين" (السنة التاسعة عشر، الجزء الثاني، 17 أبريل 1901) طور فيه الفكر ذاتها (ص 89)، بصورة ألهمت مباشرة كتاب لينين "ما العمل؟". إن مفهوم "حالية الثورة" لدى لينين، حدده جورج لوكاش في كتابه، التاريخ والوعي الطبقي"، ثم فيما بعد في دراسة عن لينين.
من المعروف أن ماركس لم يطور مفهوما متسقا للحزب. ولكن بينما كان أحيانا يرفض بشكل كامل فكرة التنظيم الطليعي، فقد صاغ أيضا مفهوما يقارب إلى حد بعيد مفهوم "بث وعي اشتراكي ثوري" في الطبقة العاملة. لاحظ هذا النص المقتطع من رسالة كتبها في أول يناير عام 1870، موجهة من المجلس التنفيذي للأممية الأولى إلى اللجنة الاتحادية لسويسرا الرومانية: "البريطانيون يمتلكون كل المتطلبات المادية الضرورية للثورة الاجتماعية، وما ينقصهم هو روح التصميم والعاطفة الثورية. وهذا أمر لا يستطيع علاجه إلاّ المجلس التنفيذي وحده، الذي يستطيع من خلال ذلك، أن يعجل في تطوير حركة ثورية فعلا في هذا البلد، ومن ثم في كل مكان. إن النجاحات العظيمة التي حققناها حتى الآن في هذا المجال، تشهد لها أبرز صحف الطبقة الحاكمة وأعقلها، هذا وناهيكم بمن يسمون الأعضاء الراديكاليين في مجلس العموم ومجلس اللوردات، الذين كانوا يتمتعون حتى فترة قصيرة فقط، بتأثير لا بأس به على زعماء العمال البريطانيين. إنهم يتهموننا بأننا سممنا، وكدنا نخنق الروح البريطانية للطبقة العاملة، وإننا قد دفعناها إلى الاشتراكية الثورية". (ماركس-إنجلس، الأعمال، برلين، المجلد 16، صفحة 386-387).

[2]) وينطبق هذا بشكل خاص على مقولة الممارسة الثورية الماركسية الحاسمة، التي تطورت في الإيديولوجية الألمانية التي لم تكن معروفة آنذاك.

[3]) بهذا المعنى يجب أن نفهم ملاحظة ماركس الشهيرة في بداية "18 برومير لويس بونابرت" حيث شدد على طابع النقد ذاتي للثورة البروليتارية واتجاهها للعودة إلى الأمور التي بدأ أنها سبق وتم إنجازها. في هذا الخصوص، يتكلم ماركس أيضا على البروليتاريا كواقعة تحت التنويم المغناطسي لـ"الضخامة اللامتناهية لأهدافها الخاصة بها".

[4]) يقول ماركس وإنجلز في البيان الشيوعي إن الشيوعيين "لا يدعون إلى مبادئ خاصة يريدون تكييف الحركة العمالية وفقا لها". إستبدل إنجلز، في الطبعة الانجلييزيو لعام 1888، النعت "خاصة" بـ"عصبوية". إنه يعبر بذلك عن كون الاشتراكية العلمية تحاول أن تجمل إلى الحركة العمالية مبادئ "خاصة"، لكن فقط المبادئ التي هي الناتج الموضوعي للمجرى العام للنضال الطبقي البروليتاري، أي للتاريخ المعاصر، وليس المبادئ التي تعود لـ"لهجة كنعان" الخاصة بهذه البدعة أو تلك، أعني لوجه عرضي صرف للنضال الطبقي البروليتاري.

[5] ) صاغ تروتسكي هذه الفكرة دون سوء تفاهم محتمل، وذلك في المدخل إلى أول طبعة روسية لكتابه "الثورة الدائمة". كذلك طور ماوتسي تونغ هذه الفكرة. نجد على النقيض من ذلك فكرة "نمط إنتاج اشتراكي"، فكرة تعتبر المرحلة الأولى الشيوعية شيئا ما ثابتاً، لا مرحلة انتقالية لتطور ثوري دائم من الرأسمالية نحو الاشتراكية.

[6] ) أنظر جملة لينين المشهورة التي ترى أنه ليس هناك "حالة اقتصادية لا مخرج منها" بالنسبة للبرجوازية الامبريالية.

[7] ) هكذا فإن الوعي الطبقي البرجوازي أو حتى العامي -نصف البروليتاري الوليد في القرنين السادس والسابع عشر عبر عن نفسه دون جذال وفقا لشكل ديني؛ وهو لم يجد طريق المادية الصريحة إلاّ في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، مع الانحطاط الكلي للنظام الإقطاعي الاستبدادي المطلق.

[8] ) إن مفهوم غرامشي حول "الهيمنة السياسية-الأخلاقية" التي ينبغي أن تحوزها طبقة مضطهدة (بفتح الهاء) داخل المجتمع قبل أن تتمكن من اكتساب السلطة السياسية، يعبر عن هذه الإمكانية بطريقة نفاذة بصورة خاصة. (أنظر "المادية التاريخية وفلسفة بنديتو كروشي"، ميلانو 1964 ص236، والـ"هوامش حول مكيافيلي"/ ميلانو 1964 ص29، 41 -50). ينتقد العديد من المنظرين الماركسيين مفهوم الهيمنة هذا أو يتحدثون عن نسبيته. أنظر مثلا ن. بولنتزاس، "السلطة السياسية والطبقات الاجتماعية" باريس 1968.

[9] ) عبّر ماركس وإنجلز على ذلك في الجملة التالية: "هذه الثورة، لم يجر إذن جعلها ضرورية لأنها الوسيلة الوحيدة لقلب الطبقة المسيطرة وحسب، إنما كذلك لأنه وحدها ثورة تسمح للطبقة التي تقلب طبقة أخرى أن تنكس كل عفن النظام القديم الذي يلتصق به فيما بعد، وبأن تصبح قادرة على تأسيس المجتمع على مرتكزات جديدة" (ماركس-إنجلز، الأيديولوجية الألمانية، المنشورات الاجتماعية، باريس 1968، ص68)
راجع أيضا الملاحظة التالية لماركس في عام 1850 ضد أقلية شبير في العصبة الشيوعية: "تضع الأقلية تصوراً دوغمائيا محل تصور نقدي، والمثالية محل المادية. فبالنسبة لها، ليست القوة الدفاعية للثورة سوى قوة الإرادة، وليس الظروف الفعلية. أمّا نحن من جهتنا فنقول للعمال: "يجب أن تجتازوا 15 و20 و50 سنة من الحروب الأهلية والنضالات الشعبية ليس لتغيير الظروف فحسب، بل لتغيير أنفسكم ليصبح بإمكانكم ممارسة السلطة السياسية". أمّا أنتم، فعلى عكس ذلك، تقولون: "إذا لم يكن بمقدورنا الاستيلاء على السلطة فوراً فحري بنا أن نذهب إلى فراشنا" (كارل ماركس، حول محاكمة الشيوعيين في كولن، برلين 1914، ص52-53)

[10] ) أنظر لينين: "ولا يلاحظ حكيمنا أننا نحتاج، بالضبط أثناء الثورة، إلى نتائج نضالنا النظري (ما قبل الثوري -أ.م) ضد النقاد، وذلك لكي نكافح بحزم مواقفهم العملية". (لينين: "ما العمل؟" الأعمال المختارة في ثلاثة أجزاء، موسكو 1968، الجزء الأول، ص248). جاءت الثورة الألمانية بعد ذلك بسبعة عشر عاما لتؤكد صحة هذا الحكم.

[11] ) في هذا الخصوص، يتحدث لينين في "ما العمل؟" عن العمال "الاشتراكيين الديموقراطيين" والعمال "الثوريين"، بالمقارنة مع العمال "الرجعيين".

[12] ) ن. بوخارين، نظرية المادية التاريخية، باريس 1978، ص317-319.
"إن الظروف الاقتصادية حولت أولاً شعب البلد إلى عمال. وقد خلقت سجادة الرأسمال لهذا الجمهور وضعا مشتركا ومصالح مشتركة، ولهذا فإن هذا الجمهور قد أصبح طبقة في مقابل رأس المال، إلاّ أنه لم يصبح بعد "طبقة لذاتها". وفي الصراع الذي لم نشهد سوى بعض مراحله، يصبح هذا الجمهور متحدا، وبشكل نفسه كطبقة لذاتها". (كارل ماركس، بؤس الفلسفة، نيويورك 1963، ص183).

[13] ) أنظر المقطع، الذي لم تنتقده إنجلز، من برنامج ارفورت للحزب الاشتراكي الألماني حيث يجري وصف البروليتاريين بأنهم الطبقة المفصولة عن وسائل إنتاجها، طبقة المأجورين المجبرين على بيع قوة عملهم، وحيث يتم وصف صراع الطبقات كصراع موضوعي بين المستغلين (بفتح الغين) والمستغلين في المجتمع الحديث (بالاستقلال عن درجة تنظيم العمال المأجورين أو وعيهم). نجد بعد ملاحظة هذه الواقعة الموضوعية الإضافة التالية في نهاية الجزء العام من البرنامج: "إنها مهمة الحزب الاشتراكي-الديموقراطي أن يجعل من النضال الطبقي العمالي نضالا واعيا وموحدا وأن يحدد له الهدف الذي تفرضه عليه طبيعته". نجد فيه كذلك التأكيد الصريح على أنه يمكن أن توجد "طبقات وصراعات طبقية في المجتمع الرأسمالي دون أن تكون الطبقة العاملة واعية أثناء نضالها لمصالحها الطبقية". يتكلم البرنامج في الفقرة الثامنة على "الشغيلة الواعية من كل البلدان"، يقترح إنجلز هنا تغييرا يشدد مرة أخرى على أنه يميز إطلاقا مفهومي الطبقة "الموضوعي" و"الذاتي": بدل كلمة "واعين" (…) أقول لكي يكون مفهوما بصورة شاملة وقابلا للترجمة للغات الأجنبية: "مع الشغيلة المتشبعين بوعي حالتهم الطبقية" أو شيئا مماثلا. (فريدريك إنجلز، "نقد برنامج الاشتراكيين-الديموقراطيين" في:ماركس إنجلز، المؤلفات، الجزء الثاني والعشرون الصفحة 232، برلين 1963).

[14] ) لينين: "طبعا إن هذا النجاح (في بناء الحزب -أ.م) ينجم بصورة أساسية عن واقع أن الطبقة العاملة، التي خلقت نخبتها الاشتراكية-الديموقراطية، تتميز عن كل الطبقات الأخرى في المجتمع الرأسمالي، لأسباب إقتصادية موضوعية، بقابليتها الرفيعة التنظيم. دون هذه القابلية، لما كانت منظمة الثوريين المحترفين سوى لعبة، سوى مغامرة… ("اثنا عشر سنة" في لينين، الأعمال الكاملة)

[15]) إن العديد من منتقدي المفهوم اللينيني للتنظيم، ومن بينهم بليخانوف ("مركزية أو بونابرتية"، في الإيسكرا، العدد 70، صيف 1904) يستندون إلى مقطع من "العائلة المقدسة" لإثبات العكس.
يقول المقطع: "إذا كان الكتاب الاشتراكيون ينسبون إلى البروليتاريا هذا الدور التاريخي، فليس ذلك إطلاقا لكونهم يعتبرون البروليتاريين "آلهة"، كما يتظاهر النقد بالاعتقاد. إن العكس هو الصحيح. يكتمل عمليا في البروليتاريا المتطورة كليا التجرد من كل إنسانية، حتى من "مظهر" الإنسانية. تتكثف في شروط حياة البروليتاريا كل شروط حياة المجتمع الحالي، في ما يمكن أن تنطوي عليه من أعلى درجات انعدام الإنسانية. إن الإنسان قد فقد ذاته في البروليتاريا، إلاّ أنه اكتسب في الوقت ذاته الوعي النظري لهذا الفقدان للذات؛ زد على ذلك أن البؤس الذي لم يعد بمقدوره تجنبه أو تزيينه، البؤس الذي ينفرض عليه حتما -كتعبير عملي عن "الضرورة"- إنما يضطره مباشرة للتمرد على انعدام إنسانية كهذا؛ هذا هو السبب في أن البروليتاريا تستطيع وينبغي بالضرورة أن تحرر ذاتها بذاتها. والحال أنها لا تتملك من إلغاء شروط حياتها الخاصة بها دون إلغاء كل شروط الحياة اللاإنسانية للمجتمع الحالي، التي تختصرها حالتها هي. ليس عبثا أنه سيمر بالمدرسة القاسية، لكن المقوية، لـ"العمل". لا يتعلق الأمر بمعرفة أي هدف "يتمثله" مؤقتا هذا أو ذاك من البروليتاريين، أو حتى البروليتاريا ككل. يتعلق الأمر بمعرفة ما هي البروليتاريا وماذا ستضطر تاريخيا أن تفعله، وفاقا لهذه الكينونة. إن هدفها وفعلها التاريخي مرسومان لها، بصورة ملموسة ولا رجعة فيها، في حالتها الخاصة بها، كما في كل تنظيم المجتمع البورجوازي الحالي. إنه لمن النافع أن نعرض هنا أن قسما كبيرا من البروليتاريا الإنجليزية والفرنسية أصبح واعيا مهمته التاريخية وهو يعمل دون كلل لرفع هذا الوعي أعلى درجات الصفاء. (ماركس-إنجلز، "العائلة المقدسة" المنشورات الاجتماعية، باريس، 1969، ص 47-48).
بالاستقلال عن واقع أن ماركس وإنجلز كانا شبه عاجزين عام 1844-45 عن إعطاء نظرية مادية عن الوعي الطبقي والتنظيم البروليتاري (يكفي مقارنة الجملة الأخيرة من الاستشهاد المذكور أعلاه الذي كتبه إنجلز بعد ذلك بأربعين عاما حول موضوع الطبقة العاملة الإنجليزية، كي نقتنع بذلك)، فإن هذا المقطع يقول بالتحديد نقيض ما يريد بليخانوف تقويله إياه. إنه يقول فقط إن الحالية الاجتماعية للبروليتاريا تهيئها للعمل الثوري الجذري (تخطي الملكية الخاصة) وإن الهدف الاشتراكي العام "مكتوب" في شروط حياتها. إنه لا يقول أن "شروط الحياة اللاإنسانية" تجعل هذه البروليتاريا قادرة بصورة غامضة مثالية على أن تستوعب "تلقائيا" كل العلوم الاجتماعية. أنظر بصدد مقال بليخانوف، صموئيل هـ. بارون، "بليخانوف" ستانفورد يونيفرستي برس، 1963، ص248-253.

[16] ) جرى شبه نسيان أن الحركة الاشتراكية الروسية تأسست كذلك في قسم كبير منها على يد طلاب ومثقفين، إن هؤلاء واجهتهم قبل ثلاث أرباع القرن تقريبا مشكلة مشابهة لتلك التي تواجه المثقفين اليوم. "مشابهة" لا تعني بالطبع "مماثلة". إذا جرت المقارنة مع ذلك العصر. فلا بد من الإشارة إلى أنه يوجد اليوم عائق إضافي يتمثل بالتنظيمات الإصلاحية التحريفية الجماهيرية للطبقة العاملة، واحتياطي إضافي هو التجربة التاريخية الضخمة التي راكمتها مذ ذاك الحركة الثورية. يتكلم لينين بوضوح في "ما العمل؟" عن قدرة المثقفين على امتلاك "معارف سياسية" أي الماركسية العلمية. ("ما العمل؟" ص168-169).

[17] ) أنظر بهذا الصدد: كـ. ماركس، "بؤس الفلسفة". نجد في كتاب أ. ب. تومسون "شغل الطبقة العاملة الإنكليزية، لندن" 1968، وصفا غنيا بالإمكانات للأشكال الوليدة للنقابات وصناديق مقاومة الشغيلة.
[18] ) إن الطابع المتقطع بالضرورة للأعمال الجماهيرية يجد تفسيره في الوضع الطبقي للبروليتاريا بالذات. طالما لم تتوصل إلى قلب نمط الإنتاج الرأسمالي، فإن كل عمل جماهيري هو محدود في الزمان نظرا للقدرات المالية والجسدية والفكرية للشغيلة على المقاومة في وجه خسارة الأجور. من البديهي أن قدرة المقاومة تلك لا يمكن أن تكون بلا حدود. إن إنكار ذلك يعني إنكار شروط وجود البروليتاريا بالذات.

[19] ) أنظر بعض الأمثلة من السنوات الأولى لنقابات المعادن الألمانية: 75 عاما من تاريخ نقابات صناعة التعدين، فرانكفورت 1966، ص72-78.

[20]) لا يمكن أن نعرض هنا بالتفصيل الفروق بين وضع ثوري ووضع ما قبل ثوري. يمكننا إذا اختصرنا أن نقول أنه في وضع ثوري يتجسد التهديد الذي يحيق بالنظام الإجتماعي على المستوى التنظيمي ، في إرساء أجهزة ازدواجية سلطة البروليتاريا (أي أجهزة كامنة لممارسة السلطة العمالية)، وذاتيا في المطالب الثورية المباشرة للجماهير، التي لم يعد يمكن للطبقة المسيطرة أن تستوعبها. بنما يتميز الوضع ما قبل الثوري باتساع نضالات جماهيرية إلى حد يهدد موضوعيا استمرار وجود النظام الاجتماعي.

[21] ) أنظر أبعد قليلا الجذور اللينينية لهذه الاستراتيجية.

[22] ) روزا لوكسمبورغ، "المسائل التنظيمية للاشتراكية الديموقراطية"، روزا لوكسمبورغ تتكلم (نيويورك: 1970) ص112-130

[23]) لينين "ما العمل؟" (ص165 من الكتاب المذكور)

[24]) بالنسبة للصلة المباشرة بين هذه الخطة والثورة، أنظر "ما العمل؟" (الكتاب المذكور سابقا ص 235). صحيح أننا نجد أيضا في "ما العمل؟" مقاييس تنظيمية للمركزة، لكنها محكومة حصرا بشروط السرية. فيما يخص الأحزاب الثورية "الشرعية"، يؤيد لينين "ديموقراطية" واسعة: إن الرقابة العامة (بالمعنى الدقيق للكلمة) على كل خطوة يخطوها عضو في الحزب في نشاطه السياسي، تخلق أوالية تعمل أوتوماتيكيا وتضمن ما يدعون في البيولوجيا "بقاء الأصلح". وبفضل هذا "الإنتخاب الطبيعي" الناشئ عن العلنية التامة، وبفضل مبدأ الانتخابي والرقابة العامة، يصبح كل عضو من الأعضاء في نهاية الأمر "في المكان الذي خلق له" ويقوم بالعمل الذي يتناسب أحسن التناسب مع قواه وكفاءاته ويتحمل بنفسه جميع تبعات أخطائه ويظهر أمام الجميع قدرته على فهم أخطائه وتجنبها". لينين، "ما العمل؟" الصفحة 219 من الكتاب المذكور) مارست روزا لوكسمبورغ من جهتها، ومن ضمن الحزب البولندي، الذي تميز أيضا بتغييرات تآمرية كبيرة، مارست (أو قبلت) مركزية لم تكن أقل تشددا من مركزية البلاشفة (مثلا، الصراع مع جناح راديك في وارسو والتهم الخطيرة التي وجهت إليه).

[25] ) روزا لوكسمبورغ تتكلم، مصدر سابق، ص118.
[26]) أنظر بهذا الصدد دافيد لاين، "جذور الشيوعية الروسية"، آسن، 1969. حاول لاين أن يحلل الوضع الاجتماعي لأعضاء الاشتراكية الديموقراطية الروسية والجناحين المنشفي والبلشفي إنطلاقا من المعطيات التجريبية ما بين علمي 1897 و1907 واستخلص من ذلك أنه كان بين البلاشفة أعضاء عمال ومناضلون نشطون أكثر مما كان بين المناشفة (ص50-51).

[27] ) "لم يعد ثمة شك في أن الاشتراكية الديموقراطية عموما تشهد داخلها تيارا ممركزا (بكسر الكاف) قويا. إن الاشتراكية-الديموقراطية النابعة من الأرض الاقتصادية الرأسمالية التي تتجه بصورة طبيعية إلى المركزة، والمكلفة عبر النضال مع الاطار السياسي للدول البرجوازية الكبرى، هي منذ البدء خصم نموذجي لكل تخصيصية وللفدرالية القومية. فهي بتربيتها على الدفاع عن المصالح الإجمالية للبروليتاريا كطبقة حيال المصالح الجزئية أو الخاصة للبروليتاريا في إطار دولة ما، تتمتع في كل مكان باتجاه الطبيعي نحو لحم كل المجموعة القومية والدينية والمهنية داخل الطبقة العاملة ضمن حزب واحد موحد" (روزا لكسومبورغ: organisation fragenص72.


[28] ) أنظر الأطروحة التي عرضها أندري غورز والتي تقول إنه لا يمكن بناء حزب جديد إلاّ من "أسفل إلى أعلى"، منذ أن "تغطي كل البلاد تقريبا" شبكة لجان القاعدة ومجموعات المصنع (لا تراديونيونيونن ولا بلاشفة" في "الأزمنة الحديثة" أكتوبر 1969). لم يفهم غورز أن أزمة الدولة البورجوازية تتجه انطلاقا من نقطة معينة نحو امتحان قوة حاسم. إذا لم تحدث مركزة المجموعات الثورية لا يؤدي ذلك إلاّ إلى تسهيل استعادة الرقابة على الحركة من قبل البيروقراطيين الإصلاحيين مما يقود إلى الانفجار السريع للطليعة التي في طور التكوين -كما حدث ذلك وبصورة جد سريعة في إيطاليا في الوقت الذي كان يكتب فيه غورز بالضبط مقاله.

[29] ) أنظر مقال روزا لوكسمبورغ من أجل تأسيس الحزب الشيوعي الألماني: "المؤتمر الأول للحزب" :لقد تشكلت الطليعة الثورية للبروليتاريا الألمانية في حزب سياسي مستقل" (ص301) "يتعلق الأمر مذ ذاك باستبدال الاستعداد النفسي الثوري لدى كل فرد بتصميم ثوري لا يلين، العفوي بالمنهجي" (ص301) [الميثاق التأسيسي للحزب الشيوعي في ألمانيا، فرنكفورت 1969].
أنظر كذلك ص301 المقتطف من الكراس الذي كتبته روزا لوكسمبورغ بعنوان "ماذا تريد عصبة سبارتاكوس؟": "ليست عصبة سبارتاكوس إلاّ الجزء الأكثر تصميما داخل البروليتاريا، الذي يعين لدى كل خطوة للجمهور الواسع للطبقة العاملة ما هي مهامها التاريخية والذي يدافع عند كل طور خاص من الثورة الاشتراكية النهائية وفي كل مسألة قومية عن مصالح الثورة البروليتارية العالمية".
نرى هنا أين تقع هذه النواة الأساسية البلشفية التي لم تكن روزا لوكسمبورغ قد فهمتها بعد عام 1904: في واقع أن "الجزء الأكثر تصميما داخل البروليتاريا" ينبغي أن يتم تنظيمه خارج "الجماهير الواسعة".
مما يؤكد مقولتنا بشكل كامل أنه حالما تبنت لوكسمبورغ مفهوم الحزب الطليعي، اتهمها هي أيضا الديموقراطيون الاشتراكيون (بل "يسار" الديموقراطيين الاشتراكيين) بأنها تريد تطبيق "الدكتاتورية على البروليتاريا".

[30] ) ليون تروتسكي، مهامنا السياسية، (باريس 1970) ص123-129

[31] ) المصدر نفسه، ص125.

[32] ) المصدر نفسه، ص186.

[33] ) ليون تروتسكي، "الطبقة والحزب والقيادة"، الأممية الرابعة، مجلد 1 عدد 7 (يناير 1940) ص193.

[34] ) كان يمكننا إيراد شواهد لا تحصى. أنظر في هذا المجال: لينين، الأعمال الكاملة، موسكو، المجلد 18 ص488-495، 1913؛ المجلد 23، ص262-266 و272-277، 1916-1917؛ الخ…

[35] ) إن العجز عن التركيز "العفوي" للطليعة الثورية على المستوى القومي تجلى بوضوح قبل كل شيء إبان الإضراب العام في فرنسا عام 1968.

[36] ) لكن هنا أيضا كانت مشاريع التنظيم الذاتي عاجزة في غياب طليعة ثورية منظمة كان بوسعها أن تقوم بالاعداد الضروري، إن تحيد بصورة مستديمة، لا بل إن تحطيم المركزة المحافظة للأجهزة النقابية، وأرباب العمل وجهاز الدولة.

[37] ) ليون تروتسكي، تاريخ الثورة الروسية (ان اربر، 1957، ص 14.

[38] ) أنظر أيضا جورج لوكاش، التاريخ والوعي الطبقي (برلين، 1923)، ص180-189.

[39] ) إن الدفاع عن المصالح السياسية والمادية لتلك البيروقراطيات هو هكذا الجوهر الاجتماعي الذي تقوم عليه البنية الفوقية لهذا الاستقلال وللحمته الايديولوجية.

[40] ) روزا لكسمبورغ تتكلم، المرجع مشار إليه، ص121.

[41] ) ليون تروتسكي، "نتائج وتوقعات"، "1905". منشورات مينوي، باريس 1969، ص463.

[42] ) أنظر مثلا مزحة كلارا زيتكين حول قيادة الحزب الاشتراكي الألماني (وافتقاد كاوتسكي للحزم) في الرسائل المتبادلة بصدد الخطر الذي مارسته تلك القيادة عام 1909 ضد ظهور "طريق السلطة" لكاوتسكي. فلنقارن ذلك بالاحترام الذي أبداه لينين تجاه كاوتسكي في السنة ذاتها.

[43] ) لينين: "إفلاس الأممية الثانية" :لينين زينوفييف: "ضد التيار"، ماسبيرو باريس 1970 ص181.

[44] ) المرجع نفسه ص 181.

[45] ) لينين: "مرض الشيوعية الطفولي" في "الأعمال المختارة في 3 أجزاء" المجلد الثالث موسكو 1968. أنظر كذلك المقطع المستشهد به أعلاه من كراس روزا لكسمبورغ، "ماذا تريد عصبة سبارتاكوس؟" هذه الاستنتاجات كانت أكثر بلورة من استنتاجات تروتسكي عام 1906 أو روزا لكسمبورغ عام 1904 اللذين كانا يغذيان أوهاما حول قدرة الجماهير على حل مسألة الاستيلاء على السلطة في انطلاقتها الثورية في حالة تنامي النزعة المحافظة لدى الجهاز الاشتراكي-الديموقراطي. في "الاضراب الجماهيري، الحزب والنقابة"، تلقي روزا لكسمبورغ المشكلة مؤقتا على الشرائح الأكثر حرمانا و"انعدام تنظيم" من البروليتاريا، التي لا تعرف الوعي إلاّ في الإضراب الجماهيري. حتى لينين، في كتاباته لما بعد عام 1914، نوه بهذه الجماهير ضد "الاريستوقراطية العمالية" مختزلا هكذا المسألة بصورة مقبولة. إن شغيلة المؤسسات الكبرى للفولاذ وتحويل المعادن مثلا، الذين كانوا جزءا من الشرائح غير المنظمة في البروليتاريا الألمانية، قد تجذروا أبعد عام 1918.

[46] ) ينبغي ألاّ نخلط هذه الأزمة العامة للرأسمالية، أي بداية عصر انحدار الرأسمالية بالأزمات المحتملة، أو بتعبير آخر الأزمات الاقتصادية الدورية التي حدثت سواء في مرحلة ازدهار الرأسمالية او في مرحلة انحدارها. يرى لينين أن العصر الذي فتحته الحرب العالمية هو "عصر الثورة الاجتماعية الذي يبدأ". ("ضد التيار" المرجع المذكور. أنظر أيضا "إفلاس الأممية الثالثة"، المرجع نفسه، ص 393).

[47] ) هنا يكمن بالضبط الضعف الأعم لهذه النظرية الجبرية: فهي تستنتج آليا من النزاعات إلى التشيء الخطر الاجتماعي، دون أن تدخل في التحليل توسط السلطة الاجتماعية الكامنة والامتيازات الاجتماعية. إن إضفاء الاستقلال على البوابين وأمناء الصندوق لا يعطيهم السلطة على البنوك أو المشاريع الكبرى -إذا لم يكن "سلطة"السرقة، وهو ما لا يمكن تحقيقه إلاّضمن بعض الشروط. ينبغي لتحديدهذه الشروط أن ينضاف إذن إلى تحليل الاتجاهات نحو إضفاء الاستقلال،لإعطائه مضمونه الاجتماعي.

[48] ) إن القواعد الشكلية التي تضمن سير المركزية الديموقراطية -حق كل الأعضاء بالاطلاع على الاختلافات في داخل القيادة؛ حق الأعضاء في الاطلاع على الاتجاهات المتعارضة قبل انتخاب القيادة وقبل المؤتمرات؛ حق المراجعة الدورية في لقرارات الأكثرية على ضوء التجارب التي خيض فيها، أي حق الأقليات في أن تحاول بصورة دورية الدفع باتجاه العودة عن قرارات الأكثرية؛ حقتنظيم في اتجاهات، الخ… هذه القواعد هي بالطبع جزء لا يتجزأ بصورة ملائمة في الأنظمة الجديدة للحزب التي أعدت قبل غشت 1968 للمؤتمر الرابع عشر للحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي. وقد كان رد فعل الناطقين بلسان المركزية البيروقراطية هو الغزو. إن العودة المقترحة إلى القواعد اللينينية للمركزية الديموقراطية كانت تشكل في الواقع إحدى "حجار العثرة" الرئيسية بالنسبة للبيروقراطية السوفياتية في تطور الوضع في تشيكوسلوفاكا.

[49] ) ليون تروتسكي: "تاريخ الثورة الروسية" المرجع المذكور الجزء الأول ص 187.

[50] ) تربى الحزب البلشفي من عام 1905 إلى عام 1917 ضمن منظور "دكتاتورية العمال والفلاحين"، أي بروح صيغة كانت ترى إمكان تحالف بين حزب عمالي وحزب فلاحي في إطار النظام الرأسمالي للزراعة والصناعة الروسية. ولقد احتفظ لينين بتلك الصيغة حتى نهاية عام 1916 تقريبا. لم يفهم حاى عام 1917 أن تروتسكي كان على حق حين رأى منذ عام 1905 أن المسألة الزراعية لا يمكن أن تحل إلاّ في سياق ديكتاتورية البروليتاريا وتشريك الاقتصاد الروسي. إن هارتموت مهرينغ -("مقدمة تاريخية" لكتاب تروتسكي: مهامنا السياسية، المصدر نفسه ص 17-18) كان مخطئا تماما حين ربط نظرية التنظيم اللينينية باستراتيجية المحددة بالنسبة للثورة الروسية، وفي شرحه لها على أساس أنها الدور "الثانوي"(؟) بالنسبة للطبقة العاملة في هذا الصراع، وفي كونه يعزو إلى نظرية الثورة الدائمة نظرية تروتسكي حول الامتداد التدريجي للوعي الطبقي إلى الطبقة العاملة ككل. وبمعزل عن حقيقة أن مهرينغ يقدم ملخصا غير وافٍ وغير دقيق لاستراتيجية لينين الثورية (كان لينين يؤكد "الاستقلال المطلق" للطبقة العاملة الروسية في مواجهة البرجوازية الروسية، وكان مؤيدا، بشكل كامل، لأن تلعب هذه "الطبقة دورا" قياديا في الثورة)، وبمعزل عن حقيقة أن روزا لكسمبورغ، كلينين، رفضت أي محاولة لانشاء دكتاتورية البروليتاريا في روسيا، على أساس أنها قبل اوانها. وعينت للصراع الثوري للبروليتاريا الروسية هدفا واحدا هو حمل المهمات التاريخية لثورة البرجوازية (مع أنها ناضلت في الوقت نفسه ضد نظرية التنظيم اللينينية)، فإنه يبدو واضحا لنا أن نظرية الثورة الدائمة بحد ذاتها (أي مهمة إقامة دكتاتورية البروليتاريا في بلد نام) لا يمكن تحقيقها بالحد الأدنى من الواقعية سوى من خلال التركيز الشديد على المهام الثورية بشكل عام. ولهذا فإنها لا تقودنا بعيدا عن نظرية التنظيم اللينينية، بل تقودنا إليها رأسا. راجع بهذا الخصوص أيضا المنشور الممتاز الذي كتبه دميس أفيناس، الاقتصاد والسياسة في فكر تروتسكيلآ (باريس، 1970).

[51] ) لينين، المؤلفات الكاملة (باريس، 1969) ص 74.
"لقد شدد كراس "ما العمل؟" تكرارا على كون منظمة الثوريين المحترفين التي يفترضها لا معنى لها إلاّ إذا تم ربطها بالطبقة الثورية حقا التي يتصاعد نضالها حتميا". ويؤكد لينين أن الوسيلة الوحيدة للتغلب على واقع التواجد الضئيل لتجمع صغير تأتي من خلال إمكانية "الحزب عبر عمله الجماهيري العلني الوصول إلى عناصر البروليتاريا". (المصدر نفسه ص 75).

[52] ) إن "الدور القائد للحزب" في النظام السوفياتي دور سياسي في نظر لينين وليس استبدالا. فليس دورره الحلول محل الأكثرية في السوفيات بل إقناعها بصحة السياسة الشيوعية. ولا ذكر "الدور القائد للحزب" في مؤلف لينين الأساسي حول السوفيتات، "الدولة والثورة". وفي كتابات لينين في زمن الفوضى الكبرى والحرب الأهلية التي عبّر فيها أحيانا عن آراء حادة حول مسائل تكتيكية ثمة حجج ضد "السوفيات بدون شيوعيين" ولكن لا حجج لصالح "الشيوعيين دون سوفيتات".

[53] ) إن جورج لوكاش ("التاريخ والوعي الطبقي" ص309…) يخطئ حين يعتقد أن بوسعه اكتشاف جذور "النظرية العفوية" لروزا لكسمبورغ في "وهم ثورة بروليتارية صرفة". حتى في البلدان التي أصبحت فيها أهمية البروليتاريا العددية والاجتماعية عظيمة إلى درجة أن مسألة "الحلفاء" تصبح مسألة جدّ ثانوية، فإن ضرورة وجود منظمة طليعية منفصلة تبقى قائمة في شروط "ثورة بروليتارية صرفة" بفعل التمايزات داخل البروليتاريا.

[54] ) أبلغ مثال على ذلك الماويون الصينيون حين يسمون جناحا من حزبهم (وأكثرية لجنتهم المركزية التي قادت الثورة الصينية إلى النصر) "ممثلي الخط الرأسمالي" لا بل بكل بساطة "رأسماليين". بالنسبة للبورديجيين الايطاليين، لا علاقة للإضراب العام في 14 يوليوز 1948 بنضال الطبقة البروليتارية لأن الشغيلة كانوا يضربون من أجل الدفاع عن القائد التحريفي توغلياتي. أنظر كذلك الصيغة الجميلة للعفوي دنيز أوتييه: "عندما لا تكون البروليتاريا ثورية، فهي غير موجودة، ولا يمكن أن يفعل الثوريون شيئا معها. ليسوا هم الذين يقدرون، وهم يلعبون دور مثقفي الشعب، ان يخلقوا الوضع التاريخي "الذي تصبح فيه البروليتاريا ما هي"، لكن تطور المجتمع الحديث بالذات" (مقدمة ليون تروتسكي، "تقرير من الوفد السيبيري" باريس 1970 ص12). يظهر هذا الاستشهاد كذلك كم العلاقة وثيقة بين الموضوعية والذاتوية القصويين. خلف القناع أقصى اليسار، نرى "العفويين" المشهورين كارل كاوتسكي وأوتا باور يوافقان كليا ويصفقان: وكيف نفسر أن البروليتاريا، رغم نضالات عملاقة، لم تنتصر؟ "إنها غلطة الظروف، إذ لم تكن الشروط ناضجة". نرى بوضوح إلى أي خلاصات مضحكة تؤدي هذه الجبرية القصوى وهذه الحتمية الآلية، حين علينا أن نفسر بـ"تطور المجتمع الحديث بالذات" لماذا في لحظة معينة اختارت أكثرية شغيلة المؤسسة أ. أو المدينة ب. ديكتاتورة البروليتاريا ووقفت ضد الاصلاحية، بينما لم يفعل ذلك شغيلة المئسسة ج. أو المدينة د. مع ذلك فإن نجاح الثورة أو فشلها يتوقف على هذه المسألة، طالما "تطور المجتمع الحديث بالذات" لا يسقط كثمرة ناضجة كل المؤسسات وكل المدن في حضن الثورة، فعلى هؤلاء السادة "مثقفي الشعب" أن يمتنعوا عن استعمال العنف مع "التطور" وأن يكسبوا إلى جانبهم شغيلة د…

[55] ) إن بانكوك وبورديغا هما مثلان جيدان على هؤلاء المثقفين التأمليين الصرفين الذين كتبوا مساء، وعلى امتداد عشرات السنين، كتاباتهم الثورية، مشتغلين في النهار فلكيين أو مهندسي جسور. إنهما مثلان مدهشان على التأثير المدمر الذي تمارسه قسمة العمل على قدرة حتى المثقفين الأكثر نفاذ ذهن على إنتاج نظرية مناسبة عن مجمل الواقع الاجتماعي.

[56] ) هذا المأخذ على لينين واللينينيين سبق وطرحه الاقتصاديون الروس، ويطرحه اليوم العفويون.

[57] ) أنظر في هذا الصدد ن. بولنتزاس: "السلطة السياسية والطبقات الاجتماعية".

[58] ) إنه لمثير للاهتمام أن نلاحظ أنه كان هناك مثقفون أكثر، وحتى مثقفون ثوريون محترفون، لدى المناشفة مما لدى البلاشفة بعد انشقاق الاشتراكية-الديموقراطية الروسية. أنظر دافيد لاين، المرجع المذكور سابقا ص47، 50.

[59] ) دافيد لاين (ص)12-213) يشير وهو مصيب إلى تفوق البلاشفة في المدن المطبوعة بالمشاريع الكبرى وبطبقة عاملة قديمة مثبتة.

[60] ) إن هانس جورغن كراهل، في عمله الأخير: (Zum allgemeinen Verhaltnis von wissenschaft licher -intelligenz und proletrarischen Klassenbe Wusstsein SDS - info N°26-27 (Des, 22, 1969)
قد أعطى "الـ"استشهاد بماركس حول هذا الموضوع، الذي ننقله هنا (وهو جزء من المقطع الذي لم يرد في النص النهائي من الفصل الأول في المجلد الأول من كتاب "الرأسمال"، "الفصل السادس: نتائج عملية الانتاج غير المباشرة" الذي نشر للمرة الأولى عام 1933 في "أرشيفات ماركس-انجلز" باللغة الروسية): "إن الموظف الحقيقي في مجمل سيرورة العمل، مع تطور تصنيف حقيقي للعمل في ظل الرأسمال (أو في نمط الانتاج الرأسمالي بصورة خاصة) ليس العامل المعزول، بل يصبح أكثر فأكثر طاقة عمل مركبة اجتماعيا، وأن طاقات العمل المختلفة التي تتزاحم وتكون الآلة الانتاجية ككل، تساهم بطرق مختلفة في العملية المباشرة لانتاج السلع أو بالأحرى المنتجات -بحيث يشتغل هذا أكثر بيديه، وذلك أكثر فأكثرطاقة عمل مركبة اجتماعيا، وأن طاقات العمل المختلفة التي تتزاحم وتكون الآلة الانتاجية ككل، تساهم بطرق مختلفة في العملية المباشرة لانتاج السلع أو بالأحرى المنتجات -بحيث يشتغل هذا أكثر بيديه، وذلك أكثر برأسه، هذا كمدير أعمال، أو كمهندس، والآخر كشغيل يدوي مباشر أو كعامل يدوي بسيط. نتييجة لذلك، فإن وظائف طاقة العمل تتجه أكثر فأكثر ليصنفها المفهوم المباشر للعمل المنتج، فيما سيصنف من يملكون هذه الطاقة ضمن مفهوم الشغيلة المنتجين، الذين يستغلهم الرأسمال مباشرة ويخضعون لعملياته الاستهلاكية والانتاجية". (كارل ماركس "النتائجResullate " فرانكفورت 1969 ص66).

[61] ) ليون تروتسكي، الانتليجنسيا والاشتراكية، (لندن، 1966).

[62] ) ليون تروتسكي، Die Entwicklunggsdengen der russischen Sozia-democrtie, in Die Neue Zeit,، ج18، رقم 2 (1910)، ص862.

[63] ) سبق لتروتسكي في كتابه السجالي الأول ضد لينين (مهامنا السياسية ص68-71) أن بذل جهدا لتصوير مجمل سجال لينين "ما العمل؟" على أنه مجرد نقاش بين مثقفين أو في أحسن الأحوال محاولة لكسب أفضل قوى المثقفين البرجوازيين الصغار إلى الاشتراكية الديموقراطية الثورية. فلم يفهم تروتسكي أن الأمر كان يتعلق بالتصدي للنفوذ البرجوازي الصغير التحريفي على الطبقة العاملة. وقد تميز سجاله ضد لينين منذ عام 1903 حتى عام 1914 بسوء تقدير لنتائج الانتهازية الكارثية بالنسبة للطبقة العاملة والحركة العمالية ولم يتخط نهائيا سوء التقدير هذا إلاّ في عام 1917.

[64] ) أوغيست بيبل: "مراسلات مع فريدرك إنجلس"، 1965، ص465.

[65] ) لم تظهر إشكالية الثورة في ردة الفعل الضرورية على إلغاء محتمل لحق الإنتخاب العام وفي حالة الحرب. حاولت روزا لكسومبورغ بالمقابل بنظريتها حول الاضراب الجماهيري أن تطور أشكال نضال للبروليتاريا تقطع مع النضالات الانتخابية والأجورية وتستند إلى ثورة 1905 الروسية.
وحتى اليوم يحاول ليليو باسو في تحليل مثير للاهتمام عن ديالكتيت الثورة لدى روزا لكسومبورغ (فرانكفورت 1969، ص82-83) أن يعرض، كخلاصة لاستراتيجية لوكسومبورغ، حلا وسطيا معتدلا بين النضالات اليومية والأهداف النهائية، ينحصر في جعل تناقضات التطور الموضوعي أكثر حدة. ولا داع لأن نشرح بالتفصيل هنا حقيقة أن المعنى الأعمق لاستراتيجية الاضرابات الجماهيرية قد فاته.

[66] ) أنظر نقاش برنامج المؤتمر الرابع للأممية الشيوعية (صدر عن الأممية الشيوعية عام 1923، ص404-448) الذي ينتهي بالتصريح التالي للوفد الروسي، الذي وقعه لينين، تروتسكي، زينوفييف، راديك وبوخارين: "باعتبار أن الجدال لمعرفة ما يجب أن تكون صياغة المطالب الانتقالية وفي أي قسم من البرنامج ينبغي لإدخالها ولد بصورة خاطئة تماما معارضة مبدئية مزعومة، فإن الوفد الروسي يتبث بالإجماع أن إدخال المطالب الانتقالية في برنامج الفروع القومية كما صياغتها العامة وتبريرها النظري في القسم العام من البرنامج، لا يمكن اعتباره ضربا من الانتهازية (المرجع المذكور ص 542). يبدو أن تروتسكي تكهن بهذه الاستراتيجية منذ غام 1904 عندما كتب " يقف الحزب عند المستوى المعين لتقصي الوعي البروليتاري… ويحاول أن ينزرع في البروليتاريا عن طريق رفع هذا المستوى".

[67] ) إن جورج لوكاش ("لينين" EDI، باريس 1965) على حق عندما يكتب أن الحزب االثوري اللينيني لا يمكن أن "يقوم" بأي ثورة، لكن يمكنه مع ذلك أن يسرّع الاتجاهات التي تؤدي إليها. إن الحزب، مفهوما بهذه الصورة، هو منتج الثورة وفي آن معا ناتجها، وهذا يعني تخطي التعارض بين كاوتسكي ("ينبغي للحزب الجديد أن يهيئ الثورة") وروزا لكسمبورغ ("يخلق الحزب الجديد عبر أعمال جماهيرية ثورية").

[68] ) إن هانز جورغن كراهل (المرجع المذكور ص—) على حق تماما حين يأخذ على لوكاش "مثلنته" لمفهوم الوعي الطبقي الكلي البروليتاري ويفضح عجزه على الربط بين الممارسة النظرية الذي يصبح عجزا عن نقل النظرية الثورية إلى جمهور الشغيلة. إلاّ أنه شكل نواة هذا الفهم. لكن بما أنه يقيم فصلا واضحا بين "المصير المستلب للحياة" وسيرورة الانتاج المستلَب (بفتح اللام)، يسقط في شاكلة ماركوز، في خطر اعتبار "استيلاب المستهلكين" على أنه المشكلة المركزية، وبالتالي رؤية عائق أمام تطور الوعي الطبقي البروليتاري في "الكفاية المفرطة في التحضير للحاجات" التي يسمح بها النظام الرأسمالي لجمهور الشغيلة. إلاّ أن عقب أخيل نمط الانتاج الرأسمالي يبقى كما في السابق دائرة الاستلاب في سيرورة الانتاج، هنا، وهنا فقط، يمكن لانتفاضة ثورية حقا أن يكون لها تأثيرها، كما برهنت أحداث فرنسا وإيطاليا. نعثر هكذا من جديد على التمفصل في نقل الوعي الطبقي الذي وصفناه ونحن هنا لا نريد أن نخلط -كما فعل كراهل (وكما فعل لينين وتروتسكي)- بين المفهوم الساذج للـ"حزب الذي يعرف كل شيء" وإعادة النظرية الثورية، المعتبرة كسيرورة إنتاج نوعي ودائم.

[69] ) كارل ماركس: "موضوعات عن فيورباخ". الموضوعة الثالثة: "إن المذهب المادي (…) ينسى أن الناس هم بالتحديد الذين يحولون الظروف وأن المربي يحتاج هو ذاته إلى تربية". ("الأيديولوجيا الألمانية" المنشورات الاجتماعية، باريس 1968، ص32)

[70] ) ماركس-إنجلز: "الأيديولوجيا الألمانية" المرجع المذكور.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. القناة 12 الإسرائيلية: اجتماع أمني تشهده وزارة الدفاع حاليا


.. القسام تعلن تفجير فتحتي نفقين في قوات الهندسة الإسرائيلية




.. وكالة إيرانية: الدفاع الجوي أسقط ثلاث مسيرات صغيرة في أجواء


.. لقطات درون تظهر أدخنة متصادة من غابات موريلوس بعد اشتعال الن




.. موقع Flightradar24 يظهر تحويل الطائرات لمسارها بعيداً عن إير