الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بين شفرات الحافلة

صباح هرمز الشاني

2019 / 5 / 3
الادب والفن


شفرات الحافلة

صباح هرمز الشاني

تتكون من تسع شخصيات وفصلين، وهي من تأليف الكاتب البلغاري ستانيسلاف ستراتييف؛ وله الى جانب هذه المسرحية مسرحيتان أخريان؛ هما (حمام روماني) و(سترة من المخملين).
تدور حوادث هذه المسرحية في حافلة تقل تسعة أفراد لتتوجه بهم الى مركز المدينة، إلآ أن سائقها يقودها بأتجاه آخر، بحثا عن فرن بيع الخبز، مما يؤدي الى قلق ركابها عن تأخرهم عن المواعيد التي تلزمهم بالوصول إليها في وقتها المحدد، كالعازف الذي في إنتظاره أعضاء أوركسترا البالغ عددهم مئة وسبعة عشر رجلا لتسجيل سمفونية كاملة، والمرأة التي ينتظرها طفلان، والقروي الذي أضاع قريته من كثرة الصعود والنزول في نفس الحافلة وخشيته من تعفن الخبز المتكدس في الكيس. ولايتوقف قلقهم عند هذا الحد وإنما يزداد أكثر للسرعة التي يقودها سائق الحافلة التي تواجهها شاحنة كبيرة وبين فينة وأخرى تكاد تصطدم بها.
إذا أردنا أن نفهم هذه المسرحية فإن أفضل وسيلة هي فك الشفرات التي تأتي في الجمل والعبارات التي يصف فيها المؤلف الحافلة والزمن الذي يجري فيه الحدث، ذلك أن المؤلف يشتغل على الرمز ليس على مستوى الحدث وهو المكان (الحافلة) والوقت الذي يقع فيه، وإنما، بالأضافة الى ذلك، على رسم معالم وأبعاد شخصياتها، واصفا الحافلة بأنها بالية، عتيقة، مهترئة، وإذا كانت الحافلة رمزا للمكان، أي لما هو أوسع وأشمل من الحافلة أمتدادا للبلد الذي يعيش فيه المواطن، والحال هذا فإن الحافلة ما هي إلآ رمزا لهذا البلد المقصود منه بلغاريا، بلد عتيق ومتهريء وبال. وبقدر ما يرمز هذا الوصف الى الأطار العام للبلد أو الداخلي له، بنفس القدر يرمز الى وقوع الحدث في فصل الخريف وقد أغسق الليل وتهب ريح تحمل معها أوراق (البلد)، والأوصاف الأربعة الخريف والليل والريح والصفراء، مثلها مثل الأوصاف الثلاثة الآنف الذكر تشير الى الجانب المظلم لهذا البلد.
وهذا ما ينطبق على معظم شخصيات المسرحية، حيث يسودها نفس الجانب كالذكي والقروي والعاشقين والعازف واللامسؤول والغبي، من خلال ارتداء الذكي ثيابا أنيقة حاملا بيده حقيبة جلدية منتفخة ذات قفلين فاخرين، موحيا هذا الوصف الى ثراء الذكي من جهة ومن جهة أخرى الى خشيته من سرقة ما بداخلها، ولعل هذا ما يتضح أكثر بأنتقاله ثلاث مرات بين مقاعد الجلوس بالأضافة الى تأمله فترة من الوقت خلال نوافذ الحافلة، والقروي عبر جر الكيس المليء بالخبز الى المقعد الخلفي واضعا أياه بالقرب منه في إشارة الى خوفه هو الآخر كالذكي، أن يسرق الخبز منه، وبين فينة وأخرى يتفحص ما حوله، والعاشقان والعازف بعبثيتهم ونرجسيتهم وعدم إهتمامهم بما يدور حولهم، لعدم إتساع باب الحافلة للعاشقين وهما يحاولان أن يصعدا متعانقين معا، وتأمل العازف للحافلة بنظرة عنجهية لشعوره بتميزه عن الموجودين فيها من ناحية وعدم رضاه من أن تقله من ناحية أخرى، واللامسؤول بظهور التعب عليه وإرتدائه ثيابا متجعدة قليلا ومهملة وحذاء أغبر، ما يوحي الى أنه من أبناء الطبقات الفقيرة للمجتمع البلغاري، وهو يحمل شبكة فيها رغيفان من الخبز وسطل لبن صغير، ومسك الغبي بيده رغيف خبز وحقيبة جلدية رثة كما لو كان واحدا من متسولي المدينة التي تزدحم بهم.
تضم الحافلة إذن كل شرائح المجتمع، إبتداء من الطبقة البورجوازية المتمثلة بشخصية الذكي الأنتهازية، ومرورا بشخصيتي العاشقين الرامزين الى جيل الفترة التي كتبت فيها المسرحية أبان العهد الأشتراكي، واللامسؤول والغبي الى الطبقة الكادحة، والعازف الى فئة المثقفين، والقروي الى الفلاح الأنتهازي، والسائق الى السلطة أو الدكتاتورية البروليتاريا، بأعتباره عاملا فنيا يتعامل مع الآلة ويقود المجتمع. ولا تعبر أسماء الشخصيات عن سلوكها وتصرفها (أفعالها) كالذكي والغبي مثلا، إذ يبدو الغبي أحيانا أكثر ذكاء من الذكي والعازف، ويستمر ذكاء الغبي الى أن يتم ضربه من قبل السائق ليجعله يصل الى قناعة مفادها أن على المرء بعد أن يتلقى ضربة على رأسه مرة أن يفكر كثيرا، والذكي أكثر غباء من الكل لأفتضاح زيف نصائحه الموجهة الى الركاب من دون أن يبادر هو شخصيا الى فعل شيء.
وهكذا بالنسبة للامسؤول أيضا، بدليل أن الغبي يفطن قبل كل الركاب الى مسار غير الصحيح للحافلة وهو يقول للعازف: ألا تشعر بأننا نسير في شارع آخر؟ ومخاطبة الذكي بهذه الجملة: أنا لست مشحونا بالشكوك ولكن ببساطة أنظر فأجد أن هذا ليس الشارع الذي تسير فيه الحافلات، وكون الذكي أكثرهم غباء من خلال قول القروي له: وأنت هل تبالي بشيء؟ وهل تبالي بأي شخص آخر؟ لقد سمعتك طوال الوقت كيف لم تقل مرة واحدة: (هيا أنا سأفعل هذا)، وأرتياب اللامسؤول بتهريب العازف للأطفال بأخفائهم داخل آلة العزف الكبيرة:

- أنهم يخفون الأطفال في صناديق تشبه هذه. وكل جملة من الجمل التي يطلقها الغبي واللامسؤول والفقير وحتى العازف والذكي تهدف الى تعرية القمع الذي يمارسه النظام الأشتراكي ضد شعبه، كإشارة الغبي الى ضربه من قبل السائق، والمقصود منه السلطة التي تقسو في ضرب المواطن، حدا يجعله لا يفكر ثانية في أن يتدخل في كيفية قيادتها للنظام، وقول القروي للذكي بعدم مبالاته بأي شيء وأي شخص ما، إيماءة الى تربية هذا النظام الى نوع آخر من الانتهازيين الذين لا يدافعون إلآ عن مصالحهم الخاصة ولكن دون أن يزجوا أنفسهم بشكل مباشر في أتون المعركة، وأرتياب اللامسؤول بوجود أطفال داخل آلة عزفه، يوحي الى أن الجرائم مستشرية في الدول الأشتراكية، حالها حال الدول الرأسمالية، بالأضافة الى مخاطبة العازف للذكي بجملة (الظلام في الشارع، حيث نسير) مؤيدا الأخير ومؤكدا بعبارة (هذا ما نراه كلنا) وهما إشارتان واضحتان الى الظلم القائم في البلد .
ومثلما يعمل النظام على قمع المواطن بالمقابل، يسعى هذا المواطن التحايل عليه، ويتضح هذا الدور المتبادل بينهما القائم على عدم الثقة من أول جملة تأتي في المسرحية على لسان الذكي وهو يقول للقروي: كان عليك أن تثقب بطاقة ثانية من أجل الكيس.
وليس القروي فقط من يتحايل على الدولة (الفلاح) وإنما العازف أيضا (الفنان المثقف) من خلال عدم تثقيب بطاقة لآلة عزفه، وإذا كان القروي قد نبه من لدن الذكي وعمل بموجبها فلا يرد أحد من الركاب على سؤال القروي فيما إذا كانت آلة العازف التي لم تثقب من أجلها بطاقة تعد من الأمتعة أم لا، ليس هذا فحسب وإنما أيضا يلتفت العازف الماهر الى القروي؛ يتأمله بصمت وإزدراء.
ولكن أغرب أنواع تحايل المواطن على النظام ردا على قوانينه الجائرة، يتمثل في شخصيتي الرجل والمرأة اللذين أتفقا على الطلاق ليظلا محتفظين ببيتهما، ذلك أن القوانين في بلغاريا لا تسمح للعائلة بأمتلاك أكثر من بيت، وخوفا من إفتضاح الحيلة التي يلعبانها، يجلسان بحذر على مقعد واحد لئلا يرتاب فيهما أحد الركاب ويبلغ عن علاقتهما الزوجية المستمرة وعدم إنفصالهما الواحد عن الآخر.
المرأة: (هامسة) مهما يكن الأمر ينبغي ألآ تجلس الى جانبي لأن ذلك الذي يجلس على المقعد الثاني يرتاب بي.
الرجل: (هامسا) كأنني رأيته سابقا في مكان ما.
المرأة: إن كان من المعهد فقد أحترقنا.
ولكي يقترن طلاقهما بمصداقية فقد أضطرت المرأة أن تلفق أبشع التهم بحق زوجها، لقد زعمت أنه يضرب طفلهما بخرطوم الغسالة ونام مع أطفال مدرسة الباليه ويتعاطى المسكرات، وليثبت مزاعم زوجته فقد أصبح مدمنا لتفوح رائحة الخمر منه، وتأتيه الشجاعة ليتشاجر ويكسر، وبالمقابل فقد لفق الزوج تهما ضد زوجته، كونها إمرأة سوقية وسممت والدها، وعند هذا الحد تبدأ الخلافات بين الزوجين، ولا تسمح الزوجة أن يتهمها زوجها بقتل أبيها.
وفي الوقت الذي يدعو فيه الزوج زوجته بعدم مغازلة أحد أمامه، وتؤكد الزوجة على ما لفقه الزوج عنها بأنها سوقية، لا يتورع الزوج أن ينعت ممارسة زوجته للمغازلات بمتعة كبيرة، كما لاتتورع هي الأخرى أن تطرح عليه في كيفية ممارستها، ذلك أن بعكس ذلك ستكون مقرفة ويكتشف أمرهما، ليرد الزوج عليها : قد يكون هذا هو وجهك الحقيقي .
. . . (المرأة تحدق إليه، تعض شفتيها، تخفي عينيها، وتجهش بالبكاء. الرجل يقف عابسا وينظر الى أمام . الحافلة تسير بأنتظام . داخل الحافلة هدوء فترة صمت).
ما عدا العازف والعاشقين، فالكل يعير أذنا صاغية بعدم سير الحافلة في طريقها الصحيح، وأكثرهم الغبي لأنتمائه الى الطبقة الكادحة، وهنا تبرز وجه المفارقة من حيث عدم إستفادة الغبي من التغير الحاصل إن لم يكن قد جاء بالضد من مصلحته تماما، مع أنه بحسب إدعاءات منظري الفكر الاشتراكي، أن التغيير من الرأسمالية الى الأشتراكية لا يأتي إلآ لمصلحة العامل وهو المستفيد الأول والأخير منه.
ويتضح أهتمام الغبي بعدم سير الحافلة بأتجاهها الصحيح من خلال إثارة هذا الخطأ وسعيه اقناع الركاب به الذين لا يلتفتون إليه كثيرا سيما العازف واللامسؤول والذكي، الأول تحت ذريعة سكنه بشكل مؤقت في الحي الذي مرت به الحافلة والثاني لأستيائه من إلحاح الغبي في طرح أسئلة كثيرة والثالث لأرتيابه من قدرة الغبي على الرؤية في العتمة، لترمز كل إجابة من الأجابات الثلاث الى معنى معين، فأجابة العازف ترمز الى ضعف أنتمائه الى الوطن، واللامسؤول سيان عنده إن كانت الحافلة تسير في الطريق الخاطيء أو الصحيح، أي لافرق سواء سارت في الطريق الأشتراكي أو الرأسمالي، والذكي الى الأعتداد بنفسه من جهة والتقليل من قدرة الآخرين على الأكتشاف والتميز.
يثير الغبي خطأ مسار الحافلة أكثر من عشر مرات الى أن يضرب من قبل السائق، في أول ألأمر مع العازف في محاولة منه أستشعاره بأنهم يسيرون في شارع آخر، والثاني مع العازف أيضا مؤكدا بأنهم لا يسيرون على الطريق المحدد لسير الحافلة، والثالث بنفيه وجود طاحونة على خط سير هذه الحافلة لأنه منذ عشر سنوات يركب هذه الحافلة، وفي ثاني الأمر مع الذكي وهو يسأل الركاب في المرة الأولى عن مكان ذهاب الحافلة، وفي المرة الثانية مكررا نفس السؤال، والثالثة ردا على إرتياب الذكي برؤيته في العتمة وهو يقول له : ليست الى درجة أنك لا تستطيع أن تميز الشوارع ،وفي ثالث الأمر مع اللامسؤول، مرة في عدم توقف الحافلة في أي موقف، ومرة ثانية بعدم إتفاقه مع اللا مسؤول بأختصار السائق للطريق، والثالثة لأهتمامه بشؤونه لذلك يريدهم أن يهتموا هم أيضا بشؤونهم، والأمر الرابع مع المرأة وهو يشكو لها تعبه وعدم إستطاعته تحمل إرتجاج الحافلة .
ولو أعدنا قراءة الأسئلة والأجوبة التي أ ثارها الغبي في خطأ سير الحافلة لوجدنا أنه في كل سؤال من أسئلته وجواب من أجوبته يسعى الكشف عن درجة انتماء ركاب الحافلة الى بلدهم من خلال مدى معرفتهم بالأماكن التي تمر بها الحافلة، ليتبين أن الركاب الخمسة وخاصة العازف و(العاشقين اللذين ليسا بحاجة الى معرفة إنتمائهما وحبهما لبلدهما ) أنه لا يميز بين كل شوارع المدينة لأنه غير مهتم بها أساسا بالرد على الغبي مرة بلا مبالاة ومرة ثانية برفع كتفيه وهو يقول: (محتمل لا أعرف هذا محتمل). والذكي بطرح مجموعة من الاسئلة على الغبي من قبيل ماذا تريد أن تقول، وألا تعرف الى أين تسير، ولماذا تسأل، بالأضافة الى عدم معرفته بالأماكن التي تسير الحافلة فيها بمسوغ عتمتها، واللامسؤول بأعطاء حلول غير جادة لجهله بهذه الأماكن كتصوره لتغييرهم خط السير، وإختصارهم له .
لا ينتبه الركاب الى أن الطريق الذي يسلكونه غريبا، إلآ بعد ضرب الغبي والضرر الذي يصيب مصالحهم وفي مقدمتهم اللامسؤول الذي سيذبل الخس وتفوته تحضير السلطة، والعازف بعدم إشتراكه بالحفل الذي تقيمه فرقة الأوكسترا، والمرأة لتأخرها عن إطعام أطفالها الذين ينتظرونها في البيت، والقروي لأنه لا يعرف هل أن الحافلة تمر بقريته أم لا، والذكي هو الآخر بدوره له أطفال وقلق عليهم، لذلك يدعوهم الى أقتراح ما يجدونه صائبا وسليما للخروج من المأزق الذي هم فيه .
وإذا كان الغبي أول من بادر الى معالجة هذا الموقف بالذهاب الى السائق ، وخرج من مقصورة القيادة شبه ميت، فأن اللامسؤول واجهه مرتين دون أن يصيبه أذى، ليعرف منه في المواجهة الأولى أنه غير مسار الحافلة، بحثا عن فرن لشراء الخبز، و في الثانية لأنهم سيذهبون الى مدينة (كوبرفشتيتسا).
إن دل ضرب الغبي على شيء فأنما يدل أن الطبقة المسحوقة هي غالبا ما تكون الضحية، واللامسؤول هو أيضا من هذه الطبقة، ولكن ليس بالثورية التي يتحلى بها الغبي، ربما هو أقرب الى الأنتهازية التي تفطن كيف تربت على أكتاف السلطة، لذلك فقد تلقى الغبي الضربة، بينما خرج منها اللامسؤول معافيا وبنتيجة، كما أن تغيير مسار الحافلة لشراء الخبز يدل على تجويع الأشتراكية للشعب، والذهاب الى مدينة ( كوبرفشتيتسا) اللا وجود لها على خارطة الكرة الارضية، يوحي التوجه نحو مصير مجهول من جهة ومن جهة أخرى الى مدينة اليوتوبيا، (الحلم).

اللامسؤول : إننا نذهب من أجل الخبز.
( يظهر الأندهاش الشديد على وجوه الركاب . الرجل يتجرع الراكيا )
الرجل : كيف من أجل الخبز؟

اللامسؤول : أنه يبحث عن فرن يبيع الخبز . يريد أن يشتري ثلاثة أرغفة كان صاحبنا على صواب ( يشير الى الغبي ) إننا لا نسير في طريق خط السير المحدد فهناك لا يوجد فرن .
الرجل: ماذا حصل؟
اللامسؤول: سنذهب الى مدينة كوبرفشتيتسا.
(الركاب يتبادلون النظرات لا أحد منهم يريد أن يصدق).
المرأة: ذلك غير ممكن .
العازف: هذا مستحيل .
الذكي: كيف الى كوبرفشتيتسا ؟
المرأة: فعلا في الخارج حقول .
الذكي: هذا يعني أننا لسنا في الدميروفتسي .
الرجل: ولكن لماذا الى كوبرفشتتيتسا ؟
اللامسؤول: قال ( ويقصد السائق ) لن أجد بعد هذا الوقت خبزا وإن وجدت فسيكون يابسا وأن أمي تعيش في كوبرفشتيتسا لم أرها منذ زمن. . . . سوف تحضر لي الخبز وتقدم الفروج وسوف تصب لي من النبيذ الأحمر المعتق . هل تعرف ما أطيب الخبز الذي تصنعه أمي؟
( بعد هذا الكلام يسود الصمت داخل الحافلة . جو من ذكريات الأغاني الشعبية العاطفية كل يعيش ذكرياته وكأنه يعيش في مكان طفولته في بيت أبويه ويتخيل بيته . . . . ).
إن إجراء وجه المقاربة بين بحث السائق لشراء الخبز وبين توجهه الى مدينة كوبرفشتيتسا بأستياء الركاب من المنحى الأول وبالعكس استقبال المنحى الثاني برحابة صدر وفرح غامر، التفاتة ذكية من المؤلف إنشاء هذه المقاربة بالرمز عن نظامين مختلفين وهما الأشتراكي والرأسمالي وانجذاب الركاب للثاني وتنافرهم من الأول، وذلك من خلال تغيير توجه الحافلة من البحث عن صنع الخبز في الأسواق (الفرن) الى صناعته في البيوت، وهذا التغيير ليس تغييرا حقيقيا بقدر ما هو حلمي وحنين الى الماضي، أي الى النظام الرأسمالي. ولعل قول اللامسؤول : المشكلة اننا قد لا نصل الى كوبريفشتيتسا واستفسار الرجل منه كيف والى أين نصل وإجابة الذكي لا يمكن أن نصل الى مكان ما، كل هذه الأجابات توميء الى مرور الركاب في لحظات نشوة عارمة من لحظات أحلام اليقظة، واقتران الذكي جملته الأخيرة بجملة لابد أن نصل الى مكان ما، بقدر ما تمنح الأمل للركاب بالعودة الى الرأسمالية، أو هكذا يبدو للوهلة الأولى، إلآ أنها مع إشارة اللامسؤول الى السماء تغير هذا المعنى بمعنى آخر وهوأنهم يعودون الى الرأسمالية بعد موتهم أي لايعودون إليها بتاتا، وذلك من خلال ربط المعنيين بشرب السائق للراكيا (سكره) وبصورة أوضح أنهم في طريقهم الى الموت .
ويقترح الرجل أن يعزف العازف للركاب قليلا، لأن الموسيقى لها تأثير طيب على الجملة العصبية حتى لدى الحيوانات، ذلك أن اورفيوس عندما كان يعزف تجتمع الوحوش حوله لتستمع إليه، ويخطأ الرجل في تسمية آلة العزف، ظنا منه إنها آلة الكمان بينما هي آلة ( الفيولونسيل )، فيرتجف العازف غضبا لهذا الخطأ ويأبى رغم إصرار الكل أن يقدم لهم مقطوعة موسيقية بمسوغ أنهم لا يعرفون شيئا عن الموسيقى وأنه فنان قدير وأبكى بموسيقاه ملك وملكة بلجيكا وحاصل على الجائزة الثانية في مسابقة (لاندجيفن)، وعندما تنفذ كل حججه في عدم العزف، يجد أن العزف في الحافلة إهانة للفن، وهنا يلقنه الذكي درسا في الأخلاق والفن وكيفية تعامل الفنان مع الجماهير في الأوقات الصعبة : لقد أبكيت أحد الايطاليين أما أبناء وطنك فلا تريد أن تبكيهم لأنك تعد ذلك أهانة للفن . أن تعزف أمام الناس الذين ينقلونك ويطعمونك ويلبسونك، فهذه أهانة . أهكذا ؟
وبعد أن يحاصره الجميع ويضيق عليه الخناق ولايبقى له مبرر لعدم العزف، يرضخ للأمر الواقع، يبدأ اللحن هادئا معبرا عن شوق وألم مكتوم ، لم يعد أحد يشعر بوجود شيء حوله لا الدنيا ولا الناس ولا الحافلة لا شيء سوى الموسيقى . . .والسائق هو الشخص الوحيد الذي لم يرقه اللحن لأنه يشعره بالنعاس، ومثل الرجل ظن إنها آلة الكمان كونها طويلة مثلها.
إن عدم تمييز السائق بين آلتي الكمان والفيولونسيل، إيماءة جلية الى جهل زعماء الدول الأشتراكية بالفن بشكل خاص والثقافة عامة، وشعوره بالنعاس الى عدم تذوقهم للفن الموسيقي .
وإذا كان المؤلف عبر شخصية العازف، يدين ظاهرة إستشراء إستعلاء الفنانين على العامة، فأنه من خلال شخصية العاشق يسلط الضوء على ظاهرة إزدواجية الشباب المعاصر بين توقه للحرية عندما يتعلق الأمر بشخصه ووقوفه حاجزا أمامها عندما يتعلق الأمر بالآخرين، فالعاشق برغم الصعوبات التي مرعليها ركاب الحافلة لم ينتبه إليها ولكن ما أن طلبت صديقته ( العاشقة ) من العازف توقيعه لأعجابها بعزفه حتى فغر فاه غيرة وطفق ينتبه الى كل شيء .
ونفس الشيء ينطبق على الرجل الذي أمتنع أن تتفاوض زوجته مع السائق لتجعله أن يدير الحافلة ويعود بها الى المدينة عن طريق علاقة روحية عاطفية نظيفة مهددا بأراقة الدماء مع أنه تحايل على الحكومة بالطلاق من زوجته من أجل ألا تحتجز البيت الثاني الذي يمتلكه. والسؤال الأهم الذي يطرح نفسه في نهاية المسرحية، هو لماذا لم يقرر السائق العودة الى مركز المدينة إلآ بعد نشوب المعركة بين الركاب ؟
ترى هل لكونه معزولا عنهم ؟ لذلك لم يطلع على حقيقة ما يجري داخل الحافلة، وتأسيسا للحالة الأولى وأسبابها ترى هل أراد المؤلف أن يقول للمتلقي بخلو النظام الاشتراكي من الديمقراطية، وبالتالي عزلة القائد عن الجماهير؟ وأخيرا إلام يعني العودة الى مركز المدينة؟ هل يعني حكم الشعب بالقوة وبغير إرادته ورغما عنه ؟
لقد قال المؤلف في هذه المسرحية الشيء الكثير، حدا بلغ لم يستطع أقرانه بلوغ أدنى مستويات تعريته للنظام الذي أبتليت به شعوب أوروبا لخمسة عقود خلت . . . .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الموسيقي طارق عبدالله ضيف مراسي - الخميس 18 نيسان/ أبريل 202


.. فنانون يتدربون لحفل إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024




.. السجن 18 شهراً على مسؤولة الأسلحة في فيلم -راست-


.. وكالة مكافحة التجسس الصينية تكشف تفاصيل أبرز قضاياها في فيلم




.. فيلم شقو يحافظ على تصدره قائمة الإيراد اليومي ويحصد أمس 4.3