الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الثورة الصناعية الرابعة وقوة العمل، وماذا عن البلاد العربية..؟

محمد عبد الشفيع عيسى

2019 / 5 / 7
الادارة و الاقتصاد


لعل من أهم المقاربات التي يمكن تقديمها لما بات يعرف بالثورة الصناعية الرابعة، أو "الثورة الرابعة" اختصارا، هو تبلور ثلاثية البيانات والمعلومات والمعرفة. ويقع هذا التطور في إطار الدول الرأسمالية المتقدمة اقتصاديا أو "الدول الصناعية" في المقام الأول (الدول الصناعية السبعة المعروفة: الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا واليابان)؛ وفي المقام الثاني: الدول شبه الصناعية، وبتعبير اقتصادي أوْ:"الدول المصنّعة حديثا"، وتضم بصفة أساسية ما يطلق عليه "الدول النامية الديناميكية الكبيرة" المكونة من بعض دول الشرق الآسيوي وخاصة كوريا الجنوبية بالإضافة إلى أعضاء تجمع "بريكس" (البرازيل وروسيا والهند والصين و جنوب إفريقيا).
و يمكن استخلاص عدد من الحقائق بشأن إعاة هيكلة الوظائف في العالم الصناعي ، على إثر "الثورة الصناعية الرابعة":
• التغير في القطاعات الاقتصادية: وقعت التجارب الأولى للرقمية المبكرة فى قطاع الصناعة التحويلية ، من خلال ما سمى فى الستينات والسبعينات بآلية التحكم الأوتوماتيكى أو السيبرنيتكى . والآن يلاحظ أن تكنولوجيات "الآلية" -"الأوتومية" أو "الأتمتة"- مثل الآلات المتعلمة والروبوتات، على أساس تقنيات الذكاء الصناعي، ما لبثت أن انتقلت تدريجياً، ولكن بسرعة، من القطاع الصناعى إلى قطاعات أخرى فى مجال الخدمات مثل الرعاية الصحية والخدمات المالية. وإن كانت وتيرتها أضعف فى مجالات حيوية كالتعليم والحكومة (الخدمة المدنية).
• زحف الذكاء الاصطناعى على الأنشطة التقليدية :
يبلغ انتشار الرقمية بالذكاء الاصطناعى حدّ الزحف إلى قطاع فرعى عتيد ، مقاوم للرقمية العالية بصفة تقليدية ، وهو قطاع تجارة التجزئة ، حيث بات يقف على عتبة الذكاء الاصطناعى فى الدول الصناعية الرأسمالية . و لقد بدأ اعتماد المتاجر على الروبوتات المسيّرة بالذكاء الاصطناعى لإدارة المخزون ، سيراً على خطى صانعى السيارات الذين يستخدمون هذه التكنولوجيا فى مجال العمل الابتكارى فى حقل "السيارات ذاتية القيادة" .
ويتحقق تغلغل "الذكاء" فى الاقتصادات الصناعية من خلال تزايد الإنفاق على البحث والتطوير فى الشركات الرقمية الكبيرة ، التى تقود عملية (الزحف) بحكم مواردها المالية الضخمة ، مثل جوجل (وما أدراك ما جوجل ...!!) و أمازون.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الشركات ذات الجنسية الأمريكية تسهم بنحو 66% من الاستثمارات الخارجية الكلية على مستوى العالم فى الشركات المستخدمة للذكاء الاصطناعى، وتسهم الصين بنسبة 17% ، وكلا البلدين يبذلان جهداً مضاعفاً وخاصة فى مجال "النظم البيئية" Eco-systems.
• من آثار الذكاء الاصطناعي على قوة العمل أنه أطاح وسوف يطيح مهناً بأكملها، كما فى وظائف (خدمة الزبائن Call centers) وسائقى سيارات الأجرة ، وغيرها من الوظائف وأصحابها من ذوى الياقات البيضاء والياقات الزرقاء من قبلهم . وما الذكاء الاصطناعى إلا استخدام (الآلات المفكرة – المتعلمة) ذات الذكاء المستبطن – الداخلى - فى الآلة ، وهو الذكاء "الخارجى" بالنسبة للإنسان بطبيعة الحال، فى تحريك واستنطاق كتل البيانات الضخمة من خلال المنصات الرقمية والمواقع الإلكترونية (web) . تلك هى التكنولوجيات المتمحورة حول البيانات . ولسوف يعمل التحول نحو الذكاء الاصطناعى باتجاه كل فرد فى المستقبل – المستقبل الرقمى على كل حال.

• نحو اندثار طريقة العمل التقليدية وبروز (العمل الحر)
هناك توقع بانقراض نظام العمل التقليدى فى الحكومة وشركات الأعمال (كما انقرضت الديناصورات ..) ذلك النظام القائم على العمل ما بين الساعة التاسعة صباحاً والخامسة مساءً، وحلول العمل الحر مكانه . ويُذكر – وفق أبحاث ميدانية- أن نسبة الأعمال الحرة الجارية على المنصات الرقمية تمثل حالياً نحو 15% من الأعمال الحرة ككل وهى تزيد بسرعة عالية.
وعلى سبيل المثال فى الهند فإنه باستخدام "جوجل" كمحرك للبحث، تم تدريب النساء الريفيات على استخدام الإنترنت، ليصبحن وكيلات محليات يقدمن خدمات فى قراهنّ باستخدام أدوات مدعمة للإنترنت . وتتضمن تلك الخدمات العمل كموزعات لمنتجات قطاع الاتصالات (كالهواتف و "بطاقات الشحن") وأيضا العمل فى جمع البيانات الميدانية لوكالات الأبحاث وفى الخدمات المالية ووظائف "التقنيين المساعدين" .
• الاستقطاب المتزايد فى سوق العمل
أدت الثورة الرقمية إلى حدوث حالة من الاستقطاب المتصلب تدريجياً فى سوق العمل ، حيث يوجد سوقان فى كل بلد ، أو عدة أسواق : سوق العمل الماهر الذى يحقق التوافق بين عرض المهارات النادرة والكفاءات العالية وبين الطلب عليها ، وسوق آخر منخفضة المهارة فى المهن التقليدية ، وسوق ثالث للعمالة متوسطة المهارة .
ومع تفاوت المهارة والكفاءة والموهبة، يكون هناك تفاوت مطابق فى مستويات الأجور والمنافع أو المكاسب الكلية لعنصر العمل . وهذا التفاوت يمثل سبباً رئيسياً للظاهرة التى طالما تعرض لها الباحثون فى مجال الاقتصاد السياسى خلال السنوات الأخيرة، وأشرنا إليها غير مرة، ظاهرة تنامى عدم العدالة فى التوزيع داخل البلد الواحد، وبين البُلْدان .

• السوق الدولى للعمل وانتقال المهارات والكفاءات :
يتزايد اندماج أسواق العمل الوطنية فى ظل الثورة الرقمية، حتى ليكاد يكون هناك "شبه سوق دولية واحدة" رأسمالية الطابع، للعمل الماهر والكفاءات العالية بالذات .
ويذكر فى هذا المضمار أن هجرة المهارات والكفاءات عبْر الحدود يمكن أن تسدّ فجوات فى الطلب على العمل، على المستوى الدولى ، وإن كانت تؤدى إلى توترات عدة.. و يلاحظ من جهة أولى، أنه يوجد حوالى 244 مليون شخص – عام 2015 – عاشوا فى بلاد غير بلادهم ، وأن أكثر من 90% منهم هاجروا طوعاً ، وأنه فى الفترة من 2000 إلى 2014 قدمت الهجرة نحو 40% من الزيادة فى قوة العمل فى كندا وأسبانيا وبريطانيا والولايات المتحدة. ولكن، من جهة أخرى، نجد أن العمال المهاجرين يحصلون على أجور أقل من مواطني البلاد التى يهاجرون إليها بنسبة 20-30% تقريباً. ومع ذلك فإنهم يتسببون فى حدوث قلق لدى العمال (المواطنين) الذين يواجهون خطر الانقطاع عن العمل أو نقص الوظائف ذات الأجور الجيدة، ويؤدى ذلك إلى تغذية مشاعر (شعبية) معادية للهجرة والمهاجرين . وتشير الدراسات الاستقصائية التى أجراها (معهد ماكينزى العالمى MGI) إلى أن النسبة الكبرى من ذوى الدخول المتوسطة والمنخفضة فى الاقتصادات المتقدمة – و هي تعانى من ثبات أو انخفاض مستوى الدخل الحقيقى– متشائمون فيما يخص مستقبلهم ويحملون نظرة سلبية تجاه المهاجرين . ولعل هذه الحقيقة تكمن فى خلفية ما جرى بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى وبشأن صعود الإدارة الحالية على سدّة الرئاسة في الولايات المتحدة الأمريكية تحت شعار عنصري الطابع (أمريكا البيضاء).


نظرة مستقبلية لقوة العمل في الدول العربية
نشير في هذا المقام بصفة خاصة إلى عدد من النقاط المهمة، كنوْع من توجهات السياسات المقترحة للبلدان العربية:
أولاً : ضرورة تبنّى استراتيجية محددة للتعامل مع الثورة الرقمية ، بأوسع وأشمل من مجرد أعمال البنية التحتية التكنولوجية ، أو صناعة الهواتف النقالة، وحتى الشرائح الدقيقة السيليكونية. إن أنشطة ما بعد السيليكون Beyond Silicon تمثل القفزة الحقيقية فى عالم الثورة الرقمية، وخاصة من خلال الاهتمام بالعنصر الناعم لنماذج البرمجة القائمة على "الذكاء الاصطناعى" وتطبيقاتها فى الآلات المفكرة والروبوت والتحكم الأوتوماتيكى . ويرتبط بذلك ، ضرورة بناء إطار للتوسع في استخدام الانترنت فى مجال العمل بالأرياف و بالأحياء الفقيرة فى المدن .

ثانيا : بناء مرافق البحث والتطوير لدى كل من الحكومة ومراكز البحوث الوطنية من جهة أولى (فى مجال البحث الأساسى Baric Research ) ولدى قطاع الأعمال العام والخاص ( فى مجال البحث والتطبيقى والتطوير التجريبى) بهدف تطويع التكنولوجيات الرقمية لرفع ودفع الإنتاجية فى القطاعات المختلفة، وخلق الوظائف وفرص العمل الجديدة . ويدخل ذلك فى صميم بناء الاستراتيجيات الوطنية للرقمنة، على غرار الصين .

ثالثا: "السير على ساقين":
لا يلائم معظم الاقتصادات العربية حالياً السعى إلى مجرد صبْغ الاقتصاد بالصفة الرقمية الكاملة ، فلا تزيد الأوتوماتية الكاملة على الصعيد الدولى على 5%، و إن الثورة الرقمية ما تزال فى بداياتها على كل حال . وإنما الأنسب أن يجرى توسيع تدريجى للأعمال القائمة على المهارة والموهبة والذكاء والشبكات والإنترنت ، فى مجال الأنشطة الخاصة بالتنمية الريفية المتكاملة ، وتطوير بيئة العمران الإنسانى فى المدن الكبرى والمتوسطة، وفى القرى .
إن التسرع فى صبغ الاقتصاد بالرقمية لن يؤدى إلا إلى نوع جديد مما يسمّى (المرض الهولندى) أى خلق ازدواجية مصطنعة فى الاقتصاد، بين قطاع بالغ التقدم وقطاعات واسعة أقل تقدماً بدرجة عالية. لذلك ينبغى السير على ساقين : ساق ممدودة فى العالم المعاصر، وفق آفاق "الثورة الرابعة"، و ساق أخرى مغروسة فى تربة الاقتصاد المحلية لخلق فرص العمل وكسب الدخول من أجل تحسين مستوى المعيشة للفئات الاجتماعية المثلة للغالبية المجتمعية التى تنتشر بينها الأمية والبطالة والفقر ، وتبلغ نسبتها نحو 80% من إجمالي السكان العرب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صندوق النقد الدولي: تحرير سعر الصرف عزز تدفق رؤوس الأموال لل


.. عقوبات أميركية على شخصيات بارزة وشركات إنتاج الطائرات المسيّ




.. متحدث مجلس الوزراء لـ خالد أبو بكر: الأزمة الاقتصادية لها عد


.. متصل زوجتي بتاكل كتير والشهية بتعلي بدرجة رهيبة وبقت تخينه و




.. كل يوم - فيه فرق بين الأزمة الاقتصادية والأزمة النقدية .. خا