الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تأملات في الثورات والمصائر (9)

منذر علي

2019 / 5 / 15
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي



و) اليمن: 3 الانتفاضة الشعبية (ب)

كانت المؤشرات على العنف بعد سقوط نظام صالح واضحة للعيان في ظل اختلال ميزان القوى بين الأطراف السياسية لصالح إحدى الأطراف الدينية، التي ما كان يمكن لها أن تقبل البتة بغير فرض هيمنتها على القوى السياسية الأخرى. ولئن كانت مجموع القوى السياسية متفقة جزئيًا تجاه النظام القائم ، إلاَّ أنها كانت مختلفة كليًا في توجهاتها السياسية ، فضلًا عن أنها تابعة لقوى إقليمية ، متفاوتة القوة و متنافرة أشد التنافر في توجهاتها السياسية، ومصالحها الاقتصادية و الإستراتجية.
وبالتالي فأنَّ إسقاط النظام ، في ظل هذه المعطيات ، ما كان ليكون حلًا للأزمات المتعددة وللصراعات القائمة، بقدر ما كان تدشينًا لخلق أزمات جديدة، ولسقوط الدولة ، وفتح أبواب التدخل الخارجي المباشر للقوى الإقليمية ، ومن ثم الدخول في صراعات جديدة أشد هولا. وهذا ما نراه اليوم بوضوح لا تخطئه العين.
لم تكن أحزاب المعارضة الخاملة هي التي أطلقت شرارة الانتفاضة الشعبية ضمن خطة سياسية مدروسة ، بل الجماهير الشبابية الشجاعة ، من الرجال والنساء، سواء المستقلين عن الأحزاب أو المنتسبين إليها ، التي شملت الساحة اليمنية ، دون توجيه استراتيجي محسوب من قبل قيادات الأحزاب السياسية في بداية الانتفاضة، ولكن الأحزاب والتجمعات السياسية والقبلية والدينية ، استيقظت من سباتها ، وليتها لم تفعل ، و استطاعت في وقت لاحق أنْ تسحب المبادرة من الحركة الشبابية الثائرة ، المُنفعلة بما جرى في تونس ومصر، وتتحكم بالمسار السياسي للانتفاضة ، بما يتناسب مع مصالحها الفئوية الضيقة.
وعلى الرغم من تشوش الرؤية لدي المنتفضين، المتحمسين، والمتفاعلين مع الثورة التونسية ، فقد ساد الساحات اليمنية في البدء نوعًا من التوافق السياسي المؤقت، غير المكتوب ، حول " إسقاط النظام" العائلي، بين جُل المنتفضين عليه. وكانت هناك بطولات استثنائية للشباب والشابات من أبناء شعبنا اليمني العظيم، الذين كانوا يتطلعون إلى الحرية والعدل والتقدم. ولكن بمجرد أن التحقت الأحزاب السياسية بالانتفاضة، بشكل مكثف ، وعززت وجودها بمليشياتها المسلحة ، وحقنتها بتناقضاتها المَرضيِّة، السياسية والقبلية والطائفية، بدأت تظهر التباينات في صفوف الجماهير المنتفضة، و تعبر عن نفسها ، من خلال تبني مطالب سياسية متباينة، كتطبيق الشريعة ، و قيام دولة الخلافة، وفك الارتباط ، والدولة المدنية الديمقراطية الحديثة ، والدولة الفيدرالية بأقاليم متعددة.
وفي وقت لا حق بدأت الانقسامات الفكرية التي تخللت المعارضة تتسع، وتنتقل من الواقع السياسي إلى الواقع الجغرافي. فجماعة أنصار الله شرعوا في تعزيز سيطرتهم على محافظات شمال الشمال كصعدة، واتسعت سيطرتهم تدريجيًا لتشمل أجزاء كبيرة من محافظات أخرى كالجوف وعمران وحجة.
والحراك في الجنوب قام بتعزيز سيطرته على أجزء واسعة من الضالع ولحج وعدن في خضم الفوضى القائمة؛ وحزب الإصلاح الإسلامي قام بتعزيز سيطرته على محافظة مأرب وعلى مناطق واسعة في محافظات الجوف وتعز وأب ، وخاصة في تلك المناطق، التي كانت في الماضي مسرحًا للصراع السياسي والعسكري بين السلطة في صعناء ورديفها من الجماعات الإسلامية من جهة والجبهة الوطنية الديمقراطية من جهة أخرى، المدعومة من قبل النظام اليساري في جنوب الوطن.
وهكذا مع تنوع مراكز القوى المتنافرة، وازدياد ضعف السلطة المركزية، الضعيفة أصلًا، لم تُجهض الانتفاضة الشعبية ومشروع الثورة المأمول فحسب، بل سقطت الدولة المتهالكة تدريجيًا. وفي هذا الظرف الاستثنائي كان سقوط علي عبد الله صالح في 27 فبراير 2012، مجرد تحصيل حاصل، و عقب التطويح به توزعت سلطة الدولة إلى جيوب سياسية متنافرة، هنا وهناك، تديرها المليشيات المتطرفة المتصارعة، تحت مظلة النائب المنتخب عبد ربه منصور هادي، الذي لم يكن له قوة فعلية على الأرض.
وحينما التأمت القوى السياسية المتنافرة في مؤتمر الحوار الوطني بين 18 مارس 2013 و 25 يناير 2014، في محاولة منها للخروج برؤية مشتركة للنظام السياسي المُقبل، أسفر الحوار عن مشروع قيام دولة فيدرالية من ستة أقاليم ، و تم الاتفاق على إعداد دستور وفقًا لتلك الرؤية ، بحيث يجري التصويت عليه في وقت لاحق، توطئة للانتخابات البرلمانية والرئاسية المأمولة.
و كان الاتفاق السياسي ، بين القوى السياسية ، في واقع الأمر، يعكس الانقسامات القائمة في الواقع الجغرافي و السياسي ، التي تعمقت خلال مرحلة الانتفاضة الشعبية ، وخلال الصراعات التي سبقتها و لحقتها ، أي خلال الفترة الممتدة من حرب 1994 ، مرورًا بحروب صعدة الستة، وانتفاضة 11 فبراير 2011 وحتى فبراير 2012 وما بعدها.
إنَّ الاتفاق الذي أسفر عنه مؤتمر الحوار الوطني لم يكن في الواقع حلًا للأزمة والانقسامات القائمة، كما بدا للبعض ، وإنما كان اعترافًا بالأزمة ، وتجسيدًا لها في إطار دستوري مثلوم، تحت ذريعة تقليص " سلطة المركز المقدس" ، وتوزيع الثروة ، وتحقيق المساواة ، دون أن يدرك المتحاورون، باسم الشعب ، الذي وُضعوا كأوصياء عليه من قبل أحزابهم ، أنهم كانوا بذلك ، و دون وعي منهم على الأغلب ، يوسعون من دائرة المراكز المقدسة والمتصارعة.
ذلك أنَّ من شأن المراكز المقدسة الجديدة المتنافرة ، المُزمع قيامها على أسس طائفية أو قبلية أو جهوية أو سياسية، فضلًا عن أنها ستؤدي إلى إعاقة ، Obstruction، عميلة التلاحم الوطني ، National cohesion ، فأنها ستقود بالضرورة في واقع حال اليمن إلى التفكك الوطني، National disintegration . ذلك أنَّ هذا النوع من "التفكك الفيدرالي" المبتكر ، الذي حاول االسياسيون العامهون ، بسذاجة، أنْ يجاروا من خلاله التجربة الإماراتية ، سيُسهل للقوى الخارجية ، وبشكل خاص الدول الإقليمية ، أنْ تقيم علاقات ثنائية خاصة مع المراكز المتعددة ، الواقعة على حدودها البرية أو البحرية ، ودفعها للتصادم مع السلطة المركزية، و جذبها إلى صفها ، ومن ثم توجيهها ، بما يتوافق مع سياستها، توطئة لسلخها من الكيان الوطني ، كما عملت السعودية مع إمارة محمد علي الأدريسي في تهامة في مطلع الثلاثينيات من القرن العشرين ، وكما عملت بريطانيا مع بعض السلطنات الجنوبية في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.
و من جهة أخرى، فأنهم بفعلهم الأخرق ذاك ، المسوَّق تحت عنوان " الوفاق الوطني" عززوا في الواقع الشقاق الوطني، وخلقوا ميلًا مرضيًا شرهًا للاستئثار بالثروة لدي بعض الفئات والنخب في المناطق الغنية، كحضرموت وشبوة ومأرب والجوف ، و من جهة أخرى خلقوا قلقًا مشروعًا لدي بعض الفئات والنخب السياسية والقبلية في المناطق الفقيرة، كالضالع ولحج وصعدة وذمار وعمران وحجة والمحويت، وكان ذلك من بين الأسباب التي دفعت أنصار الله إلى الإسراع في الاستيلاء على السلطة في 21 سبتمبر 2014 ، للدفاع عن كيانهم الطائفي المتخشب ، حيث اندفعوا بتهور ، تحت تأثير تصور معطوب بالجهل والخرافة والرؤية العنصرية ، متوهمين أنهم سيَبعثون الدولة القاسمية البائدة التي سادت في القرن السابع عشر، ولكن بمرجعية إيرانية، خمينية هذه المرة ، بعد أنْ وجدوا صعوبة في استعادتها كاملة بدعم سعودي بين 1962-1970.
كما كانت مخرجات الحوار الوطني من بين الأسباب أيضًا التي دفعت بعض الأطراف المؤثرة في الحراك الجنوبي إلى التصلب و التمسك بمشروع الانفصال، أملًا في استعادة الدولة السابقة ، ولكن بمضمون سياسي رجعي، مستلهمًا العهد الانجلوسلاطيني ، ومجاريًا توجهات دول الخليج، وبشكل خاص دولة الإمارات العربية المتحدة.
ولمعرفة حقيقة الأوضاع القائمة اليوم في بلادنا وما آلت إليه الثورة الشعبية في اليمن في 2011 ، سيتوجب علينا العودة قليلًا إلى مرحلة ما قبل تبوء علي عبد الله السلطة في الشمال ، وما قبل أحداث 13 يناير 1986 في الجنوب ، التي عصفت بالنظام اليساري هناك ، وحرب 1994 ، التي طوحت بالتجربة الوحدوية، والمؤثرات الإقليمية والدولية لكي نرى بوضوح المسار الانحداري للثورة اليمنية، وهذا ما سنحاول التطرق إليه في الحلقة القادمة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لبنان - 49 عاما بعد اندلاع الحرب الأهلية: هل من سلم أهلي في


.. التوتر يطال عددا من الجامعات الأمريكية على خلفية التضامن مع




.. لحظة الاصطدام المميتة في الجو بين مروحيتين بتدريبات للبحرية


.. اليوم 200 من حرب غزة.. حصيلة القتلى ترتفع وقصف يطال مناطق مت




.. سوناك يعتزم تقديم أكبر حزمة مساعدات عسكرية لأوكرانيا| #الظهي