الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مقالات التنوير 10 عقدة أو مركب التفوق الحضاري

احسان طالب

2019 / 5 / 16
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


المنجز الحضاري و الإسلام السياسي الأصولي

هناك خلاف قديم ما زال قائماً ولم يحسم بعد حول ضرورة ودور المعتقدات الدينية السماوية في قيام الحضارات واستمرارها.
عرف التاريخ الحضاري الإنساني مجموعة من الحضارات العريقة البالغة التأثير في الماضي والحاضر، قامت واستمرت لقرون عديدة و تجاوز عمرها آلاف السنين وذلك قبل نزول الديانات السماوية الثلاث وتعد الحضارات الصينية والفرعونية واليونانية الأقرب لنا جغرافيا وثقافيا ، و بالرغم من اعتناق الحضارة الرومانية للدين المسيحي بشكل رسمي عام 391م إلا أن تلك الحضارة استمرت علاقتها بصيغتها الوثنية لعدة قرون تالية، وهنا نقف أمام إشكالية دور المعتقدات الدينية السماوية تحديدا في البناء الكلي الحضاري. حيث يبقى المعتقد الديني محايدا وايجابيا حيال الظهور الحضاري التاريخي، ويتحمل أهل الحضارة أو المعتقد المسؤولية عن التردي أو النهوض.
وأميز هنا نظريا بين جوانب ثلاثة :
ـ الجانب الأخلاقي
ـ الجانب العلمي و المعرفي
ـ مظاهر الحضارة ، ثقافة وعمران وعلاقات اجتماعية
عقدة التفوق الحضاري:
اعتاد العقل والفكر العربي على استساغة بديهية أو مسلمة مفادها أن الحضارة العربية وتاريخها وبالأخص الإسلامية هي أعظم ما عرفته البشرية، وما يمكن أن تعرفه في الحاضر والمستقبل وبناءً عليه كانت تلك النظرة الفوقية تجاه الآخرين تحجب الموضوعية العلمية في تقييم الأمور والنظر إليها ، و لما كان الواقع المادي الحديث والمشاهد يشير إلى تقدم وتفوق مادي وربما أخلاقي للأمم التي تعد من قبل المتطرفين مشركة أو كافرة ـ بالمعنى الشرعي الأصولي المتشدد ، ما أحدث تناقض بين المعتقد والواقع المخالف له ؛ وهنا نلحظ أهمية تحديد مسؤولية حملة الفكرة والمعتقد عن تحديد عوامل التقهقر أو التقدم ، ما يستدعي النقد والمراجعة. إلا أن ردة الفعل كانت معاكسة تماما وتحول الشعور بالهزيمة أو النقص تجاه الآخرين إلى عودة نحو الخلف وبحث عن الطرائق والأساليب والمناهج التي حققت أمجاد الماضي السحيق ( لا يصلح آخر الأمة إلا بما صلح به أولها ) . ومرة أخرى تم الهروب نحو الخلف والبحث في أدق تفاصيل معيشة السلف وإعادة إحياءها وتطبيقها من جديد بشكل لاعقلاني وأسلوب ظاهري بحت ، وغدا التمسك بطرائق المأكل والملبس و العلاقات التي كانت سائدة منذ ما يربو على أربعة عشر قرنا أمراً مطلوبا بل وحتى مفروضا. ولما كان ذلك الأسلوب أي أسلوب الهروب وإخلاء المسؤولية ، لا يتيح منافسة أو مسايرة الأمم الأخرى فقط بل يتسبب بمزيد من التخلف والتفاوت الحضاري، تم اللجوء إلى تغطية العجز الحضاري المعاصر باستحضار الإنجاز القديم وصبغه بصفة الإعجاز الذي لا يمكن تجاوزه أو حتى الوصول إليه من قبل الآخرين، بما يلغي المنافسة ويبعد الشعور بالهزيمة أو النقص ( ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا و كفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا ) سورة الأحزاب 25الآية
و بالبحث خاصة في الإطار المحصور في دائرة الإسلام السياسي وهو مجال بحثنا تحديدا ، نلحظ التباين الاعتقادي بين الفرق الإسلامية ابتداء من العهود الأولى لقيام دولة المسلمين حيث بدأت هيئة التداخل بين السياسي والديني ( ستفترق أمتي إلى بضعة و سبعين شعبة كلها في النار إلا واحدة ) ويستمر الحال حتى راهننا المعاصر، مع الفارق الكبير في جلالة المنجز الحضاري لسالف العصر ووضوح حالة التقهقر المعاصر، ذلك أن الجماعات الدينية السياسية المتواجدة في الواقع العربي والإسلامي اليوم تكونت و نشأت وفقا لفكر أصولي مذهبي كحزب الدعوة في العراق و جماعة الأخوان المسلمين في مصر في حين قامت أحزاب سياسية دينية مرتكزة على أصولية دينية قومية كحزب العدالة و التنمية في تركيا تحت وصاية الدستور العلماني التركي ، مما حد من غلو التأثيرات الأصولية على الحياة التركية و ترك الباب مواربا للاندماج في النسيج الحضاري العالمي و الانتقال من الصراع الحضاري إلى التنافس الاقتصادي و السياسي و محاولة التمازج مع المكونات الحضارية غير المسلمة ، و يتجلى ذلك في السعي الحثيث للحكومات التركية الإسلامية للانضمام للاتحاد الأوربي . في حين نرى الصعوبة البالغة لدى تيارات الإسلام السياسي المتواجدة في ظل دساتير لا تنص صراحة على فصل السياسة عن الدين كما هو الحال في باكستان التي تشهد نمواً متزايدا لسيطرة الأصولية المتشددة على الشارع الباكستاني بما يساهم في الانفصال الحضاري عن العالم و رفع و وتيرة الصراع و العمل الحثيث على التطبيق الحرفي للنصوص الشرعية ما أفرز جماعات متطرفة عنيفة تدعم التغير بالقوة و بادرت لتطبيق أيديولوجياتها فأحرقت ما تحتويه مكتبات الأقراص المدمجة CD من موسيقى و فن و فكر لا ينطوي تحت السقف الفقهي المتعارف علية و ذهبوا أبعد من ذلك إلى تأسيس محاكم ميدانية شرعية لا تعتمد القانون المدني الباكستاني بل تعود إلى الفقه المذهبي في أحكامها. ( 1 ) و رفعوا السيوف تحت رايات الموت أو تطبيق الشريعة، وذلك خروج جلي عن القانون والنص.
من هذه البداية تحديدا ـ ينبغي أن تنطلق دراسات تبحث في ضرورة و أهمية و تأثير العامل الديني في حياتنا المعاصرة
واعتماد المنهج الأنثروبولوجي ( علم دراسة الإنسان ) و علوم التاريخ المنهجية عند تناول علاقة الدين بالإنسان و الدولة و المجتمع و بذلك تدخل كل المنتجات الحضارية الإنسانية بما فيها الإسلامية على حد سواء بغض النظر عن التقويم العقائدي، بنفس الطريق التي سار بها ابن رشد و ابن سينا و الفارابي و الشيرازي و غيرهم من علماء وفلاسفة المسلمين كأعلام أثروا و أثروا في مسيرة الحضارة البشرية بشكل عام و الإسلامية بشكل خاص .
"إن الحضارة ليست منجزاً دينياً إنما هي منجز إنساني مفتوح ساهمت فيه البشرية من كل ملة و دين و لون و عنصر ، و لم يقم الدين يوماً بصناعة حضارة فهذه شئون إنسانية بحتة، فالحضارة ينتجها هيكل مدني مستقر : من النجار إلى الفلاح إلى السمكري إلى الطبيب إلى المهندس إلى القانون إلى نظام الدولة الهيكلي التراتبي الوظيفي و البيروقراطي .

و قد نجح الوثنيون في إقامة حضارات عظمى فلو كانت الوثنية معيبة ما أنتجوا و لا تحضروا ، و هو مما يعني أنه لا علاقة للدين وثنياً أو سماوياً بالتحضر و إقامة الدول ، فلم يثبت أن نبياً واحداً قد أقام هرماً أو مستشفى أو سد مياه ، و إذا كان من مهام الدين إقامة الدول و الحضارات فأين هي دولة إبراهيم و دولة نوح و يوسف و الخضر و ذي الكفل و ذي النون و أين حضاراتهم ؟ ألم تترك أي أثر ؟ "(3)
ذلك الرأي الخاص بأحد الكتاب الليبراليين ـ سيد القمني ـ يظهر تشدد من نوع آخر ، فالإفراط في النقد أو اللا موضوعية لها أثرها السلبي وأحيانا المعاكس.
للأصولية رؤية خاصة للحضارة و انجازاتها:
منذ القرن الثاني من عمر الخلافة الإسلامية سعى علماء و فقهاء لكسر الطوق الصارم على المفروض على العقل الإنساني، من باب التفسير و التأويل الثابت للنص القرآني، و حاول المعتزلة النهوض بمكانة العقل ليرتقي إلى مستوى النص، و اعتبروا العقل أعظم مخلوق و لم يخلق أعظم منه ، و بذلك عدّوه المرجع الأهم في النزاعات الاعتقادية و الفقهية ، و أوجدوا قواعد تساعد في ترسيخ مكانة البحث الفكري الإنساني، إلا أن تلك المحاولات المبكرة و التي ساهمت في الاندماج الحضاري للفكر و التفكير الإسلامي لم يكتب لها النجاح ، و بقيت معزولة و مُعْتَزلة .
و في الجانب الآخر كانت الأصولية المبكرة ترسخ أقدامها و تثبت قواعدها على حساب حرية العقل و البحث، و اخضاع الفكر و التفكير لمحدودية النص و التفسير؛ مما أعاد الصراع الحضاري إلى دائرة الإخضاع و التغيير .
تختصر الرؤية الأصولية للحضارة المنجز الإنساني بالمقياس الديني و تعتبر القرب أو البعد عن النص المقدس و تفسيراته أساسا للتصنيف الحضاري ، والقيمة الحقيقية للحياة و الإنسان مرتبطة بتلك المسافة الواقعة بين النص و تجلياته من جهة و بين ما عداه في الناحية الأخرى . فكلما توافق المفهوم الحضاري مع المقرر النصي كلما عُد حضاريا و إنسانيا و العكس صحيح.
فالكافر ضمن المنظومة الأصولية مهما علا شأنه العلمي و الثقافي و المعرفي لا يرتقي إلى مرتبة الإنسان إلا بالإيمان المحدد و المنضبط بالقواعد و الأصول المنصوص عليها حيث لابد من إتاحة رؤية تأويلية تسمح بتجاوز الفهم الظاهري المباشر الذي يناقض أحيانا الجوهر الأصيل لإنسانية وموضوعية النص التأسيسي :
الفرقان 25 44 أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا

الأعراف 7 179 وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ


وفقا للتفسير المباشر الظاهري و السلفي للنص القرآني لا تزيد قيمة الإنسان المختلف دينيا أو حتى مذهبيا عن قيمة الحيوان بل هي أدنى من ذلك كون الحيوان لا يعارض أوامر و نواهي الشريعة وما يفعله لا يعدو كونه جريٌ وراء الغريزة، في حين أن الإنسان المسلح بالعقل و العلم و المعرفة ذو مكانة أدنى من الأنعام باعتبار أنه ضال أو غافل . لننظر في التفاسير التاريخية للآيات الكريمة أعلاه :
" ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : " أَمْ تَحْسَب أَنَّ أَكْثَرهمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ" الْآيَة أَيْ هُمْ أَسْوَأ حَالًا مِنْ الْأَنْعَام السَّارِحَة فَإِنَّ تِلْكَ تَفْعَل مَا خُلِقَتْ لَهُ وَهَؤُلَاءِ خُلِقُوا لِعِبَادَةِ اللَّه وَحْده لَا شَرِيك لَهُ فَلَمْ يَفْعَلُوا وَهُمْ يَعْبُدُونَ غَيْره وَيُشْرِكُونَ بِهِ مَعَ قِيَام الْحُجَّة عَلَيْهِمْ وَإِرْسَال الرُّسُل إِلَيْهِمْ ." تفسير ابن كثير
( إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ )
أَيْ فِي الْأَكْل وَالشُّرْب لَا يُفَكِّرُونَ فِي الْآخِرَة .
( بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا )
إِذْ لَا حِسَاب وَلَا عِقَاب عَلَى الْأَنْعَام . وَقَالَ مُقَاتِل : الْبَهَائِم تَعْرِف رَبّهَا وَتَهْتَدِي إِلَى مَرَاعِيهَا وَتَنْقَاد لِأَرْبَابِهَا الَّتِي تَعْقِلهَا , وَهَؤُلَاءِ لَا يَنْقَادُونَ وَلَا يَعْرِفُونَ رَبّهمْ الَّذِي خَلَقَهُمْ وَرَزَقَهُمْ . وَقِيلَ : لِأَنَّ الْبَهَائِم إِنْ لَمْ تَعْقِل صِحَّة التَّوْحِيد وَالنُّبُوَّة لَمْ تَعْتَقِد بُطْلَان ذَلِكَ أَيْضًا . " تفسير القرطبي
" أَمْ تَحْسَب } يَا مُحَمَّد أَنَّ أَكْثَر هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ { يَسْمَعُونَ } مَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ , فَيَعُونَ { أَوْ يَعْقِلُونَ } مَا يُعَايِنُونَ مِنْ حُجَج اللَّه , فَيَفْهَمُونَ ؟ ! { إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ } يَقُول : مَا هُمْ إِلَّا كَالْبَهَائِمِ الَّتِي لَا تَعْقِل مَا يُقَال لَهَا , وَلَا تَفْقَه , بَلْ هُمْ مِنْ الْبَهَائِم أَضَلّ سَبِيلًا لِأَنَّ الْبَهَائِم تَهْتَدِي لِمَرَاعِيهَا , وَتَنْقَاد لِأَرْبَابِهَا , وَهَؤُلَاءِ الْكَفَرَة لَا يُطِيعُونَ رَبّهمْ , وَلَا يَشْكُرُونَ نِعْمَة مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ , بَلْ يَكْفُرُونَهَا , وَيَعْصُونَ مَنْ خَلَقَهُمْ وَبَرَأَهُمْ . " تفسير الطبري
لنلاحظ أهمية عبارة القرطبي واختلافها عن بقية التفاسير وتقييمها العقلاني لتفسير الآية بصدد البحث ، ما يجعلنا على ثقة بأهمية ضرورة إدراك مسؤولية حوامل النص والمعتقد.
أما القراءة الأخرى ، تلك الخلفية الاعتقادية لقيمة الإنسان يقابلها إسقاط عملي واقعي متطرف ، يتجلى بسهولة إهدار دم أو قتل الآخر كونه كائن مقيت و كريه غير جدير بالاحترام و التقدير رغم كل ما قدمه للبشرية من منافع و فوائد و خيرات . وهذا ما يفسر جانبا من العنف و القتل الذي تمارسه جماعات و تنظيمات أصولية تنتشر في مختلف بلدان العالم
. في تعليق لأبي حمزة المصري الناشط الإسلامي البريطاني المتشدد و المعتقل حاليا ، على جنسيته البريطانية و ما يتمتع به من حرية في موطنه الجديد قال أن بريطانيا لا تعني له أكثر من دار لقضاء الحاجة ، ذلك التفسير لم يأتي من فراغ أو من وجهة نظر شخصية بل هو من تداعيات مفهومات و تأويلات منحرفة لعديد من النصوص النبوية أو الآيات القرآنية
للنظر في فهم معين وتفسير بذاته :
الفرقان 25 23 وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا

" وَقَوْله تَعَالَى : " وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَل" الْآيَة هَذَا يَوْم الْقِيَامَة حِين يُحَاسِب اللَّه الْعِبَاد عَلَى مَا عَمِلُوهُ مِنْ الْخَيْر وَالشَّرّ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَحْصُل لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الْأَعْمَال الَّتِي ظَنُّوا أَنَّهَا مَنْجَاة لَهُمْ شَيْء وَذَلِكَ لِأَنَّهَا فَقَدَتْ الشَّرْط الشَّرْعِيّ إِمَّا الْإِخْلَاص فِيهَا وَإِمَّا الْمُتَابَعَة لِشَرْعِ اللَّه فَكُلّ عَمَل لَا يَكُون خَالِصًا وَعَلَى الشَّرِيعَة الْمَرْضِيَّة فَهُوَ بَاطِل فَأَعْمَال الْكُفَّار لَا تَخْلُو مِنْ وَاحِد مِنْ هَذَيْنِ وَقَدْ تَجْمَعهُمَا مَعًا فَتَكُون أَبْعَد مِنْ الْقَبُول حِينَئِذٍ " تفسير ابن كثير
" مَضْمُون الْآيَة وَذَلِكَ أَنَّهُمْ عَمِلُوا أَعْمَالًا اِعْتَقَدُوا أَنَّهَا عَلَى شَيْء فَلَمَّا عُرِضَتْ عَلَى الْمَلِك الْحَكَم الْعَدْل الَّذِي لَا يَجُور وَلَا يَظْلِم أَحَدًا إِذَا إِنَّهَا لَا شَيْء بِالْكُلِّيَّةِ وَشُبِّهَتْ فِي ذَلِكَ بِالشَّيْءِ التَّافِه الْحَقِير الْمُتَفَرِّق الَّذِي لَا يَقْدِر صَاحِبه مِنْهُ عَلَى شَيْء بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى :" مَثَل الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالهمْ كَرَمَادٍ اِشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيح " تفسير ابن كثير
إن تلك المفاهيم و تلك التفسيرات لم يطرأ عليها أي تعديل أو تصويب ومازالت معتمدة و مقبولة بالكامل من قبل العلماء و المفكرين الإسلاميين التقليدين و لم يُتطرق إليها من باب النقد و المراجعة، بل غدت أكثر قوة كمسندات معتمدة يعد تخطيئها إثما و ربما خروج عن الملة و الجماعة مما ساهم في الحجر على حرية التفكير، و إحباط محاولة السعي لإيجاد صيغ تأويلية تعود بالنص إلى القيم السامية التي جاءت الدعوة لترسيخها . و تبدو خطورة تلك التأويلات جليه إذا ما علمنا بان كلمة الكافر في المفهوم الأصولي تعني الآخر الذي لا يتطابق مع المعتقد الإجمالي و التفصيلي ، حيث يعد أي خروج جزئي عن الإيمان كفرا ولا يعد ذلك الفهم مبالغا فيه ، فشيخ الأزهر أضاف ركنا سادسا لأركان الإسلام و هو تكريم صحابة الرسول و تنزيههم و النقد أو التخطيء لهم يعد طعنا بالدين ورفضا لركن من أركانه و عليه يكون ناقد الصحابة أو مخطئهم كافر ! فمسألة التكفير رغم جلالتها إلا أنها في متناول أي متشدد يرى في الأخر اختلافا أو تباينا (2)
فالمنجز الحضاري التراكمي العلمي و المعرفي و ا لجمالي الإنساني بكل عظمته، شبيه حسب النظرة الراديكالية المغلقة بذلك الشيء الحقير التافه المقرف ـ بتوصيف المتشدد أبو حمزة المصري ، الذي لا احترام له ولا قيمة لدى صاحبة طالما أنه خارج القواعد و الضوابط المتزمتة وفقا لفهم شرعي ظاهري بحت ورؤية تفسيرية محدودة تظلم النص والتاريخ ، ، وفقا لتلك التفاسير و تلك المفاهيم أصبحت الغربة و الهوة بعيدة جدا بين مفهوم الحضارة الإنسانية القائم على العمران والجمال وعلى مُثل الحرية و العدالة و المساواة و حقوق الإنسان، الشامل لكل الحضارات البشرية المتنوعة و المختلفة و بين مفاهيم الأصولية المتشددة المؤسسة لفكر و ثقافة الأصولية السياسية الدينية الجامدة والمتكلسة من داخل الفهم السياسي المتطرف، مما يتسبب في الانخراط في حالة صراع دائم و مستمر لا ينتهي إلا بالإخضاع أو الهزيمة . و يرسخ لحالة التناحر و التناطح القائمة بين الثقافات و المعتقدات و تغيب إثر ذلك فرص الحوار والتنافس السلمي المدني لتحل محلها رغبات السيطرة و التملك .

الأصولية الأخرى :
طالما أنك تنظر إلى الآخر بذلك القدر من الدونية و الانحطاط فإنك لن ترضى إلا بتغييره ، أو تغييبه بالطريقة التي تراها مناسبة كالقتل أو الإذلال و الاسترقاق المعنوي و المادي أو السيطرة عليه عسكريا ـ الاحتلال ـ ولا تخرج الرغبة لدى اليمين المحافظ في أمريكا بالهيمنة و السيطرة على العالم عن ذلك المنطق مع الاختلاف في التفسير والتبرير فالأصولية المتشددة و الأمركة المتطرفة يعتقدان بالأفضلية و الخيرية التي تسمح لهم بالانفراد بفرض رؤية شمولية محدودة و سيطرة مطلقة. وهنا تلمس تفسيرا مقاربا لذلك الصراع و العداء الحضاري بين التطرف الديني و التطرف الأمريكي فكلاهما يسعيان للانفراد و الهيمنة على العالم وفقا لتصورات مسبقة و الفارق في الإمكانات و القدرات و الأساليب.
لقد ساهمت تلك الرؤية اليمينية الدينية للصراع في تأجيج حدة التطرف و ساعدته في كسب متزايد للمؤيدين و الأنصار، (نقل عن الأمير نايف وزير الداخلية قوله: "نحن نواجه عشرة آلاف شخص يمكن أن يقوموا بعمليات إرهابية ومليون شخص مستعدين لدعمهم. وينبغي أن نركّز جهودنا على المليون شخص، وأن نحول بأي ثمن دون أن يقعوا في الجهة الأخرى" ).شفاف الشرق الأوسط 7/3/07. فإذا كان الوضع هكذا في دولة مستقرة نسبيا أمنيا و سياسيا فكيف هو الحال في دول و مناطق تعاني من الاضطرابات الأمنية والسياسية و تكتنفها الصراعات المذهبية و العرقية !
عندما يعتبر الرئيس الأمريكي بوش الابن أن حربه التي يقودها ضد الإرهاب صليبية مقدسة يخوضها نيابة عن الله لا يختلف كثيرا في رؤيته تلك عن من يخوض حربا دينية جهادية كخليفة لله ،- مع الفارق بالأهداف و الغايات - لقد أثارت التوجهات الدينية للسياسة الأمريكية حفيظة الأصوليين المتشددين و المتطرفين و رأوا أنهم أولى بالحرب المقدسة و الجهاد باعتبارهم أصحاب الديانة الصحيحة و السليمة الخالية من عيوب و نقائص وتحريفات الديانات الأخرى فلماذا لا يبادرون للغزو و القتال خاصة وأنهم يملكون في ظنهم تراثا عريقا يُؤصل لأفكار و أعمال تعتبر الموت غاية و قتل المختلف واجبا ولا يعني ذلك تبريرا أو تقليلا لخطورة التطرف، بل هو سعي لفهم الدوافع و الأسباب المسمدة و المخصبة لتربة التطرف و الإرهاب. فهجمات 11/9 / 2001 الإرهابية كانت سابقة للغزو الأمريكي لأفغانستان والعراق إلا أن إسباغ الصفة و اللون الديني للصراع من قبل الإدارة الأمريكية ساهم بشكل فعال في توسيع دائرة الاحتراب ، و أكسب التطرف و التشدد أدوات يتسلح بها لزج المترددين و المتشككين، وغدا لسان حاله يقول انظروا إلى الطرف الآخر هو يحاربنا أيضا بسبب إسلامنا وليس لأي سبب آخر ، و ذلك يعني إننا لم نكن مخطئين عندما بادرناه بالحرب و الجهاد، وإذا كانت الحرب دينية فنحن أحق بها و أهلها. لقد باتت تلك الحجة من ضمن رزمة من الحجج يسوقها المتشددون في سياق عرضهم لو جهة نظرهم ، و المبررات التي تدفع جماعات من الأجيال الصاعدة و الشباب للانخراط في أتون الحركات الجهادية التكفيرية ، و تقع الشبيبة فريسة لقيادات و زعامات محدودة العلم و الثقافة تختفي وراء جملة من الشعارات ، و العناوين العامة البراقة الخادعة كأبي مصعب الزرقاوي الذي ألهم الآلاف من الشباب لخوض معارك القتل و التدمير وهو بشهادة أقرانه محدود التعليم محدود الثقافة بضاعته مجزأة من علوم الشريعة و الفقه.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن المشكلة المركزية تتعلق بالتفسير والتأويل أكثر مما تتعلق بالنص ذاته ذلك أن النص المقدس مازال مفتوحا أمام تفسيرات ، وتأويلات جديدة ومغايرة لما نقل عن بعض السلف تتيح الحصول على أفكار ومناهج أقرب إلى الاندماج في النسيج الحضاري العالمي، انطلاقا من فهم أكثر وأشمل إنسانية وعقلانية من التفسير السلفي الأصولي للنص الذي ترتكز عليه جماعات الجهادية التكفيرية المتشددة ، و التي تزداد غربة و تباعدا بأعمالها و ممارساتها المبنية على فهم محدد مجتزأ منقول اكتسب مع الأيام صفة القداسة العملية حتى باتت مخالفته أو الخروج عنه مبرر للتكفير و التضليل و الإرهاب.
لقد غدا القول بمراجعة علمية عقلية نقدية للتراث النصي و الفقهي الذي تراكم و تضخم عبر ما يزيد على أربعة عشر قرنا ضرورة، تفرضها الحالة المتردية و المشاكل المتنامية و الأزمات العميقة التي تواجهها الدول ، و المجتمعات العربية و الإسلامية التي جربت الطريقة الأصولية للجهادية القتالية السلفية في ممارسة الحكم ، والمواجهة في العديد من البلدان العربية و الإسلامية من السودان إلى أفغانستان و العراق و فلسطين ، مما تسبب في تدهور ملحوظ في البني الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية و رفع من وتيرة الصراع و الاحتراب بين مختلف التنوعات و التوجهات داخل المكون الإجمالي الداخلي للعرب والمسلمين، و بين الكيانات والبنى البشرية والفكرية و الثقافية المختلفة عنه في الخارج ، حتى بات الإنسان العربي يخشى هدر حياته لأسباب و مبررات لا تنتهي، و بات التفكير بالمستقبل و الحياة الكريمة و هماً و خيالا تتقدمه أوليات التطبيق الحرفي و الفهم الظاهري لكل ما ثبت أو صح أو ظن كذلك ، فكثير من الأدلة الشرعية المعتمدة من قبل المتطرفين ظنية الثبوت تعارضها أدلة أعلى ثقة ووزنا ، ورواها آحاد نقلا عن السلف بدون أية اعتبارات علمية دقيقة أو عقلية صريحة .
الإنسان بما يملكه من إمكانات ذهنية ومهارات عملية استطاع منذ القدم تطوير وتطويع ذاته و بيئته ، بما يسمح له بالاستمرار في الوجود والعمران وبناء مجتمعه وحضارته بمعزل عن ارتباطات غيبية مصطنعة ، وهيمنة الأسطورة على مجريات و تفاصيل حياته ، لقد وجدت حضارات قديمة كبرى سابقة على الديانات السماوية، كان لها نمطها الديني المختلف و استمر السعي البشري في البناء الحضاري إبان القرون الطويلة التي رافقت سيرورة الوحي والتنزيل، وما زال البشر قادرون على استنباط واستخراج ما ينظم معاشهم حاضرا ومستقبلا بمعزل عن الوصاية والهيمنة الراديكالية بكل أشكالها التاريخية والمعرفية ، مستعينين ومستفيدين من الإرث الفكري والنصي التاريخي الإنساني بمجمله.
الاستعلاء و تغير الآخر معوقات لحوار الحضارات:
في خضم الصراع بشتى أشكاله ودوائره تتعالى الأصوات العاقلة و الحكيمة داعية للحوار ، و الاستماع إلى نداء القيم الإنسانية السامية التي تشكل جوهرا و لباً تدور في فلكه الغايات و الأهداف النبيلة لكل الأديان وكثير من الأيديولوجيات، و تقف دون ذلك معوقات و عقبات تحول دون الوصول إلى حلول نهائية أو مرحلية تشكل ضمانة لمنع تجدد المواجهات و التحديات المفضي لتنافس قاتل ومدمر .
الاستعلاء و جذور الصراع :
تتباين نظرة التعالي و التفوق بين الشرق و الغرب ، ففي حين يرى أهل الشرق بأن تفوقهم قائم على أسس مقدسة و ارث حضاري موغل في القدم ، يرى الغرب بأن تفوقه قائم على أساس التقدم الحضاري و السياسي و الإنجاز العلمي و التكنولوجي خلال العصور الحديثة. و ما بين الماضي المقدس و الحاضر المتقدم تغدو دعوات الحوار والتلاقي صرخة في واد لا يستمع لها إلا أصحابها أو المنادون بها.
ومن الممكن ملاحظة طبيعة الصراع الحالي القائم بين الشرق والغرب القائمة على أسس اقتصادية و فكرية و ثقافية أكثر من أي وقت مضى، وإذا كانت المصالح الاقتصادية والإستراتيجية للغرب تلزمه بالتواصل و التحاور مع الآخرين فان التناطح الأيديولوجي بين الأفكار والعقائد والأديان ما فتئ يؤجج الخلاف و يثير التناحر، و التصادم بشكل وصور متفاوتة الشدة تخبو حينا وتتأزم أحيانا أخرى لتصل إلى حافة الصرع الدموي في مناسبات عدة.
لقد جاءت التصريحات الأخيرة للبابا بندكتوس ـ 4 ـ لتصب الزيت على أوار نار مشتعلة أصلا لتأكد من جديد على سوء الفهم و البعد عن منطق الحوار و الجدال العقلي بين الحضارات و الثقافات ، و بالمقابل كانت ردود الفعل العربية و الإسلامية المستندة إلى عاطفة جياشة ووجدان حي كونته معتقدات أصولية تراثا ثقيلا ـ 5 ـ هي الأخرى متطرفة و بعيدة عن منطق تبادل النقد و التصحيح . رغم ما يكتنفها من إحساس بالظلم و الهيمنة و الاستعلاء الغربي .
و يُرجع كثير من العرب و المسلمين أسباب الصراع الدائر حاليا إلى و جود دولة إسرائيل في المنطقة العربية وما يستتبع ذلك الوجود من انحياز ودعم مطلق لها من قبل الغرب ، الذي اعتبر أمنها و استمرارها أولى مهماته وواجباته ، وهو بالمقابل يعتبر هزيمة الطرف المعادي لوجودها هدفا استراتيجيا تهون قبالته سفك الدماء و كسر إرادة الشعوب والدول. و إذا كان هذا الطرح لا يخلو من الحقيقة فانه لا يحتويها كلها ولا يحيط بجذور وكامل المسببات والوقائع.
فالصراع بين العالم العربي والعالم المسيحي لم يكن و ليد القرن العشرين بل هو جنين ولدَ مع أول انتشار الإسلام خارج حدود الجزيرة العربية ، عبر غزوة مؤتة بداية ، والتي شكلت أول تهديد حقيقي لسيادة الدولة المسيحية على الشرق العربي خارج موطنهم الأصلي، و استمر الصراع عبر قرون طويلة و تمكن المسلمون من غزو الغرب في عقر دارهم و احتلوا دولة من دوله، و مكثوا فيها ما يزيد على الخمسة قرون ، ثم خرجوا منها في حروب مضادة حملت جيوش الغرب المسيحي نحو الشرق في حملات وحروب صليبية توقفت لكنها لم تنتهي.
إن الاستفزاز العدائي المستمر و المتبادل بين العرب و الغرب يتسبب في إقصاء الحوار وإحلال الصراع الدامي، الذي اكتوت بناره الحضارة و المدنية أينما و جدت و حيثما حلت ، و ليس عصي على أي باحث ملاحظة مدى انتشار التطرف الفكري و العودة إلى الانغلاق الأيديولوجي في أوساط الرأي العام العالمي عموما والإسلامي خصوصا و ذلك يفسر ولا يبرر ردود الأفعال الدامية على الخلافات الدينية و الثقافية .
تتسم طبيعة التفكير الديني تحت أي مسمى أو عنوان خلال التحاور و النقاش بالدوران و الالتفاف حول القضايا الجوهرية بما يتيح الفرصة للبعد عن الخوص في غمار مسائل لا مجال للتنازل أو التغيير فيها ، حيث يحمل الاعتقاد الأيديولوجي قوقعة أو ترسا من الثوابت و الأساسيات التي لا مفر من الحفاظ عليها و الدفاع عنها مهما كلف الأمر، ومن هذا المنطلق فان موضوع حوار الأديان بالمفهوم الشامل لمصطلح الدين ؛ يغدو غير مجديا ولن يؤدي إلى تحقيق اختراقات توافقية أو نجاحات واضحة المعالم تهيئ الفرصة لتقارب و ردم للهوة بين أصحاب الأديان المختلفة.
إن تقريرنا لهذه الوقائع لا يعني بأي حال من الأحوال وقف الحوار أو السعي نحو إيجاد آليات وإجراءات كفيلة بتحقيق المصالحة والالتقاء حول نقاط وأهداف يتم التوصل إليها انطلاقا من مفاهيم و قيم إنسانية مشتركة راسخة في الفكر والمعتقد الإنساني بكل تشعيباته وتنوعاته.



أساس الحوار الكف عن الرغبة في تغيير الآخر :

يهيمن على التصور الديني ـ ونقصد هنا كل الأديان بما فيها غير السماوية ـ للعالم و الإنسان فكرة الحق المطلق ، والرغبة و الحاجة كضرورة ملحة إلى تغيير الآخر و دعوته للانطواء تحت راية واحدة شاملة عامة تامة ، و كاملة فيها الخير و النجاح و رغد العيش في الدنيا و النجاة و الفردوس في الآخرة ، و تختلط تلك الرغبة مع مفاهيم الهداية و الضلال بحيث تكون الغاية من الحوار و النقاش إيصال الغير إلى جادة النجاة و الفوز المتمثلة في تصور دغمائي لا يغادر صغيرة و لا كبيرة إلا تناولتها .
و لا ينحصر ذلك التصور في الفكر الإسلامي بل يغادره ليصب في خضم تيارات فكرية قومية و ماركسية تتباين رؤيتها للعالم و الإنسان و تتوحد غايتها و تطلعاتها في لم شمل جميع الكائنات و فق منظومات فكرية و عقائدية مسبقة و ثابتة ، تختص ذاتها بالأفضلية و الخيرية دون غيرها وهنا نستطيع القول بأن إمكانيات التحاور و التلاقي في خضم تلك التصورات و الرؤى تبدو شاقة بل أكثر بعدا و منالا مما يمكن تخيله و استقراؤه . لقد شهد الفكر الديني الإسلامي تاريخيا و في العقود الأخيرة تطورا ملحوظا تجلى في دعوات و مطروحات جديدة و منفتحة استطاعت الحفاظ على روحية و قيم الرسالة السماوية مع فرصة سانحة و متوفرة للقاء الآخر ، و قبوله بما يحتوي من تنوع و اختلاف و إذا كان التيار التجديدي و الإصلاحي مازال غير قادر على تعويم نفسه ، و الوصول إلى قواعد أوسع من المتلقين فإن الفرصة تبقى موجودة للمضي قدما في العمل و السعي نحو إحلال فكر و ثقافة إسلامية قوامها احترام وتقدير الموروث حق قدره ، و تبني العقلانية والتسامح والإقرار بمبادئ حقوق الإنسان، إن وجود تيار كهذا في أوساط و أجواء الثقافة العربية كفيل بتحقيق التقارب و تخفيف حدة التطرف و الصدام بين الحضارات والثقافات؛ ذلك الصدام الذي بات وشيك التحول إلى تعارك مرفوض بين الشعوب والأمم.
وإذا كانت الدعوة قائمة للتجديد و الإصلاح في الشرق العربي المسلم فإن معوقات كثيرة تقف في وجهها، تُبطئ مسيرتها وتحوْل دون تحولها إلى ثقافة جماهيرية وسلوك عملي بين المسلمين ، والدعوة ذاتها واجبة مطلوبة في الغرب المسيحي الذي لم يكف عن الاعتقاد و التصور بأن العرب و المسلمين كتلة واحدة متجانسة يجمعها نفي العقل و تبني التطرف ، و إذا كانت أقلية لدينا تتبنى ذلك التصور فمن الظلم عدم الالتفات لأكثرية تتبنى الاعتدال وإلى جهود جبارة يقوم بها العديد من دعاة الإصلاح و التنوير، إن هذا الاعتقاد القديم والخاطئ لدى أكثرية في الغرب تسبب في العديد من الصدامات و الأزمات ، كما أنه قابل للتسبب في المزيد ما لم يتم توفر إرادة، حقيقة في الفهم السليم و الحوار العقلي الممنهج من قبل الطرفين. وإذا كنا نتطلع إلى تغير في تصورات وقناعات الآخرين فإنه ينبغي علينا البدء من الداخل بالنقد والمراجعة ، ونقض لأفكار تعادي العقل وتتبنى العنف والتطرف وإزالة أو تغيير الآخر بصرف النظر عن إمكانية اعتباره كائنا له الحق في حرية الفكر والاعتقاد. وفي المقابل فإن هناك حاجة لفهم أعمق لمكونات العقل العربي و الوجدان الجمعي السائد وطريقة تفكيره، و آليات تقصيه للحقيقة ومدارسه التاريخية السلفية والتقدمية ، ما لم يحصل ذلك فإن كل محاولة فرض التغيير بالقوة ومن منطلقات نظرية غربية، كالذي مارسته الولايات المتحدة الأمريكية في العراق، لن تنجح و لن تحقق المطلوب بل تسببت في فتوة التطرف وإحياء الأصولية بمرجعياتها القديمة المحدودة الآفاق وانتقائية الرؤية.
الحضارة وما تنتجه و تفرزه من أشكال الفن والجمال والعمارة ، وما استطاعت الوصول إليه من تطور مذهل في ميادين العلم والمعرفة هي صنع بشري إنساني، تراكم وتكامل وفقا لمنظومة أنثروبيولوجية تاريخية كان للأديان دور بارز في صيرورتها ، إلا أن العلاقة بين الحضارة والغيب ـ الميتافيزيقيا بمضمونها الأسطوري ـ ليست شرطا لو جودها أو استمرارها. كما أن العلاقة الجدلية بين الحضارة و الفكر الديني السماوي ليست صراعا ضروريا لتشكل الحضارة و بروز منتجها الإنساني. وتشكلت حضارات إنسانية عريقة مازال بعضها حيا إلى يومنا هذا سابقة على الفكر الديني بمضمونه الحديث ، و لقد شكلت الأصولية ـ الراديكالية عموما ـ على الدوام عائقا حضاريا وقف ممانعا و معارضا لمسيرة العلم و المعرفة ـ أحرقت كتب ابن رشد في القرن الثالث عشر وأحرق العلماء في أوروبا بالقرون الوسطى ـ و في راهن العرب و المسلمين كما كان عليه الحال في مراحل عدة من التاريخ الإسلامي مارست الأصولية العداء للفن و الإبداع و دعت للتكفير و هدر دم كل من خالف مرجعياتها و حدودها العقائدية الصارمة .
التصلب الفكري و جمود المرجعيات و الفوقية العقائدية و السعي لتغيير الآخر معوقات رئيسة في درب الحوار الحضاري و التقارب الفكري و اللقاء المدني.



هوامش :
1ــ بيشاور - أ ف ب
أعلنت الشرطة الباكستانية أن أشخاصا ينتمون لجماعات إسلامية متطرفة على الأرجح فجروا ليل الخميس صباح الجمعة 4-5-2007 عشرات متاجر الموسيقى في شمال غرب البلاد.

واستهدفت التفجيرات ثلاثة أسواق في مدينة شارسادا الواقعة على بعد 20 كلم شمال شرق بيشاور عاصمة إقليم الحدود الشمالية الغربية, حسبما أعلن مسؤول في شرطة الإقليم، وقد كانت كافة المتاجر المستهدفة مقفلة أثناء تفجيرها ولم يفد عن وقوع إصابات.
وتلقى مالكو هذه المتاجر التي تبيع كاسيتات وأقراصا مضغوطة في الآونة الأخيرة رسائل تهديد من ناشطين محليين في حركة طالبان طالبتهم بالتوقف عن بيع الموسيقى التي يعتبرون أنها تتعارض والشريعة الإسلامية.

ويوم السبت الماضي وقع تفجير انتحاري في شارسادا أثناء إلقاء وزير الداخلية افتاب شرباو كلمة في تجمع ضم نحو 400 شخص ما أسفر عن مقتل 28 شخصا وإصابة الوزير بجروح طفيفة.
ويضم إقليم الحدود الشمالية الغربية الذي يحكمه تحالف من ستة أحزاب إسلامية منطقة القبائل الحدودية مع أفغانستان معقل الناشطين الإسلاميين القريبين من طالبان والمفترضة علاقتهم بتنظيم القاعدة ¸
2 ــ دبي- فراج إسماعيل :العربية نت
الأحد 29 أبريل 2007م، 12 ربيع الثاني 1428 هـ
ـ من جهته قال الشيخ عبدالله مجاور مدير مكتب شيخ الأزهر إن د. سيد طنطاوي طالب في محاضرة ألقاها في مسجد "النور" بالعباسية بوقف هذه الحملات ضد الصحابة وقال "إن ما يحدث ليس معقولا، فكيف نهاجم الصحابة الذين ذكاهم الله ورضي عنهم، والرسول يقول فيهم: أصحابي كالنجوم بأي اقتديتم اهتديتم، ويقول في معنى حديث آخر: من عاداهم فقد عادى الله سبحانه وتعالى ورسوله".
وأضاف بأن شيخ الأزهر تساءل: كيف نعيب على صحابي من صحابة رسول الله، بينما هو ينقل عنه سنته وأحاديثه، ولذلك طالب بالابتعاد عن أي صحيفة تخوض في هذا الكلام.
أما الصحافي محمد الباز الذي كتب سلسلة المقالات عن أبو هريرة في جريدة "الفجر"
فقال إنه لم يتناوله بشكل متعمد ولم يوجه له سبابا، وإنما كان يعرض كتابين يباعان في السوق وهما "جناية البخاري" لزكريا أوزون، و"شيخ المضيرة" لمحمود أبو رية، ولم يقل بصحة ما فيهما من أراء لأنه غير متخصص، ولكنه طلب من العلماء المتخصصين الرد على هذا المضمون، وهل هو كلام صحيح أو غير ذلك.
وأضاف لـ"العربية. نت": لا توجد عندي أي خصومة شخصية ضد البخاري أو ضد أبو هريرة، وإنما سعيت فقط لمعرفة أراء المتخصصين، لأن الناس تقرأ مثل هذه الكتب، وتريد من يصحح لها هذه المعلومات، وقد طلبت شخصيا من الشيخ صفوت حجازي أن يرد في "الفجر" وسنعطيه نفس المساحة، ولكنه رفض وقال إن له منبره الإعلامي الذي سيرد من خلاله، وفعل ذلك من خلال حلقة من برنامجه التليفزيوني تضمنت تحريضا شديدا على الجريدة، مشيرا إلى أن مبيعاتها لم تتأثر حتى الآن.
واستطرد محمد الباز بأن "شيخ الأزهر أفتى أيضا بمقاطعة الجريدة، وزاد على ذلك بأن اعتبر توقير واحترام الصحابة ركنا سادسا من أركان الإسلام. لكنني أعتقد بأن كلام شيخ الأزهر راجع لخلافه مع الجريدة التي نشرت له قبل فترة صورة على الغلاف عندما أعلن عن نيته زيارة الفاتيكان، وكانت هذه الصورة موضع استياء منه".
3 - سيد القمني الحوار المتمدن العدد 1937/6م5م2007
4 ـ تطرق البابا بنديكتوس السادس عشر خلال زيارته إلى ألمانيا بتاريخ 12 سبتمبر 2006 إلى موضوع حساس جدا هو العلاقات مع الإسلام وعرض تأملات مشوبة بالحذر حيال ديانة أخذ عليها أنها لا تدين بالشدة المطلوبة العنف الذي يمارس باسم الإيمان وأن "المشيئة الإلهية" فيها منقطعة عن العقل .
وقال " إن الله في العقيدة الإسلامية مطلق السمو ومشيئته ليست مرتبطة بأي من مقولاتنا ولا حتى بالعقل ". وأقام مقارنة مع الفكر المسيحي المشبع بالفلسفة الإغريقية , موضحا أن هذا الفكر يرفض " عدم العمل بما ينسجم مع العقل " وكل ما هو " مخالف للطبيعة الإلهية " .
وذكر مقطعا من حوار دار في القرن الرابع عشر بين إمبراطور بيزنطي و"فارسي مثقف". ويقول الإمبراطور للمثقف " أرني ما الجديد الذي جاء به محمد. لن تجد إلا أشياء شريرة وغير إنسانية مثل أمره بنشر الدين الذي كان يبشر به بحد السيف ". وقد عبر البابا الذي يتزعم أكثر من مليار كاثوليكي في أنحاء العالم عن أسفه ثلاث مرات خلال أسبوع لرد الفعل الغاضب الذي سببه خطابه في أوساط المسلمين، غير أنه لم يقدم الاعتذار الصريح الذي طالب به كثير من المسلمين. ووصفت المتحدثة باسم الخارجية الباكستانية تسنيم أسلم تلك التصريحات بأنها تنم عن جهل بالمبادئ الأساسية للإسلام. وقالت إن ما صدر عن بابا الفاتيكان يؤسف له وينم عن التحيز.
وأضافت أن الإسلام هو دين الفطرة والعقل والإنسانية وأنه يحث أتباعه على ذلك لذا فمن المستهجن أن يقول قائل اليوم إن الإسلام لا يعترف بالمنطق وإنه اعتمد السيف في نشر الدعوة.
5ـــ احتوى كتاب ابن تيمية الصارم المسلول على شاتم الرسول جملة من الحدود الصارمة لمن يتعرض للرسول الكريم بشبهة أو نقد من المسلمين أو غيرهم و كانت العقوبات المقترحة ردا على ساب الرسول من المسلمين و غيرهم : أنه يقتل ولا يستتاب، سواءٌ كان مسلماً أو كافِراً. و النص التالي المنقول من الكتاب يوضح الحكم المستنبط من أحاديث الني ص ومن تطبيقات الخلفاء وغيرهم من الصحابة :
يُقتل شاتم النبي  بغير استتابة
قال الإمام أحمد بن حنبل في رواية: كل من شتم النبي  وتنقصه مسلماً كان أو كافِراً فعليه القتل، وأرى أن يقتل ولا يُستتاب.
وقال: كل من نقض العهد وأحدث في الإسلام حدثاً مثل هذا رأيت عليه القتل، ليس على هذا أُعطوا العهدَ والذمةَ.
وقال عبدالله: سألت أبي عمن شتم النبي  يستتاب؟ قال: قد وجب عليه القتل، ولا يستتاب، خالد بن الوليد قتل رجلاً شتم النبي  ولم يستتبه.
هذا مع نصه أنه مرتدٌّ إن كان مسلماً، وأنه قد نقض العهد إن كان ذمِّياً وأطلق في سائر أجوبته أنه يقتل، ولم يأمر فيه استتابة هذا مع أنه لا يختلف نصه ومذهبه أن المرتد [المجرد] يستتاب ثلاثاً، إلا أن يكون ممن ولد على الفطرة، فقد رُوي عنه أنه يقتل ولا يستتاب، والمشهور عنه استتابة جميع المرتدين، واتبع في استتابته ما صح في ذلك عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي موسى وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم أنهم أمروا باستتابة المرتد في قضايا متفرقة وقدرّها عمر رضي الله عنه ثلاثاً وفسر الإمام أحمد قول النبي : "مَنْ بَدَّلَ دِيْنَهُ فَاقْتُلُوهُ". بأنه المقيم على التبديل الثابت عليه، فإذا تاب لم يكن مبدلاً، وهو راجع يقول: قد أسلمتُ. أـ هـ
فالمسألة في غاية الخطورة كونها ارتبطت بثابت الحديث وباجتهادات على جانبي النص التزمت التشدد و الجنوح نحو استعمال القوة و العنف مباشرة كما فعل خالد بن الوليد أكثر من مرة في أكثر من مناسبة.
مراجع ومصادر :
1 ـ تفسير الطبري : جامع البيان عن تأويل آي القرآن المعروف بـ "تفسير الطبري" للإمام محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الشهير بالإمام أبو جعفر الطبري،
2 ـ فتح القدير : تفسير القرآن. فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية. محمد بن علي بن محمد الشوكاني: محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني
(المتوفى: 1250هـ)
3 ـ تفسير ابن كثير : تفسير القرآن العظيم المشهور بـ "تفسير ابن كثير"، للإمام عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي المعروف بابن كثير (المتوفى 774 هـ)،
4 ـ الصارم المسلول على شاتم الرسول : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي (المتوفى: 728هـ)
5 ـ كتاب المصالحة مع العقل مقدمة في علم الإصلاح والتجديد : المؤلف إحسان طالب : دمشق ، الناشر دار متري
6 ـ وكالات الأنباء العربية والعالمية








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأرجنتين تلاحق وزيرا إيرانيا بتهمة تفجير مركز يهودي


.. وفاة زعيم الإخوان في اليمن.. إرث من الجدل والدجل




.. بحجة الأعياد اليهودية.. الاحتلال يغلق الحرم الإبراهيمي لمدة


.. المسلمون في بنغلاديش يصلون صلاة الاستسقاء طلبا للمطر




.. بينهم طلاب يهود.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين تهز جامعات أمري