الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحَلّ هو فَصْل الدّين عن الدولة

عبد الرحمان النوضة
(Rahman Nouda)

2019 / 5 / 18
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


[هذا المقال مكتوب على شكل حوار].
آدم: رُبَّمَا! قد يكون معك الحق فيما قلته سابقًا! يُستحسن فعلاً نـقد كلّ أشكال استـغلال الدّين في السياسة! لكن في غالبية الحالات، يصعب على الشعب أن يُدرك حيلة «استـغلال الدّين في السياسة». فكيف يمكن اكتشاف هذه الحيلة؟ وكيف يمكن مواجهتها؟
إبراهيم: في كثير من الحالات، يصعُب فعلاً على عامّة المواطنين أن يلاحظوا حيلة «استـغلال الدّين في السياسة». وغالبًا ما تُـنَـفَّذ هذه الحيلة على الشّكل التالي: لِنَـفْتَرِض مثلاً وجود فاعل سياسي يريد تـغليب مصالحه الخاصة، فيدّعي هذا الفاعل أنه «مُتَدَيِّن»، أو أنه «إسلامي». ثم يُدافع هذا الفاعل السياسي على موقفه السياسي الشخصي (الذي يخدم مصالحه الخاصة)، ويُعلّله بآيات قرآنية منسوبة إلى الله، أو يُدعّمه بأحاديث منسوبة إلى النّـبـي، أو يبرّره بِتَأْوِيل مُعيّن لِـ «الشّريعة الإسلامية»، أو يُؤيّده بِفَتْوَى فِـقْهِيَّة. فيقدّم هذا الفاعل السياسي موقفه الشخصي الخاص على أنه تطبيق لِأَمْر صَادر عن الله، أو أنه مُستمدّ من توجيه نَبَوِي، أو أنه نتيجة لِتوصية دينية. فَيُلْغِي هكذا بشكل مُطلق حق المواطنين الآخرين في مُخالفة رأيه الشخصي. فإذا عارضتَ رأيَ هذا الفاعل السياسي، فإنّه سَيَتَّهِمُك بمعارضة الله. حيث سيحاول فرض رأيه، أو موقفه، أو مصلحته الخاصة، على شكل أَمْرٍ من الإله. كما يمكن مثلا لِفَـقِيه، أو لمُرْشِد دِيني، أن يزعم أنه هو وحده الذي يفهم الدّين بشكل صحيح، ثم يعبّر عن موقف سياسي خاص به شخصيًّا، ثم يدّعي أن هذا الموقف السياسي هو تنـفيذ لإرادة الله. ويمكن أيضا لفقيه، أو إمام، أو خليفة، أو زعيم، أو أمير، أو حاكم، أو سلطان، أو مَلِك، يريد منع مواطنيه من أن يعارضوا حكمه، أن يدّعي أنه «أمير للمؤمنين»، أو أنه «وَلِـيُّ الله». ويزعم أن الله هو الذي اختاره شخصيا لكي يكون «أميرا على المؤمنين»(1). وفي مَثَل آخر، نلاحظ أن الأفراد الرّاغبين في الاِسْتِمْتَاع بِـ «تـعدد الزوجات»، يدافعون عن هذا التـعدّد باعتباره حقّا أَحَلَّهُ الله. ويقولون: «لا يحق لأحد أن يحرّم مَا أحلّ الله» (ولو أن تـعدّد الزوجات يكرّس دُونية النساء). ويستنتج هؤلاء الأفراد من هذه المرجعية الدّينية أنه لا يحق لأي بشر أن يعارض هذه الإرادة الإلهية. ومن عارضها، يتّـهمونه بكونه عَدُوًّا للّه، وبالتّالي يجوز قتله. هكذا تُدَبَّرُ أشكال مختلفة من حِيَل «استـغلال الدّين في السياسة». ويُؤدّي هذا الاستـغلال للدّين إلى فرض «إِرْهَاب فِكْرِي»، باسم الدّفاع عن الدّين. بينما الدّين هو بريء من كل هذه المَزَاعِم. والأشخاص الذين يضطهدون غيرهم بدعوى الدِّفاع عن الإله، لا يدركون أن كلّ إله يحتاج إلى أن يدافع عنه بعض البشر، ليس بإلَه حقيقي. لأن الإلَه الحقيقي لا يحتاج إلى أن يدافع عنه أيُّ بشر كان. وكل شخص يظن أنه يدافع عن الإله، إنما يدافع عن مصالحه الشخصية الأنانية، أو يدافع عن مصالح أسياده الذين يحكمونه.
آدم: ولكن لماذا هذه الرّاديكالية في التـفكير؟ لماذا هذا الخروج من المنظومة الفكرية الدّينية؟ ألا يمكن خوض الصّراع الفكري وربحه من داخل المنظومة الفكرية الدّينية؟
إبراهيم: نقاش الدِّين من داخله، هو فَخٌّ يستحيل الخَلَاصُ منه. مَا أريد نقاشه، ليس هو الدّين، وإنما هو علاقة الدِّين بالدولة. لِذَا أناقش من خارج المنظومة الفكرية للدِّين.
آدم: ولكن لماذا لَا نَـكْتَـفِي بطرح قراءات مخالفة ومتنوّرة للنّصوص الدّينية المقدّسة؟ ألا يمكن الاقتصار على محاولة إقناع أي فاعل مجتمعي يستـغلّ الدّين في السياسة، بتأويلات مخالفة تُبرز الروح التـقدّمية والعادلة الموجودة في النّصوص الدّينية؟ لماذا لا نكتـفي بالنّـقد العلني، وبنشر الحُجج الدّينية، ضدّ كل الذين يستـغلّون الدّين في السياسة؟ وحتّى إذا لم يكن سهلا إقناع الفاعلين الذين يستـغلّون الدّين في السياسة، أليس بالإمكان إقناع عامّة جماهير الشعب؟
إبراهيم: بيّنت التجارب التاريخية، المتكرّرة، والمريرة، وبما فيه الكفاية، أنه لا يمكن إقناع المتديّنين الأصوليين المتشدّدين، لا بكلام ديني، ولا بكلام عقلاني. فلا يبقى من حلّ سوى تفعيل القوانين، والالتزام بالديمقراطية، والفصل بين الدّين والدولة، وسنّ حرّية العقيدة، وحرّية العبادة، وحرّية عدم العبادة. وفي هذا الإطار، يمكن لكل مُتَدَيِّن أصولي أن يطبّق تَدَيُّنَه على نفسه، إن أراد ذلك، لكن القانون يمنعه من أن يحاول فرض تديّنه على غيره.
آدم: أنت تُدافع إذن عن ’’العِلمانية‘‘ (بكسر العين) (scientisme)، أو ’’العَلمانية‘‘ (بفتح العين) (sécularisation)، أو عن ’’اللاّئكِيّة‘‘ (laïcité). وهي كلّها أفكار مرفوضة، لأنها من إنتاج البلدان الغربية المسيحية، وليست من تراث الشعوب المسلمة! وهويّتي الإسلامية تَحُثُّـنِي على رفض كل ما هو صادر عن البلدان الغربية المسيحية! وهذه ”العلمانية“ هي مؤامرة غربية، وصهيونية، وتحارب الإسلام، وتـعادي الشريعة الإسلامية، وتهدف إلى محاربة القِيَم الإسلامية، وإلى نشر الفساد، وإلى السّيطرة على البلدان المسلمة!
إبراهيم: لِنَتأمّل يا مواطن في هدوء! أنا أتـفهّم غيرتك على تراث الشعوب المسلمة. وأساند حقّك في الدّفاع عن هذا التراث. لكن، على خلاف ما قُلْتَ، أنا لا أدافع عن ’’اللاّئكِيّة‘‘، ولا عن ’’العِلمانية‘‘ (بكسر العين)، ولَا على ’’العَلمانية‘‘ (بفتح العين). ولم أنطق في كلامي السّابق، ولو مرّة واحدة، بكلمة ’’العِلمانية‘‘(2)، أو ’’اللاّئكِيّة‘‘. ولا أحتاج إلى استـعمال مصطلح ’’اللاّئكية‘‘ أو ’’العلمانية‘‘. ولا أريد نشر أية منظومة فكرية أو أيديولوجية جديدة. وإنما أكتـفي بأن أقول: مرجعيتي الفكرية الوحيدة، هي الواقع الملموس، والعقل الجماعي، أو العقل المُجتمعي، والعلوم الدقيقة. فَهَلْ العقل هو أيضا من إنتاج البلدان الغربية وحدها؟ لِنُفكّر يا مواطن! العقل هو مرجع مشترك لكل البشرية. فلا أحتاج إلى الدّفاع عن ’’العلمانية‘‘، أو عن ’’اللَّائِكِيَّة‘‘. وإنما أكتـفي بالدّعوة إلى إعادة الاعتبار إلى العقل، وإلى الدّفاع عن ضرورة فصل الدّين عن الدولة. وتنتج عن مبدأ ”فصل الدّين عن الدولة“ إجراءات أخرى، منها فصل الدّين عن السياسة، وفصل الدّين عن القانون، وفصل الدّين عن الفُنون، ودسترة حرّية العقيدة، وحرّية العبادة، وحرّية عدم العبادة، (وذلك بغضّ النظر عن نوعية الدّين القائم في البلاد، سواءً كان هذا الدّين هو اليهودية، أم المسيحية، أم الإسلام، أم الهندوسية، أم الشِّنْتُوسِيّة، أم هي مختلطة، أم غير ذلك). والموافقة على فكرة فصل الدّين عن الدولة، لا تـعني، ولا تُبَرِّرُ، إقصاء الدّين من المجتمع، ولا تعني حِرْمَان المواطنين من حق التعامل بحرّية مع التراث الدّيني.
آدم: لكن ”الدولة المدنية“، التي تدافع عنها أنت، تخالف الشريعة الإسلامية. وفي هذه ”الدولة المدنية“، يكون الحاكم ملزما بأن يحكم بما وافق عليه الشعب، وليس بما أراده الله. والديمقراطية هي انحراف عن الإسلام. والدّاعون إلى بِدْعَة «الديمقراطية» هم عملاء للبلدان الغربية الإمبريالية، أو عَلْمَانيون، أو مُلْحِدُون، أو كُفَّار. والشريعة الإسلامية هي وحدها التي تُجسّد إرادة الله. والشكل الشرعي الوحيد للحُكم هو ”الحَاكِمِيّة“، أي أن تكون السيادة الشّاملة للّه وحده، وليس للشعب، ولَا لِحُكّام مُنْتَخَبِين.
إبراهيم: يا مواطن، يجب أن نحذر من الأشخاص الذين يريدون بيع الأوهام إلى الشعب! أنت تريد تحقيق أطروحة «حُكْم الله وحده». لكنك لا تُدرك، أنه يستحيل، أن ينزل الإله إلى الأرض، لكي يمارس، هو بنفسه، حُكمه الإلهي المباشر، على المجتمع! لأن الإله لا يتدخّل في شؤون البشر والمجتمعات. وحتّى إذا أعطينا إلى مصطلح «الحَاكِمِيَّة» معنى الاِحْتِكَام إلى النُصُوص الدّينية المقدّسة (مثلما يريد بعض الفقهاء الأصوليين)، وحتّى إذا افْتَرَضْنَا أن هذه «الحَاكمية» المزعومة قد تحقّـقت على أرض الواقع، فإن كثيرين من بين هؤلاء الفـقهاء الأصوليين لا يقبلون بأن يمارس السلطةَ السياسيةَ أيُّ أحد غيرهم. بل يعتبر بعض هؤلاء الفقهاء الأصوليين أن الفئة المجتمعية الوحيدة المؤهّلة لممارسة السّلطة (الدّينية، والسياسية، والاقتصادية، والثـقافية، والعلمية) هي فقط هيئة فقهاء الدّين الأصوليين، وليس غيرهم. وذلك بدعوى أن فقهاء الدّين هم الأشخاص الوحيدون الذين يجوز لهم أن يَحْتَكِرُوا حقّ فهم النصوص الدّينية، وتأويلها، وشرحها، والسّهر على تطبيقها. وفي كلّ الدّيانات، وفي كلّ بقاع العالم، وفي كلّ الفترات التاريخية، يميل كثيرون من بين فقهاء الدّين إلى تطبيق أطروحة «الاِحْتِكَام إلى كلام الإله»، على شكل أطروحة «الاحتكام إلى فقهاء الدّين». بل بعض الانتهازيين، الذين يطمحون إلى ممارسة السلطة السياسية، يلجؤون إلى ارتداء لِبَاس الفقيه الدّيني، وَيَتَّـبِعُون طُقُوسه، وتـقاليده، ويزعمون أنهم أكبر الفقهاء. ولا يتردّد بعض فقهاء الدّين الأصوليين في إِضْفَاء صِفَة إِطْلَاقِيَّة، أو قَطْعِيَّة، على تأويلاتهم الشخصية للنصوص الدّينية. بل يَضَعُ هؤلاء الفقهاء الأصوليين تطابقًا بين تأويلاتهم الشخصية، وبين مضامين النّصوص الدّينية الأصلية المقدّسة هي نـفسها. فَيَضَعُ بعض هؤلاء الفقهاء أنفسهم في مرتبة الإله، أو في مرتبة النّبي، ويتكلّمون باسمه، ويحكمون نِيَّابَةً عنه. ويريد الإسلاميون الأصوليون فرض «أَسْلَمَة» الدولة، والقانون، والعلوم، والفنون، والأدب، والثـقافة. وتـعني هذه «الأَسْلَمَة» فرض هيمنة فقهاء الدّين على كلّ مظاهر حياة المُجتمع. ثمّ يلجؤون إلى تشريع استبدادهم المُطلق. ولو أن التجربة التاريخية تبيّن أن فقهاء الدّين، كانوا ولا زالوا، يختلفون في الآراء فيما بينهم، وأن اجتهاداتهم تبقى شخصية، أو نسبية، أو ذاتية، أو مُتَحَامِلَة، أو مُغْرِضَة. وهكذا يتحوّل شعار «الحُكْمُ للّه وحده» إلى شعار آخر مُسْتَتِر، هو: «الحُكْمُ لِفُقَهَاء الدّين الأصوليين وحدهم»، أو «الحُكْمُ لِلْمِيلِيشْيَات الإسلامية المُسَلَّحَة وحدها»! ومن يعارض هؤلاء الفقهاء الأصوليين، يُوصف بِ «معارضة حُكم الله»، ويُتَّهَمُ بِ «الكُفر»، لتبرير جريمة تصفيته. فَتُصَنَّف زورًا الصراعات السياسية بين المواطنين على أنها «صراعات دينية»، بين من يقبل حُكْمَ الله، ومن يَرْفُضُه. والله بريء منهم جميعًا. وقد جُرِّب مثلاً حُكم فقهاء الدّين في كلّ من أفغانستان، تحت حكم «طَالِبَان»، وفي إيران، بعد ثورة آية الله خُميني مُوسَوِي، وفي سوريا والعراق تحت حكم «دَاعِشْ (الدولة الإسلامية في العراق والشّام)»، وفي السّودان تحت حكم العسكر الأصوليين، وفي الصّومال تحت حكم «الشّباب»، إلى آخره. وفي مجمل هذه الحالات، كانت دائمًا النتيجة هي الاستبداد، والتخلّف، والانحطاط، والحرب الأهلية، والخَرَاب، والمَآسِي! وأطروحة «الحُكْمُ لِلَّهِ وَحْدَه» هي مجرد حلم أيديولوجي. ولم يسبق، عبر مجمل التاريخ الطويل للبشرية، أن حدث حُكْمٌ أُجْمَعَ المُراقبون على اعتباره «حُكم الإله». بل كلّ الحكّام (المتديّنين، وغير المتديّنين) الذين عرفهم تاريخ البشرية، هم كلّهم بشر. وتُحُرِّكُ دائما هؤلاء الحُكّام البشر مصالحٌ خاصّة، أو شخصية، أو عائلية، أو قَبَلِية، أو فئوية، أو طائفية، أو طبقية، أو إثنيّة. ولهم تأويلات شخصية مُغْرِضَة لنصوص الدِّين. وكانت تُثَار دائمًا خلافات حول هذه التّأويلات. بل يلزم أن تبقى هذه التّأويلات المُتَخَالِفَة غير مُلْزِمَة، لَا لِلْمُتَدَيِّنِين، ولاَ لغير المتديّنين. فَلا يحقّ للحُكّام البشر أن يزعموا أنهم «يحكمون نيّابةً عن الإله». وكلّ من يزعم ذلك فهو كاذب، أو مُحتال، ويستـغلّ الدّين لخدمة أغراضه الخاصة.
آدم: حاولتْ بعض الحركات الإسلامية أن تأتي بحلّ وسط، أو بحلّ تَوْفِيقِي، وهو إقامة تَمَايُز بين الدّين والدولة، وليس إقامة فصل بين الدّين والدولة.
إبراهيم: هذا مجرّد تَحَايُل لُغَوِي، عديم المنفعة. يقول القاموس: تَمَايَزَ، يَتَمَايَزُ، تَمَايُزًا، بمعنى اِخْتَلَفَ، يَخْتَلِفُ، اخًتِلاَفًا. فيبقى المشكل كما هو: هل نُخضع تنظيم الدولة للدّين، أم يجب أن يكون تدبير الدولة مستـقلًّا عن النصوص الدّينية؟
آدم: اعتبارا لما طرحتَه سابقًا، أقول أن المَخْرَج الوحيد من هذه المُعضلة، هو أن نعمل جميعا لكي تكون إرادة الشعب منسجمة مع إرادة الله، وخاضعة لها. ألا تتّـفـق معي؟
إبراهيم: تمهّل يا مواطن! لِنَتَساءل: من يريد فرض «الحَاكِمِيّة» (بمعنى «الحُكْم الشّامل لله وحده على المجتمع»)؟ معلوم أن النصوص الدّينية لم تتكلّم عن «الحَاكِمِيَّة»، وإنما بعض السياسيين الإسلاميين الأصوليين هم الذين ابْتَدَعُوا مفهوم «الحاكمية»، وهم الذين يريدون فرض هذه «الحاكمية» المزعومة. أما الإله، فهو بريء من هذه المزاعم. ويصف الأصوليون المواطنينَ الذين يرفضون «الحاكميّة» بكونهم «يعارضون إقامة حكم الله»، و«يعاكسون إرادة الإله». فيتّهمونهم بِ «العلمانية»، أو «الرِدَّة»، أو «الإلحاد»، أو «الكفر». ولا يدرك هؤلاء الأصوليين أنهم هكذا، يفترضون أنه بإمكان بعض البشر أن يعاكسوا إرادة الإله. الشيء الذي سوف يعني أن قوّة هذا الإله محدودة. وفي هذه الحالة، سيكون هذا الإله مخالفًا للإله الحقيقي. لأن الإله الحقيقي، إن أراد شيئا، يقول له: «كُـنْ!»، فيكون، دون أن يستطيع أي كائن آخر أن يعاكس هذه الإرادة الإلهية. وَلو كان الإله يريد حقيقةً أن يفرض حكمه المباشر والشّامل على المجتمع، لفعل ذلك منذ زمن بعيد. ولو كان الإله يريد فعلاً أن يطبّق البشرُ إرادَته الإلهية، أو نمطًا محدّدًا في العيش، أو صِنْـفًا من الحُكْم، أو شكلا من أشكال الدولة، فبإمكان الإله أن يُنَـفِّذَ هو نفسُه إرادته، إن كان إلاها حقيقيا. ولا يحتاج الإله في ذلك إلى مساعدة الحركات الإسلامية الأصولية، ولا يحتاج إلى «جهاد» المِيلِيشْيَات المُسَلَّحَة، ولا يحتاج إلى موافقة البشر على تلك الإرادة الإلهية. حيث لا يوجد كائن يقدر على منع الإله من تنفيذ إرادته. وما دام الإله لم يفعل ذلك، فمعناه أن البشر الذين يريدون إقامة «الحُكم لِلَّه وحده»، إنّما يَفْتَرُون على الإله. وما يفعله هؤلاء الإسلاميين الأصوليين هو إدخال السياسة إلى الدّين، واستـغلال الدّين في السياسة، بهدف استيلائهم على السلطة السياسية، وإضفاء الشرعية على استبدادهم الشخصي الخاص، الذي يرغبون في فرضه على الشعب. ولا يُعقل إخضاع الشعب لِ «حَاكِمِيَّة» مَزْعُومَة، هي نظريّا «الحكم لِلَّه وحده»، لكنها في الواقع هي «حُكم الإسلاميين الأصوليين وحدهم». والمواطنون هم بشر أحرار. ومن يحاول إجبار الشعب على الخضوع لتأويلات قَاصِرَة لنصوص دينية، يفرض أَبَوِيَّتَه على الشّعب، بل يُلغي حرّياته. وإلغاء حرّيات البشر، يُلغي مسؤوليات هؤلاء البشر، ويُلغي حتّى مشروعية الحساب الدّيني خلال يوم القيامة. فهذا التَّـفكير الذي يفكّر به الإسلاميون الأصوليين غير سليم في منهجه.
آدم: على خلاف كلامك، تـقول الآية: «أَلَا لَهُ الحُكْمُ»(3). وتـقول آية أخرى: «له الحَمْدُ في الأولى والآخرة، وله الحُكْمُ»(4). وفي آية أخرى: «إِنِ الحُكْمُ إلاّ لله»(5). وهذه الآيات تُثبت أن الذي ينبغي أن يَحْكُم في الدولة، وفي المجتمع، هو الله، وليس البشر. وهذه هي إرادة الله التي ينبغي تطبيقها.
إبراهيم: لاَ يا مواطن! ما زعمتَه حول هذه الآيات هو ما تدّعيه بعض التيارات ”الإسلامية“ الأصولية المتـعصّبة، التي تستـغلّ الدّين في السياسة. وتأويل هذه التيارات لهذه الآيات غير سليم، وغير نَزِيه. وذلك لعدّة أسباب. أولاً، لأن الحركات الإسلامية الأصولية تتناسى دائما البُعد التاريخي عندما تريد فهم، أو تأويل، النصوص الدّينية المقدّسة. ولأن كلمة «الحُكْم» الواردة في الآيات التي ذكرتَها سابقا، لا تحمل نفس المعنى الذي يحمله مصطلح «الحُكْم» في زماننا الحاضر. والمعنى المقصود بكلمة «الحُكْم»، في تلك الآيات، هو ”قَضَاء الله في خَلْقِه“، أي ”الحِسَاب“، أو ”الجَزَاء“، أو ”قَرَار العِقَاب“، في ”الآخرة“، خلال ”يوم القيامة“ (وذلك حسب تفسير الجَلَالَيْن، وحسب تفسير المُيَسَّر). ومعنى «الحُكْم» في آية أخرى(6) هو ”الفَصْلُ بين طَرَفَيْن مُتَخَاصِمَين في قضية جزئية“. بينما معنى كلمة «الحُكْم»، في زماننا الحالي، هو ممارسة السلطة السياسية، والقيام بوظائف الحُكومة، وبصلاحيات أجهزة الدولة، وتَدْبِير القرارات المتـعلّقة بتنظيم المجتمع. ثانيّا، محاولة تطبيق «الشّريعة الإسلامية» من طرف أية حكومة «إسلامية»، لا يعني بتاتًا أن الله هو الذي يتّخذ القرارات، أو يمارس «الحكم» السياسي. وفقهاء الدّين الذين يَسْهَرُون على تطبيق «الشريعة الإسلامية»، لا يُطبّقون إرادة الله، مثلما يَزعمون، وإنما يُطبّقون تأويلاتهم الشخصية الخاصة للنصوص الدّينية. وأثناء تأويلاتهم، لا يَنْجُون هم أيضا، كَبَشَر، من نَزَوَات ذاتية، ومن انحياز مُغرض، ومن غرائز انتهازية. ويبقى الإله بريئا من كل حكومة «إسلامية»، ومن قراراتها. ثالثًا، عندما نريد كبشر أن نناقش، أو أن نُنَـظِّم تدبيرَ شؤون المجتمع، أو نوعيةَ النظام السياسي المطلوب، يجب أن نَحْتَكِم إلى العَقْل، وإلى العَدْل، وإلى التـشاور المُجتمعي، وليس إلى نصوص دينية مقدّسة. لأن تنظيم المجتمع هو شأن بَشَرِي، وَعَقْلَاني، وليس شَأْنَ عِبَادَة، ولا شأنًا دينيا، أو رَبَّانِيًّا. وإلاّ أصبح الحوار المجتمعي حول تدبير المجتمع مستحيلاً. ولأن الدّين هو مَنْظُومَة فِكْرية مُغْلَقَة. ولا يصلح استـعمال براهين مستخرجة من داخل المنظومة الفكرية للدّين إلاّ في مَا يخصّ شؤون الدّين هو نـفسه، وليس في ميدان مستـقل عن الدّين، مثل السياسة، أو الاقتصاد، أو نظام الحكم، أو العلوم الدّقيقة، أو الفنون.
آدم: فهمتُك! ولكن، لماذا قلتَ ذلك؟ لماذا لا يوجد نموذج إسلامي عريق في الحكم؟ لماذا لا نبني نظاما سياسيا يكون إسلاميا خالصًا؟ لماذا لا يستطيع فقهاء الإسلام أن يخترعون صِنْـفًا من الحكم يكون مُنسجما أكثر ما يمكن مع إرادة الله؟
إبراهيم: معظم الجماعات المسلمة الأصولية، تطمح بقوّة إلى السيطرة على السلطة السياسية. لذلك نراها تميل دائما إلى استـغلال الدّين في السياسة، بهدف الاستيلاء على الحكم. وعلى خلاف كثير من الاِدِّعَاءَات، لم يَدْعُ الإسلام إلى نظام سياسي محدّد. ولم يدع الإسلام إلى نظام الخِلافة، ولاَ إلى نِظام «إمارة المؤمنين»، ولا إلى نظام مَلَكي، ولا إلى نظام جمهوري، أو استبدادي، أو ديمقراطي، أو رأسمالي، أو ليبيرالي، أو اشتراكي! القرآن هو نـفسه (مثله مثل التَّوْرَاة، والزَّبُور، والإِنْجِيل)، اكتـفى بِـتَـقْنِـين أمور الدّين الإسلامي، أي أنه قَـنَّـن شؤون الإيمان والعبادة. لكن الدّين (سواءً كان هو اليهودية، أم المسيحية، أم الإسلام) لم يُشَرِّعْ صِنْـفًا مُحَدَّدًا في ميدان التّـدبير السياسي للمجتمع! وجاء في الآية القرآنية: «وأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ» (الشورى، 38). وكل شخص يدافع عن شكل مُعيّن للدولة، أو عن نوع معيّن من النّظام السياسي، يلزمه أن يدافع عنه باعتباره رأيه السياسي الشّخصي الخاص، وليس باعتباره أمرًا إجباريا صادرا عن الإله، ومُلْزِمًا لكل البشرية. فَلاَ يحق لهذا الشخص أن يدافع عن رأيه هذا باسم الإله، أو نيّابةً عن الإله، أو بحجة أنه ورد في «كلام الله». وحتى إذا افْتَرَضْنَا وُجود إشارة مَا، في أحد الكتب الدّينية، يمكن تأويلها على أن الإله يُفَضِّل نظاما سياسيا معيّنا على غيره، فإن العقل يُوجب بأن يكون صِنف النظام السياسي المعمول به غير مُقَدَّس، بل خاضعًا للعقل الجماعي، وللتّشاور المُجتمعي، وللنّـقد، وللمراجعة، وللتّحسين، وللتـغيير، وذلك طبقًا لإرادة الشعب، وتبعًا للدروس التي يستخرجها الشعب من التجارب المُعَاشَة.
آدم: لكن مجمل شعبنا المسلم يريد أن يكون النظام السياسي القائم إسلاميا خالصًا. ولا نـقبل أن تكون حياتنا إسلامية دون أن يكون نظامنا السياسي هو أيضا إسلاميا. وما المانع من أن يكون نظامنا السياسي خاضعا لإرادة الله وتوجيهاته؟
إبراهيم: كلّ الذين يزعمون أن الإسلام يَقْدِر كَدِين على تنظيم السّلطة السياسية، أو الدولة، أو الاقتصاد، يفضحون أنهم يجهلون، في نـقس الوقت، الدّين والدولة. لأن الدّين يتناول فقط الإيمان والعبادة، بينما التدبير السّليم للدولة، لا يمكن أن يأتي من تـعاليم الدّين، وإنما يأتي فقط من التشاور فيما بين المواطنين وممثّليهم، ومن خلال تفعيل العقل، والعدل، والقانون الوضعي، والتضامن المُجتمعي.
آدم: ولكن، ما هي حُجـجك على ما تـقول؟
إبراهيم: الدّليل على عدم وجود آليّات في الإسلام لتدبير الحكم أو الدولة هو أنه، كلّما مات رئيس، أو حاكم، في بلد مسلم، منذ موت النبي محمد إلى الآن، لا تُـفَعَّل قواعدُ دِينية، وإنما تَحْدُث الحِيرَة، أو الاِرْتِبَاك، أو تَتَلَاحَقُ الدَّسَائِسُ، أو المُناورات، أو الفِتَن، وأحيانًا تتحوّل المنافسات السياسية فيما بين الطّامحين إلى الحكم إلى نِزاعات عنيفة، أو مسلّحة، أو دامية. وفي بعض الحالات، قد تتطوّر هذه المنافسات حتّى إلى حرب أهلية مدمّرة. وأول خليفة للنبي محمد هو أبو بكر الصدّيق. وقد وصل إلى الحكم بعد حِيرَةٍ، ثم تَوَافُق فيما بين أفراد نُخْبَة مَحدودة، وعلى أساس اعتبارات عصبيّة، وقبلية مَحْضَة، يصعب الإفصاح عنها (ومنها غلبة قبيلة قُرَيْش على قبائل أخرى مثل الأُوسْ والخَزْرَج). ومع تَوَالِي الخُلَفَاء (من أبي بكر الصدّيق، إلى عمر بن الخطاب)، تزايدت غلبة الاعتبارات الدُّنْيَوِيَة (مثل القَبَلِيَّة، والاقتصاد، والسياسة). أما الخليفة الثالث عُثمان بن عَفّان، فقد قُتِل، ثم تحوّلت هذه الفتنة إلى حرب بين صحابة النبي هم أنفسهم. وكان جوهر الصّراع بينهم يدور حول أُمُور دُنْيَوِيَّة (وليس دينية). وقد تصاعدت الفِتن بين بني أُمَيَّة وبني هَاشِم (وهي عَصَبِيَّات في قبيلة قُرَيْش). وصراعهما «هو استئناف لِتَنَافُس بين الطّرفين، كان من سِمَات المجتمع المَكِّي قبل الإسلام»(7). ومع بناء الدولة الأموية، اِتّضح أكثر أن العناصر التي تَحْسِم التَنَاوُبَ على السلطة السياسية هي عناصر دُنيوية مَحضة، وليست دينية. وبدأت تُطرح ضرورة الفصل بين المجالين الدّيني والسياسي. وعلى عكس مزاعم بعض الحركات الإسلامية الأصولية، فإن التاريخ يُبيّن أن المراحل الأولى لتاريخ الإسلام لا تشكّل نموذجا يُقْتَدَى به في ميدان تدبير الدولة. وإذا نحن حاولنا اليوم الاقتداء بها، فإنها ستـقودنا مباشرة إلى حروب أهلية مُدَمِّرة مثل تلك التي حدثت خلال ذلك الزمان. ولو كان الإسلام يتوفّر على تصوّر واضح وعملي لِـتَدبير التّناوب على الحكم، لرأى المؤرّخون تطبيـق ذلك التصوّر، أثناء التناوب على السّلطة، منذ موت النبي محمد إلى اليوم. على عكس ذلك، مَا لَاحَظَه المُؤرّخون في مجمل البلدان المسلمة، منذ موت النبي محمد إلى اليوم، إبّان الانتـقال من حَاكِم إلى آخر، هو حدوث الارتباك، أو الحِيرة، أو الفِتْنَة، أو الدَّسَائِس، أو المُناورات، أو النّزاعات، أو الحرب الأهلية!
آدم: لكن، لماذا لا يمكن أن نبني دولة إسلامية على أساس الشريعة الإسلامية؟ هل لأن الإسلام لم يطالب بها، أم لأن بناءها مستحيل؟
إبراهيم: هما معًا! حيث لا يحقّ لأحد أن يزعم أن الإسلام، أو أن الله، يريد منا أن نبني «دولة إسلامية»، مؤسّـسة على قاعدة «الشريعة الإسلامية». ولا يحق لأي كان أن يفتري على الدّين، أو أن يُقَوِّل الدِّين ما لم يَـقُلْه! ومجمل الديانات (بما فيها اليهودية والمسيحية والإسلام) قَنَّـنَت طُرُقَ العِبادة، لكنها لم تُفكّر في نمط الدولة، ولم تأت بتصوّر مُفَصَّل لأي شكل من أشكال الدولة، ولا لأي صِنف من أصناف النظام السياسي. ولم يسبق لأي كتاب ديني مقدّس أن قال أن الإله يُوصي باستـعمال نَمَط معيّن من الدولة، أو نوع محدّد من النظام السياسي. ولم تَدْعُ الكتب الدّينية المقدّسة، لا إلى نظام سياسي مَلَكِي، ولا إلى نظام جمهوري، ولا إلى نظام ديمقراطي، ولا إلى نظام استبدادي. ولم تكن إشكالية ”الدولة“ مطروحة إبّان ظهور ديانات الشرق الأوسط (وأبرزها اليهودية، والمسيحية، والإسلام). بل حتّى مفهوم «دولة القانون»، المبنية على أساس قانون وضعي، وَمُحايد، وثابت، وإجباري، لم يكن موجودا في أيّ دين من الديانات السماوية. ولم تكن هذه الديانات تـعرف الكثير من المفاهيم الأساسية الحديثة في الحُكم، مثل مفهوم ”الشّعب“، ومفهوم ”المُوَاطِن“، ومفهوم ”العِقْد المُجتمعي“، ومفهوم ”الشعب مَصْدَر الحُكم“، ومفهوم ”المُساواة أمام القانون“، إلى آخره. ومعلوم أن المسلمين القدامى كانوا، عبر التاريخ، يجهلون ”الدولة المدنية“، أو ”الدولة الوطنية القُطرية“، حيث لم تظهر هذه المفاهيم إلاّ بعد مُرُور قُرَابَة 13 قَرْنًا. وكان الحكّام في المناطق المسلمة، لا يعرفون نمطًا في الحكم غير احتكار كلّ السّلط، وممارسة الاستبداد، خارج أي قانون وضعي ثابت. وكانوا يدبّرون حكم إماراتهم، أو دُوَيْلَاتِهم، أو إِمْبَرَاطُورَاتِهم، طبقًا لأهوائهم الشخصية، ولِمصالحهم الآنية. تارةً يستـعملون ما يلائمهم في الدّين، وتارة أخرى يُقَلِّدُون ما يُعجبهم لدى دول قديمة أو مجاورة. وباتت المنظومة القانونية التي كانوا يستـعملونها ضعيفة، وهزيلة، وغير قَارَّة. وكان الحُكّام المسلمون يبنون عادةً مشروعيتهم على العَصَبِيّة القَبَلِية، وعلى الغزو، أو القوّة، أو الغَلَبة، أو على «بَيْعَة» إجبارية، يقدّمها جزء من النّخبة إلى ”الأمير“ الجديد. ولم يكن يخطر على بالهم الاحتكام إلى استـفتاءات شعبية، وإلى انتخابات دورية، عُموميّة، حرّة، وشفّافة، ونزيهة. ولم يكن المسلمون يستخدمون مؤسّـسات تمارس ”سلطات مُضَادّة“ (contre-pouvoir) للسّلطة الرئيسية، مثلما هو الحال في الديمقراطية. واليوم، يأتي بعض الإسلاميين الأصوليين، ويتكلّمون عن «حقوق الأغلبية»، ويحاولون فرض ما يسمونه بِ «دولة حُكْم الله»، أو «الدولة الإسلامية» المبنية على أساس «الشريعة الإسلامية». بينما هذه المفاهيم لا توجد في النصوص الدّينية الأساسية، وإنما يُبَرِّرُونَها بتأويلات شخصية ذاتية، وغير شرعية، لتلك النصوص الدّينية.
آدم: فَهِمْتُك! أُحِسُّ كأنك تريد إقناعي بأطروحة ”فصل الدّين عن الدولة“. فلماذا تتشبّثُ أنت في كل مرّة بفكرة ”فصل الدّين عن الدولة“؟ هل مسألة العلاقة بين الدّين والدولة مُهمّة إلى هذه الدّرجة؟ هل تستحق هذه القضية أن نبحثـها بتـفصيل؟ هل تستوجب أن نتصارع حولها؟ وهل هي مَصِيرِيَّة حقّا مثلما تزعم أنتَ؟
إبراهيم: إنها مَصِيرِيَّة بالتّأكيد! لأن الفصل بين الدّين والدولة هو الحل الوحيد المعقول. ولأنه يستحيل التوفيق بين الدّين والدولة. ولأنه يستحيل أن تكون الدولة دينية (مثلًا: يهودية، أو مسيحية، أو إسلامية). ولأن الزَّعم بعكس ذلك سيكون نِفَاقًا. ولأنه حتّى إذا اِدَّعَت جماعة معيّنة أن دولة مُحدّدة هي ”دولة دِينِية‟، فإن جماعات أخرى مُخالفة ستعتبر أن تلك الدولة تستغِلُّ الدّين، ولا تُخْلِص لِمُجَمَل مبادئه. ولأن الدولة، والسياسة، والقانون، والعلوم، والفنون، يخضعون كلّهم للعقل، وللتّشاور المُجتمعي، في ترابط بتطوّر المجتمع. بينما الدّين يخضع فقط لإيمان مطلق، ولنصوص دينية، ومعتـقدات مقدّسة، وثابتة، وجامدة، ومطلقة. ولأن كل قراءة للنّصوص الدّينية المقدّسة تبقى قراءة شخصية، ذاتية، وغير موضوعية. ولأن الدّين لا يقبل الخضوع للعقل النـقدي. ولأن الاختيار بين «الدولة الدّينية»، أم «الدولة المدنية» (أي «الدولة غير الدّينية»)، هو بالضّبط الذي يحدّد هل العقل المُجتمعي سيكون متحررا من العقائد المُطلقة أم خاضعا لها! ومن خلال دراسة التجارب التاريخية للبشرية، تبدو الأمور واضحة: الدولة الدّينية (في حالة وجودها) تؤدّي دائما إلى الحرب الأهلية، ثمّ إلى الانحطاط! بينما الدولة غير الدّينية (أي التي تـفصل بين الدّين والدولة) توفّر حظوظًا أكبر للتـقدّم نحو السّلم، والاستـقرار، والإصلاح، والحرّية، والإنتاج، والابتكار، والرُّقَيّ، والازدهار!
آدم: قُلْ لِي إذن، ما هي أهم الفُرُوقَات بين ’’الدّولة الدّينية‘‘ و’’الدّولة المدنية‘‘؟
إبراهيم: ”الدولة الدّينية“ هي منظومة تجمع أفرادا مؤمنين، ومتـعبّدين، وملتزمين بمعتـقدات دينية مقدّسة، وغير قابلة للتـغيير. بينما ”الدولة المدنية“ هي منظومة تُـؤَلِّف بين مواطنين أحرار في معتـقداتهم، وفي عباداتهم، ويجمعهم تـعاقد على أساس قوانين وضعية، قابلة للنـقد، وللتّحسين. ومهمّة ”الدولة الدّينية“ هي الدّفاع عن الدّين المعني، ونشره، وتـغليبه، وتحقيق معتـقداته، ومحاربة كل ما يُخالفه. بينما مهمّة ”الدولة المدنية“ هي خدمة المواطنين، وصيّانة حرّياتهم، وحقوقهم، وتلبية حاجياتهم الدّنيوية، وذلك بغضّ النظر عن معتـقداتهم. وفي ”الدولة الدّينية“، يكون التـفكير الصحيح أو المقبول هو ذلك الذي ينسجم مع المعتـقدات الدّينية. بينما في ”الدولة المدنية“، كل مواطن هو حرّ في أن يفكّر بالشكل الذي يروقه، ولو أن كلّ نشاط بشري (مثل الاقتصاد، والعلوم، والقضاء، ...) له قوانينه، وقواعده، ومراجعه، ومقاييسه، ومناهجه. وفي ”الدولة الدّينية“، تكون الكفاءة المطلوبة من الأطر والخبراء هي الكفاءة في شؤون الدّين وحده؛ بينما في ”الدولة المدنية“ تُطلب منهم كفاءات في القانون، والتاريخ، والاقتصاد، والفلسفة، والعلوم الدقيقة، والتكنولوجيات المتنوّعة، وفنون التدبير، والإنتاج، إلى آخره. وفي ”الدولة الدّينية“ تكون الثـقافة، والسياسة، والقانون، والفنون، مجرّد فروع نابعة من الدّين، ومسخّرة لخدمته؛ بينما في ”الدولة المدنية“ تستطيع تلك الفروع من المعرفة انتزاعَ استـقلالها، أو حرّياتها، إن هي كافحت من أجلها. لكن الحذر يبقى مطلوبا، حيث يمكن، حتّى في ”الدولة المدنية“، أن تُخْفِيَ مظاهرُ خَدَّاعَة تحوّلَ الأيديولوجية السائدة إلى شبه دين رسمي، يدفع السكان إلى عبادة النظام السياسي القائم، أو رئيسه، الذي يتحوّل إلى نصف إلاه حاكم.
آدم: هذا تمييز مفيد بين الدّولة الدّينية، والدولة المدنية. لكن أودّ أن توضّح أكثر ما هي الفٌروقات السياسية، أو العَمَلِيَّة، أو الملموسة، بين ”الدولة الدّينية“ و”الدولة المدنية“.
إبراهيم: ميزة ’’الدّولة الدّينية‘‘ هي أنها تخضع لاستبدادِ «الفقيه»، أو «الإمام»، أو «الشّيخ»، أو «المُرشد»، أو «الأمير»، أو «الكنيسة»، أو «البابا». وفي هذه «الدولة الدّينية»، يُعتبر «المُرشد الدّيني الأعلى» مَعْصُومًا، كأنه شِبْه نَبِيّ، أو نصف إِلَه. ويُوضع هذا «المُرشد الدّيني الأعلى» في مرتبة أسمى من سيادة الشعب، ومن الحُكومة، ومن رئيس البلاد المُنتخب، ومن السّلطات الثلاثة الكلاسيكية (التنفيذية، والتشريعية، والقضائية). وتنـبني ’’الدولة الدّينية‘‘ على أساس مفاهيم مثل «القداسة»، وعلى قيم مثل «الخضوع المطلق للإرادة الإلَهية» المُفترضة. وقد تـقوم ’’الدولة الدّينية‘‘ على أساس مؤسّـسات مثل «مجلس فقهاء الدّين»، أو «العَشِيرَة»، أو «القَبِيلَة»، أو «الأَعْيَان»، أو «الطَّائِفَة»، أو «الزَّاوِيَّة»، أو «المَذْهَب الدّيني»، أو «دولة الخِلافة». وتتحوّل العائلات التي تدّعي أنها «شَرِيفَة» (أي من سُلالة «المُرْشِد الدّيني الأعلى»، أو من ذرّية النّبيّ)، إلى نُخْبَة أَرِسْتُوقْراطية. وتحصل هذه «العائلات الشّريفة» على امتيازات استثنائية في السّلطة، وفي الثَّرْوَة. وفي هذه ’’الدولة الدّينية‘‘، يستـغلّ الحُكّام «الهوية الدّينية» كحيلة لبناء نظام سياسي مُطلق، أو مُستبد. وتمنـع ’’الدولة الدّينية‘‘ الاختلاف في العقيدة، أو في الفكر، أو في الثـقافة، أو في الآراء، أو حتّى في نمط العيش. وتـفرض ”الدولة الدّينية“ على كل المواطنين رأيا واحدا، ونمطًا ثـقافيا منـفردا. وفي ’’الدولة الدّينية‘‘، يكون ’’التـعاقد المجتمعي‘‘ (أي القانون الذي يحكم العلاقات فيما بين أفراد المجتمع) مُستمدّا من نصوص دينية «مقدّسة». ويكون «المرشد الدّيني الأعلى»، أو الفقهاء التّابعين له، هم الذين يَحْتَكِرُون حقّ تأويل النصوص الدّينية. فـيبقى هذا ’’التـعاقد المجتمعي الدّيني‘‘ جامدا، ومناهضًا لِلْعَقْلَنَة، وغير خاضع للنـقاش، وغير قابل للنَّـقْد، ورافضا لكل تـغيير، أو تطوير، أو تحسين. لأن هذا ”التـعاقد المجتمعي“ يُعتبر من وصايا الإله التي يُحَرَّم تـغييرها. وتَمنع ’’الدولة الدّينية‘‘ كلّ المحاولات الرّامية إلى نـقد هذا ’’التـعاقد المُجتمعي الدّيني‘‘، أو مراجعته، أو تحسينه، أو تطويره، أو عَقْلَنَتِه.
آدم: أنت تحيّرني! أنا لا أدري هل ما تـقوله لي هو حقائق موضوعية، أم مجرد دعاية تهدف إلى إقناعي.
إبراهيم: يلزم أن نَـكون واضحين ومنطقيين مع أنفسنا. ما هي المهمّة الرئيسية لِ ”الدولة الدّينية“؟ مهمّتها هي فرض الدّين على كلّ سكّان البلاد، وتـعميم هذا الدّين، وتطبيقه بكل حَذَافِيرِه. ومهمّة هذه ”الدولة الدّينية“ هي أيضًا منع كلّ ما يخالف هذا الدّين، ودفع المواطنين إلى تكريس حياتهم كلّها للعبادة. وكل شخص لا يقبل الخضوع لإحدى طُقوس هذا التوجّه الدّيني، ستـعتبره ”الدولة الدّينية“ مُذْنِبًا، أو مُجرما، وَستـعاقبه طبقًا لِ «الشّريعة الدّينية» القائمة داخل هذه ”الدّولة الدّينية“ المعنية.
آدم: يا له من مشهد مخيف!
إبراهيم: آه! طبعًا! ... ماذا تـظنّ؟ ... كل مواطن ذي عقل سليم سيخاف بالضرورة من أن تحكمه ”دولة دينية“.
آدم: والآن، ما هي خصوصية ”الدولة المدنية“؟
إبراهيم: في الأصل، أي في التاريخ القديم، لم ينشئ البشرُ ”الدولةَ“ لخدمة الدّين، أو الإله، وإنما أقاموها لخدمة البشر. أي لِتوفير خدمات مُجتمعية متكاثرة، مثل تـقنين التجارة، وتنظيم الأسواق والمبادلات، وتوفير الأمن، والدّفاع، وتدبير الرّي، والفصل في النزاعات، وضمان المِلْكِيَّات، وجمع الضَّرَائِب، وتشييد البنيات التَّحْتِية المشتركة، وإشباع حاجيات مجتمعية متنامية، إلى آخره. وميزة ’’الدولة المدنية‘‘ هي أنها لا تُـعَادِي الأَدْيَان، وإنما هي مُحايدة تُجاه الأَدْيَان. فلا تخضع لأيّ دين، ولا تناهضه. ولا تتدخّل ’’الدولة المدنية‘‘ في المُعتـقدات الدّينية للمواطنين، ولا في تَدَيُّنِهِم، ولا في عِباداتهم، ولا في ضمائرهم. وفي هذه ’’الدولة المدنية‘‘، يكون ’’التـعاقد المُجتمعي‘‘ مبنيا على قواعد وقوانين وَضْعِيّة، أَيْ من إنتاج المواطنين وممثّليهم المنتخَبين بشكل ديمقراطي. فَيـبقى هذا ’’التـعاقد المُجتمعي‘‘ خاضعا لانتـقادات المواطنين، ولمطالبهم. ويتطوّر حسب احتياجاتهم. وتسـتند ’’الدولة المدنية‘‘ في تدبير الاختلاف والتّنوّع فيما بين المواطنين على مَرْجِعِيَة العقل، والقانون، وقواعد الدّيموقراطية (وليس على الدّين). ولا تسعى ’’الدولة المدنية‘‘ إلى إخضاع المواطنين إلى فكر واحد، أو إلى نمط ثـقافي مُنـفرد. وَتَـنْـبَنِي ’’الدولة المدنية‘‘ على أساس مبادئ دقيقة، مثل مبدأ «المُوَاطَنَة»، ومبدأ «دولة الحقّ والقانون»، ومبدأ «المساواة أمام القانون»، ومبدأ «الشعب هو مصدر السّيادة والمشروعية»، ومبدأ «عُلْوِيَّة القانون الوَضْعِي»، ومبدأ «فَصْل السّلطات»، ومبدأ «المُراقبة المتبادلة»، ومبدأ «المُحاسبة المُتبادلة»، و «حرّية العقيدة»، و «حرّية العبادة»، و «حرّية عدم العبادة»، إلى آخره.
آدم: كلامك هذا لا يكفي. هل يمكنك أن تـعطيني توضيحات أكثر؟ وقُل لي أيضًا، كيف يُدبّر المجتمع هذه الإجراءات؟ وهل شعبنا يحتاج فعلاً إلى فصل الدّين عن السياسة؟ ولماذا؟
إبراهيم: من المؤكّد أننا نحتاج إلى فصل الدّين عن السياسة. لأن استـغلال الدّين في السياسة يؤدّي إلى الاستبداد، وإلى الانحطاط. ولأن كل دين هو بطبيعته شُمولي، ومُطلق. ويؤدّي الدّين إلى تهميش العقل النَّـقْدِي، أو تَـعْطِيلِه، أو تَكْبِيلِه، أو إِلْغَاءِه.
آدم: اِنتظر قليلاً! ماذا تـقول؟ تهميش العقل؟ ما هي حُجَجُك على أن الدّين يُهمِّش العقل؟
إبراهيم: في العديد من الدّيانات، مثل اليهودية، أو المسيحية، أو الإسلام، تكون مَراجِع المُتَدَيِّن هي النُّصوص الدّينية المقدّسة. بينما مراجع العَالِم، أو العقلاني، أو السياسي، هي الواقع، والتجربة، والعقل، ومكتسبات العلوم الدّقيقة. ولا تَتَحَمَّل الأديان تَسَاؤُلَات العقل حول شؤون الدّين. ولا تـقبل انتـقاداته. وكلّما تساءل باحث، أو عالم، حول ظاهرة معيّنة موجودة في الكون، يكون جواب الدّين هو دائمًا: «الإله هو الذي فعل ذلك»، أو «الإله هو الذي أراد ذلك»! وهذا النمط من الأجوبة يُوقف أيّ تساؤل فلسفي، ويُلغي مُبَرِّر أيّ بحث علمي. وتـفسير مظاهر الكون بِ «تدخّل الإله»، أو بِ «إرادته»، يُجَسِّد استـقالة العقل، بل هو انتحار للعقل. وينحصر دور ما تبقّى من العقل في تكرار تلك الجملة المُجَمِّدَة: «الإله هو الذي أراد ذلك»! وترفض الأديان الخضوع لمنطق العقل. ولا تشجّع الدّيانات على استـعمال العقل، ولا تـعترف بمنتوجاته. بل تطلب الأديان من المُتَدَيِّن إيمانا مُسْبَقًا، مطلقًا، شموليا، وأبديا. والمطلوب في الإيمان هو تجاوز الحسّ النـقدي الرّائج في العقل. فيصبح المتديّن قَانِعًا بالحِكَم الدّينية، ومؤمنا بالمعجزات، وراضيا بالمُعتـقدات الدّينية، ومُسايرًا للتَّأويلات والخطابات الدّينية، ولو اختلفت بعض هذه الخطابات الدِّينية مع ما هو مألوف في الواقع، أو في التجربة، أو في العقل، أو في العلوم الدّقيقة. وتميل بعض الطُقُوس الدّينية إلى إِدْهَاش العَقْل، أو اسْتِهْوَائِه، أو اسْتِمَالَتِه، أو تَـفْتِينِه، أو تَنْوِيمِه. فَيَغْدُو العقل كأنه مَلْفُوف في مَنْظُومَة مُغْلَقَة من التصوّرات المُتميّزة بِـبَدَاعَتها، أو بَرَاعَتِها. ويصير العقل مُقَيَّدًا بِعَقَائِدَ شُمولية، أو مُطلقة، يغلب عليها إيمان مُسْبَق، كُلِّي، وَأَبَدِيّ. وفي عالم الدّين، يُسْتَبْعَدُ التَسَاؤُل، والنَّـقْد، والبَحْث، والإِبْدَاع. وغالبًا ما تكون الطقوس الدّينية على شكل إِخْرَاج (mise en scène) بَدِيع، ومُعَدّ بِعِنَايَة. ووظيفة هذا الإخراج هو تسهيل الإِيحَاء (suggestion)، أو إثارة الخَيال (imagination)، أو الإحساس بالطُّمَأْنِينَة (apaisement)، أو إحداث نوع من الاِغْتِبَاط (enchantement). وفي بعض الحالات، تَرْمِي هذه الطُقُوسُ إلى فُتُور العَقْل (léthargie)، أو افْتِتَانِه (catalepsie)، أو ذُهُولِه (narcose)، أو تَنْوِيمِه (hypnose)، أو إلغاءه، أو فَنَاء الحِسِّ النَـقْدِي (annihilation du sens critique).
آدم: يظهر من خلال كلامك أن اشتـغال العقل المجتمعي بشكل سليم مشروط بتحقيق «فصل الدّين عن الدولة». فهل لديك حجج على ما تـقول؟
إبراهيم: كلّما كان المجتمع يعيش في إطار نظام سياسي يمزج بين الدّين والسياسة، فإن العقل داخل هذا المجتمع سيصبح مُقَيَّدا بأفكار دِينِيّة وُثُوقِيَّة، أو مُكَـبَّـلًا بمعتـقدات قَطْعِية (dogme)، أو مُطلقة (absolu). فيغدو العقل عاجزا عن التّـفكير بشكل مستـقلّ عن هذه العقائد المُطْلَقة. وفي هذه الحالة، لا يقدر العقل على التـفاعل السّليم مع إِشْكَالَات المجتمع، أو مع مُستجدّات العصر الحديث. لأنه يستحيل التوفيق بين منطق الدّين، ومنطق العقل. فإمّا أن يَسْتَـقِـلّ العقلُ عن الدّين، وإمّا أن يُهَيْمِن الدّينُ على العقل. ومن الصّعب أن يوجد خيّار ثالث. وهذا الفصل بين الدّين والسياسة يشكّل شرطا من بين شروط قيام العدل، والديمقراطية، وحقوق الإنسان... يجب أن نكون واضحين! فالمجتمع مُخَيّر بين خِيَّارين فقط: فإمّا أن يَخْضَع العقلُ إلى الدِّين، وإمَّا أن يَخْضَع الدِّينُ إلى العقل. ولا يوجد أيّ خِيَّار ثالث. والتاريخ يشهد أن خُضُوع العقل إلى الدِّين يؤدِّي دائما إلى الانحطاط، بينما خضوع الدِّين إلى العقل يفتح آفاق التًّـقًدٌّم.
آدم : ولكن غالبية أفراد الشعب اختارت تـغليب الدّين على العقل.
إبراهيم : هذا هو أصل الكارثة التي تتخبّط فيها شعوبنا المسلمة. ألَا يُوجد أيّ مواطن يقدر على أن يقول للشّعب حقائـقه؟ فعلًا، إلى حدّ الآن، اختارت غالبية أفراد الشعب تغليب الدّين على العقل. لكن هذا الاختيار مُتَخَلِّف. لأنه غير عـقلاني. يجب أن نـقولها صراحة إلى الشعب: تغليب الدّين على العقل هو انتحار جماعي، ويؤدّي حتمًا إلى الانحطاط، أو إلى الحرب الأهلية. ولا يمكن الخروج من التخلّف سوى عبر الرجوع إلى تَرْجِيح العقل على الدّين.
آدم : تُخَيِّرُنِي بين خِيَّارات كلها مُحيِّرة وصعبة.
إبراهيم : ترجيح العقل على الدّين يؤدّي بالضرورة إلى فصل الدِّين عن الدولة. وبدون فصل الدّين عن الدولة، أو بدون فصل الدّين عن السياسة، يستحيل تحقيق الديمقراطية(8)! وفي حالة غياب فصل الدّين عن السياسة، يغدو التـقدّم المجتمعي متـعذِّرا، بل مستحيلا! فلاَ يوجد أمام الشّعوب المتديّنة (بما فيها المُسلمة) إلاّ خيّاران فقط: إمّا فصل الدّين عن الدولة وعن السياسة، وإمّا الانحطاط! وعلى خلاف بعض التأويلات الخاطئة، فصل المجال الدّيني عن المجال السياسي، لا يعني، ولا يبرّر، استئصال الدّين من المجتمع. بل على عكس المظاهر، هذا الفصل بين الدين والدولة هو الوحيد الذي يضمن الحرّيات الدّينية(9).
آدم: ولكن، أنا أومن أن الإسلام دين ودنيا، وأعتـقد أن الدّمج بين الدّين والدولة يمكن أن ينتج أشياء مفيدة ورائعة. فلماذا لا نحاول التوفيق بين الدّين والدولة؟ ولماذا لا نَنْجَحُ نحن فيما أَخْفَقَ فيه أجدادنا؟
إبراهيم: كلّ الذين لا زالوا يُصرّون على تِـكرار محاولة تجريب التوفيق بين الدّين والدولة، لم يدركوا بعدُ أن الظواهر التي تتـكرّر عبر التّاريخ، بطريقة لا استثناء فيها، تتحوّل إلى «قاعدة»، أو «قانون» يحكم تطوّر المجتمع! فـقد جَرّبت الشّعوب مرارًا وتكرارًا محاولات التوفيق بين الدّين والدولة، في عدّة بلدان، وفي مختلف القارّات، خلال المئات أو الآلاف من السّنين، أي على امتداد التاريخ الطويل للبشرية. وكانت هذه المحاولات تـؤدّي دائما، وفي آخر المطاف، إلى نزاعات غير منتهية، وإلى الاستبداد، والتـخلّف، والانحطاط(10). ورغم كل الخُطب المُزَيَّـنَـة، أو المُنَـمَّـقَة، فإن تاريخ البلدان المسلمة كان ولا يزال، منذ عهد الرّسول (المتوفّى في 632 م) إلى الآن، تاريخ مناورات على السّلطة، وعلى الثَّرْوَة، وتاريخ فِتَن مُتواصلة، وحروب متكرّرة، معظمها جرى باسم الدّين، أو باسم الله. وكان مختلف الفاعلين السّياسيين، والسُّلَالَات الحاكمة، يستـعملون خطابات دينية لإخفاء نواياهم الانتهازية، أو لتبرير مصالحهم الخاصة. وكان التناوب على السلطة يُنجز بالمناورة، أو بتحالفات لا مبدئية، أو بالانـقلاب، أو بالغزو، أو بالغَدْر، أو بالعُنف، أو بالقَتل، وليس بالحِوار، وليس بِالإِقْنَاع، ولا بِاسْتِـشَارة الشّعب، ولا بالقانون، ولا بالانتخابات، ولا بالأساليب الديمقراطية السِّلْمِيّة. وعلى أنـقاض الأنظمة السياسية (والدّينية) القديمة المنهارة، كان المنتصرون، الوافدون الجُدد إلى السّلطة السياسية، تحت راية مذهب ديني جديد، يعيدون إنتاج أنظمة سياسية (ودينية) مشابهة في البَطْشِ، والنِّـفَاق، والاستبداد، وَالزَّبُونِيَّة، وَالمَحْسُوبِيّة، والفَساد، والتَّخَلُّف، للأنظمة التي سبقتها. الشيء الذي هدّم الاستـقرار، وقضى على إمكانية ظُهُور ونُمُوّ الرأسمالية في البلدان المسلمة (مثلما حصل في أوروبّا، أو أمريكا، أو آسيا). كما قضى على إمكانية نشوء الديمقراطية، أو التـقدّم المجتمعي.
آدم: لكنك لم توضّح لي، حسب رؤيتك، لماذا لا تستطيع التيارات الإسلامية تحقيق دولة إسلامية، سليمة، وعادلة، وتـقدّمية؟
إبراهيم: تُبيّن التجربة، على امتداد التاريخ، أن ميزة مختلف التّيارات الدّينية المُسَـيَّـسَة، أنها تبقى راسخة في ”اليَمِينِيَّة‟ (droitisme)، وفي ”المُحَافَظَة‟ (conservatisme)، وتكرّر مقولة أبو حامد الغزالي (1058–1111 م): «ليس بالإمكان أَبْدَعَ مِمَّا كان»! وتتنافس هذه التيارات الدّينية المُسَيَّسَة، ثمّ تتـقاتل فيما بينها، ثمّ تتحالف مع القوى الأجنبية ضد التّـيارات الأخرى الداخلية المنافسة لها. وظلّت التيارات الدّينية المُسـيّـسة تهتم بالفقه الدّيني العتيق، وتدرّس التكرار، والتـقليد، وتهمل الثـقافة، وتـعادي الفلسفة، وَتُحَرِّمُ النّـقد، وَتَنْـفُر من العُلوم الدَّقِيقَة، وتَكْرَه الفُنون الجَميلة، وَتُجَرِّم الأفكار التَّنْوِيرِيَّة، وترفض البرامج المجتمعية الإصلاحية، وتَحْرُم الفرد من حقوق المواطنة. وتطمح دائما التّـيارات الدّينية المُسـيّـسة إلى العودة إلى السّلف المثالي، أي إلى الوراء، إلى ماض أسطوري، إلى المذاهب الدّينية، والطَوَائِف، والمَشَايِخ، والعَشَائِر، والقَبائل، والخِلافة، والمَمَالِيك، والسَّلْطَنَات. وكلّما كان نظام سياسي مبنيا على أساس التّـيارات الدّينية، أو المذاهب، أو الطوائف، أو العشائر، أو القبائل، أو التـعصّب الدّيني، فإن العائلات الأكثر غِنًا، أو الأكثر نِفَاقًا وَعُنْـفًا، هي بالضّرورة التي تنجح في السّيطرة على السّلطة السياسية، وعلى الثّـَرْوَة. ويتطور دائما الحكّام الذين يحكمون باسم الدّين نحو احتكار السلطة السياسية. ثم يُوَرِّثُـونَها لأبنائهم. ونتيجة كل ذلك هي إقامة نظام سياسي دِينِيّ في ظاهره، وانتهازي في جوهره. نظام مبني على أساس الأنانية، والعَصَبِيَّة، والزَّبُونِيَّة السياسية، وشِراء الضَّمائر، وعلى اقتصاد الرِّيع، والفساد، ونشر الجهل، والجمود، والرُّكود، والتّدمير المتبادل، والتخلّف المُجتمعي، والانحطاط الشّامل، والتدخّلات الأجنبية، والاحتلال الأجنبي. وذلك هو ما ظلّ يحدث ويتكرّر في البلدان المسلمة منذ أكثر من ألف عام. وفي وضعية عالمنا اليوم، يمكنك أن تلاحظ أيضا أنه، حيثما تَـقَوَّت التنظيمات الإسلامية الأصولية، فإنها تميل دائما إلى معالجة الخلافات السياسية بالعنف، وليس بالمنهج العقلاني السّلمي. وتُنتج هذه التنظيمات الإسلامية الأُصُولِيّة التَّطَرُّفَ، والتَـعَصُّب، والاقْتِتَال، والحرب الأهلية، والخراب، والانحطاط، مثلما حدث في أفغانستان، وباكستان، والجزائر، والسّودان، والصّومال، والعراق، وسوريا، واليمن، وليبيا، ومَالِي، والنّيجر، وشمال ِنِيجِيرْيَا، إلى آخره. بينما في مجمل البلدان التي مُورِسَ فيها الفصل بين الدّين والدولة، خلال العصر الحديث، أثبتت تجاربها أن هذا الفصل يُساعد على تحرير العقل، وعلى تنمية المجتمع، وتـقدّمه. وذلك هو ما حدث في أوروبّا الغربية، وأمريكا الشّمالية، وأستراليا، وآسيا. فهل تحتاج الشعوب المسلمة اليوم إلى إعادة تجريب حروب القرون الوسطى (التي حدثت في أوروبّا الغربية) لكي تُدرك أن التَـعَصُّب الدّيني يؤدّي حتمًا إلى الحرب الأهلية؟ هل تحتاج الشعوب المسلمة إلى تجريب الحروب العالمية (مثل الحربين العالميتين الواقعتين بين سنتي 1914 و 1945 م) لكي تُدرك أن الحلّ الوحيد السّليم المعروض على الإنسان، ليس هو الأيديولوجية الدّينية المُتَـعَصِّبَة، وإنما هو العقل الحرّ، النّاقد، والمَرِن، والمتسامح؟
آدم: لكن لماذا تضعني أمام خيارين أحلاهما مُرُّ؟ حيث تـقول لي: إمّا هيمنة الدّين وإلغاء العقل، وإمّا ترشيد العقل عبر فصل الدّين عن الدولة وعن السياسة؟
إبراهيم: أنظر أنت بنفسك إلى تجارب الحركات الإسلامية في بلدان مثل مصر، والسودان، والصومال، والعراق، واليمن، وسوريا، وليبيا، وأفغانستان، وباكستان، إلى آخره. كلّها تؤكّد القاعدة التّالية: كلّما اهتمّت حركة إسلامية بانشغالات سياسية، تؤدّي بها آلية الممارسة السياسية إلى ابتـعاد متزايد عن المبادئ، وعن النزاهة، وعن المعتـقدات الدّينية، وتسوقها إلى فقدان الانسجام بين العقيدة الدّينية والممارسة السياسية. وعلى عكس ذلك، كلّما انشغلت حركة إسلامية بالمبادئ والعقائد والرّوحانيات الدّينية، فإن طبيعة هذا الاهتمام العقائدي يسوقها إلى ابتـعاد متصاعد عن الأنشطة السياسية. ونتيجة هذه الظاهرة المجتمعية هي أن كل حركة دينية تنتهي بالضّرورة، إمّا إلى تـغليب السياسة على الدّين، وإمّا إلى ابتـعاد الدّين عن السياسة. لذا يستحيل التّوفيق بشكل متوازن بين الدّين والسياسة خلال أمد طويل. فيصبح الحل الوحيد، المعقول، هو الفصل الإرادي بين الدّين والسياسة. وكل حركة دينية ستجد نفسها، في آخر المطاف، مجبرة إمّا على التركيز على الأنشطة الدّينية المُحَايِدَة، وإمّا التركيز على الفعل السياسي بكلّ ما يُمْكِن أن يُوجَد فيه من تـقلّبات، وتناقضات، وانتهازيات. أما الجمع بين الدّين والسياسة، فيبقى مستحيلا على الأمد الطويل.
آدم: ... ولماذا؟ ...
إبراهيم: لماذا؟ ... لماذا؟... لأن تدبير المجتمع يستوجب العَمَل بالعَقل (وليس بالإيمان). ومرجعيات العقل تنحصر في الواقع، والتجربة، والمنطق، والعلوم الدقيقة، والمشاورات المُجتمعية الديمقراطية. بينما الدّين، أو العبادة، يستوجبان العمل بالإيمان وحده (وليس بالعقل). ومرجعيات الدّين، أو العبادة، تنحصر فقط في النصوص الدينية المقدسة الجامدة.
آدم: لكن صعود «الإخوان المسلمين» إلى الحكم في مصر لم يكن يتخلّله السّيناريو الذي ذكرتَه سابقًا.
إبراهيم: ظلّ تنظيم «الإخوان المسلمين» يُردّد في مصر شعاره الرئيسي خلال عدّة عقود: «الحلّ هو الإسلام»! ولمّا وصل «الإخوان المسلمون» إلى الحكم (في 30 يونيو 2012)، تبيّن أنهم لا يتوفّرون على أيّ حلّ، لأيّ مشكل من مشاكل مِصْر. فانـتـفضت جماهير حاشدة (بين 25 يونيو و 3 يوليوز 2013) ضدّ حكم «الإخوان المسلمين»، والتحق الجيش بهذه الجماهير المتمرّدة، وأسقطوا معًا هذا الحكم «الإسلامي» المتخلّف، الذي قاده محمد مرسي. ثم استـغلّت مؤسّـسة الجيش هذه الفرصة لاستـعادة سيطرتها على الدولة، وفرض الجيشُ الاستبدادَ من جديد. بينما الواجب هو أن ينحصر دور الجيش في مهام الدّفاع الوطني، تحت مسؤولية حكومة مدنية شرعية، دون الانشغال بأيّ عمل سياسي.
آدم: وماذا تـقصد بالضّبط بعبارة «الفصل بين الدين والدولة»؟
إبراهيم: ”الفصل بين الدّين والدولة“ هو إجراء سياسي، وقانوني، وليس إجراءً دينيا، ولا يمسّ الإيمان، ولا يُغيّر المواقف الدّينية أو العَقَائِدِيَّة للمواطنين. وهذا ”الفصل بين الدّين والدولة“ يضع حدودًا بين المَجَال الدّيني والمجال السياسي. لكنه لا يعني، ولا يبرّر، استئصال الدّين من المجتمع. و”الفصل بين الدّين والدولة“ هو اعتراف بالاختلاف بين منطق المنظومة الدّينية، ومنطق المنظومة السياسية. ومعنى ”الفصل بين الدّين والدولة“ هو: ألاّ تـَخضع الدولة للدّين، وألا يَخضع الدّين للدولة. فيعيش كل واحد منهما في حرّية، وفي استـقلال عن الآخر. وإذا كانت غاية الدّين هي إرضاء الإله، وعبادته، فإن مهمة الدولة، ليست هي خدمة الإله، أو عبادته، وإنما هي تدبير المجتمع، وخدمة حاجيّات الشعب. ولا يعني ”فصل الدّين عن الدولة“ التخلّص من الدّين، أو تهميشه، أو مضايقته، وإنما يعني عدم السّماح باستـغلال الدّين في السياسة، وعدم إدخال السياسة إلى الدّين. وفي هذا الإطار، فإن مُمَثِّلِي الشعب (المنتخَبين طبقا لمبادئ العدل والديموقراطية) هم الذين يُدبّـرون الدولة، بواسطة العقل الجماعي، والقانون الوضعي (وليس طبقًا للنّـصوص الدّينية المُقدّسة والجامدة). ويُطبّق المواطنون دينهم بحرّية تامّة، بالاعتماد على الإيمان الشخصي (وليس على العقل). كما يمارس المواطنون السّياسةَ بحرّية كاملة، بالاعتماد على العقل الفردي، وعلى العقل الجماعي (وليس على الدّين). ولا يجوز لمؤسّـسات الدولة أن تستـعمل الدّين لبلورة سياساتها، أو لتبريرها. كما لا يجوز إخضاع القرارات السياسية، أو وضع القوانين، لتأثير المؤسّـسات الدّينية، سواءً كانت عمومية أم خصوصية. بل يلزم مؤسّـسات الدولة أن تبني قراراتها (السياسية، أو الاقتصادية، أو الثـقافية، أو غيرها) على قاعدة حجج نابعة من العقل، أو من التّجربة، أو على أساس براهين منبثـقة من العلوم الدّقيقة، أو على ركيزة الاستجابة لمصالح الشعب. وتأويل أحداث المجتمع، أو قراءة وقائع الطبيعة، يكون على أساس مناهج عقلانية، أو مبادئ علمية، بشكل مستـقل عن المعتـقدات الدّينية.
آدم: وما هي انعكاسات مبدأ «الفصل بين الدّين والدولة» مثلاً على أنشطة فقهاء الدين؟
إبراهيم: يمكن لأي فقيه في الدّين أن ينتـقد الدولة وسياساتها، لكن بشرط أن يقوم هذا الفقيه بهذا النـقد بصفته مواطنا عاديا، وليس بصفته فقيها في الدّين، وبشرط أن يكون نـقده مبنيا على أسـس عقلانية، أو تِـقْنِيّة، أو قانونية، أو سياسية، وليس على اعتبارات دينية. حيث يُمنع على أيّ فقيه في الدّين، وعلى أية حركة دينية، أن تنتـقد الدولة، بمبرّر أن هذه الحركة هي وصيّة على الدّين، أو بصفتها نائبة عن الإله، أو بصفتها مكلّفة بتنفيذ إرادة الإله، أو باعتبارها هي الوحيدة التي يحقّ لها احتكار الفهم الصحيح للدّين. كما يُمنع على أيّ كان أن يفرض على غيره القيامَ بعبادة معيّنة، أو الخضوعَ لمعتـقدات دينية، أو الرّضوخ لتـقاليد محدّدة. ولا يجوز لأي كان أن يحاول فرض إيمان معيّن، أو عبادة محدّدة، على أفراد أو جماعات من الشعب، بواسطة الإكراه، أو الحيلة، أو العنف، أو التّرهيب. كما لا يجوز لأي كان أن يحاول منع جماهير الشعب من ممارسة عقائدها الدينية. وإذا ما حدثت نزاعات بين متديّنين مختلفين، تكون الدولة هي المؤهّلة للحكم في خصوماتهم، وذلك طبقا للقانون الوضعي القائم.
آدم: وفي إطار «الفصل بين الدّين والدولة»، هل تلتزم الدولة بِالْاِسْتِرْشَاد بالمراجع الدّينية؟
إبراهيم: لا تلتزم الدّولة بالنصوص الدّينية المقدّسة، وإنما تلتزم بالعقد المجتمعي (الدستور)، وبالقانون الوضعي. وعلى خلاف النصوص الدّينية، يبقى هذا القانون الوضعي خاضعا للمراجعة، وللنـقد، وللتَّحْسِين، وذلك طبقًا لقواعد الدّيمقراطية المُتـعارف عليها عالميا. وليس للدولة أيّ دين. لأن الإيمان، والعِبادة، يدخلان ضمن حرّيات الأشخاص، ولا يدخلان ضمن خصائص الدول. ولا يمكن للدولة أن تكون دينية، لأن الدولة ليست شخصا، أو بشرا، وإنما هي على الخصوص مؤسّـسات، وعلاقات إدارية، وصلاحيات، وَتَرَاتُبِيَّة، واختصاصات، وقوانين، وآليات إدارية، وميزانيات مالية، وبرامج اقتصادية أو اجتماعية. ولأن الدولة مُجْبَرَة على أن تكون مُحايدة تُجاه جميع الأديان أو المذاهب. ولأن الدولة وسياساتها هي مجرد تدبير مُجتمعي وعقلاني، وليست لا عَابِدَة، ولا عِبَادَة. وبالمقابل، لا يجوز للوزراء، أو للحُكّام، أو لمسؤولي الدولة، أو لعُمَلَائِهم، أن يتدخّلوا في الشؤون الدّينية، أو في طُرق تـعبّد المواطنين(11). وعند تناول أي مشكل مجتمعي، لا تنطلق الدولة من الدّين، لأن الدّين يدخل ضمن الحرّيات الشخصية. فيبقى من حقّ أيّ مواطن، أو أيّة جماعة، أن تستوعب الدّين حسب المذهب الذي يلائمها. كما يحقّ لأي مواطن أن يطبّق الدّين بالطريقة التي تَرُوقُه. وعند معالجة قضايا المجتمع الدّنْيَوِية، لا تنطلق الدولة من تـقاليد أو مَرَاجِع دِينية، ولا تُرجع كلّ شيء إلى الإرادة الإلهية، أو إلى قَضَاء القَدَر، وإنما تنطلق الدولة من الواقع المجتمعي الحَيّ، ومن دراسته العلمية. وتـعمل الدولة طبقا لِلْعِقْد المُجتمعي (الدستور)، وذلك بشكل تَشَارُكِي مع مختلف الفاعلين في المجتمع، بهدف إيجاد الحلول العقلانية، والعادلة، والديمقراطية، التي تخدم مصالح أكبر نسبة ممكنة من الشعب. وعند نـقاش قضايا مُجتمعية، أو عند تدبير شؤون المجتمع، تـقوم الدولة بتحديد الاختيارات، ليس انطلاقا من النصوص الدّينية، وإنما انطلاقا من التّشاور المُجتمعي الديمقراطي والمتناقض، وعبر تفعيل المنطق العقلاني وحده. فلا يُـقبل بأن يأتـي أي شخص أو جماعة، وأن يحاول فرض رأيه السياسي الخاص، وذلك بدعوى أن هذا الرأي هو «الموقف الدّيني الوحيد السّليم». كما لا يُـقبل بأن يأتـي أي شخص أو جماعة، فيقول: «في القضية المجتمعية الفُلَانِية، يجب عليكم أن تـفعلوا كذا وكذا، ولو أنه يخالف العقل، ولو أنه يلغي الحرّية، لأن الله أو الرسول قال كذا وكذا». مثل هذا التدخّل الدّيني في المجال السياسي يبقى مرفوضا، وممنوعا. وبالمقابل، يُمنع على كلّ حاكم، أو وزير، أو مسؤول في الدولة، أن يقول للمواطنين: «يجب عليكم أن تـؤمنوا بالدّين بهذه الطريقة المحدّدة»، أو «يجب عليكم أن تـعبدوا الله بهذه الكَيْفِيّة». لأن الدّين يبقى للّه وحده، بينما الدولة أو السياسة تبقيان للمواطنين أجمعين. ولتلافي أي سوء تفاهم داخل المجتمع، يَلْزَم المُشَرِّع أن يَنُصَّ في القانون على حرية العَقِيدَة(12)، وحرية العِبادة، وحرّية عدم العبادة. وكل مواطن هو حرّ في أن يعيش تَدَيُّنَه، أو عدم تديّنه، بالمنهج الذي يلائمه شخصيا، بشرط ألا يَتَطَاوَل على الحريات المشروعة للمواطنين الآخرين.
آدم: وإذا لم نعمل بِ ”الفصل بين الدّين والدولة“، ماذا سيحدث؟
إبراهيم: ”الفصل بين الدّين والدولة“ هو الحلّ الوحيد الذي ينظّم حِيّاد الدولة، ويضمن كرامة الدّين. وبدونه، يصبح استـغلال الدّين في السياسة مباحًا لكلّ الانتهازيين، ويصبح إدخال السياسة في الدّين مرخّصًا لكل الجاهلين. وَتَمْتَزِج سلطة الدولة بسلطة الدّين. ويلجأ المُسَيْطِرُون على السلطة السياسية، أو على السلطة الاقتصادية، أو على السلطة الإعلامية، إلى توسيع هَيمنتهم إلى المجال الدِّيني. فيصبح الدّين مُسَخَّرًا لخدمة أغراض قبلية، أو فئوية، أو طبقية. وتضطر الحركات الدّينية إلى الانغماس كلّيا في صراعات سياسية عقيمة، ولا منتهية، وبِأَقْنِعَة دِينية مُضَلِّلَة. فتكون الضحية مزدوجة، هي أوّلاً الدّين، وهي ثانيا الشعب.
آدم: فهمتُ ماذا تـقصد بعبارة ”فصل الدّين عن الدّولة“. قُل لي الآن، ماذا تـعني بعبارة «حرية العقيدة»؟
إبراهيم: المقصود من ’’حرّية العقيدة‘‘، أو ’’حرية العبادة‘‘، هو أن الإيمان، وعدم الإيمان، والعبادة، وكذلك عدم العبادة، هي كلها أمور تدخل ضمن الحريات الشخصية، وضمن حقوق الإنسان. وكل مواطن يريد أن يؤمن بدين محدّد، فذاك من حقّه. وكل مواطن لا يريد أن يؤمن بأي دين، فذاك من حقه أيضًا. ولا يجوز لأي شخص كان أن يحاول إجبار أي مواطن على الإيمان بفكر معيّن، أو بدين محدّد. فالمواطنون الذين يقبلون الالتزام بتـعاليم دينية محدّدة، وكذلك المواطنون الذي يرفضون الخضوع لأي نَصٍّ ديني مهما كان، كلهم لهم الحق في الحياة، وفي المُواطنة الكاملة، ولهم الحق في صِيانة وتنمية مصالحهم الخاصة. فَلاَ يَمْنَحُ الإيمان، أو العبادة، أي امتياز للمواطن المتـعبّد. كما أن عدم العبادة، أو حتى الإلحاد، أو الكُفر، لا يبرّر حرمان أي المواطن (غير متـعبّد) من أي حقّ مشروع. وما يطلبه المجتمع من كل مواطن، ليس هو أن يكون ملتزما بالدّين، أو رافضا له، وإنما المطلوب من المواطن هو أن يلتزم بالقوانين الوضعية التي أقَامَتها الدولة، من خلال ممثّلي الشعب الشّرعيين، وذلك طبقًا لمبادئ العدل والديمقراطية. فلا يحقّ لأي شخص أو مؤسّسة أن تـقول للمواطنين: «يجب عليكم أن تؤمنوا بهذا الدّين، وبهذه الطّريقة»، أو أن تـقول لهم: «يلزمكم أن تُطَبِّقُوا الدّين بهذا الشكل أو ذاك». بل الإيمان أو التديّن هما شأنان شخصيان. وهما جزآن لا يتجزّآن من حقوق الإنسان (كما هي متـعارف عليها عالميا). فكل مواطن هو حرّ في أن يتـفاعل مع الدّين بالشّكل الذي يلائمه، وذلك حسب قناعاته، أو إيمانه، أو اختياراته. وكل مواطن هو حرّ في أن ينخرط في المذهب الدّيني، أو المدرسة الدّينية التي تـعجبه. ومن حقّه أن يمارس الشعائر الدينية التي يؤمن بها. ولا يحقّ لغيره أن يجبره، بواسطة التّهديد، أو الإكراه، أو الحيلة، على التـعامل مع الدّين بطريقة لا يقبلها هذا المواطن. وما يُوجبه المجتمع على كل مواطن في مجال المعاملات، هو أن يتـفاعل مع الدولة، أو مع مواطنيه، على أساس العقل والقانون (وليس على أساس الدّين). لأن كل مواطن هو في جوهره حرّ، وفي نفس الوقت، هو مسؤول عن كلّ أفعاله، وملزم باحترام حريات غيره من المواطنين. والالتزام بالعقل (سواءً الفردي، أم الجماعي، أو المُجتمعي)، يؤدّي بنا جميعا، وبالضرورة، إلى التـعاقد المُجتمعي، وإلى التـعايش السّلمي، وإلى القانون، والأخلاق، والتـعاون، والتكامل، والتضامن المُجتمعي.
آدم: فهمتُ تـعريفك لِ «حرّية العقيدة». لكن إذا نحن عملنا بهذا المبدأ، فسيؤدّي بنا إلى تـغيير أشياء كثيرة. منها مثلا إلغاء تدريس المواد الإسلامية في الدارس.
إبراهيم: فعلاً، ليس من اختصاص المدرسة العُمومية أن تـفرض على التلاميذ القاصرين أن يَتَبَنَّوا دينًا محدّدا. وفي إطار فصل الدّين عن الدّولة، لا يحق للدولة، ولا للمدرسة العمومية، أن تُجبر التلاميذ على اتباع تكوين ديني محدّد. وكلّما كان التلاميذ أو الطلبة خاضعين لتنـقيط، أو لامتحانات، في موادّ مدرسية تتناول الإيمان، وطقوس العبادة، والمعتـقدات الدّينية، فهذا يعني أن هؤلاء التلاميذ أو الطلبة أصبحوا مُجبرين على التديّن بدين محدّد. وهذا الإجبار يتناقض مع حرّية العقيدة، ومع حرّية العبادة، ومع حقوق الإنسان. ومهمّة التـعليم العمومي، ليست هي الدّعوة لدين محدّد، ولا هي الدعوة لفكر سياسي معيّن، وإنما هي بالأساس تـعليم القراءة، والكتابة، والحساب، والمنطق، والعلوم الدّقيقة، والاقتصاد، والفلسفة، والثـقافات الكونية، والمهارات المهنية، وتِـقْنِيَات الإنتاج. وغَاية التـعليم العمومي هي تكوين مواطن عَالِم، كُفْء، مثـقف، حُرّ، مستـقل، مُبادر، مُنتج، ومُسلّح بمناهج علمية، ويقظة، ومُبدعة، وناقدة. وإذا أرادت عائلات أن تـعلّم أبناءها دينا معيّنا، فيمكنها إدخالهم إلى مدارس خصوصية موازية، متخصّصة في تـعليم ذلك الدّين.
آدم: فهمتُ معنى «فصل الدّين عن الدّولة». لكن أنا أخشى أن يؤدّي هذا الفصل بين الدّين والدولة إلى تهميش الدّين الإسلامي! كيف يعقل في هذه الحالة القبول بتهميش الدّين الإسلامي، بينما السّر في ظهور هذه الأمة العربية الإسلامية، وازدهارها، هو بالضبط الدّين الإسلامي؟ أليس الدّين الإسلامي هو الذي منح للأمة العربية الإسلامية إشعاعا إنسانيا كونيا؟ وكيف يمكن للأمة العربية الإسلامية أن تحقق مشروعها الحضاري إن هي قبلت بتهميش الدّين الإسلامي؟
إبراهيم: أنا أحترم مشاعرك. وأشاطرك همومك. وأعتبر أنه من حقّك أن تحرص على صيانة المكانة المُبَجَّلَة التي يحظى بها الدّين الإسلامي. وبِنزاهة كاملة، أُطَمْئِنُك أن هدف ”فصل الدّين عن الدولة“ ليس هو تهميش الدّين، أو الإساءة إليه، وإنما هدفه هو تلافي استـغلال الدّين في السياسة، وتـفادي إدخال السياسة إلى الدّين، والمساهمة المتواضعة في إيجاد حلول عقلانية لمشاكل مُجتمعية مزمنة وعويصة. حلول تصون حرمة الدّين، وتُمكّن في نفس الوقت الشعبَ (أو المجتمعَ) من معالجة مشاكله بنفسه. لنحاول إذن أن نفكّر بشكل مَرِن، موضوعي، وجماعي. الإسلام أتى في وقت ظهوره بأشياء إيجابية أو تـقدّمية. لكن الملاحظ بشكل عام في تاريخ مجمل الدّيانات، هو أنه، بعد مرور وقت طويل نسبيا على نشأتها، تنتهي مجمل ديانات العالم إلى حالة من الرّكود الفكري. وهذا مصير مشترك لكل ديانات العالم (بل ولِمُجْمل الأيديولوجيات). أنا أتـفهّم تـعلّقك بماض مُعظّم. بل أتـعاطف معك حول تخوّفك من كل تـغيير جذري. لكنّـني آسف أن أقول لك بصراحة: يجب أن ننظر إلى الواقع العالمي كما هو، وليس كما نشتهي أن يكون! لقد حان وقت القطع مع الحَنِين إلى ماض إسلامي مثالي! فمن المستحيل الرجوع إلى الماضي، ومن غير المعقول أن نحاول إعادة إنتاج ماض غَدَت ظروفه متجاوزة بشكل جذري. يجب أن ندرك أن الأَزْمِنَة قد تـغيّرت منذ قرون! لقد تـغيّر التاريخ! يجب أن نَفِيقَ من سُباتنا! وعُصور الحضارات المبنية حصريًّا على أساس الدّين قد انتهت! ومحرّك الحضارة لم يعد اليوم هو الدّين وحده، بل هو أيضًا العقل الإنساني، أو العقل الكوني! الشيء الذي لا يعني، ولا يبرّر، تهميش الدّين، ولا يلغي الحاجة إلى احترام كل الأديان. وكلّ مجتمع يتكوّن بالضّرورة من متديّنين وغير متديّنين. فَيَجب الالتزام باحترام حرّية العقيدة. كما يلزمنا أن ندرك أنه ليس من مصلحتنا أن ننـغلق على أنفسنا. والواقعية تـفرض علينا اليوم بأن نهتمّ بابتكار وتشييد مستـقبلنا، وأن لا نغرق في تمجيد ماض غَدَى متجاوزا! ولكي نخرج من تخلّفنا المجتمعي الحالي، نحن مجبرون على رفع تَحَدّ إضافي، أو خوض مغامرة من نوع جديد. والمدخل الإجباري لسيرورة التـقدّم هو بالضّبط العَقْلَنة المُجتمعية الشّاملة، بما فيها من قيم إنسانية، وحرّية، وعدالة، ودَمَقْرَطَة، وأخلاق، وقانون، وتكامل، وتضامن، وتـقدّم، وعلوم، وتكنولوجيات. وذلك ليس فقط على مستوى وطن واحد، بل على مستوى البشرية كلها! ومن الأكيد أنه بوسعنا أن نستوعب هذا العقل الإنساني الكوني، بل بإمكاننا أن نساهم في تطويره وإغناءه!
آدم: أشكرك على تفهّمك، وأعترف بأنّك تحمل رؤية واسعة أو طَمُوحة. لكن ما يهمّني أنا هو القضايا التـفصيلية أو العملية. وأخاف أن تؤدّي حرّية العقيدة إلى تكاثر الإلحاد، أو الكفر.
إبراهيم: كن مُطمئِنًّا! أنت بنـفسك قُلْتَ أنه لا يحدث شيء إلاّ إذا أراده الإله. وعليه، فإن وجود أشخاص غير متديّنين، أو حتّى ملحدين، هو أيضًا واقع ناتج عن إرادة إلَهِية، ومنسجم معها. وبالتّالي، اِطمئن، ولا تخف من المستـقبل!
آدم: أخشى فعلاً أن تؤدّي حرّية العقيدة إلى خلق مشاكل، أو نزاعات، أو تَـفْرِقَة في المجتمع. ويمكن أن يؤدّي إقرار حرّية العقيدة إلى تخلّـي مواطنين كثيرين عن الدّين الإسلامي. ويمكن أن ينتشر الكفر، أو الإلحاد، أو الزَّنْدَقَة، أو الرَّذِيلَة، أو الانحلال، أو الفساد. كما يمكن أن تظهر داخل بلادنا ديّانات مختلفة، أو طَوَائِف دينية متصارعة، أو مَذاهب مُتطاحنة. وفي حالة وجود طوائف دينية متناحرة داخل بلادنا، فإنني أخشى أن تحاول الدّول العظمى استـغلال وجود طوائف متصارعة فيما بينها لكي تتدخّل في بلادنا، أو لِكَي تحتلّها، أو تـقسّمها، مثلما حدث في لبنان، والعراق، والسودان، والبحرين، واليمن، وغيرهم. وأنا لا أقبل كل هذه التطورات السلبية المُحتملة.
إبراهيم: أتـفهّم مخاوفك، وأتضامن معك حول غيرتك على دينك، وعلى بلادك. لكنني متأكّـد من أن كل مواطن يؤمن حقّا بدينه، لن تـقدر حرّيةُ العقيدة على إزاحة إيمانَه. وحتى بعد تشريع حرّية العقيدة، فإن كلّ مواطن يؤمن حقّا، سيبقى مؤمنا. ومن المُحتمل أن المواطن الذي كان إيمانه سطحيا، أو زائفا، أو ناتـجا فقط عن تـقليده، أو مُسايرته، للتّـيار الغالب الموجود في بيئتـه المُجتمعية، من المحتمل أن يبقى كما كان في السابق. كما يمكن أن يعلن انسلاخه عن دينه السابق. أنظر مثلا إلى تجربة بلدان أوروبّا المسيحية، بغربها وشرقها، بعدما قَنَّنَت أو أقرّت دُوَلُها حرّية العقيدة. ماذا جرى في هذه البلدان؟ هل اِضْمَحَلَّت أو اِنْـقَرَضَت فيها الدّيانات (المسيحية، والكاثوليكية، والأرثدوكسية، والبروتستانتية، إلى آخره)؟ لا أبدًا! فمثلاً في فرنسا، التي قرّرت فصلَ الدولة عن الكنيسة، منذ سنة 1905 م، ورغم أنها منعت الكنيسة من التدخّل في الحياة الشخصية للمواطنين، ورغم أنها شَرَّعَت حرية التـعبير، وحرّية الضمير، وحرّية العقيدة، وحرّية العبادة، وحرّية عدم العبادة، فإن الدّيانة المسيحية (بمجمل مذاهبها) استمرت مثلما كانت في السّابق. وفي مثال تُرْكِيا المسلمة، وبعد مرور قرابة 94 سنة من العَلْمَانِية (laïcité) التي أقرّها الرئيس مصطفى كمال أَتَاتُورْك في سنة 1922 م، لا زالت اليوم قرابة 80 في المئة من سكان تركيا مسلمة. وفي الولايات المتحدة الأمريكية، وبعد مرور أكثر من قرنين على تـقنين حرّية العبادة، وحرّية العقيدة، فإن قرابة 75 في المئة من السكّان لا زالوا متحمّسين لديّاناتهم المتنوّعة. وعليه، فنسبة السّكان الذين يؤمنون، أو الذين يعبدون، في مجمل هذه البلدان، لم تتـغيّر فجأة. ورغم ذلك، لِنَفْتَرِض جدلاً الآن أن الاحتمال الأسوأ هو الذي سيحدث في بلادنا. لنفترض أن إقامة قانون حرّية العقيدة سيدفع نسبة هامّة من المواطنين إلى تخلّيهم عن دينهم السابق. ماذا تـفضّل أن تـفعل أنتَ في هذه الحالة؟ لديك اختياران لا ثالث لهما. الاختيّار الأول هو أن يبقى الدّين الرسمي مفروضًا على المواطنين، بواسطة الضّغط المعنوي، أو بالإكراه، أو بالقوّة، أو بالتّرهيب، أو بالدِّعَايَة، أو بِالتَّحَايُل. وفي هذه الحالة، وتبعًا لما سبق ذكره، يلزمك أن تـقبل بدوام نظام سياسي ديني استبدادي، مُسْتَلَب (aliéné) بالدّين، ويهدف إلى فرض دين إجباري، على مواطنين يبقون مُجرّد رعايا، ولا يتمتـعون بأية حرّية، (مثلما حدث في النظام السياسي الذي أقامته جماعة «طالبان» في أفغانستان، أو جماعة «القاعدة»، أو جماعة «دَاعِشْ»، في بعض المناطق المشرقية التي سيطرت عليها في العراق وسورية). الاختيار الثاني هو أن تلتزم الدولة باحترام الحرّيات الأساسية للمواطنين، لأننا نثـق في نضج هؤلاء المواطنين، ولأننا ندرك أنه لا إنسانية حقيقية بدون حرّية، ولو أن ممارسة هذه الحرّيات يمكن أن تؤدّي إلى بعض المظاهر المجتمعية السلبية والمؤقّتة، والتي قد لا نَرْغَب فيها، والتي سوف نضطر جماعيا إلى الاجتهاد لمعالجتها أو لِتَـقْلِيصِها. فأي الخيارين تـفضّل؟ أنت حرّ في أن تختار الموقف الذي تظنّه في مصلحة الشعب. وهذه المسألة تُرجعنا إلى إشكالية فلسفية تناولناها فيما سبق. وهي التالية: هل الدّين هو وسيلة أم غاية في حدّ ذاتها؟ وفي رأيي المتواضع، الإنسان هو الغاية، والدّين ما هو إلاّ وسيلة من بين عدّة وسائل تهدف إلى إسعاد البشر!
آدم: كأنك تـقول أن إنـقاذ الإنسان هو أهمّ من إنـقاذ الدّين. ولكن توجد نصوص دينية قطعية، فيها أحكام إلَهِيَّة واضحة، أو زَجْرِيَة، مثلا في مجالات تـعدد الزوجات، أو الإرث، والعقوبات الجسدية، إلى آخره. فماذا ستـفعل الدولة في هذه الحالات؟ هل ستخضع لهذه النصوص الدّينية أم أنها ستتجاهلها؟
إبراهيم: في إطار الفصل بين الدّين والدولة، لا تنشغل الدولة بالدّين، ولا تخضع للنّصوص الدينية، سواءً كانت قطعية أم لا. بل تترك الدولة القضايا الدينية للفقهاء، وللمواطنين، لكي يتصرفوا فيها بحرّية، وذلك حسب قناعاتهم الشخصية. وبعبارة أخرى، العناصر التي تتحكّم في العلاقات، وفي المعاملات، فيما بين المواطنين، ليست هي النصوص الدّينية، وإنما هي القوانين الوضعية، التي أنتجها الشعب أو ممثلوه الشرعيون، وذلك طبقا لمبادئ العقل، والعدل، والديمقراطية. وهذا التدبير لا يمنع السياسيين، أو مؤسّـسات الدولة، من أن تأخذ بعين الاعتبار (حسب المُستطاع) التـقاليد أو المعتـقدات التي تتّـبِعها فئات مختلفة داخل المجتمع. وكل مواطن يريد إخضاع حياته الشخصية لأحكام نصوص دينية من اختياره، فهو حرّ في ذلك. وكل مواطن يرفض إخضاع حياته الشخصية لأي نَصٍّ ديني، فهو أيضا حرّ في ذلك. لكنه يُمْنَع على أيّ كان أن يحاول إجبار غيره من المواطنين على الخضوع لأية تـعاليم أو نُصوص دينية. لأن القانون يضمن حرّية العقيدة، وحرّية العبادة، وحرّية عدم العبادة. كما أن القانون يفرض على كل فرد أو جماعة أن يحترم معتـقدات أو عادات المواطنين الآخرين (بمعنى ألّا يهينهم، أو يستـفزّهم، أو يستهزئ بهم، أو يعتدي على حرّياتهم).
آدم: واضح! فهمتك! تريد أن تـخصّص لكل ميدان منطقه الخاص به. في ميدان الدّين، تـعمل بمنطق الدّين. وفي ميدان المجتمع، تـريد العمل بمنطق العقل. ربّما!... ربّما!... هذا ممكن!... لكن أنا أحتاج إلى وقت أكثر لكي أتمعّـن بدقّة في كل هذه الأطروحات.... أمّا اليوم، فلا أستطيع أن أجادلك حولها... قُل لي الآن، كيف يمكن للمجتمع أن يمنع استـغلال الدّين في مجال السياسة؟
إبراهيم: الحلّ معروف. وقد طبّقته المجتمعات المُتـقدّمة أو الديمقراطية (في أوروبا الغربية وأمريكا)، وذلك منذ قرون. وهذا الحلّ هو فصل الدّين عن الدولة، وفصل الدين عن السياسة. وبدون فصل الدين عن الدولة، وعن السياسة، يستحيل تحقيق الديمقراطية. بل إذا لم نـفصل بين الدّين والسياسة، فَسَيَسْتَحِيل علينا تحقيق حتى العَدَالَة الاجتماعية.
آدم: رُبّما! لكن أريد منك أن تُوضّح لي كيف يمكن عمليًّا أن نـفصل بين الدّين والسياسة؟
إبراهيم: المنطلق هو التمييز بين ميدان الدّين من جهة، ومن جهة أخرى ميادين الأنشطة المجتمعية التي نُدبّرها بالعقل وحده. وأهم السّبُل لفصل الدّين عن السياسة، يمرّ عبر رفض أية حُجّة دينية، أو أي مرجع ديني، في مجالات السياسة، والاقتصاد، والقانون، والفكر، والثـقافة، والفنون الجميلة. وفي كل المُجتمعات المُتـقدّمة (مثل بلدان أوروبا وأمريكا)، لا يُسمح لأفراد الكنيسة، أو الكَهَنَة، أو القَسَاوِسَة، أو الرُّهْبَان، أو الفُقهاء، أن يتدخّلوا باسم الدّين في السياسة، أو في الاقتصاد، أو في القانون. نحن نحترم الدّين، ونحترم كل المُتديّنين، ونحترم غير المُتديّنين. لكن يجب أن يقتصر الدّين على المجال الدّيني وحده. وكلّ مواطن يبقى حُرّا في مجال عقيدته، أو عبادته. ويحتفظ كل مواطن بحقه في أن يؤمن أو ألاّ يؤمن، وأن يستمتـع بحقه في أن يَعْبُد أو أَلَّا يَعْبُد، وذلك بالطّرق التي تـعجبه، بشرط أن لا يَتَطَاوَل على الحقوق المشروعة للمواطنين الآخرين. ويمكن مثلاً لفقيه دينيّ أن يكون خبيرا في شؤون الدّين، لكن خبرته في مجال الدّين لا تـعني بالضرورة أنه خبير أيضا في شؤون السياسة، أو الاقتصاد، أو القانون، أو العلوم الدّقيقة، أو التكنولوجيات، أو التاريخ، أو الفلسفة، أو الفنون، أو التجارة الدولية، إلى آخره. وإذا أراد فقيه دينيّ أن يتدخّل مثلاً في السياسة، فيلزمه أن يتدخّل فيها بصفته مواطنا عاديا، وليس بصفته وَصِيّا على الدّين، أو باعتباره مُحْتَكِرا للفهم الوحيد الصحيح للدّين! ولا يحقّ لأي فقيه، أو إمام، أو واعظ ديني، أن يتصرّف كأنّه وكيل الإله، أو نائبه، أو ممثّله، أو مُفَوَّضَه، أو وسيطه، أو النّاطق باسمه! يمكن مثلاً لفقيه ديني أن يزعم أنه متخصّص في ميدان الإصلاح الدّيني، لكنه لا يحقّ له أن يزعم أن تخصّصه الدّيني هذا يعطيه تلقائيا، أو آليًّا، كفاءة مُماثلة في مجالات الإصلاح السياسي، أو الاقتصادي، أو القانوني، أو المُجتمعي. ويتمّ الحسم في قضايا المجتمع، عبر آليّات الديمقراطية المُتـعارف عليها عالميا، وليس عبر تطبيق حرفي أو آلي لنصوص دينية محدّدة. وقضايا الإيمان، والعبادة، والدّين، تبقى حِكرا على الدّين، وعلى المُتديّنين المعنيين بها. بينما قضايا الاقتصاد، والسياسة، والقانون، والعلوم، والحقوق، والفكر، والثـقافة، والتكنولوجيا، والفنون الجميلة، وما شابهها من قضايا المُجتمع، يجب أن تبقى حكرا على العقل، وعلى المنطق، وعلى اجتهاد البشر، وعلى القانون الوضعي، وعلى الإرادة التي يُعبّر عنها الشعب بطريقة حُرّة، وديمقراطية، وشفّافة، ونزيهة. فلا نـقبل أي تدخّل لفقهاء الدّين فيما هو غير ديني. والحُجج الوحيدة المقبولة في مجالات السياسة، أو الحريّات، أو الاقتصاد، أو القانون، أو الفكر، أو العلوم، أو الثـقافة، أو الفنون، هي الحجج العِلمية، أو العقلية، أو المنطقية، أو النابعة من إرادة شعب حُرّ.
آدم: أَمْ مْ مْ! مُجمل أطروحاتك السّابقة مهمة، وتستحقّ أن نتأمّل فيها! وأودّ أن أدرسها أكثر... لكن، ألاَ ترى أن ”فصل الدّين عن السياسة“ سيتطلّب أيضًا إجراءات أخرى، مثل منع الأحزاب السياسية المبنية على أساس الدّين؟
إبراهيم: بالتّأكيد! ”فصل الدّين عن السياسة“ يستوجب أيضًا منع الأحزاب، والجمعيات، والمؤسّـسات السياسية، التي تكون مبنية على أساس الدّين، وتريد في نفس الوقت القيام بعمل ذي طبيعة سياسية. لأن هذا الصّنف من المؤسّـسات يُدخل الدّينَ إلى السياسة، ويمارس السياسة بمنطق ديني، ويستـغلّ الدّين في مجال السياسة. وكل حزب، أو جمعية، أو مؤسّـسة، تريد الاشتـغال في ميادين السياسة، يلزمها أن تكون محايدة تجاه الدّين. كما أن كلّ مؤسّـسة تريد الاشتـغال في ميدان الدّين، يتوجب عليها الابتـعاد عن أيّ عمل سياسي.
آدم: لكن الأحزاب السياسية التي زَعَمَتْ أنها «إسلامية»، أو «ذات مرجعية إسلامية»، ثمّ اكتسبت بسبب ذلك مساندة الجزء الأكبر من جماهير الشعب المتـعلّقة بالإسلام، ثم استفادت هذه الأحزاب «الإسلامية» من هذا التـعاطف الشعبي في الانتخابات المحلية أو البرلمانية، فإن هذه الأحزاب «الإسلامية» لن تـقبل منعها من استـغلال الدّين في السياسة. لأن استـغلالها للدّين في السياسة هو بالضّبط الذي مكّنها من التفوّق على باقي الأحزاب الأخرى غير الدّينية المنافسة لها. ولأن العنصر الوحيد الفعّال في الخط السياسي للأحزاب «الإسلامية» هو بالضّبط استثمار الإسلام في السياسة. وأهم مكوّن في رأسمالها السياسي هو استـغلال الدّين في السياسة.
إبراهيم: بالتّأكيد! كلّما استـغلّ بعض الأحزاب (أو الفاعلين السياسيين) الدّينَ في السياسة، فإن هذا الاستـغلال للدّين يقضي كلّيا على إمكانية التنافس المنصف أو العادل فيما بين هذه الأحزاب المتنافسة. لأن كل فاعل سياسي مبنيّ على أساس الدّين، يستـغلّ تـعاطف جماهير الشعب مع الدّين، ويوظّف تـعلّقهم بهذا الدّين، أو تـقديسهم له، لكي ينتزع مساندة هذه الجماهير له، ويستولي على ولائها. ولأن كلّ حزب ديني يخاطب المعتـقدات الدّينية لدى الجماهير، بينما الحزب الدّنيوي يخاطب المواقف العقلانية، أو الحاجيات المادية، لدى هذه الجماهير. ولأن الجماهير الشعبية المتديّنة تـعطي الأسبقية لتـعلّقها بالدّين، ولنصرتها له. وهنا تحدث المخادعة التي تلغي المنافسة المُنْصِفَة. لأن الحزب المبني على أساس الدّين يقول للجماهير أنه لا يريد شيئا آخر غير تحقيق إرادة الإله. بينما الحزب الدّنْيَوِي يقول أنه يريد تحقيق الدّيموقراطية، أو التنمية الاقتصادية، أو تحسين الخدمات العمومية. فتختار الجماهير الشعبية، بوعي أو بغير وعي، مناصرة من يتكلّم لها عن أعزّ شيء عندها، أي حبّ الإله، والوفاء له. ونحن ندرك أن الإله برئ من كلّ الأحزاب والقوى التي تدّعي أنها مبنية على أساس الدّين. وأن هذه الأحزاب لا تطبق سوى سياسات نفعية، أو انتهازية، أو مُخَادِعَة.
رحـمـأن الـنـوضـة ([email protected]).
[هذا النص هو جزء مأخوذ من كتاب "نـقـد الـشـعـب"، للكاتب رحمان النوضة. ويمكن تحميل هذا الكتاب بكامله من مكتبة الحوار المتمدن، أو من مدوّنة الكاتب [http://LivresChauds.Wordpress.Com]. كما يمكن طبع ونشر هذا الكتاب بالمجان. ويمكن مراسلة الكاتب للحصول على ترخيص مكتوب].

الــــهـــــوامــــــــش :]
(1) سبق للموقع الإلكتروني «هسبريس»، خلال يوم الأربعاء 16 أكتوبر 2013، أن نشر أن السيد عبد الإله بنكيران، رئيس الحكومة، وزعيم حزب إسلامي («حزب العدالة والتنمية»)، وصف الملك محمد السادس بأنه «كرامة خصّ بها الله تـعالى هذا البلد». وأشاد بتوجيهات الملك «النّيرة» التي تسير الحكومة على هديها، وحمد الله وأثنى عليه، وأضاف: «لولا نعمة الله لما تيسّر ما نحن فيه».
(2) لم يكن بعض المفكّرين العرب يبرزون بما فيه الكفاية أن الجوهر في ”العلمانية“ هو الفصل التّام بين الدّين والسياسة. وقال محمد عابد الجابري: «مسألة العلمانية هي في نظري مسألة سياسية في الأساس: مسألة العلاقة بين الدين والسياسة. ومن هنا يمكن القول إن ما أسميته بِـ المقاربة الفلسفية المحض لقضية العلمانية شيء صعب إن لم يكن مستحيلا... ما يجب أن يحظى بالأهمية ليس هو الموقف، بل استراتيجية الخطاب... وأعتقد أن غياب الكنيسة في الإسلام يجعل شعار العلمانية شعارا غير استراتيجي في أي خطاب يطرح قضية العلاقة بين الدين والسياسة في المجتمع الإسلامي. ذلك لأنه لا وجود لمؤسـسة دينية يمكن أن ينصرف عليها وحدها خطاب العلمانية كما كان الشّأن في أوروبّا» (عن حوار محمد عابد الجابري مع مجلة ”مقدّمات“ المغربية، أجرى الحوار محمد الصغير جنجار. مسجّل على المدونة الإلكترونية: http://hekmah.org/%D9%82%D8%B6%D8%A7%D9%8A%D8%A7-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%86-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%83%D8%B1-%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D8%B9%D8%A7%D8%A8%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%A7%D8%A8%D8%B1/
(3) «ثمّ رُدُّوا إلى الله مولاهم الحقِّ، ألا له الحُكمُ، وهو أسرع الحاسبين» (الأنعام، 62).
(4) «وهو الله، لا إله إلاّ هو، له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحُكم وإليه تُرجعون» (القصص، 70). «ولا تدعُ مع الله إلاهًا آخر، لا إلاه إلاّ هو، كلّ شيء هالك إلاّ وجهه، له الحُكمُ وإليه تُرجعون» (القصص، 88).
(5) «قل إنّي على بيّنة من ربّي وكذّبتم به، ما عندي ما تستـعجلون به، إِنِ الحُكمُ إلاّ لله، يقصّ الحقّ، وهو خير الفاصلين» (الأنعام، 57). «ما تـعبدون من دونه إلاّ أسماء سمّيتموها أنتم و ءابآؤكم، ما أنزل اللهُ بها من سلطان، إِنِ الحُكمُ إلاّ لله، أمرَ ألاّ تـعبدوا إلاّ إيّاهُ، ذلك الدّينُ القيّمُ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون» (يوسف، 40).
(6) الآية: «فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ». (النساء، 65).
(7) خالد الدخيل، في مقاله جذر إسلامي للعلمانية ، نشر في جريدة آخر ساعة ، في 1 مارس 2017، العدد 376، ص 13.
(8) أنظر وثيقة: «يستحيل تحقيق الديمقراطية بدون فصل الدّين عن الدولة»، للكاتب رحمان النوضة.
(9) في الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى الخصوص إبّان استـعمارها من طرف المهاجرين الوافدين من أوروبا، بين سنوات 1620 و 1792 م، كانت نسبة هامّة من هؤلاء الوافدين مُتَدَيِّنِين، وهَارِبِين من القمع المُسَلَّط على مذاهبهم الدينية. وهكذا غدت المذاهب والتيارات الدينية في أمريكا متـعددة ومختلفة (ِChrétiens protestants, chrétiens catholiques, piétistes, presbytériens, huguenots, méthodistes, baptistes, anabaptistes, mormons, évangélistes, etc. ). وفي إطار هذا التـعدّد
والاختلاف فيما بين المذاهب، كانت الحاجة إلى ضمان حرية التديّن لجميع المذاهب من بين العناصر القوية التي دفعت نحو وضع قوانين تؤكّد الصِّفَة الـلائكية (laïcité) للجمهورية. وكان أول قانون ينصّ على حرّية التديّن، ويمنع وجود دين رسمي للدولة، ويحظر تدخّل الدولة في الدّين، هو القانون المُعلن من طرف برلمان ولاية فيرجينيا (Virginia)، في سنة 1786 م. وكان توماس جفرسون (Thomas Jefferson) هو الذي حرّر مشروع هذا القانون (Virginia Statute for Religious Freedom). بمعنى أن هذا القانون الـلّائكي لم ينتج عن قناعة فلسفية، وإنما نتج أساسًا عن حاجة مختلف المذاهب الدّينية إلى العيش في سلام. ومع مرّ السّنوات، تكاثرت الولايات الأمريكية التي تتبنّى مثل هذا النّوع من التّشريع. بينما لم تنجح فرنسا في تشريع قانون فصل الدّين عن الدولة إلاّ في سنة 1905 م. لأن المنطلقات في فرنسا كانت مُخَالِفَة، أي أنها كانت تريد ترسيم إبعاد الكَنِيسَة عن السلطة السياسية.
(10) أنظر وثيقة: «يستحيل تحقيق الديمقراطية بدون فصل الدّين عن الدولة»، للكاتب عبد الرحمان النوضة.
(11) أنظر كتاب (بالفرنسية):
Abderrahman Nouda, Le Politique, chapitre ‘Religion et politique’, téléchargeable à partir du site: ‘http://LivresChauds.Wordpress.Com’.
(12) جاء في الفصل 6 من دستور تونس لسنة 2014: «الدولة راعية للدين، كافلة لحرية المعتـقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية، ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي. تلتزم الدولة بنشر قيم الاعتدال والتسامح، وبحماية المقدّسات ومنع النيل منها، كما تلتزم بمنع دعوات التكفير والتحريض على الكراهية والعنف وبالتصدي لها». أما الفصل 64 من دستور مصر 2013 فيقول: «حرية الاعتـقاد مطلقة. وحرية ممارسة الشعائر الدينية وإقامة دور العبادة لأصحاب الأديان السماوية، حق ينظمه القانون».








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بحجة الأعياد اليهودية.. الاحتلال يغلق الحرم الإبراهيمي لمدة


.. المسلمون في بنغلاديش يصلون صلاة الاستسقاء طلبا للمطر




.. بينهم طلاب يهود.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين تهز جامعات أمري


.. رحيل الأب الروحي لأسامة بن لادن وزعيم إخوان اليمن عبد المجيد




.. هل تتواصل الحركة الوطنية الشعبية الليبية مع سيف الإسلام القذ