الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


غبار الاحتلال العربي (7)

محمد مبروك أبو زيد
كاتب وباحث

(Mohamed Mabrouk Abozaid)

2019 / 5 / 21
المجتمع المدني


تأكدنا في المقالات السابقة من الآثار الكارثية للعقلية العربية، بغض النظر عن كونها عقلية أدبية صرفة وحشية صرفة، همجية صرفة، لكن نفوذها السياسي وسلوكها الوحشي كان الأكثر وطأة على الشعوب... خاصة فيما يتعلق بمتلازمة ستوكهولم العربية، وبالنظر إلى أن المجتمع متنوع كذلك من حيث التكوين النفسي للأفراد، ما بين رجال ونساء وأطفال وشباب وكهول..إلخ. ويتنوع كذلك ما بين ‏سكان القرى وسكان المدن وسكان الصحارى المتاخمة للقرى..إلخ. فيختلف التأثير بالطبع على كل فئة من هؤلاء رغم وحدة العامل المؤثر الخارجي، ‏وتختلف معدلات الاستجابة لهذا الأثر الخارجي، وفي الوقت ذاته تختلف صور التعبير أو الاستجابة لهذه الأثر رغم وحدة العامل الخارجي. وبالنظر إلى ‏انقسام المجتمع المصري ما بين مسلمين وأقباط مسيحيين، فالمسلمين هم من استسلموا بسرعة لهذه المؤثرات الخارجية وتضامنوا مع العرب الفاتحين ووالوهم ‏على وطنهم ومالهم وجيرانهم واقتنعوا بأفكارهم وطريقتهم في السطو والهجوم واعتبروها نضال وجهاد مقدس، وساعدوهم في اضطهاد المسيحيين في مصر.. ‏أي أنهم فقدوا تماماً القدرة على التمييز العقلي وانهارت قدرتهم على المقاومة، وقبلوا الخضوع للعرب واقتنعوا به وتقمصوا عقليتهم. أما المسيحيين فقد كانوا ‏أكثر صموداً أمام هذا المؤثر الخارجي فرفضوا الخضوع وتمسكوا لأطول فترة ممكنة ثم بدؤا يتساقطون واحداً تلو الآخر بعدما انهارت تماماً روح الصمود ‏والمقاومة في نفوسهم وأجيالهم، حتى تحول أغلبية الشعب إلى مسلمين ‏

والتحول إلى الإسلام شيء جيد لكن الطريقة هي الخطأ، فلم تكن اختيار قرين بحرية الإرادة الكاملة، وحرية الإرادة قرينة بحرية الوطن في ‏المقام الأول، بينما الوطن عاش 2000 سنة متواصلة تحت الاحتلال، وهذا ما يعني أن الإرادة العامة لم تكن حرة خلال الفترة التي ‏دخل فيها الإسلام مصر، ولذلك يجب علينا إعادة صياغة المفاهيم الدينية والوطنية بشأن الجهاد والفتح الإسلامي والخضوع للخلافة ‏القرشية وغير ذلك من المفاهيم التي نشأت واستقرت خلال حقبة الألفي سنة احتلال تنازل المصريون فيها تدريجياً عن هويتهم حينما ‏غيروا خط الكتابة من الهيروغليفية والديموطيقية والهيروطيقية إلى الخط اليوناني في عهد الاحتلال اليوناني، وغيروا لغتهم كاملة في عهد ‏الاحتلال العربي وما زالوا في غيبوبة ولم يدركوا أنه احتلال، ولأن المفاهيم الصحيحة هي تلك التي أرساها أجدادنا الفراعنة خلال ‏عصور الدولة القديمة والوسطى والحديثة، وحتى عصر احتلال اليونان فقط أو حتى توقفوا عن تحنيط موتاهم، حيث كانت الإرادة ‏الجمعية قبل ذلك حرة في ظل وطنٍ حرٍ يملكونه ويتحكمون فيه بإرادة حرة، وقد بدأ انهيار الإرادة وخضوعها لاحتلالات متوالية عبر ‏‏2000 سنة وجفت منابع العقلية العلمية وانحصرت الثقافة في قربة المعرفة السائلة الراكدة متمثلة في الثقافة الدينية والتراث الشعبي فقط ‏ما أدى لترهل العقل المصري ودخوله مرحلة السكون الشتوي، بما يعني أن العمود الفقري للحضارة المصرية قد انحنى وانبطح ألفي ‏عام، لهذا يجب إعادة النظر في المفاهيم الاجتماعية التي تم صياغتها واستقرت خلال هذه الحقبة كاملة، لأن سقف الحريات لم يكن ملكاً ‏للمصريين . فهناك قرينتان تدفعان العقل المصري إلى إعادة صياغة المفاهيم الدينية والاجتماعية والوطنية التي استقرت خلال حقبة ‏الألفي عام هذه، القرينة الأولى هي انحلال العمود الفقري للحضارة المصرية (فقدان الإرادة وسكون العقلية العلمية في ظل حالة التردي ‏الحضاري) والقرينة الثانية مزدوجة على محورين؛ الأول أن المصريين استقبلوا الدين والثقافة العربية واللغة العربية قرينة بسيادة وسطوة ‏العرب وتسلطهم على مقاليد الحكم في مصر، والثاني أن العقلية العربية أدبية متوحشة سلوكياً وفكرياً ولا تُستأمن على دين بينما كانت ‏العقلية المصرية علمية وأُطفئت شعلتها بمضخات الأدب العربي. ‏

وبالتالي فإن المصريين الذين اعتقوا الإسلام خلال أي فترة من هذه الألفي عام لم يعتنقوه بإرادة حرة حرية كاملة لأنهم لم يتمتعوا بحرية الإرادة ‏الكاملة ولم يكن وطنهم حراً، استسلم أغلبهم لكثير من عوامل وظروف مفروضة عليه فكرياً وثقافياً واجتماعياً وأمنياً وعسكرياً..إلخ. وبقي الأقلية ‏المسيحية حتى عصرنا ، برغم أنهم أيضاً بحاجة لإعادة صياغة المفاهيم الدينية والاجتماعية خاصة في مسائل الطلاق وحالات الانفصال التي تفرض على ‏الإنسان أن يعدم نفسه إن لم ينجح الزواج الأول، وإلا ستطلق الكنيسة عليه كلاب الحراسة، لأنهم جميعاً اعتنقوا المسيحية خلال فترة الاحتلال الروماني، ‏وإن كان بحرية كاملة لكن الإرادة العقلية ذاتها كانت تعيش حالة من القهر العام ولم تتمتع بسقف الحريات، وكل الفرق أن المسيحية دخلت مصر على ‏منبر الدعوة، بينما الإسلام تعرض للسحق والظلم العربي إذ بشروا به الشعوب على نصال السيوف وأسنة الرماح وحوافر الخيول والبغال.. ولكن لا يمكن ‏القول بأن أثر متلازمة الاحتلال لم تظهر عليهم أو أنهم لم يخضعوا للعرب.. هم خضعوا للعرب وظهرت عليهم الأعراض الخاصة بمتلازمة الاحتلال لكن ‏بصورة مختلفة نسبياً، وهي تتمثل في حجم القمع والظلم الذي تعرضوا له في مصر على مدار ألف عام من العرب ومن المسلمين أنفسهم، لأن أجدادنا ‏المسلمين الأوائل كانوا مؤمنين بفلسفة العرب ومن ثم عاملوهم بذات فلسفة العرب ومن هنا ظهرت الطائفية في مصر واصطلاح "عنصري الأمة" ‏المقيت،(1) وفي كل حادثة يكون المسلمون هم المنتصرون بظلم، ويتراقصون فرحاً بسذاجة وكأن إيقاع الظلم على المسيحي عقوبة له لعدم اعتناقه ‏الإسلام، فيقومون بهدم الكنائس وإشعال النار فيها وقتل وتهجير وتفجير وعمليات إرهابية كل يوم ضد المسيحيين، واتهامهم بالكفر... حتى قالت ‏إحدى السيدات وهي مسيحية مصرية، قالت : قتلتمونا بإيمانكم ولم نؤذكم بكفرنا " .. ‏

وهذا ما قد يعني أن المسيحيين في مصر أكثر إنسانية وتسامحاً من إخوانهم المسلمين (ليس بسبب الإسلام ولكن بسبب متلازمة الاحتلال التي ‏جعلت المسلمين يتصرفون بعقلية العرب) إذن فالمسيحيون قد استجابوا لمتلازمة الاحتلال لكن بصورة مختلفة، هي خضوع اضطراري للاضطهاد، وخضوع ‏اضطراري لدفع الجزية، وخضوع اضطراري لمصطلح أهل الذمة الذي يكرهونه، وخضوع اضطراري للتحدث باللغة العربية، وهي لغة المحتل وهجر لغتهم الأم، ‏وخضوع اضطراري لتجهيل الثقافة والتاريخ طالما تم هجر لغته الأم، وخضوع اضطراري لدراسة تاريخ الفتوحات الإسلامية المقدسة في المدارس لأبنائهم ‏المسيحيين، وخضوع اضطراري لتبني الثقافة العربية، واقتناع اضطراري بأن مصر دولة عربية، وجزء من تاريخ وثقافة شبه الجزيرة العربية الصحراوية المجاورة ‏لنا، وخضوع اضطراري لأن تكون أجازاتهم وأعيادهم في أيام العمل الرسمية، وخضوع اضطراري لاعتبار شخصيات الاحتلال العربي رموز قومية لهم يدرسها ‏أبناءهم في المدارس، وخضوع اضطراري في تحجيم بناء الكنائس إلى حدٍ ما، وخضوع اضطراري للعيش في خانة "الأقلية" والازدراء دائماً من قبل ‏المسلمين... (هذا ليس دفاعاً عن المسيحيين ولا أتمنى أن يقرءوه، لأنه عيب في حقنا نحن المسلمين، إنما تحليل للحالة النفسية التي يعيشها المواطن المصري ‏‏(مسلم ومسيحي على السواء، لأن المسلمين أغلبهم للأسف يتحامل على المسيحي ويظلمه، وتناسي أن النبي كان كريماً حليماً في أخلاقه ومعاملاته ‏عطوفاً على الغير، بل إن اضطهاد المسلمين في مصر للمسيحيين لهو الدليل الأقوى على خضوعهم لمتلازمة الاحتلال وشعورهم بالضعف النفسي المستمر ‏‏(بلا وعي ودون إدراك)؛ لأن الضعيف هو الذي يؤذي غيره في مشاعره وينتهز الفرصة للانتصار عليه والرقص فرحاً بهذا الانتصار في أي مناسبة، إنما ‏القوي دائماً يكون كريم الأخلاق، يُعطي قبل أن يأخذ، يمنح الأمان للضعيف ولا يستقوي عليه أبداً، وليس في حاجة لأن يستقوي بنفسه على الآخرين ‏الضعفاء الأقلية، لكن العكس ما يحدث أننا نستقوي على المسيحيين في مصر بالغلبة، وهذا دليل الضعف النفسي الذي ورثناه عن أجدادنا الموالي الأوائل ‏‏).. ‏

فكلا الفئتين من المواطنين المصريين قد تعرضوا لمتلازمة الاحتلال وجاءت استجاباتهم متنوعة، كما تتنوع الاستجابة بين الرجل والمرأة حال ‏تعرضهم لذات الظرف أو لتهديد واحتجاز وارتهان، ولا نقصد تشبيه المسلمين بالمرأة التي استجابت أسرع وانهارت واستسلمت دون مقاومة، لكن في ‏الواقع نجد أن المسلمين المصريين –في الغالب- عاطفيين أكثر من المسيحيين، حتى أننا نجد فئة السلفية التي تقوم ثقافتها بالكامل على المشاعر الجياشة ‏والخطب الرنانة الحماسية دون أي موضوعية أو عقلانية في الفكر، وتبعية كاملة للماضي ونوستالجيا الصحراء العربية دون أي وجهة نحو المستقبل، هذه الفئة ‏بمشاعرها السائلة المرهفة لا نجد لها مثيلاً عند المسيحيين في مصر، وهذا يؤكد أن المسلمين في الغالب عاطفيين أكثر ولهذا كانوا هم الفئة التي استسلمت ‏للعرب بسهولة. ربما نجد المسيحيين موضوعيين أكثر إلى حدٍ ما، أو قد نصفهم بأنه "ماديين في فكرهم" لكن الحقيقية أنهم عقلانيين أكثر نسبياً، فالفئة ‏الأكثر عاطفية قد مالت واستمالت للعرب وخضعوا سريعاً لمتلازمة الاحتلال العربي وشكلوا هم نواة "الموالي " الذين استسلموا وتضامنوا مع العرب عند ‏دخولهم مصر، وأصبح الموالي هم أغلبية الشعب اليوم وارتضوا بما ارتضى به أجدادنا الموالي الأوائل، حتى أنهم تطبعوا بطبع العرب وأسموا دولتهم دولة عربية ‏واعتبروها مجرد امتداد لصحراء شبه الجزيرة، وتجاهلوا تماماً الحضارة المصرية العريقة العظيمة .. ‏

برغم أننا إذا عدنا لتاريخ أجدادنا الفراعنة المصريين سنجد عندهم تنوع في الديانات والعبادات كثير جداً، لكننا لا نعثر على أي أثر للتمييز بين ‏المواطنين على أثر اختلاف الدين، لم يردنا وصف مواطن أو تعريفه بديانته، ولم يتم تفتيت القومية وتصنيف المواطنين بين من يعبد الشمس ومن يعبد ‏آمون ومن يعبد حورس.. فبرغم هذا التنوّع إلا أنهم عاشوا في وفاقٍ تام، وكان الحديث عن الديانات يأتي في سياق الديانة نفسها وطقوسها دون علاقة ‏بشخص أو أشخاص يمارسونها دون غيرهم، حتى أسماء الكهنة لم تكن رموز لامعة في المجتمع المصري القديم ولم تلتصق بالشعائر الدينية عندهم برغم أن ‏الحضارة الفرعونية هي أكثر الحضارات القديمة التي ارتبطت بفكرة الدين والعبادة، لكنهم كانوا متسامحين مع أنفسهم ومع غيرهم، لا يعاقب أحدهم أو ‏يزدري آخر على عدم اتباعه ديانته، كان الدين حرية وخصوصية كاملة بين الفرد وقناعته.. فإلى الآن لم يتمكن باحثوا الآثار من تمييز الديانات المصرية ‏القديمة حسب أشخاص يمارسونها دون غيرهم ولا نجد تقسيم لفئات المجتمع بين آمونيين وحورسيين ولا دينيين...إلخ. فلم يكونوا طوائف دينية أو مذاهب ‏وفرق، كان لديهم ديانات بدون زعامات دينية، إنما كانت الديانات كيانات عقائدية، بينما المواطنون أفراد وليسو كتل أو كيانات وتحالفات ضد بعضهم ‏البعض، والحديث فقط يدور عن الديانة ووجودها وطقوسها، دون رموز وشخصيات مسيطرة على طوائف..(2) بينما خلال حقب الضعف التاريخي ‏والاضمحلال الحضاري وانسلاب الإرادة الجمعية بداية من عصر الرومان وحتى يومنا هذا ألفي عام وقد فشت التفرقة والتمييز بين المواطنين، والتباغض ‏بين أصحاب الديانات المختلفة، بدأ الاختناق النفسي وضيق الأفق نتيجة التعرض لضغوط الحياة المختلفة وفي ظروف الاحتلالات المتوالية، ضاقت ‏النفوس وذابت سعة الصدر ولم تعد قادرة على استيعاب وهضم الاختلافات، تحولت نظرة التنوع إلى نظرة اختلاف، والاختلاف أصبح تنافر وتباغض، ‏وبداية من عصر دخول العرب مصر كان كل مواطن يتم بصم قفاه بخاتم يحمل ديانته، وكان الختم أصناف (موالي ومسيحيين ويهود) وللأسف ما زالت ‏مصر تضع بصمة هذا الختم إلى اليوم ليس على قفا المواطن ولكن أنزلته إلى بطاقة رقمه القومي، فصارت خانة الديانة بديلة عن الختم. أي أن الدولة تتبنى ‏توجه الطائفية، ثم تعود لتحارب الطائفية والإرهاب !‏

هذا ما حدث في مصر عقب دخول العرب فالعرب حينما دخلوا مصر وفرضوا حكمهم على الشعب المصري حطموا معنوياته تماماً واستطاعوا أن ‏يجعلونا نكره حضارتنا وتاريخنا ونتنكر لأجدادنا المصريين الفراعنة ونتملص من قوميتنا ونتبنى قومية العرب، واستمر الأزهر يدرس طريقة الاقتحام ‏ويصفها بالقدسية.. فقد آمن أبناء هذه البلاد بأفكار العرب وقيمهم ومبادئهم واقتنعوا أنه دين الله، حتى صار العرب آباء روحيين للشعوب ترتمي في ‏أحضانهم، وتقدس ذكراهم وعاداتهم وتحتفي بتاريخهم وتعتبره قدوة روحية، ولذلك نجد كافة عادات العرب وسلوكياتهم وحتى أمراضهم وعللهم النفسية ‏نجدها صارت قواعد دينية في كتب الفقه، وبالتعمق والبحث في القرآن لا نجد لها أي أثر سوى في المرويات، وهي الثقافة الدينية الشفوية التي نقلها ‏العرب إلى هذه الشعوب، بينما الدين برئ منها. وكانت هذه المرويات هي التربة الخصبة التي يستطيع العرب تطعيمها للشعوب لأنهم لم يستطيعوا ‏العبث بالقرآن، فمالوا إلى تعطيل سلطاته وتجميد صلاحياته بالنسخ والمنسوخ وغيره، وفي المقابل نجد المرويات زادت صلاحياتها وزهوتها في التشريع.‏

فأغلب العلماء الشرعيين النابغين في العلوم الفقهية كانوا من غير العرب، كانوا من البلاد الأجنبية المكسورة تحت أقدام العرب. ذلك لأن العرب ‏ذاتهم لم يعتادوا فكرة الارتقاء الحضاري أصلاً، فلم يفكروا أن يأكلوا من عمل يدهم ولم يجلسوا في بلادهم ومزارعهم ومصانعهم ليعمروا ويبنوا ويبتكروا ‏ويعمروا الأرض ويبنوا الحضارة، ومن ثم ينتشر الدين بسمعة الحضارة أخلاقها ودينها، لأنهم لا يعرفون العمل والبناء والإنتاج، هم فكروا في الغزو والكر ‏والفر بالسيوف في الصحارى لنهب غيرهم لأن هذه عادتهم وهذه حياتهم الإغارة. ولم تكن حياتهم منذ البداية قائمة على اعتبار الحاجة أم الاختراع أو ‏استزراع الأراضي وتصنيع وابتكار ما يلزم حياتهم من حاجات سواء صناعية أو زراعية أو معمارية، بل توقفت حياتهم عند حدود الخيمة وأوتادها وحياة ‏الرعي في الصحراء بنمط ثابت على مدار آلاف السنين لا يتغير قيد أنملة، فلم يكن في أذهانهم وعي أو إدراك أن البشر يتقدمون جيلاً بعد جيل، ‏فجميع الشعوب والحضارات ابتكرت وصنعت الورق والكتابة، وبرع المصريون في صناعة البردي منذ العصر الحجري بينما بقي العرب يكتبون أشعارهم ‏على جلد البعير تارة وعظمه تارة أخرى. حتى في عصرنا الحالي نهضت دول العرب على الاستهلاك من عائدات النفط لا على الإنتاج والعمل والبناء، ‏فقط نبغوا في الشعر والهجاء والفخر والفروسية. ولم يخرج من العرب عالمٌ واحد على مدار التاريخ البشري بأكمله؛ أي أن نهضة العرب حتى امتنعت عن ‏هضم ما قدمه لهم النبي وحرفوه بعد وفاته، فقد انحرفوا عن مساره وبدؤوا في طريق الغزو. استغلوا جيش الدفاع النبوي في مهمة شيطانية لغزو بلاد العالم ‏وهدم الحضارات.‏

‏ وفكرة الغزو هذه فكرة بشرية شيطانية ومارستها كافة الشعوب لكنها حرفة العرب، وكافة الشعوب نجحت في الغزو والبناء والصناعة والتجارة ‏والحضارة عدا العرب نجحوا في الغزو وفشلوا في بقية المواد البشرية.. ولم يأت بها الإسلام إطلاقاً، إنما العرب بعد وفاة النبي محمد تركوا منهجه وعادوا ‏لطبيعتهم البشرية ومارسوا الغزو والعدوان على الشعوب المجاورة لهم واحتلال أراضيهم ونهب واستغلال ثرواتهم وخطف نسائهم وأطفالهم بذرائع مختلفة ‏مرفوضة شرعاً لكنهم جعلوها جهاداً في سبيل الله، ولما كان الفقهاء قد اعتبروا عصور الصحابة الأوائل هي عصور راشدة ويجب الاقتداء بها باعتبارها ‏نموذجاً حياً لتطبيقات النبي للإسلام، فلما انحرف العرب وغيروا غاية الحرب الدفاعية في الإسلام إلى غايات هجومية لتوفير مصدر دخل لهم، انحرف ‏معهم الفقهاء بذات القدر وشرعوا للقتل والغزو والعدوان بحجج وذرائع فقهية مختلفة ليست من الإسلام في شيء، بل إن الكثير منهم قد اخترع باباً من ‏الفقه أسماه (جهاد الطلب) وحين تعريفه يقول الفقهاء "الإغارة " أي الغزو الهجومي للشعوب المجاورة واعتمدوا في تأصيل ذلك على تأويل الآيات التي ‏تساعدهم على تحفيز الناس، واعتبروها بأنها أمر لقتال من عليهم الدور من الشعوب المجاورة، اخترعوا لأنفسهم وظيفة جديدة في الحياة وهي الغزو ‏للشعوب المجاورة بالدور، أي الأقرب فالذي يليه، وبذلك استمرت آلات القتل البشع حتى جابت العالم شرقاً وغرباً وكانت في الواقع وبعد مرور أكثر من ‏ألف عام، كانت في الواقع عقبة في سبيل انتشار الإسلام إلى اليوم. لأن المقبلين على الإسلام يقرؤون عنه فيجدونه مندمجاً بالتاريخ، وكثير من أحكامه ‏الفقهية مشتقة من أحداث تاريخية ملوثة بالدماء، وما هو تاريخ الإسلام ولكنه تاريخ العرب..‏

على كل حال، الإنسان المصري حياته وفكره وسلوكه وأخلاقه مختلفة جذرياً عن العربي، فهناك فرق بين القط الأليف الذي اعتاد العيش في مجتمع ‏مدني نظيف، يدمن العمل والبناء والفكر والإنتاج، وبين ثعلب الصحراء الذي اعتاد الخطف والهرب في الجبال، ولا يمكن لهذا الثعلب البريّ أن يتحوّل ‏إلى قط مدني أليف حتى وإن جاء الطوفان مرة أحرى.. إلا إذا تمت إعادة ترتيب جيناته الوراثية وتهجين الحمض النووي؛ لأن الله أراد أن يكون خلقه ‏متنوع الأشكال والألوان والطباع.. ولهذا كانت رؤية ابن خلدون ثاقبة جداً إذ أنه قام بتحليل العقلية العربية وغاص في عمقها النفسي وأدرك أنها لا ‏يمكن أن تبني حضارة، برغم سيطرة العرب وقتها على نصف العالم تقريباً، لكن كانت ما تزال النفسية البدوية الفوضوية مغروسة بداخلهم، فابن خلدون ‏تحدث عن ميلهم لهدم العمران لعدم قدرتهم العقلية على استيعاب معنى العمران، والعمران في لغة ابن خلدون يعني الحضارة البشرية، ويؤكد ابن خلدون ‏أن العرب ليسوا من أصحاب الحرف والصنائع أو العلوم، وأن الأثر الديني في نفوسهم لم يغير من طبيعة العقلية الهمجية القائمة على النهب والسلب ‏والهدم والسطو على الشعوب والمجتمعات، فهم بطبيعتهم لا يعون معنى الانضواء تحت لواء أو العمل بنظام والخضوع لمنظومة قانونية وسياسية، وهذه ‏هي الأدوات المبدئية لبناء الحضارات، هذه المقومات الأساسية افتقدها العرب. ‏

ومن خلال قراءة ابن خلدون، نكتشف ونتأكد أن من يتبنى حضارة العرب وتاريخهم لن يتقدم إلا بقدر ما تقدموا، ولن يرتقي إلا على طريقتهم ‏وبعقليتهم الوحشية، ومن يحتفي بتاريخهم لن يأتي بجديد للبشرية سوى ما قد يجسد تاريخهم الهمجي الفارغ من كل معاني الحضارة والرقي. وما يجدر بنا ‏التنويه إليه في هذا المقام هو مدى تأثير بعثة الرسول محمد على هذه العقلية الهمجية، ومدى التزام مجتمعهم بمبادئ الإسلام السمحة الراقية، ثم مدى ‏انحراف العقلية الجمعية بعد رحيل الرسول عنهم بسبب ما ترسب في نفوسهم من البداوة والهمجية التي منبعها البيئة والتربة والمنشأ، ومدى تلويثهم ‏للتراث الديني خاصة المرويات لأن عقلياتهم أصلاً ليست عقليات علمية منظمة، فمن الطبيعي أنهم جعلوا من الدين وسيلة لهدم الحضارات ونهبها، ‏ونجحوا في هدم الدين وتطويعه واستخدامه كأداة للسطو على الشعوب. وهذا ما يحتم علينا إعادة إجلاء الدين الإسلامي وتراثه مما علق به من مؤثرات ‏هذا المجتمع الهمجي. وفي هذا المقام من السهل على الباحث تحويل سيل الاتهامات التي يلقيها القراء إلى ابن خلدون؛ لأنه أول من بحث بعمق في ‏العقلية العربية وصرح بأنها لا تصلح لبناء حضارة، وهو أول من صرح بأن العرب استغلوا الدين الإسلامي في هدم الشعوب لخدمة إيديولوجيتهم ‏السلطوية الهمجية، وهو أول من أشار إلى أنهم من طبيعتهم لا يظهر لهم صوت إلا بنبوة أو ما شابه، فهم يسرعون إلى استغلالها والتسويق بها وكأنهم ‏شركاء في النبوة مع أنها كانت موجهة إليهم بسبب فسقهم.‏

وفي الواقع لا يشغلنا ولن تعود علينا أي فائدة من نقد المجتمع العربي وثقافته وعقليته وتاريخه، ولكن الفائدة في إدراك إمكاناته وطبيعته ومنتجه ‏الفكري ونسيجه العقلي من أجل تحقيق الاستقلال الفكري، حتى نتمكن من تحقيق ذاتنا بإمكاناتنا، بأيدينا لا بعقولهم التي تحركنا من الماضي، ولأننا لن ‏نثمر إلا إذا تغذينا على بيئتنا المحلية بملامحنا الخمرية، فمهما اجتهدنا ودرسنا وبحثنا، فعقولنا قاصرة عن أن تبدع أشعاراً مثل أشعار المتنبي وامرؤ القيس، ‏لأن نسيجها الذهني غير مصمم لهذه النوعية من الإبداع، غير أننا لو قمنا بتهجين جيناتنا وراثياً كي نكتب شعراً عبقرياً مثلهم، فحتى هذه لن تنفعنا ‏في شيء لأن الشعر لا يبني حضارة، بل إنه يتبنى الفوضى العقلية من النوع الذي عاشه العرب في الصحراء على مدار آلاف السنين لأن الشعر الأصيل ‏في الأساس هو منتج صحراوي، فعلينا أن نعترف ونعود لما جُبلت عليه عقولنا من طبيعة البحث والفضول العلمي، ورقة المشاعر الإنسانية، لا الوحي ‏والإلهام الشعري. ‏

أما الصياح بنعرة القومية العربية فهي محض وسيلة سياسية يجب أن يتولاها السياسيين وحدهم وفي حدود السياسة، دون أن يؤدي ذلك إلى دمج ‏الثقافات وطمس الهوية الوطنية لصالح العرب، ودون مساس بالغشاء البريتوني الذي يحفظ خصوصية النسيج اجتماعي المصري وملاءمته الوظيفية ‏الثقافية، لأنه ليس من المنطق أن نترك تاريخنا وحضارتنا الفرعونية لندرس مواسم الذبح العباسي والأموي باعتبار هؤلاء رموز تاريخية لنا، برغم أنهم كانوا ‏أجانب يتحدثون العربية التي لا نعرفها، وليس من المنطق أن نترك علومنا وآدابنا الحضارية الفرعونية لندرس الأدب الجاهلي وملاحم الفروسية والإغارة.. ‏باعتبار ذلك بطولات قومية لنا.. لدرجة أن حلت ثقافة الصحراء العربية محل ثقافتنا المدنية، برغم أنها في الأصل ليست ثوبنا ولا بيئتنا، وإن تلبسناها ‏عنوة باسم الدين، وحل التاريخ العربي محل الأولوية من تاريخ أجدادنا، في الوقت الذي يتجاهلون فيه تاريخنا وحضارتنا ولا يفتحون لها صفحة في ‏مناهجهم الدراسية.‏

ولذلك لا مفر من إعادة بعث وإحياء واستنبات جذور الحضارة المصرية من جديد، لا أن تظل طي النسيان متلفعين بعباءة العرب أو تبقى ‏جذورنا ساكنة خاملة في صوامع باحثي الآثار وعلم المصريات.. فأجدادنا الفراعنة لم يكونوا عباقرة وإنما كانوا يعملون بجدٍ وإتقانٍ فقط، وكانت عقليتهم ‏علمية جادة وليست أدبية هذلية، فنسيجهم الذهني ليس من نوعية النباتات الزاحفة أفقياً وإنما من أنسجة الأشجار ذات السيقان والأغصان الفارعة، ‏ولهذا كانت حضارتهم قائمة على عمود فقري قوي.. وقد بدأت جهودٍ فعلية ليس بهدف كشف عبقرية الفراعنة والفخر بإنجازاتهم وإنما بهدف إعادة ‏استنبات جذور الحضارة المصرية، وإعادة تنشيط النسيج الذهني الذي بنا هذه الحضارة العظيمة، فقد بدأت في أماكن عديدة مراكز لتعليم اللغة المصرية ‏القديمة "الهيروغليفية" وقواعد النحو والصرف والمقاطع الصوتية الخاصة بها، بالاعتماد على النصوص المصرية القديمة ومختارات من الأدب المصري ‏القديم وما حوته البرديات والمدونات الأثرية، مع العلم أنه لا مقارنة إطلاقاً بين الأدب المصري القديم المبني على الحكمة، والأدب العربي المبني على ‏النفاق والتورية‎.‎‏ وقد استقطبت فئاتٍ عديدة من الشباب المصري من لجنسين، ومنها الدورات التي تُقد بصفة دورية في بيت السناري بالقاهرة التابع ‏لمكتبة الإسكندرية، ويقوم بالتدريس فيها أستاذة من كلية الآثار، ومعاهد الإرشاد السياحي، لهذا نتوقع أن يصدر أول كتاب باللغة المصرية إلى الشعب ‏قريباً جداً.‏


هوامش:‏
‏1- اصطلاح "عنصري الأمة " الذي يتم تداوله في المحافل الوطنية والسياسية ليس صحيحاً، لأنه نشأ على قاعدة تفرقة دينية وليست وطنية مدنية، في حين أن المناسبة تكون سياسية وطنية ‏مدنية، مع أن أصل ملكية الوطن بالتساوي وليس حسب الديانة، فكل مواطن مسلم يمتلك من الوطن بقدر ما يمتلك المسيحي، والحقوق المدنية متساوية والحقوق السياسية متساوية، وحقوق ‏الدفاع وواجباته متساوية ، وكلمة " الأمة " هي مفهوم مدني وليس ديني لأن مفهوم الأمة من الناحية الدينية يعني أم المسلمين أمة مستقلة والمسيحيين أمة واليهود أمة..إلخ. أمم مستقلة، إنما ‏اصطلاح الأمة المصرية فهو يحمل مفهوم وطني بحت، وكما قلنا من حيث الحقوق الوطنية فالجميع متساوٍ تماماً، فلماذا يتم شطره نصفين على أساس ديني ! .. هذا كان صدعاً ثقافياً في جسد ‏الوطن عندما دخله العرب لماذا نحافظ عليه إلى الآن !‏
‏2- وأياً كان الوضع، سواء كان أجدادنا الفراعنة كافرين أو ملحدين أو مشركين أو يعبدون آمون وحورس.. فبوجهٍ عام أنا لست مقتنعاً بأفكار والدي وعقائده، وأمي قد لا تعرف ‏شيئاً عن الدين، لكنني مضطر لاحترامهما وتقديرهما شخصياً كما يأمرنا دنيننا الحنيف، فقد قال الله في حق الوالدين ما لم يقله بشرٌ من قبل، وما قيل في حق الوالدين يقال في حق ‏الجد والجدة حياً وميتا، وما يقال في حق الجد والجدة يصل إلى الأجداد الفراعنة القدامى الذين جئنا نحن من أصلابهم، ولولاهم ما كنا موجودين على وجه الأرض، فالله تعالى هو ‏المسبب وجعلهم سببٌ في وجودنا.. وليس من الحكمة التنكر لهذا السبب باعتباره سبب كافر، لأنه لم يؤذنا إنما أفاض علينا بعلمه وخيره وحضارته، ومن الحكمة أن نحسن إليه بقدر ما ‏أحسن إلينا، لا أن نأخذ حضارته وعلمه ونتهمه بالكفر ونعامله بازدراء... إنما العرب هم من تعاملوا مع أجدادنا الفراعنة بهذه النظرة لأن العرب لا يملكون حضارة مثلهم وبالتالي دائماً ‏ما يسعون لتشويه الحضارة المصرية لأنها تكشف عوراتهم وتفضح جهلهم دائماً وهي وصمة عار في ظل حضارتهم الهوجة التي لم تستمر 200 سنة بسواعد الغير وسقطت بسواعدهم... ‏بل الأكثر من ذلك أن نجد اليوم سعودي يتفاخر بنفسه ويتهكم على المصريين، فيقول: عندما كان العرب ينشرون اللغة العربية، كان المصريون يرسمون طيور على جدران المقابر (يقصد ‏الأهرامات والمقابر الملكية الفرعونية) فحينما كان أجداده الصحابة يكتسحون العالم بالسيوف لنشر الإسلام، ودخلوا مصر وشاهدوا حجم العمارة والحضارة أطلقوا على كتابات ورسوم ‏المصريين " قلم الطير" ولم يفهموه بالطبع لكنهم الآن يتفاخرون بأنهم نشروا لغتهم العربية .. بينما كان أجداده الصحابة يقولون أنهم ينشرون الدين وليس اللغة، لكنه يحاول الهروب من ‏وصمة العار التي ألحقوها بالدين من جراء فتوحاتهم وغزواتهم، فيحاولون العدول بالغاية من سبب ديني جهادي إلى سبب حضاري " نشر اللغة " !! فأكنهم قتلوا ملايين البشر وسبوا ‏مئات الآلاف من النساء والفتيات والأطفال واستعبدوهم لنشر اللغة العربية !‏








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - بن خلدون
مدين ( 2019 / 5 / 21 - 22:54 )
مقالات أقل ما يقال عنها أنها موسوعية ودسمة جدا بالمعلومات حتى ولو أني لم أستطع أن أتابعها كلها حرفا حرفا .ولكن ما شدني هو استشهادك بابن خلدون كثيرا مع أنه هو من وثق للوجود العربي وخاصة في منطقتنا نحن شمال افريقيا وعدد الكثير من القبائل العربية القيسية والقحطانية بالأضافة لعرب الفتح الأوائل والأندلسيين التي هاجرت الى منطقتنا أي اعطى صبغة شرعية لمن يدعي ان الوجود العربي في المنطقة الأن هو شرعي بحكم الكثرة والتقادم وعلى أن الأمازيغ أصبحوا أقلية في بلادهم


2 - جزيل الشكر
محمد مبروك ( 2019 / 5 / 30 - 18:15 )
أنا ممنون لك بقراءتك مقالاتي هذه ، وبكل صدق فإن تعليقك أثلج صدري وخفف عني معاناة التفكير والبحث والكتابة والمراجة حتى النشر. لأن الغرض لم يكن هو النشر وإنما الوصول إلى عقل وقلب القارئ النبيل ... وتقبل تحياتي وتقديري.

اخر الافلام

.. الأمم المتحدة تحذر من إبادة قطاع التعليم في غزة


.. كيف يعيش اللاجئون السودانيون في تونس؟




.. اعتقالات في حرم جامعة كولومبيا خلال احتجاج طلابي مؤيد للفلسط


.. ردود فعل غاضبة للفلسطينيين تجاه الفيتو الأمريكي ضد العضوية ا




.. مخاوف إسرائيلية من مغبة صدور أوامر اعتقال من محكمة العدل الد