الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كيف حكمت سلالة قريش أرض الفراعنة (2)

محمد مبروك أبو زيد
كاتب وباحث

(Mohamed Mabrouk Abozaid)

2019 / 5 / 22
المجتمع المدني


بدأنا في المقال السابق رحلة وصول سلالة قريش إلى القاهرة وسيطرتهم على مقاليد الأمور في مصر وطلبهم سروايل من المصريين وجلاليب وقفاطين وأكل من زيت وعسل وحنطة وغير ذلك مما يسد الجوع ويخفف من غبار الصحراء... وكان الخواجة ابن العاص له مع المصريين حكايات ووقائع غريبة سجلها المؤرخ ابن عبد الحكم. وظّف عمرو كل ما عُرف عنه من مكر وحيلة فى ‏عملية غزو مصر. كانت سياساته مع المصريين بقدر دهائه ومكره في التحالف مع معاوية أبي سفيان ضد علي أبي طالب ومناورته الخبيثة في رفع ‏المصاحف على أسنة الرماح، برغم علمه بإن ذلك إهانة لكتاب الله وتدنيس له بمكر سياسي، لكنه لم يتورع ! ـ ففى البداية راح يبذل للمصريين الوعود ‏بالأمن والعدل حتى ضمن ولاء قطاع كبير منهم، ثم بعد أن استتب له الأمر وضمن سيطرته على البلاد (فكان جزاءهم جزاء سنمار) تنكر عمرو لكل ‏تلك الوعود، وقد احتفظ التاريخ بكثير من الأمثلة الدالة على إخلاله لعهوده مع المصريين، فقد روى ابن عبد الحكم قصة والي إخنا، الذي طلب من ‏عمرو أن يحدد له قيمة الخراج المفروض على قريته حتى يستعد له، فرفض عمرو قائلا وهو يشير إلى ركن إحدى المباني ( والله لو أعطيتني من الأرض إلى ‏السقف ما أخبرتك ما عليك، إنما أنتم خزانة لنا إن كثر علينا كثرنا عليكم وإن خفف عنا خففنا عنكم) ! ويعتقد ابن عبد الحكم أن رد عمرو هذا هو ‏الذي جعل صاحب إخنا يستنجد بالروم من ظلم العرب، وربما كان ظلم عبد الله سعد هو الذي دفعهم إلى الاستنجاد بالروم(1)... ‏

بينما يقول الحكيم الشهير "آمون أم أوبي" ينصح ابنه بالرفق عند جمع الضرائب؛ فيقول: " لا تغش في جباية الضرائب، ولا تكن قاسيًا، وإذا ‏ما اكتشفت مبلغًا كبيرًا متأخرًا عند أحد الفقراء، فقسمه إلى ثلاثة أجزاء، واحذف جزئين منهما، ولا تبق إلا جزءًا واحدًا "‏‎.‎‏.. كما يوصي الحكيم ‏عنخ شاشنقي ابنه أيضًا بالرفق عند التعامل الناس فيقول: " لا تجعل الناس تخافك وعاملهم بالرفق واللين ". كما نرى أحد حكام الأقاليم يفتخر أيضًا ‏بحسن تعامله مع رعيته والرفق بهم أثناء فترة القحط والمجاعة، فيقول: وعندما شحت أقوات البلاد أغدقت على بلدي أرادب وكيلان من الغلال، ‏وسمحت لكل مواطن أن يأخذ نصيبه ونصيب زوجته، وأعطيت منها الأرملة وولدها، وعندما تعاقبت سنوات المجاعة؛ منحتُ الأرملة كما منحتُ ‏ذات البعل، (أي: المتزوجة)، ولم أميز كبيرًا أو صغيرًا فيما فعلته‏‎.‎‏ (2) ‏‎!‎

كان العرب جيراننا لكنهم لم يرحمونا.. كانوا جائعين لدرجة جعلتهم يأكلون مصر بنهمٍ كما الفريسة. كما يقول ابن خلدون: طبيعتهم انتهاب ما ‏في أيدي الناس، وأن رزقهم في ظلال رماحهم، وليس عندهم في أخذ أموال الناس حد ينتهون إليه بل كلما امتدت أعينهم إلى مال أو متاع أو ‏ماعون انتهبوه‎ .‎‏ لا يكلفون على أهل ألأعمال من الصنائع والحرف أعمالهم ولا يرون لها قيمة ولا قسطا من الأجر والثمن. ليست لهم عناية ‏بالأحكام وزجر الناس عن المفاسد ودفاع بعضهم عن بعض، إنما همهم ما يأخذونه من أموال الناس نهبا وغرامة‎ ‎‏"... ‏

وفي لواقع كان المصريون مستسلمين للقمع والظلم وكانت إرادتهم منطفئة بلغة القانونيين ومقهورة بلغة السياسيين، فلم يكن الوعي كافياً لتكوين ‏شبكة من التحالفات في الأقاليم والقرى تأكل العرب عن بكرة أبيهم كما فعلوا بالهكسوس قبل ذلك، لأن العرب في هذا الوقت كان عددهم قليل جداً ‏لكنهم تميزوا بالشراسة والوحشية في القتال، فقد ورثوا الفروسية عن أجدادهم الهكسوس، ولم يكونوا قد استعانوا بالجنود الأعاجم من الفرس والترك ‏وغيرهم، وكان المصريون ستة مليون مواطن، بينما أيام الهكسوس كان المصريون عددهم مليون فقط، ومع ذلك استطاعوا بقيادة البطل أحمس ابن الثامنة ‏عشر من عمره طرد الهكسوس الأجداد القدامى للعرب، لكن إرادتهم انكسرت نتيجة تعرضهم للاحتلال الثالث على التوالي لمدة طالت عن الألف عام، ‏ولم يستطع المصريون استغلال طاقاتهم فسعى العرب لتوظيفهم لتحقيق طموحاتهم الاستعمارية، والعجيب أن سقف طموحات العرب لم يتجوز سقف ‏طموحات آبائهم الهكسوس ولم يصل إلى المستوى المعيشي العادي حتى للمصريين، لأن المصريين كانوا في هذا الوقت رغم الاحتلال أكثر تحضراً ورقياً ‏وعلماً من العرب أبناء الصحراء، أما سقف تطلعات العرب فكانت هي النهب وليس البناء، لأنهم بطبيعتهم شعب استهلاكي، حتى أنهم رغم ما ‏حصّلوه من ثروات المصريين وغيرهم لم ينشئوا أي معالم لحضارة في مكة، بل استهلكوا كل ما نهبوه في الأكل والشرب وتمتعوا بالنساء..‏

يقول الكاتب عباس منصور: "ومن الملاحظ أن المصريين ارتضوا دفع الجزية والبقاء على دينهم ضمن البلاد التي غزاها العرب في الشرق بينما هرع ‏الناس في فارس إلى الدين الجديد هروبا ًمن الجزية و الخراج ثم تربصوا بالعرب وتحالفوا مع أحد جناحي قريش – بني هاشم – وانقضوا على دولة العرب ‏‏– الأمويين - و استبدلوا عاصمتها دمشق ببغداد التي كانت عاصمة الفرس القديمة بجوارها في " المدائن " قبل أقل من مئة سنة... وذلك يعني أن ‏المصرين قد دفعوا ثمن تمسكهم بعقيدتهم حسب أقوال المؤرخين ومنهم ابن اسحق والبلاذري " فوضعت الجزية على كل حالم و ألزم كل ذي أرض مع ‏الدينارين ثلاثة أرادب حنطة وقسطي زيت وقسطي عسل وقسطي خل رزقا ً للمسلمين تُجمع في دار الرزق وتقسم فيهم "بيت المال الحرام" وأحصى ‏المسلمون الناس فألزم جميع أهل مصر لكل رجل منهم جبة صوف وبرنسا ً أو عمامة وسراويل وخفين في كل عام أو عدل – مقابل – الجبة الصوف ‏ثوبا ً قبطيا ً"‏‎ .‎

وهو ما يعني بلسان العرب أنهم جاؤا متطفلين في المأكل والملبس والمشرب وعاشوا عالة على المصريين، ولم يقوموا بأي نشاط ديني دعوي أو ثقافي ‏يعرف المصريين بمبادئ الدين الإسلامي الذي حملوه إسماً، حتى أن دواوين الإدارة في مصر وقتها انحصرت في ديوان العطايا (من اسمه: الجبايات والخراج ‏والجزية والإتاوات والغرامات)، وديوان الجند فقط، ولم يكن من بينها ديون الدعوة التي جاؤا باسمها، وحينما اهتموا بالترجمة بين اللغة العربية واللغة ‏المصرية لم يترجموا القرآن إلى اللغة الهيروغليفية التي يتحدث بها المصريون وإنما ترجموا فقط ما يخص الضرائب والجبايات ترجموا "ديوان الخراج " إلى العربية ‏ولم يترجموا أي كتاب فقهي، ولم يثبت تاريخياً أن هناك كتاب إسلامي باللغة المصرية التي كان المصريون يتحدثون بها. ولم يترجموا حتى معاني القرآن ‏للمصريين حتى يعرفوهم كلام الله، وفرضوا على المصريين 3 إردب قمح وعسل وزيت لتوزيعها على العرب المسلمين، وطلبوا سراويل وجلابيب وعمائم ‏وأحذية لهم، وهذا ما يثبت أنهم جاؤا حفاة عراة من كل كرامة وشرف، فمن يذهب إلى قومٍ يدعوهم لدين الله لا بد أن يذهب بشرفه وأن يكون طعامه ‏ولباسه من بيته لا عالة على الناس عنوة... حتى السراوييل ! .. ‏

بينما الخواجات الفرنسيس في حملتهم على مصر حملوا معهم سراويلهم وطعامهم ولجنة علمية مكونة من 167 عالم في جميع التخصصات، واتخذوا ‏لهم مقراً للمعامل والأبحاث في القاهرة،‏‎ ‎كان هذا المعهد‎ ‎العلمي‎ ‎صورة مصغرة لمجامع العلوم الأوروبية، ومركزاً للطب والصيدلة ومستشفى كبير وخدمة ‏‏(الحجر الصحي) ومختبراً كيميائياً ومرصداً فلكياً ومعرضاً للرسم وحديقة للحيوانات ومتحفاً للتاريخ الطبيعي وسلاح الهندسة وورش لإنتاج المواد ‏الاستهلاكية والصناعات والمعامل والطواحين... ونظم المعهد العلمي المصري من علماء مصر وعلماء الحملة، فريقاً مشتركاً أعدوا الأربعة والعشرين مجلداً ‏الضخام التي مولتها ونشرتها الحكومة الفرنسية بعنوان‎ ‎وصف مصر، واكتشف علماء الحملة حجر رشيد‎ ‎الذي حمل نقوشاً بلغتين وثلاثة خطوط ‏‏(الهيروغليفية والديموطيقية واليونانية)، وقد مكنت هذه الكتابات من وضع أسس ترجمة النصوص الهيروغليفية، ففتحوا بذلك أمام أوربا "الحديثة" أبواب ‏حضارة‎ ‎مصر القديمة، وأنشأوا أول مجلة دورية مطبوعة وأنشأوا أول مطبعة في القاهرة وأشعلوا حركة فكرية ثقافية جعلوها امتداداً للحضارة الأوروبية في ‏باريس.‏‎ ‎

أما العرب فقد جعلوا القاهرة امتداداً للجاهلية القرشية في شبه الجزيرة، وأعادوها عصوراً طويلة إلى الوراء، حتى أن العرب عندما دخلوا القاهرة عانوا ‏كثيراً من الحياة المدنية، فهم قد ألفوا الصحراء المفتوحة والجبال الوعرة يتبرزون في الرمال كما الثعالب البرية وليس لديهم حضارة ولا التزام عام بنظافة ‏شوارع ولا قنوات ري ولا حدائق ولا زراعة ولا صناعة ولا ورش ولا حرف ولا مصانع، وليس لديهم خبرة في تنظيم هذه الأمور وإدارة الخدمات، فكان ‏لدى المصريين القدماء شعور قوى بأهمية الصحة والنظافة العامة، لذا عرفوا دورات المياه وكانوا يحددون مكانها في الجنوب الشرقي من البيت -عكس ‏اتجاه الرياح لأن رياح مصر طوال العام شمالية غربية- وكان المرحاض عبارة عن جدارين منخفضين بينهما حفرة ممتلئة بالرمال، وعرف المصريين القدماء ‏الحمامات الخشبية المرتفعة، وكذلك المتنقلة، وكان هناك حمام آخر بجوار المرحاض للاستحمام إما بصب الماء من إناء أو إبريق. وفى العصر البطلمي ‏‏(قُبيل دخول العرب)، وجد في الإسكندرية وحدها 4 آلاف حمام عام مزودة بأجهزة تسخين وكان هناك مواسير في المدن عبارة عن مجارى حجرية ‏مكشوفة غير عميقة، لتصريف المياه وعثر على نموذج لذلك في «اللاهون» في الفيوم وكانت تستخدم لصرف مياه البيوت والمطر‎. ‎

بينما كان مخيم العرب "الفسطاط" حرفياً عبارة عن مزبلة، يلقون بالقمامة خلف كل جدار، ولا مانع من إلقاء الرمم والحيوانات النافقة وبقايا ‏الذبائح في نهر النيل، ولم يعرفوا نظام الحمامات في شبه الجزيرة، حيث كانوا يقضون حوائجهم في الخلاء، فكانوا يطلقون حمامات الفسطاط في نهر النيل ‏مع الرمم والنفايات مما تسبب في كثير من الأوبئة والأمراض حتى وقع طاعون الفسطاط، ولا عبرة لهم من دينهم بأن النظافة من الإيمان، لأن هذا سلوك ‏اجتماعي لا خبرة لهم به.. ‏

ومع ذلك ظلت الحملة الفرنسية احتلالاً لمصر، وأصبح دخول عمرو العاصي فتحاً لمصر! مع أن كلاهما احتلال لكن هناك احتلال أكثر نزاهة من ‏الآخر.. ولم يكن الفرنسيون في مصر يقتلون بعضهم بعضاً بالسم في العسل تارة والخنجر الغادر تارة، ولم يقتلوا أحدهم ويضعوه في جيفة حمار ويحرقوه، ‏بل إنه عندما قتل سليمان الحلبي قائد الحملة الجنرال مينو، أخذوا هيكله العظمي في صندوق ووضعه في المتحف الوطني في باريس.. ولم يغتصبوا سيدة ‏مصرية أو فتاة، حتى أن قائد حملة نابليون حينما أراد الزواج بفتاة مصرية أعلن إسلامه (ولو شكلياً) كي يتزوجها، بينما العرب اتخذوا بنات مصر ‏ونساءها سبايا وقالوا أن ذلك شرع الله ! (3) ثم يأتي مثقفينا ومفكرينا العظماء أمثال طه حسين ليضيّع عمره في دراسة الشعر الجاهلي وبحث مدى ‏شرعية "بنوة الشعر الجاهلي لعصر الجاهلية" ! ثم لا يجد ما يخدم طموحات شعبنا الحضارية فيدعوا إلى قبول الحضارة الغربية الأوروبية بحلوها ومرها ‏عوضاً عن عجز الحضارة العربية.. ويأتي مفكرين عظام أمثل الأستاذ عباس العقاد ليضيّع عمره في ترهات من نوعية "عبقرية عمرو ابن العاص" !... في ‏الواقع لم يثبت التاريخ أن المصريين يوماً ما خانوا وطنهم أو خانوا ذاتهم وحضارتهم بشكل إرادي مباشر، إنما للأسف هم خانوا أنفسهم ووطنهم وذاتهم ‏لا إرادياً حينما استسلموا للاحتلال المعرفي العربي هذا.‏

اعتقد المصريين وقتها أن عقيدة الرومان أخطر على دينهم من العرب، فما كان من المصريين إلا التساهل تجاه العرب ضد المستعمر من دينهم ‏‏(بسبب الخلاف المذهبي) وقبول مستعمر أجنبي عربي قرشي بدين مختلف عن دينهم وهو الإسلام ولغة مختلفة عن لغتهم، توقعوا أن يكون العرب أكثر ‏رحمة ورأفة من الرومان، وهذا ما أظهره الخواجات العرب في البداية ووعدوا المصريين به، لكن سرعان ما اختفى وجه الإسلام الحنيف وظهر وجه قريش ‏الأسود، وسرعان ما انقلب الاضطهاد الديني الروماني إلى استنزاف اقتصادي عربي وإهانة وإهدار للإنسانية دفع الكثير من المصريين ترك دينهم بالكلية ‏هرباً من الأعباء الاقتصادية، أي انتقلت عدوى النفاق من مكة إلى القاهرة، وهذه الظاهرة ليست من نسيج العقلية المصرية بالشكل الذي وجدناه في ‏العقلية العربية حول النبي في مكة والمدينة، حيث أن المبالغة في تحصيل الجزية والخراج ومضاعفة قيمهما وختم الأقباط على قفاهم بغير إنسانية ولا عدالة ‏اجتماعية، دفعت بعض المصريين إلى التظاهر باعتناق الإسلام، وجاء ذلك دفعات متتالية هروباً من الجزية والخراج والإتاوات والإهانات والأختام ‏وعنصرية العرب الفجة، حتى أنه في مرة واحدة أعلن 22 ألف مصري إسلامهم جملة هروباً من الإفلاس، فكان العرب يميزون بين ثلاث فئات في مصر ‏‏(قبائل العرب المهاجرة- المصريين المسلمين- المصريين المسيحيين) وكانت التكاليف الضريبية تختلف تدريجياً حسب صنف المواطن ودرجته، وما إذا كان ‏مسلماً عربياً أو مسلماً مصرياً أم مسيحياً، واستمرت الزيادة في قيم الجزية والخراج والإتاوات حتى عجز المصريون عن السداد وترك بعضهم أعماله، ولم ‏يكن الخليفة منشغلاً بحملات الدعاة والمبشرين والوعاظ وتأهيلهم بالعلم والمعرفة وتزويدهم بالكتب والمراجع العلمية أو ترجمة المرويات والتراث الديني ‏وتصديره إلى الشعوب الكافرة كي تفهم الدين، فقط كان يسأل عن مزيد من الجزية والخراج لتعويض العجز الاقتصادي والمجاعة التي وقعت في شبه ‏الجزيرة، ولتغطية نفقات المساجد والقصور الملكية.. حتى أن أحد الخلفاء العرب فرض على المصريين تحميل جزية الميت على الحي! بمعنى أن من يتوفى ‏والده أو إبنه يستمر في دفع الجزية عنه طالما توفى قبل دخول الإسلام ليستغل العرب هذه الأموال في بناء المساجد! لأن المساجد العريقة في هذا الوقت ‏كانت واجهة سياسية للحاكم.‏

وقد روى المقريزي وابن عبد الحكم قصة أخرى عن مصري من أهل الصعيد كان قد أخفى ذهباً له حتى لا يدفع ضريبة عليه، فعرف عمرو العاص ‏ذلك من أعوانه من البصاصين والجواسيس، فقبض عليه واستمر في تعذيبه لكن الرجل أنكر أن تكون له أموال مخفية، احتال عليه عمرو بحيلة عرف بها ‏منه الراهب الأمين على أمواله، فكتب عمرو رسالة إلى هذا الراهب يطلب منه معرفة مكان الأموال لديه، ووقعها عمرو باسم المصري المقبوض عليه، وما ‏كان إلا أن جاء رد الراهب :" تحت الفسقية " فعرف بذلك عمرو مكان الذهب فاستخرجه ثم حكم بإعدام الرجل عند باب المسجد، فخاف المصريين ‏وأظهروا ما عندهم من ذهب وكنوز فرعونية خشية أن يصيبهم ما أصابه.. فإذا كان البطل الأول خالد الوليد كان يرهب الناس بصب دماء أبنائهم في ‏النهر ليشربوا ويرتعبوا ليعتنقوا الدين، فإن البطل الثاني عمرو العاص يذبح آباءهم على باب المسجد ليدفعوا ! .. ثم يصعد المنبر ليخطب فيهم الجمعة، ‏فماذا قال لهم؟ ‏

وعمرو العاص كان رائداً للدولة الأموية فى شراهتها فى جمع الجزية من المصريين وغيرهم، وحتى من أسلم من المصريين كانوا لا يعفونه من دفع ‏الجزية، والاستثناء الوحيد من خلفاء بني أمية كان الخليفة عمر بن عبد العزيز فى حكمه القصير، فقد رفع الجزية عمن أسلم فكتب إليه والى مصر حيان ‏بن شريح يخبره بتناقص الجزية بهذا القرار، فكتب إليه عمر ابن عبد العزيز يؤنبه ويقول له: ضع الجزية عمن أسلم قبح الله رأيك، فإن الله إنما بعث محمداً ‏هادياً ولم يبعثه جابياً‎..!!‎‏ ورد عمر ابن العزيز هنا يؤكد أن الوجود العربي في مصر لم يكن نشر دين وإنما أكل السحت وجمع الإتاوات باسم الدين.‏

ويذكر المقريزى أن عمراً اعتقل مصرياً اتهمه بموالاة الروم واستجوبه، وكانت التهمة ملفقة بهدف ابتزاز الرجل المسكين، بدليل أن عمرو أطلق سراح ‏الرجل بعد أن حصل منه على أكثر من خمسين إردباً من الذهب !. وهذا من رجل واحد فقط.. فقد شرهت نفس عمرو لكنوز الآثار المصرية وذهبها ‏المدفون وما يتم الكشف عنه، يقول المقريزى أن عمراً أعلن لأهل مصر: أن من كتمني كنزاً عنده فقدرت عليه قتلته !. ونشر عمرو عيونه تتحسّس ‏وتتجسّس عمن لديه كنوز فرعونية.. ومن مجموع هذه المصادرات تضخمت ثروة عمرو الشخصية من هذا السلب والنّهب، وحين حضرته الوفاة ‏استحضر أمواله فكانت (140) إردباً من الذهب، وقال لولديه: من يأخذ هذا المال؟ فأبى ولداه أخذه وقالا له: حتى ترد إلى كل ذي حق حقه. ومات ‏عمرو واستولى الخليفة معاوية على كل تلك الأموال التي خلفها عمرو فى ميراثه وقال: نحن نأخذه بما فيه .. أي بما فيه من ظلم وسحت..!!‏

ومع ذلك فإن عمرو العاص هو أفضل من حكم مصر وأكثرهم رفقاً بالمصريين بالمقارنة بغيره.. والثابت أنه لم يكن مسرفاً فى سفك الدماء كما فعل ‏غيره من الولاة كما أنه كان حسن السياسة فى جباية الخراج والجزية، فلم يرهق المصريين، وكان يجمع الجزية 12 مليون دينار، فأصبح الوالي بعده عبد الله ‏بن أبى سرح يجمعها 14 مليون دينار فى خلافة عثمان عفان وبتوجيهاته(4)‏‎ .‎

هكذا كانت نوعية الثقافة التي جاء بها عمرو من شبه الجزيرة زاحفاً عبر الصحراء حاملاً أسفاراً من الكتب والعلم ما لم يعلمه المصريون، ومن ‏الحرمة ما لم يدركه المصريون، ومن التحضر والرقي والسمو الأخلاقي ما أدركه العرب في صحراء قريش، لدرجة أنه أبدع في التشنيع والذبح والقتل ‏والتمثيل بالجثث، فمن عجائب وإبداعات عمرو القتالية في مصر أنه كما روى عنه التاريخ عندما ذهب لقتال أهل الإسكندرية، وحاصر المدينة، ظفر ‏أهالي الإسكندرية برأس أعرابي منهم، فقال عمرو: خذوا رجلاً منهم فاقطعوا رأسه، فارموا به إليهم في المنجنيق. ففعلوا ذلك فرمى أهل الإسكندرية برأس ‏المسلم إلى قومه.! أي أن أهالي الإسكندرية فعلوا ما اعتادت عليه البشرية في الحروب (خطف أحد الأعداء المحاصرين لمدينتهم)، أما عمرو فقد أبدع في ‏تعبئة جثة قتيل من الأهالي في المنجنيق وقذفها إليهم داخل المدينة..! كنا نتوقع أن ما يخرج من فوهة المنجنيق هي مقذوفات المدفعية فقط، أما على يد ‏عمرو فقد بدأت تخرج جثث بشرية !.. دون أن يتحدث أحد الصحابة العاملين على المنجنيق عن حرمة التشنيع والتمثيل بالجثث.. لكن عمرو مع ‏ذلك، وبرغم شهرته في كتب التاريخ بأنه من فتح مصر ونشر فيها الإسلام، إلا أننا إلى الآن لم نعرف شيئاً عن إسلامه هو، ولم نعرف ماذا تعلم منه ‏المصريون، فقط تعلموا منه قطع الرأس وقذفها بيدهم، أما هو فقد كان يقذفها بالمنجنيق !‏

وبالطبع تتعارض مثل تلك الحوادث مع عهد الأمان الذي بذله عمرو للمصريين - على النفس والمال- أثناء صراعه مع الرومان بقدر اتساقها مع ‏تحالفات(عمرو معاوية). وتتعارض مع مبدأ الجزية الذي يقول به الفقهاء لأنه لا جزية على المال. وتفسر لنا لماذا لم يدخل المصريين الإسلام إلا بنسبة ‏‏2% بما فيهم المسلمين العرب المهاجرين خلال 100 سنة من دخول العرب، فالعرب نفّروا المصريين من الدين الإسلامي قبل أن يتعرف عليه المصريون.‏

والواقع أن عمرو بعد أن استتب له الأمر أنكر كل عهوده، وراح يقول صراحة (لقد قعدت مقعدي هذا وليس لأحد على عهد فإن شئت سبيت ‏وإن شئت قتلت وإن شئت خمّست) .. وإن كان عمرو العاص حين دخل لم يتدخل في عقائد المصريين أو يمارس ضغطاً دينياً عليهم بل أعاد بنيامين ‏الهارب إلى موقعه في الكنيسة وتوقف اضطهاد المسحيين في مصر من قبل الرومان، لكنه تفرغ لمهمته الأساسية، ولم يكن ذلك ببعيد عن دهاء عمرو ‏العاص فهو داهية العرب، وقد بلانا الله به، لكن الغريب أنه أصبح في نفوسنا بطلاً قومياً إسلامياً ! وما زلنا نرفض الاعتراف بأنه احتل بلدنا وقهر ‏أجدادنا، فلم تكن غاية عمرو لا نشر دين ولا اضطهاد دين، وإنما عينه على ضرع البقرة الحلوب؛ لأنه لم ير مثل لبنها في الصحراء‎.‎‏ ولم يكن عمرو أول ‏محتلٍ يتودد إلى المصريين كنوعٍ من الخداع والمناورة الحربية السياسية، فالإسكندر الأكبر عندما دخل أرض مصر عامل أهلها معاملة حسنة، ودخل ‏معابدهم حتى يتقرب منهم, ويذكر أنه دخل معبد أمون خان، فلقنه الفراعنة الطقوس الدينية الخاصة بهم واستجاب لهم على أمل أن يتقربوا منه ‏ويتوددون إليه..‏

أما عمرو العاص، فهو لا يختلف عن سكان مكة في يومنا هذا، لأنهم أحفاده، فبعدما انتهى من إخماد ثورة الإسكندرية وإعادة مصر إلى حكم ‏دولة المدينة اقترح عليه الخليفة عثمان عفان أن يظل والياً بالمشاركة مع عبد الله سعد، على أن يكون شؤون الجند من صلاحيات عمرو، وتحصيل الجزية ‏والخراج من صلاحيات بن سعد، فرفض عمرو ذلك قائلا قولته المشهورة ( إنني إذن كماسك البقرة وغيري يحلبها) فلم تكن مصر بالنسبة إليه، ولا ‏بالنسبة للخليفة عثمان عفّان، ولا لمن جاء بعدهما فى الواقع أكثر من بقرة حلوب، كان عليهم أن يعتصرون دمها لآخر قطرة ليتجاوزا عصور الجوع ‏والشظف التي عاشوها في مكة مع قريش، وأن يتخذوا منها ومن مواردها قاعدة لتمويل غزوات أخرى أشد قسوة باتجاه شمال إفريقيا، ولهذا حنث عمرو ‏بكل عهوده مع المصريين، برغم أن الله تعالى يقول (وأوفوا بالعهود ) لكنه نكل بكتاب الله ونكل بعهوده للمصريين مقابل تحقيق غاياته، فكان أشد ‏قسوة على المصريين من الرومان بعدما وعدهم بالأمان على (النفس والمال).. وهذا ما أثّر سلبياً على نفسية المصريين، يقول الأديب العالمي "شارلز ‏ديكينز":الوعد إذا كُسر لا يُصدر صوتاً؛ بل الكثير والكثير من الألم )‏

هذا ما تعرض له أجدادنا المصريين علي يد العرب المسلمين، كان شعب مصر بنسبة 98% أقباط، إذن أنا من أصلٍ فرعوني قبطي ووطني فرعوني ‏مصري، ولست من أصل عربي، ولن أتنكر لوطني، ولن أتنكر لأجدادي الأقباط مجاملة لجيراني العرب المسلمين، لأن الحقوق الإنسانية لا مجاملة فيها، ‏ولا دخل للأديان فيها، فالأقباط المصريين في هذا الوقت كانوا 98% من شعب ويمثلون الوطن، ورفضوا الاستعمار والظلم العربي لوطنهم، فكيف أقبله ‏أنا؟ وأنا ابنهم؟ وكيف أدينهم على رفضهم ظلم العرب؟ أو كيف أنكر أنه كان هناك ظلم عربي إذا كانت مراجع التاريخ العربي الإسلامي جميعها تثبت ‏وقوع هذا الظلم، ليس فقط المراجع التاريخية، بل إن المراجع الفقهية نقلت هذا الظلم وجعلته تشريعاً فقهياً، فأصبح تاريخ العرب ديناً للشعوب !‏

وحتى وإن صبرنا على هذا التخريج الفقهي الديني الذي يتبناه الأزهر في محاولة لتبرير حقبة الفتوحات ومشروعية الغزو والجهاد لنشر الدين، ‏باعتبار أن عملية التدخل العسكري بالجيش كانت فقط لإزالة العقبات ورفع الظلم والإطاحة بالطغاة حكام هذه البلاد عن شعوبها، وفي ذات الوقت ‏يسهل دخول العرب هذه البلاد لنشر الدين، فلماذا شرع الفقهاء على المذاهب الأربعة ظاهرة السبي والوطء (خطف واغتصاب النساء والأطفال ‏والبنات) كحق مشروع مرافق للجهاد؟ في الواقع أن هذا الفقه هو تفقه في تاريخ العرب وليس في الدين أصلاً، وحتى الحجة الواهنة التي قالوا بأنها لإزالة ‏العقبات أمام الدعوة والإطاحة بالطغاة من حكام هذه الشعوب، فلماذا لم يخرج منها العرب بعدما حرروها كما خرج المصريين والأمريكان من الكويت ‏بعد تحريرها من الغزو العراقي؟ بل إننا نقرأ عن حجم الثورات وحركات التمرد التي قامت بها هذه الشعوب بعد وقوعها تحت نير الاحتلال العربي، فلو ‏كان العرب دخلوا لنشر الدين والإطاحة بالحاكم الظالم، فلماذا لم يخرج عمرو العاص من مصر بعد تحريرها من الحكم الروماني؟ ولماذا استمر حاكماً على ‏مصر حتى وفاته؟ ولماذا استعان به عثمان عفان في قمع ثورة المصريين ؟ ألم يأت لتحريرهم من الرومان؟ ولماذا فرض على المصريين دفع الخراج؟ إذا قلنا ‏أن الجزية ضريبة الحماية حال عدم اعتناق الإسلام، فلماذا الخراج؟ وهل كان يتم إنفاقه على المرافق العامة للمصريين من حفر الترع والقنوات وإقامة ‏الجسور وغيرها أم كان يتم تهريبه إلى السعودية عبر القناة التي تربط بين نهر النيل والبحر الأحمر؟ والتي تم حفرها خصيصاً لهذا الغرض؟ ولماذا استمرت ‏سلالة قريش في التناوب على حكم مصر؟ ولماذا جاء عثمان عفّان بأخيه الهارب من حكم الإعدام عبد الله سعد أبي السرح ؟ وتبعه بن أبي حذيفة، ثم ‏الأشتر النخعي، ثم عتبة أبى سفيان ابن حرب، ثم قرة بن شريك العبسي، ثم شرحبيل أيوب، ثم بشر صفوان الكلبي، ثم حنظلة صفوان الكلبي، ثم حفص ‏الوليد يوسف الحضرمي، ثم حنظلة صفوان الكلبي مرة أخرى، ثم محمد الأشعث الخزاعي، ثم سالم سوادة التميمي، ثم داود يزيد المهلبي، ثم مالك دلهم ‏الكلبي، ثم جابر بن الأشعث الطائي، ثم المطلب عبد الله الخزاعي..إلخ. وهكذا قبائل بدوية جلست على عرش مصر الفرعونية .‏.. وهذه قائمة حكام سلالة قريش في مصر، وجميعهم حكموا مصر باللغة العربية بينما كان الشعب المصري يتحدث لغته الفرعونية
‏1.‏ عمرو ابن العاص
‏2.‏ عبد الله بن أبي السرح
‏3.‏ محمد بن أبي حذيفة
‏4.‏ قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري
‏5.‏ الأشتر مالك بن الحارث النخعي
‏6.‏ محمد بن أبي بكر الصديق
‏7.‏ عمرو ابن العاص
‏8.‏ عتبة بن أبي سفيان
‏9.‏ عقبة بن عامر الجهني
‏10.‏ معاوية بن خديج السكوني
‏11.‏ مسلمة بن مخلد الأنصاري
‏12.‏ سعيد بن يزيد الأزدي
‏13.‏ عبد الرحمن بن جحدم الفهري
‏14.‏ عبد العزيز بن مروان
‏15.‏ عبد الله بن عبد الملك
‏16.‏ قرة بن شريك العبسي
‏17.‏ عبد الملك بن رفاعة
‏18.‏ أيوب بن شرحبيل الأصبحي
‏19.‏ بشر بن صفوان الكلبي
‏20.‏ حنظلة بن صفوان الكلبي
‏21.‏ محمد بن عبد الملك بن مروان
‏22.‏ الحر بن يوسف
‏23.‏ حفص بن الوليد الحضري
‏24.‏ عبد الملك بن رفاعة
‏25.‏ الوليد بن رفاعة
‏26.‏ عبد الرحمن بن خالد الفهمي
‏27.‏ حنظلة بن صفوان الكلبي
‏28.‏ حفص بن الوليد الحضري
‏29.‏ الحوثرة بن سهيل الباهلي
‏30.‏ المغيرة بن عبيد الله الفزاري
‏31.‏ عبد الملك بن مروان بن‎ ‎موسى ‏
‏32.‏ صالح بن على بن عبد الله العباسي
‏33.‏ أبو عون عبد الملك بن يزيد
‏34.‏ صالح بن على بن عبد الله العباسي
‏35.‏ أبو عون عبد الملك بن يزيد
‏36.‏ موسى بن كعب أبو عيينة
‏37.‏ محمد بن الأشعث بن عقبة
‏38.‏ حميد بن قحطبة‎ ‎بن شبيب
‏39.‏ يزيد بن حاتم بن قبيصة
‏40.‏ عبد الله بن عبد الرحمن بن معاوية ‏
‏41.‏ محمد بن عبد الرحمن بن معاوية
‏42.‏ موسى بن على بن رباح اللخمى
‏43.‏ عيسى بن لقمان الجمحى
‏44.‏ واضح بن عبد الله الخصى المنصورى
‏45.‏ مصنور بن يزيد الزنجانى
‏46.‏ يحى بن داود الشهير بإبن ممدود
‏47.‏ سالم بن سوادة التميمى
‏48.‏ إبراهيم بن صالح العباسي
‏49.‏ موسى بن مصعب بن الربيع الخثعمى
‏50.‏ عسامة بن عمرو أبو داجن المعافرى
‏51.‏ الفضل بن صالح العباسي
‏52.‏ على بن سليمان بن على العباسي
‏53.‏ موسى بن عيسى بن موسى
‏54.‏ مسلمة بن يحى بن قرة
‏55.‏ محمد بن زهير الأزدى
‏56.‏ داود بن يزيد بن حاتم
‏57.‏ موسى بن عيسى بن موسى
‏58.‏ إبراهيم بن صالح العباسي
‏59.‏ عبد الله بن المسيب بن زهير
‏60.‏ إسحق بن سليمان بن على العباسي
‏61.‏ هرثمة بن أعين
‏62.‏ عبد الملك بن صالح العباسي
‏63.‏ عبيد الله بن المهدى العباسي
‏64.‏ موسى بن عيسى بن موسى
‏65.‏ عبيد الله بن المهدى العباسي
‏66.‏ إسماعيل بن صالح العباسي
‏67.‏ إسماعيل بن عيسى العباسي
‏68.‏ الليث بن الفضل الأبيوردى
‏69.‏ أحمد بن إسماعيل بن على العباسي
‏70.‏ عبيد الله بن محمد بن إبراهيم العباسي
‏71.‏ الحسين بن جميل
‏72.‏ مالك بن دلهم الكلبى
‏73.‏ الحسن بن التختاخ
‏74.‏ حاتم بن هرثمة بن أعين
‏75.‏ جابر بن الأشعث الطائى
‏76.‏ عباد بن محمد بن حيان
‏77.‏ المطلب بن عبد الله الخزاعى
‏78.‏ العباس بن موسى بن عيسى العباسي
‏79.‏ المطلب بن عبد الله الخزاعى ‏
‏80.‏ السرى بن الحكم
‏81.‏ سليمان بن غالب بن جبريل البجلى
‏82.‏ السرى بن الحكم
‏83.‏ محمد (أبو النصر)بن السرى بن الحكم
‏84.‏ عبيد الله بن السرى بن الحكم‏
‏85.‏ عبد الله بن طاهر
‏86.‏ عيسى بن يزيد الجلودى
‏87.‏ عمير بن الوليد الطائى
‏88.‏ عيسى بن يزيد الجلودى
‏89.‏ عبدويه بن جبلة
‏90.‏ عيسى بن منصور الرافقى
‏91.‏ كيدر بن عبد الله
‏92.‏ المظفر بن كيدر
‏93.‏ موسى بن أبى العباس ثابت
‏94.‏ مالك بن كيدر
‏95.‏ على بن يحى الأرمنى
‏96.‏ عيسى بن منصور الرافقى
‏97.‏ هرثمة بن نصر الجبلى
‏98.‏ حاتم بن هرثمة بن نصر
‏99.‏ على بن يحى الأرمنى
‏100.‏ إسحق بن يحى بن معاذ
‏101.‏ خوط عبد الواحد بن يحى بن ‏منصور
‏102.‏ عنبسة بن إسحق بن شمر الضبى
‏103.‏ يزيد بن عبد الله بن دينار التركي
‏104.‏ مزاحم بن خاقان
‏105.‏ أحمد بن مزاحم بن خاقان
‏106.‏ أزجور بن أولوغ طرخان التركي
‏107.‏ محمد بن سليمان الكاتب
‏108.‏ عيسى بن محمد النوشرى
‏109.‏ تكين الخرزى
‏110.‏ ذكا الأعور الرومى
‏111.‏ تكين الخرزى
‏112.‏ محمود بن حمك ( أبو قابوس‎ )‎
‏113.‏ هلال بن بدر
‏114.‏ أحمد بن كيغلغ
‏115.‏ تكين الخرزى
‏116.‏ محمد بن طغج الإخشيد
‏117.‏ أحمد بن كيغلغ


هذه قائمة بأسماء حكام مصر من سلالة قريش خلال 260 سنة فقط، وجميعهم حكموا مصر بلغة أجنبية لم تكن هي لغة الشعب، بينما كان ‏الشعب المصري يتحدث لغته الفرعونية، وكانت أسماءهم هكذا قرشية ما أنزل الله بها من سلطان، وحتى المصريين في هذا الوقت لم يكونوا يعرفوا اسم ‏الرئيس المصري لأنه ليس مصري وإنما من فصيلة قرشية لا نعلم أصلها وفصلها، وبرغم أن الدستور المصري ينص في مادة (141‏‎(‎‏ يشترط فيمن يترشح ‏رئيسًا للجمهورية أن يكون مصريًا من أبوين مصريين، وألا يكون قد حمل، أو أيّ من والديه أو زوجه جنسية دولة أخرى... وأن يكون قد أدى الخدمة ‏العسكرية أو أعفى منها قانونًا " حتى أن الدكتور أحمد زويل كان ينوي الترشح لرئاسة الجمهورية عقب ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011، وما منعه ‏إلا أن زوجته كانت سورية الأصل، وليست مصرية.. بينما الأشتر النخعي وحنظلة الكلبي، وجميع هؤلاء الأعراب والأتراك لم يحمل الجنسية المصرية ولم يؤد ‏الخدمة العسكرية، بل أدى خدمته العسكرية في جيشٍ عربي اقتحم حدود مصر كي يحكمها ! ثم نستمر في غبائنا ونطلق عليه فتحاً !‏

ولم يكن العرب يشركون المصريين في أي قرار سياسي أو إداري يتخذونه في شؤون الحكم، ولم يطبق واحد فيهم مبدأ الشورى الذي قالوا عنه في ‏الخلافة، وكانوا يتبدلون بسرعة رهيبة لدرجة أن كل هؤلاء المائة وسبعة عشر قرشي حكموا متتابعين 260 سنة فقط أي كل واحد منهم سنتين وشهرين ‏ويتم عزله أو سجنه أو قتله، ذلك لأن العرب من طبيعتهم التخوين والغدر، فلم يثقوا في بعضهم، حتى أنهم جاؤوا بحكام أجانب ليسوا عرب وإنما أتراك ‏ولم يسمحوا لواحد من المصريين أن يحكم مصر كما سمح النبي عليه السلام لمالك بن نويرة أن يحكم قومه، ونلاحظ في آخر القائمة جميعهم خواجات أتراك ‏؛ تكين الخرزى- ذكا الأعور الرومى - تكين الخرزى - محمود بن حمك - هلال بن بدر - أحمد بن كيغلغ - تكين الخرزى - محمد بن طغج الإخشيد - أحمد بن ‏كيغلغ..إلخ.. وكان الخليفة لا يسأل ولا يحاسب أحد فيهم (كم مصري اعتنق الإسلام خلال فترة حكمه)، كان الخليفة يسأل فقط كم شوال قمح حصلته ‏من الفلاحين المصريين، وكم قسطاً من العسل والزيت وكم إردباً من الأرز والشعير، وكم سروال من القطن المصري...إلخ) وكانت دواوين الحكومة فقط ‏خراج وجزية وجمارك وجند، لم يكن من بينها وزارة للدعوة أو الدين، ولم يتركوا أي أثر يدل على اهتمامهم بشؤون الدين، فقط جمع الجبايات والضرائب من ‏الفلاحين المصريين بالسوط. ولم ينشئوا مركزاً دعوياً في مصر، لأنهم لو أنشأوا لكان قد ترك أثر، إنما استمر المسلمين في مصر أقلية خلال حكم جميع ‏هؤلاء الخواجات، فقد اهتموا بالنهب والسلب. بينما المسيحية انتشرت في مصر كلها خلال 50 سنة فقط على يد رجل واحد، جاء من أجل الدين ‏وليس من أجل النهب.‏

بينما لو عدنا لتراثنا المصري الفرعوني لوجدناه يتوافق مع الإسلام أكثر مما توافق معه العرب، فالفراعنة كانوا مسلمين قبل أن ينزل الإسلام، ‏بينما العرب كانوا بلا ملة حتى بعد اختصاصهم بالإسلام، فنجد مصر في عهد الدولة الوسطى والقديمة عندما توسعت استعمارياً وبسطت سيادتها تجاه ‏الشمال والشرق والغرب والجنوب وصلت إلى إثيوبيا (بلاد بونت) كانت السيادة المصرية تمتد لتحقيق مصالحها في المقام الأول وليس لاستغلال الشعوب ‏وامتصاص دمائها، فنذكر الملكة المصرية حتشبسوت كانت ترسل بعثاتها إلى بلاد بونت (إثيوبيا) لجلب الأخشاب التي تستخدم في صناعة السفن، وكان ‏خضوع بلاد بونت لمصر نوعاً من التحالف بين القوي والضعيف، فلم يكن المصريون يحكمون إثيوبيا حكماً فعلياً كما كان يفعل العرب في مصر، ولم ‏يجلبوا عبيد من إثيوبيا كما فعل الصحابة في كل البلاد التي فتحوها وكذلك الأوروبيين، إنما هم جلبوا الأخشاب فقط لأن إثيوبيا ينموا في غاباتها نوع من ‏أخشاب الصندل القومية في صناعة السفن ولا توجد بمصر، بل فعل الفراعنة في إثيوبيا ما فعله النبي محمد مع ملك ابن نويرة ملك الحيرة حينما تركه والياً ‏على مملكته مع ضمان ولائه له، ودون استعباده أو استغلاله أو إخضاعه عنوة أو عزله عن حكم بلاده. بل كان الملك المصري يستقبل ملك بلاد بونت ‏في مصر لتقديم الولاء لا أكثر (باللوحة: الفنان المصري قام بتوثيق استقبال الملك الإثيوبي في مصر معلقاً على بدانة زوجته مقارنة بالمصريات، فرسمها بنوعٍ ‏من المبالغة)‏

إنما العرب حينما دخلوا مصر استعبدوا أهلها وأخذوا منهم سبايا وعبيد بعدد جيش العرب الفاتحين، ولم يتركوا المصريين يحكمون بلادهم أو ‏حتى يشاركون في إدارتها كما كان يفعل الرومان، إنما العرب استقلوا تماماً بحكم ديكتاتوري وقمعي مرير.. كان المصريون يرسلون البعثات والحملات ‏للخارج لجلب الأخشاب والمواد الخام اللازمة للصناعة في مصر لأن مصر كانت مركزاً فعلياً للنشاط الاقتصادي، بينما العرب كان كل همهم في مصر ‏تحصيل الجزية والخراج، ولم يكن لهم أي نشاط اقتصادي لا في مصر ولا في بلادهم. وبدأت حملات الهجرة الجماعية للقبائل من صحارى شبه الجزيرة ‏وهاجرت قبائل كثيرة سكنت في الصحاري المتاخمة للقرى‎ ‎والمدن المصرية.. في البداية سكنوا مخيم الفسطاط بجوار حصن بابليون (بالمعادي حالياً) وكان ‏صحراء متاخمة للمدينة المصرية، لكن المخيم العربي ظل دون مستوى العمارة المصرية... وخلال حكم الدولة الأموية والعباسية وحتى الفاطمية والأيوبية كان ‏الولاة والسلاطين يستخدمونهم في أبناءهم في سلاح الفرسان، وكان العرب يمدون الولاة والسلاطين بالخيول العربية الأصيلة، حتى وإن كانوا غير ماهرين في ‏الفنون الحربية لكنهم تمتعوا بالفروسية... وهذا الوضع يختلف تماماً عن المصريين الذين امتدت سيادتهم إلى البلاد المجاورة لهم ومنها بلاد العرب أنفسهم، ‏والعراق والشام وإثيوبيا، لكنهم لم يتركوا بلادهم ولم يهاجروا للسكنى بهذه المناطق كما فعل العرب، بل كان مركز النشاط الثقافي والعلمي والاقتصادي ‏داخل مصر، كانت مصر مركزاً للإنتاج المعرفي والاقتصادي، بينما العرب لم يكن لهم أي عملية إنتاجية معرفية أو اقتصادية لا في داخل بلادهم ولا في ‏البلاد التي احتلوها وهاجروا إليها.. هم فقط هاجروا لتحسين ظروفهم المعيشية خارج الصحراء.‏

ولاحقًا في عهد الخليفة الأموي هشام عبد الملك، جرى تهجير العديد من قبائل قيس(5)‏‎ ‎إلى مصر‎ ‎لأغراض سياسية، وهؤلاء كانوا أضعاف ‏قبائل الجنوب الذين بدأوا في النمو في مصر. يقول الكندي في كتابه (الولاة والقضاة) إن المسئول عن خراج مصر، وكان اسمه عبد الله بن الحبحاب، بعث ‏برسالة للخليفة يشكره على إعلاء شأن بني قيس بعدما استوفد منهم الكثير إلى مصر، وأقطعهم بلبيس وما حولها وأمرهم بالزراعة، و شراء الإبل والخيل‎.‎‏.. ‏واستمر توافد القبائل على مصر خلال حكم العباسيين والفاطميين، فيقول المقريزي في كتابه‎ ‎‏(البيان والإعراب عمن نزل أرض مصر من الأعراب)(6)‏‎ ‎إن ‏في زمن خلافة المستنصر (تقريبًا عام 1010م) حصلت ثورات من قبائل جنوب الجزيرة الذين نزلوا في بادية الشام وغزة ضد الولاة، فأمر الوزير أبو الحسن ‏البازوري باستدعائهم إلى مصر وأقطعهم إقليم البحيرة وما حولها، فاتسعت أحوالهم وعظم شأنهم‎.‎

وحالياً تنتشر الحياة القبلية في فى شرق مصر ( سيناء ) ولكل قبيلة نظامها الخاص بحيث لو حدث نزاع بين أفرادها لا يلجأ أحد إلى أجهزه ‏الدولة المعنية بل يتم التحاكم إلى نظام القبيلة، وكذلك الحال في غرب مصر بداية من غرب الإسكندرية إلى حدود ليبيا، وتمتد هذه القبائل جنوباً في ‏الصحراء الغربية، وأيضاً فى جنوب مصر (الصعيد) تنتشر ظاهرة المجتمع القبلي ولكن ليس بصوره قبائل سيناء، وتسيطر الطبيعة القبلية على المجتمع حتى ‏بالنسبة للذين يعيشون في المدن وكثيراً ما تحدث بين هذه القبائل في مجتمع الصعيد اشتباكات دامية لأسباب تافهة تفضل الدولة الوقوف فيها موقف ‏محايد ومحاولة فض النزاع وعقد مجالس صلح عرفية وترضية كلا القبيلتين. وقد وصل تعداد أبناء هذه القبائل العربية في مصر إلى حوالي 15 مليونًا (7)... ‏

هؤلاء الخمسة عشر مليوناً في مصر هم من أسسوا ووطنوا فكرة اصطلاح "الفتح العربي لمصر" ويعززونها أحياناً باصطلاح " الفتح الإسلامي ‏لمصر" كي يحفظون بقاءهم في رفعة شأن بين أهلها، وعادة ما يتفاخرون بأنهم من أصول عربية جاءت مع عمرو العاص، لا يقولون أنهم هاجروا لتحسين ‏أوضاعهم المعيشية في مصر عقب الفتح وإنما يقولون أنهم جاؤا بصحبة عمرو العاص لينشروا الدين، بينما هم قبائل عربية هاجرت عقب دخول عمرو ‏وتتابعت هجرتهم عبر قرون.. وفي المقابل كان أهل مصر ينبذونهم باصطلاح " الاحتلال العربي لمصر" ، ثم زاد عدد الموالي "المصريين المسلمين" بمرور الزمن ‏وأعطوهم الولاء وتضامنوا معهم في اصطلاح "الفتح" مجاملة لهم، وصار الأغلبية على اصطلاح الفتح بعد انتشار الإسلام في مصر، وأصبح الأقلية ‏المسيحية على اصطلاح الاحتلال. أما الحقيقة الواقعية أن أجدادنا الموالي أخطأوا في مجاملتهم للعرب وتضامنهم معهم في اصطلاح الفتح لأن العرب إنما ‏جاؤا لتحسين أوضاعهم المعيشية في مصر والهروب من غبار الصحراء ليسكنوا وادي النيل وترعى أغنامهم وإبلهم بالمجان ويسترزقون بحصة من الخراج ‏والجزية كل عام، وهو بالفعل كان فتحاً على العرب ذاقوا فيه رغد العيش، ومسحوا عن أنفوهم غبار الصحراء واستنشقوا رياح الوادي والخضرة والزهور، ‏بيمنا هم تطفلوا على أرزاق أجدادنا الموالي وزاحموهم في كل شيء. واستمر اصطلاح الفتح مستوطناً في مصر وشاع بين أبنائها دون وعيٍ بحقيقته ‏ونشأته، بينما ظل الخمسة عشر مليون مسيحي في مصر على موقفهم حتى يومنا هذا ينظرون إلى الدخول العربي بعين الوطن، أما المسلمين ينظرون ‏للدخول العربي بعين الدين ويعتبرونه فتحاً وكأن الدين ما كان ليصل مصر إلا بهذا الفتح وويلاته ! ‏

لكن مع مرور الزمان وفي مطلع القرن الحالي تقريباً بدأت صيحات الدولة المدنية تعلوا وظهرت أقلام الكتاب والمفكرين تعود إلى اصطلاح ‏الاحتلال وتتحدث باسم الوطن وبلسان الوطن ومدنية الدولة، وترى أن الدين ليس مبرراً لاحتلال أوطان الشعوب، وهو ما رحب به المسيحيون في مصر ‏بينما قابله التيار الآخر السلفي من أحفاد الموالي بنظرة استهجان واتهموا التيار المدني بالموالاة للمسيحيين وليس الوطن، لأن التيار السلفي ليس لديه نزعة ‏وطنية ولا يؤمن في الغالب بفكرة الوطن والارتباط به والإخلاص له إنما يؤمن بفكرة الخلافة التي لا وطن لها وإنما وطنها هو الدين.. هذا التيار المدني يريد ‏العودة لوصل حبل التاريخ الحاضر بالماضي الفرعوني وتوحيد الهوية الوطنية المصرية من الجذر إلى الساق متصلاً، واختصار علاقة الوطن المصري بالعرب في ‏حدود استفادتنا منهم بالدين الإسلامي، وباعتبار مصر دولة ووطن وهوية وقومية لا يمكن طمسها بالهوية العربية لمجرد الحصول على الثقافة الدينية، فمصر ‏بها تنوعً ثقافي وتقبل ثقافات عديدة، منها ما هو هكسوسي ويوناني وروماني وعربي ...إلخ. وكل ذلك يضاف إلى الأصل المصري الفرعوني ويزيد التنوع ‏في الأصل المصري ولا يطمسه لصالح المرحلة العربية، ولا يمكن للهوية العربية أن تطمس كل هذا التنوع أو أن تطمس الأصل المصري معه... ‏

وهذا التيار المدني ليس موالياً للمسيحيين وإنما يتبنى وجدان الوطن وحقوقه، باعتبار الإنسان مواطن له الحق في العيش بسلام في وطنه أياً كان ‏دينه، وله الحق في أن يشارك في حكم وطنه أياً كان دينه، وبالنظرية التي تبناها ابن خلدون في حق الشعوب في تقرير مصيرها دون أن يكون لحملة الدين ‏حق احتلال هذه الشعوب، ولذلك نجد مؤيدي التيار المدني يلتفون حول مركز ابن خلدون للدراسات والعلوم الإنسانية، ويؤمنون بحق الشعب في تقرير ‏مصيره، بينما الأزهر يهاجم هذا المركز بعنف ويهاجم ابن خلدون برغم أن ابن خلدون كان أستاذاً للفقه المالكي بالأزهر ، لكن الأزهر لفظه بسبب نظريته ‏وتجاهل كل مؤلفاته، لأن الأزهر يتبنى فقط وجهة نظر العرب ونظرية الخلافة العباسية والأموية وليس الوطن المصري، فلا يعترف بتقرير المصير وإنما فقط ‏الخلافة، ولهذا يمكننا القول بأن الأزهر إنما هو صوتٌ أجنبي على أرض الوطن، وهو لهجة الاحتلال العربي على أرض مصر، فنحن لا نجد ضمن مقررات ‏الأزهر ما يثبت أن هناك وطن مصري، إنما الوطن بالنسبة للأزهر هو الخلافة أينما كانت بشرط أن يكون الخليفة قرشي... لكن مع ذلك يتغير الحال بمرور ‏الوقت تدريجياً، فلم يكن ممكناً مطلع هذا القرن أن يترك الأزهر أحداً يتكلم عن معاوية ابن أبي سفيان وانقلابه على الدين أو يذكر أخطاءه بأي وسيلة، ‏بينما بعد الثورة أصبح الأمر مختلف وتعالت أصوات الحرية في الفكر والرأي واستسلم الأزهر لأصوات انتقاد الشخصيات العربية، وبرغم أن معاوية لا يمثل ‏الدين في الشيء إنما يمثل القومية العربية ، ولأن الأزهر ورجال الدين يتبنون القومية العربية قبل الدين فهم يدافعون عن رجالات القومية العربية بثوب ‏الدين، وهذا ما يؤكد أن الأزهر ما زال يمثل أحد رواسب الاحتلال العربي في مصر لأنه لا يقدم الدين وإنما يقدم القومية العربية ويغلبها على القومية ‏المصرية.‏

أما مسألة انتشار الإسلام في مصر فقد جاءت صدفة على يد الخليفة العباسي المأمون بعد مائتي عام، وكانت صدفة بعيدة كل البعد عن فكرة ‏الجهاد وفكرة الدعوة إلى الله، فقد كانت سياسات عمر الخطاب في الواقع مانعة من انتشار الإسلام، إذ أنه كان مرتكزاً على الجانب العسكري ‏والتنظيمي للدولة أكثر، فأنشأ قواعد عسكرية في أنحاء متفرقة من أطراف دولته، خصص معسكراً في كل بلدٍ فتحها، وكانت هذه المعسكرات عبارة عن ‏مدن عسكرية كاملة بها مخازن للسلاح وميادين للتدريب والرماية وأماكن إقامة للجنود والترفيه وكل احتياجاتهم كما كان مخيم الفسطاط في مصر، ‏وكانت تعليماته بعدم خروج الجنود من هذه المدن حتى تظل في حالة تعبئة وجاهزية طول الوقت، ومن القصص النادرة هو تعنيف أمير المؤمنين وعقابه ‏لأحد الجنود العرب القادمين عندما أرسله عمرو العاص للخليفة بتهمة هروبه من الجيش ولجوئه للفلاحة فى أرض مصر‎.‎‏ لكن هذه السياسات منعت ‏اختلاط العرب داخل قلاعهم بالشعوب والمجتمعات حولهم، فهؤلاء الجنود كانوا هم المجاهدين المفروض أنهم من العرب ويعرفون اللغة العربية والإسلام ‏وهم ممن عاصروا النبي وسمعوا منه أو عنه، والمنوط بهم تعريف الشعوب بالدين باعتبارهم الدعاة والمبشرين، لكن هذه السياسة منعت اندماجهم ‏واختلاطهم بهذه الشعوب، وشكلت في الواقع حاجزاً مانعاً من الاندماج الثقافي في هذه الشعوب، حتى من دخل من العرب والصحابة وعاش حياة ‏مدنية وسط هذه الشعوب لم يتسن له الاندماج فعلياً لأنه دخل بصفة محتل أو في حماية محتل وليس رجل مثقف يحمل ديناً إنسانياً جميلاً، وحتى وإن ‏كان كذلك، فالغطاء العسكري الذي سمح له بدخول هذه البلاد كان حربياً ممقوتاً.‏

وهكذا كان الوضع في مصر واستمر العرب منعزلين عن المجتمع المصري، وكانوا بطبيعتهم متعالين على الناس بأنفة وغرور كما حال سلالاتهم اليوم ‏في السعودية ودول الخليج، ويتعالون على أداء الأعمال اليدوية والصنائع والحرف ويستعبدون غيرهم لأدائها، لا يخرجون إلا لجمع الضرائب والجزية ‏الموسمية أو لوأد الثورات وحركات التمرد.. حتى أنه ذات مرة اختلف عربي مع مصري مسلم من الموالي، فقال له المولى: لا أكثر الله فينا من أمثالك" فرد ‏عليه قائلاً: بل أكثر الله فينا من أمثالك"، وهنا بدا لغز عجيب أمام المصري لم يفهمه، كيف يدعو على العربي فيرد العربي بالدعاء له؟ وهذا بالطبع ليس ‏لسذاجة المصري ولكن لاختلاف النسيج العقلي، فالمصري عقليته عملية مباشرة، وإبداعه وبناءه معماري تطبيقي، أما العربي إبداعه أدبي وبناءه لغوي ‏نظري، فلما سئل العربي أيدعو عليك وتدعو له؟ أجاب: يكسحون طرقنا ويصنعون قفالنا ويحوكون ثوبنا" ! ‏

ولا زال هذا الغرور والتعالي في الجنس العربي حتى يومنا هذا، فأذكر صديقاً حكى لي عن تجربته في السفر إلى إحدى الدول العربية في سبعينات ‏القرن الماضي، وكنت أتحدث معه عن القومية والقوميين بفخرٍ وشموخ، وأن التاريخ العربي شامخٌ وعظيم، فقال لي نعم، هم فعلاً كذلك، فقد كنت ضمن ‏فوجٍ من العمال المصريين سافر للعمل هناك، واضطررنا للنزول ترانزيت، ثم انقطع عنّا خط السير لسببٍ ما، ففوجئنا أنه قد تم بيعنا في الطريق ! قلت له ‏كيف؟ قال؛ الكفيل تقابل مع كفيل آخر وعرض عليه الصفقة، بكم تشتري 50 راس ؟ فسأله عن الفصيلة؛ مصريين.. وكأننا في سوق نخاسة ولسنا ‏وافدين للعمل، واتفق الكفيلين التاجرين معاً على ثمن الصفقة وعدد الرؤوس وموعد التسليم، وفوجئنا باقتيادنا في عنبر ثم بعد عدة أيام تحركنا إلى ‏الباص، ثم اكتشفنا أنه ليس كفيل وإنما سمسار يبحث عن كفيل آخر يشتري الصفقة ! فتركنا العمل وعُدنا على نفقتنا الخاصة ".‏

كانت عنصرية العربي فجة للغاية لدرجة أن قيل أن جد الإمام الشافعي وهو من أصل غير عربي، حاول مع الخليفة عمر الخطاب أن ينتسب إلى ‏أصل عربي قرشي يصل إلى عبد من عبيد بني العباس، يعني حتى ليس جذراً عربياً شريفاً وإنما عبد من عبيد بني العباس، لكن عمر الخطاب رفض، فعاد ‏شافع وحاول مع عثمان عفان، وكانت محاولاته هذه فقط للخروج من وطأة "الموالي" التي عانى منها أغلب الفقهاء لأنهم موالي أعاجم، وكانت وصمة ‏عار في وسط المجتمع العربي، وليس من شأن العلم أن يمحوها، غير أن العلم لم يكن ذا قيمة بالنسبة للعرب ولم يرفع شأن صاحبه على الأصل العربي، ‏حتى أننا نجد في لغتهم الأسماء تبدأ بــ" ابن فلان" مثال : ابن العاص، ابن هشام، ابن عفان، ابن عوف..بن سلمان و آل حمد، و آل یاسین، آل ‏الشيخ.. إلخ، وهي جميعها صيغ نَسَبْ عصبية قبلية عرقية، لأن العرب بطبيعتهم يحتفلون بالأنساب، وهذا تمييز للأصل والنسب العربي، وما ذلك إلا ‏من عنصرية العرب التي لا تختلف عن النازية الألمانية، ولذلك العرب لا يفتخرون بإنجازاتهم ولا إنجازات أجدادهم ويفتخرون بالنسب والأصل العربي، ‏وكأن النسب ذاته إنجاز، لأنهم ليسو شعب حضارة وليس لديهم إنجازات تاريخية أو أن فكرة الحضارة والإنجازات الحضارية ليست من أبجديات حياتهم، ‏لدرجة أن الشعب السعودي أخذ جنسيته من اسم حاكمه وليس من وطنه أو قوميته، وأخذت الدولة جنسيتها واسمها من نسب الحاكم آل سعود.. ‏على غرار الدولة الأموية والعباسية، ومن قبل ذلك الإمام الشافعي ورثة متلازمة الخضوع العربي من جده، فشرع أن الخليفة لا بد أن يكون من أصل ‏قرشي، وكأنه يشعر بأن الدين ليس دين الله وإنما دين قريش، ولا بد أن تستمر زعامتها به، والأمر ليس قدحاً في الإمام الشافعي إنما إبراز فقط لحالة ‏نفسية مرضية اجتماعية ورثها عن جده، وهي متلازمة ستوكهولم العربية.. ‏

وهذه طبيعة العربي على مدار تاريخه، حتى أن سلمان الفارسي رضي الله عنه عندما تقدم لخطبة ابنة عمر ابن الخطاب، ووافق عمر مبدئياً، لكن رفض عبد ‏الله ابنه هذا الزواج لكون سلمان ليس عربي أصيل وإنما من "الموالي" مع أنه صحابي جليل دافع عن المدينة المنورة وجاهد في سبيل الله في غزوة الخندق ‏وأبلى بلاءً حسناً، وكان مقرباً من النبي محمد عليه السلام، لكن كل هذا لم يشفع، وهذا ما قد يوضح لنا مدى أثر الجرعات العلاجية على العقلية العربية ‏العنصرية بالفطرة، ولذلك قال النبي عليه السلام" لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى" كان ذلك محاولة لإخماد نوازع العنصرية في نفوس العرب.‏


هوامش؛
‎ ‎‏ ‏ ‏ 1- ‏‎ ‎السياقات التاريخية التي أثبتها المؤرخون و كتّاب السيرة كثيرة ومتفقة على وقوع استنزاف اقتصادي للمصريين من قبل العرب، وفي ذات الوقت انعدام للنشاط الدعوي الديني و ‏كل المراجع التاريخية ومنها تاريخ ابن جرير الطبري و الكامل لابن الأثير والمغازي للواقدي كلها وغيرها تؤكد ذلك, إلا أن المقام هنا لا يسمح بالتوقف العلمي التام والتمحيص ‏الموضوعي، ولمن أراد الاستزادة عليه الرجوع لتلك المصادر وغيرها من أمهات كتب السير والتاريخ‎ .‎فالغاية من هذه الدراسة ليست التحقيق العلمي بقدر ما هي مناوشة لعقلية ‏القارئ بطرح نبذات ولقطات من التاريخ بمسقطٍ رأسي علها تلفت نظر القارئ لتكوين رؤيته.‏
‏2- مقال للدكتور حسين دقيل بعنوان : من أخلاق المصريين القدماء (ج13) الرفق والأمانة . منشور على موقع ساسة بوست بتاريخ 16‏‎ ‎أغسطس, 2018 على الرابط التالي: ‏
https://www.sasapost.com/opinion/from-the-morals-of-the-ancient-egyptians-c-13-mercy-and-honesty‏/‏

‏3- وللقارئ النبيل أن يجري مسقطاً رأسياً بنفسه من حيث السلوك الاجتماعي بين الشعبين، فهذه طبائع مجتمعات جعلها الله مختلفة عن بعضها بالفطرة ليختبر كل إنسان حسب ‏مكوّناته النفسية ومعطياته، وهذه هي حكمة الله من خلق الأمم شعوباً وقبائل لتتعارف.. ننتظر من القارئ النبيل فتح حوارٍ فكري حيادي ونزيه بمعايير علمية صحيحة، ودون ‏تدخل للاعتبارات الدينية التي غطت تاريخ المجتمع العربي بهالة من القدسية جعلته معصوماً من النقد على المستوى الاجتماعي والسياسي.. لأن الثمرة في النهاية هي ما يقتنع به ‏القارئ، وليس ما اقتنع به المؤلف، لأنه ليس أكثر ذكاءً من القارئ بأي حال، ومن واجب المفكر أن يكون صادقاً وأميناً مع القارئ، حريصاً على أن يطرح الموضوعات بطريقة ‏تحترم عقله وتنشئ قنوات للحوار والفكر والإبداع، ولن ندرك ذلك إلا إذا اشترك القارئ في طرح الأفكار والرؤى التي تعبر عن قناعته هو.‏
‏4 - د. أحمد صبحي منصور في مقال له بعنوان: الباب الثاني موقف المقريزى من اضطهاد المصريين بعد الفتح العربي الفصل الأول ( عصر الراشدين والأمويين ) على الرابط التالي: ‏http://www.ahl-alquran.com/arabic/chapter.php?main_id=336
‏5 - الويكيبيديا : ‏https://en.wikipedia.org/wiki/Qays
‏6 - ‏https://www.goodreads.com/book/show/6670187‎‏ ‏
‏7- مصدر‎: ‎البلد: في مؤتمرها غداً بالفيوم .. القبائل العربية تناقش إنشاء حزب بعد تجاهلها فى الدستور والشورى‎ http://www.el-balad.com/370852








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيتو أميركي ضد مشروع قرار منح دولة فلسطين العضوية الكاملة في


.. بن غفير: عقوبة الإعدام للمخربين هي الحل الأمثل لمشكلة اكتظاظ




.. تاريخ من المطالبات بالاعتراف بفلسطين دولة كاملة العضوية في ا


.. فيتو أمريكي ضد منح العضوية الكاملة لدولة فلسطين في الأمم الم




.. هاجمه كلب بوليسي.. اعتقال فلسطيني في الضفة الغربية