الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الغائب

دينا سليم حنحن

2019 / 5 / 23
الادب والفن




استفاقت على صوت يناديها فنسبته إلى الله كما ينسب كل شيء إلى الله! بحثت عن التعويذة التي وضعتها تحت وسادتها، تفقدتها وعادت مجددا إلى نومها.
علامات كثيرة تدل على أنه ما يزال حيا يرزق، والواقع المرير يؤكد أنه مات وشبع موتا، فإلى أي حقيقة سوف تنتمي يا ترى؟
تنساب أصوات ما إلى مسامعها، تتساءل فتتزاحم الأسئلة في جموح قلبها، تستوي في جلستها فتراودها الأصوات من جديد، تعب أذنيها وتعيث فيها جدلا، تستيقظ من حزنها وتبقى جامدة العينين، تصب نظراتها في البعيد تتأمل اللا شيء، ترسل بعض ما يزف لها عقلها إلى المجهول، إلى هناك الرابض في مكان ما، إلى الساقط في عقلها اليتيم الذي بدا واهنا وعاجزا عن تذكر الأشياء، بل إنه يتذكر بعض الأشياء الهامة، مثلا، لدغة عقرب تركت أثرا في كفه اليمنى ونقطة سوداء كبيرة تشبه حبة الجوز التي حفرت قفاه الأملس!
تشتاق إلى لمس قفاه وتتوق لرؤية كفّهِ (المعقرب) الذي خشيت النظر داخله في يوم ما.
منذ دفن جثته قبل يومين، وهي تحلم بيدها وهي تموج على جسده الجميل الممدد قربها، لقد أطعمته من حركاتها المغرية سابقا وكررتها فتحرّك الميت داخلها وأيقظها من سباتها، حركات رقيقه تشبه حركات عازف يتفقد أوتار عودهِ بقمة إصبعه ليصنع لحنا جميلا يقلده حول عنق طائر سيطير... لقد آمنت أنه سيعود حتى يأخذها معه إلى جهة الأبد!
تلمس بأناملها ظهره فيتجسّد فورا قربها ويخرج صوته من حنجرته القوية، صوته أجش لكنه حنون ويطالبها بالمزيد، وعندما تمرّ الغمامة على حلمها، تستفيق فزعة متسائلة وخائفة، لكنها سرعان أن تعود إلى حلمها وتختفي داخل جسده وهي تتأوه باسمه:
- نصر نصر نصر.
- أمجنونة أنتِ، ألا تكفين عن ذكر اسمي، لقد مت ودفنت، ألا تدركين ذلك؟
نهضت من فراشها، توجّت رأسها بطرحة سوداء وأخفت عيناها بنظارة سوداء ومضت في الشارع العام تحصد استفهامات المتسائلين محتفظة لنفسها بأحلامها البيضاء، غزت ابتسامتها العريضة وجهها الجميل فوصلت إلى صدغيها، وانبعثت من شعرها رائحة الزيت المعطر بزهرة الفتنة ولقمّت شفتيها بالأحمر القاني.
استرخى الوقت بإيقاعات الندى الهاطل على سقف كوخ حافر القبور، نقرت على جدران عقلها، وبخفة ومجون وقبل أن تطرق بابه كان في قبلتها:
- من تكونين ومن أي عالم أتيتِ! سألها الحارس مندهشا
- جئت من حيث لا أدري وربما الملائكة أرسلتني إلى هذا المكان!
- الملائكة! (قال وهو يرتجف) وما وراء هذه الزيارة يا ترى؟
- مجرد طلب واحد بسيط لو سمحت! أجابت
- ما هو طلبك يا ترى؟
قالت له:
- تعال معي.
تعلّق الحارس بيدها وركض خلفها مستسلما، وعندما وصلا معا إلى قبر ما وبأقصى سرعة ممكنة، توقفت عنده لاهثة، أسدلت طرحتها السوداء فغطت وجهها، تنفست الصعداء وبعمق تكلمت:
- سيكون بيننا اتفاق ستنبش هذا القبر!
- ماذا وهل جننتِ؟ لم يمض يومين على دفنه ومحظور علي فعل ذلك، لماذا تريدين نبشه أيتها الآتية من عالم غريب، أرجو أن تعودي من حيث أتيتِ وأن تتركيني لسبيل حالي.
- يا أنتَ من ستساعدني، يجب أن أتأكد أن المدفون هنا هو زوجي، أمنحك مالا وفيرا ينفعك وينفع أسرتك.
شك حفار القبور بحالة المرأة غير السوية والتي هبطت عليه فجأة فقال متهادنا:
- أنا معك يا سيدتي والآن سنحفر قبر الحقيقة!
بدأ يحفر وهي تترقب الحدث وكأنها تترقب لحظات ولادة طفل سيؤم الحياة بعد ولادة متعسرة، وبلغة مبحوحة استرسلت قائلة:
- هيا نرقص معا على ساق واحدة، لنعزّي أنفسنا على هذا العالم الذي لن يستكين ولن يهدأ حتى يستريح، عالم يضعنا دائما في خانة التعاسة، أنظر إلى هذه المقبرة التي تعج بالأسماء، وهل أتينا إلى هذا العالم حتى تصبح نهايتنا هنا؟
وبضحكة عابره تشبه شكل الندم قال وهو يلتفت حوله متخوفا:
- لا تستعجلي يا بنتي، ربما يكون زوجك هنا في هذا القبر، والكل هنا ومنذ زمن بعيد مسكونون بالنوم الأبدي، فدعيه ينام مستريحا، لكن عندما تتجولين في هذا العالم المسمى بالمقبرة سوف تحسين بإيمانك المطلق بأن رقصة السّاق الواحدة قد تنفع، وستعتادين على أن تكوني عداءة تسابق الحياة قبل الممات!
رمت بيديها إلى صدره، شدت عليه بكل عنفوانها وقالت:
- اقترب مني فالأسرار لا تحب الآذان، هل أنت متأكد مما تقوله، هل زوجي مدفون هنا!
و تحولت في لحظات من امرأة قوية إلى أخرى تشعربالعجز فبكت، لكنها سارعت بإخفاء دمعها وشرعت بالصراخ:
- سيعود إلى الحياة فهو لم يمت!
بدأ حفار القبور بالحفر حتى ظهرت الجثة الهامدة، شتم وتوعد ولعن مجاهرا وبحثت هي عن آثار (نصر) حيث الوجه مهشما تماما، لكنها تأكدت أن لا صورة عقرب داخل راحة يده وليس هناك نقطة سوداء مدموغة في قفاه.
رقصا معا على ساق واحدة ودارا حول القبر، ثم سرعان ما أن اختفت وبلمح البصر تاركة طرحتها السوداء على الشاهدة.
وأمضت أياما وهي تتأمل صورته بنهم، لقد تأكدت أن هناك في الأفق ثمة حياة! بحثت في صندوق مقتنياتها عن أشياء تتعلق به ابتداء من خاتم الزواج وحتى آخر ما أهداها إياه أثناء مشوار حياتهما المشتركة الذي توقف في غيابه، قالوا لها سيعود إليك والنصر حليفنا.
عاد الجنود من حرب خاسرة فذهبت لاستقبالهم، يمر عشرات الجنود أمامها، يوجد من عاد مبتورة ذراعه، أو ساقه، أو أذنه، والمحروق، والأعمى، والضائع، والتائه، عشرات الوجوه والرؤوس والأنوف التي لا تعرفها، هو وجه وحيد تعرفه وتنتظره، رأس صغير وأنف جميل وعينان ضاحكتان، لكنه لم يظهر، تطوف صورته داخل رأسها وتداهمها الحيرة، تقف بإصرار أمام الجموع المارة متلمسة الصبر وتعيد رسم صورة (نصر) في مخيلتها.
بساطيل مهترئة وممرغة بالوحل، هرولت نحو كل واحد منهم وبدأت تتفقد راحات أيديهم الواهنة والنحيلة، عيونهم جامدة وملونة بذات الانكسار.
أرادت أن تبصق على العالم، لا يكفي! أن تشتم، لن ينفعها الشتم! أن تبكي، لا أحد يهتمّ! أن تصرخ، لن يصغوا! تمنت أن تبول عليه، أي العالم، لو كانت ذكرا لفعلت!
كشفت عن صدرها وبصقت على الحياة متوعدة فعورتها احتجاجا، وسارت عارية تماما وصرخت:
- هذا ما جنته علينا الحروب يا سادة!
ابتعد العائدون عنها بأجسادهم المتهاوية وخطواتهم المترهلة، رحلوا بقِفاهم وبظهورهم المنحنية وأصبح الطريق مفتوحا على مصراعيه لها، لكنهم تركوا لها كلمة واحدة (مجنونة). إنطفأ الوقت وتوقفت الساعة ولم يظهر (نصر)!
انحنت مهزومة ساكبة دمعها للتراب المبلل بدموع المطر، عفرته على رأسها ودهنت من طينه جسدها العاري، ثم وثبت من مكانها كالمصروعة لتلحق بالجموع وهي ترقص رقصة السّاق الواحدة وتنادي بأعلى صوتها:
- إنه قادم، إنه قادم، قادم...سيأتي ... سيأتي...











التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ


.. كيف أصبحت المأكولات الأرمنيّة جزءًا من ثقافة المطبخ اللبناني




.. بعد فيديو البصق.. شمس الكويتية ممنوعة من الغناء في العراق


.. صباح العربية | بصوته الرائع.. الفنان الفلسطيني معن رباع يبدع




.. الأسود والنمور بيكلموها!! .. عجايب عالم السيرك في مصر