الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


انتحار الشباب العراقي (وجهة نظر مغايرة)

وعد عباس
كاتب وباحث

(Waad Abbas)

2019 / 5 / 24
الصحة والسلامة الجسدية والنفسية


ربما يندهش الإنسان لرؤيته إنساناً يقتل أحد أبناء جنسه نحراً أو حرقاً أو رمياً ... ، ويندهش أكثر إذا ما تمثَّلَ بجثته ، معتبراً ذلك قساوة في القلب ، واضطراباً في النفس ، لكن أكثر الموضوعات إثارة للدهشة أن يقدم الإنسان على نفسه فيقتلها .
"فنحن نندهشُ من تلك القدرة الغريبة التي تمتلك الإنسان، فتولد لديه الإصرار على أن ينهي حياته بقتلها ! والأغرب ما في هذه القدرة لحظة تنفيذ هذا الإصرار ، إنها - في اجتهادي - أفضع مأساة تراجيدية تمثّل فعلاً على مسرح الحياة البشرية ، يكون فيها "البطل" هو القاتل والقتيل معاً ! (صالح ، 2019 : مقال)
لكنه لم يعد غريباً على العالم اليوم ، إذ أصبحَ وباءً ينتشر كالنار في الهشيم ، يحدث على مدار الساعة فتتناقله وسائل الإعلام ، وتتداوله مراكز الأبحاث العلمية ، وتناقشه البرلمانات ، ومنظمات المجتمع المدني ، فهناك 800 ألف إلى مليون شخص ينتحرون كل عام ، أي بمعدل شخص ينتحر كل 40 ثانية ، وفق احصائيات منظمة الصحة العالمية .
لكن نسبه الحالية في العراق ، غريبة على العراقيين كثيراً ، وهذا هو السر في اندهاشهم وتعجبهم ، إذ لم يحدث أن وصل البلدُ إلى هذا العدد الهائل من المنتحرين حتى خلال أيام الحكم الصدامي الذي وصل فيه الفقر مستويات متقدمة .
وما كان من الباحثين العراقيين الذين دفعهم فضولهم العلمي ، وتعجبهم لانتشار الظاهرة ، إلا أن حاولوا التعرف إلى مسبباتها ونتائجها ، والتوصل إلى حلول تحدها ، فأرجعَ أولئك الباحثون شيوع الظاهرة إلى تزايد شدة وحِدَّة الأسباب التقليدية للانتحار بعد التغيير (2003) المتمثلة بانتشار البطالة وتردي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية فضلاً عن بروز أسباب جديدة تمثلت بتوالي خيبات الأمل ، والشعور بالحيف والندم سيما إذا ما قارن الفرد نفسه بغيره من ذوي المناصب الذين يمتلكون المال والجاه والسلطة دون أن يتفوقوا عليه بأي إمكانات معينة ، إضافة إلى الاكتئاب والوصول إلى مرحلة متقدمة من اليأس.
والحقُّ إن هذه الأسباب ورغم أهميتها تبدو تقليدية غير كافية لتفسير الانتشار الخطير للظاهرة في العراق ، ولعل ضعف التحقيقات التي تجريها وزارة العدل بشأن المنتحرين لم توفر البيانات الكافية التي تنفع الباحثين وتجعلهم يخرجون بنتائج أفضل ، إذ لم تذكر وزارة العدل البيانات التي تمكننا من الإجابة على التساؤلات التالية :
- ما نسبة المنتحرين المتزوجين ؟ وغير المتزوجين ؟
- ما مستوى دخل المنتحر ؟ ودخل أسرته ؟
- ما دافع الانتحار الذي تعتقده أسرة المنتحر ؟
- ما التحصيل الدراسي ؟ والمستوى الثقافي ؟
- أكثر المنتحرين ، أمن الريف هم ؟ أم من المدينة ؟ أم من الوافدين ؟
وعلى أي حال فإني حاولتُ قدر الإمكان ورغم قلة المعلومات المتوافرة ، التوصل إلى أسباب جديدة تخص انتشار الظاهرة في المجتمع العراقي ، مع عدم إنكار الدور الفاعل للأسباب التقليدية المذكورة آنفاً ، ولأن الموت يعد محوراً أساسياً للأسباب التي توصلتُ إليها ، فإني فضَّلتُ أن أشرحَ مفهوم الموت قبل الولوج إلى تناول الأسباب.
مفهوم الموت :
إن أبسط تعريف متداول عن الموت هو إنه "نهاية الحياة" ، لكنه بيولوجياً وقانونياً يعني "توقف العمليات الحيوية للجسم المتمثلة بالتنفس والدورة الدموية والقلب والجهاز العصبي المركزي توقفاً نهائياً عن العمل ، أي أنها لن تعاود العمل مرة أخرى" (ياسين ، 2016 :1)
وإن الناس يتعاملون مع حدث الموت ومع الميت حسب معتقداتهم الدينية والثقافية.. فتعتقد المسيحية أن مصير البشر في الآخرة بعد البعث والحساب إلى الجنة أو الجحيم وبذلك يستقر الميت في المقابر الكنسية ومقابر المدينة ، ولا يختلف كثيراً اعتقاد المسلمين بالحياة بعد الموت عن اعتقاد المسيحين ، لكن تختلف طرق الدفن وأشكال القبور وتغسيل الميت وصلاة الجنازة .
أما "الهندوس" فهم يعتقدون بتناسخ الأرواح ، فمصير الإنسان بعد الموت يحدد اعتماداً على أفعاله ، فإذا ارتكب معاصٍ كثيرة سوف يذهب لعالم أخفض وأدنى جزاء أعماله السابقة والعكس صحيح ، ولا يدفن الهندوس موتاهم إنما يقومون بحرقهم تطهيراً لذنوبهم حسب معتقدهم ، فيما ترى "البوذية" إن المثل الأسمى الذي ينبغي أن يصبو إليه الفرد هو الوصول إلى درجة "النرفانا" أي فناء الذات واتصالها بعالم الحقيقة ، ... .
ولا يتوقف اختلاف المعتقد على اختلاف شعائر الموت بل يمتد إلى كل ما يتعلق بالميت من توزيع الإرث ووهب الأعضاء وتنفيذ الوصية وغيرها مما يتعلق بما تبقى من آثار الميت .
وإن الخوف من الموت كان ولا يزال رفيق الإنسان ، لأن الإنسان بطبيعته يعشق البقاء على أن يفنى ، فضلاً عن تعلقه بأحبته في الحياة وتشبثه بهم ، فهو لا يود مفارقتهم ، بالإضافة إلى سبب اجتماعي ينتقل من جيل إلى آخر متمثل ٍ بنظرة المجتمع إلى الموت على أنه أمرٌ مخيف ومرعب ، ولعل هذا الخوف كان ولا يزال هو الذي يحد من ممارسات قتل النفس .
وقد أثبتت العديد من الدراسات قلة انتشار ظاهرة الانتحار بين صفوف المسلمين مقارنة بأتباع الديانات الأخرى ، ولعل العراق كان في مقدمة البلدان التي سجلت أقل الحالات ، ولا شك إن السبب يعود إلى تفخيم الخوف من الموت الذي يمارسه الدين الإسلامي خلال وصفه لملك الموت ، وطريقة قبض الروح ، وماذا يحدث للفرد في القبر ويوم القيامة والحساب ، فضلاً عن التقليد الاجتماعي السائد المتمثل بارتداء السواد على الميت ، و"اللطم" عليه ، بحيث يتبارى الرجال بينهم بالبكاء ، والنساء باللطم والصراخ ، حتى يبدو الموت أكثر رعباً بنظر الناس ، فما حلَّ بذلك الخوف الذي منع العراقيين من الانتحار طيلة عقود ؟ ، وكيف انتشرت ظاهرة الانتحار بهذا القدر الهائل ؟ هل أصبح الفقر أكثر تأثيراً في النفس من (الخوف من الموت) ؟
إن التدبر في الأسباب التقليدية متمثلةً بالبطالة والفقر وضعف الوازع الديني ، يجعلنا ننفي أن يكون لها ذلك التأثير الشديد بحد ذاتها بحيث يصل حدَّ الانتحار ، سيما إذا ما علمنا إن البطالة والفقر كانا أشدَّ وطأة وأكثر انتشاراً خلال الفترة (1990 – 2003م) ، بل حتى موظفي تلك الفترة بمختلف درجاتهم وبضمنهم أساتذة الجامعات كنا نصنفهم ضمن جيش البطالة لأن رواتبهم لا تكفي لسد قوتهم اليومي لو لا (الحصة التموينية) ، بالمقابل لم نجد الانتحار يصل إلى هذا المستوى ، ولا ينبغي أن نتناسى حقيقة إن كثيراً من المنتحرين ليسوا من الفقراء ولا من البطالة ، وكانت لي معرفة شخصية ببعض الذين قتلوا أنفسهم ، أما المعرفة الدينية فإنها كانت أقل مما هي عليه الآن وهذا أمرٌ مسلَّمٌ به
وقد توصلتُ بعد الدراسة والتحليل للوضع العراقي وإجراء استطلاعات الرأي إلى إن هناك ثلاثة أسباب جوهرية تقف وراء انتحار العراقي :
الأول : تغير النظرة إلى الموت لدى المجتمع العراقي :
لم يكن الوازع الديني (الخوف من النار والرغبة في الجنة) وحده الرادع الذي يمنع الفرد من الإقدام على قتل نفسه ، بل الرادع الأساس هو التهويل الاجتماعي لحَدَث الموت ، والتخويف منه ، وعدم اعتياده ، بل يبدو الدين أضعف من أن يفعل ذلك لوحده ، خذ مثالاً استمرار الناس في الزنا ، واعتيادهم اليوم على المثلية الجنسية رغم إن الديانات كلها تحرم ذلك ، بل تعدها من الكبائر وتوعد بنار حامية للفاعلين ، لكن تداول الزنا والمثلية دون أن يكون للمجتمع دوراً حقيقياً في منعهما ، جعلهما ظاهرتين اعتياديتين يمارسان باستمرار ، وهذا بالضبط ما حدث لفكرة الموت في أذهان الشباب .
إذ لم يعد الموت ذلك البعبع المخيف للشاب العراقي ، بل أصبح شيئاً شبه اعتيادي يحدث باستمرار ، الأمر الذي سهَّلَ على الشباب كثيراً الإقدام على قتل أنفسهم بشتى الوسائل .
ودعونا نثبت ذلك بتحليل حادثة جرت خلال احدى المعارك مع داعش ، إذ قَتَلَ القناصُ الإرهابي أحد الشباب المقاتلين بعد خروجه لشرب الماء ، فما كان من صديقه الذي شعر بفقده إلا أن ركض خلفه فقتله القناصُ فوق صاحبه ، فانبرى الثالث والرابع حتى بلغ عدد الشهداء عشرة ، وهذه حادثة من عشرات الحوادث ، فلو كان الخوف من الموت قوياً جداً ومتغلغلاً في النفس كما كان في السابق ، لكان على الأقل منع أحد العشرة من الالتحاق بأصدقائه ، أو جعله يفكر بالوصول إليهم معتمداً على عقله ، لكن الشعور بالفقدان لديهم ، كان أكبر بكثير من (الخوف من الموت) .
وإذا ما قارنا الرغبة بالموت بين المقاتلين في حرب إيران والمقاتلين في الحرب ضد داعش ، نجد شبابنا اليوم يفضلون الموت على أن يجرحوا ، كونهم يرون في الإصابة ذلة ليس بعدها ذلة ، أما المقاتلون في حرب إيران وحسب ما رواه لي المتقاعدون ، فإن أمنية الجميع تقريباً هي أن يصابوا بجرح يخرجهم من الخدمة كي يتخلصوا من الموت ، وقد أقدم كثيرٌ من الجند وقتئذ على إصابة أنفسهم كي يتم تسريحهم من الجيش .
ولستُ أجد لتضاؤل الخوف من الموت إلا سبباً رئيسياً دعَّمته أسبابٌ فرعية ، يتمثل السبب الرئيسي بكون الشباب أقل تشبثاً بالحياة وتمسكاً بها ، ولذلك تراهم يقودون الثورات والتظاهرات ، ويفتعلون العراكات دون أن يفكروا بأن الموت قد يكون نتيجة لما يفعلون ، أما الأسباب الفرعية التي دعَّمَت ذلك عند الشباب فهي :
1.تغير السلوكيات الاجتماعية بشأن الموت :
كانت العائلة العراقية إذا ما فقدت فرداً فإنها تندبه سنوات ، وتبقى تذكره وتحزن عليه بصدق ، ويجيء الناس محزونين مندهشين من الموت ، ويقام العزاء على روحه حتى يتعدى الثلاثة أيام المتعارف عليها ، ويتداول الناس ذلك الحدث بأسى شديد ، أما اليوم فإن تلك السلوكيات تغيرت ، فالعزاء تم تقليصه إلى يومين بل وأقل في بعض المناطق ، وما يكاد الإنسان يُدفن حتى ينساه المجتمع ، بل إن أهله أنفسهم يحزنون عليه أياماً ثم يصبح فقده طبيعياً بالنسبة لهم .
المدهش إن الأصدقاء يذهبون إلى العزاء وهم يضحكون طول الطريق ، ويتبادلون المزاح ، وإذا ما ركبوا سيارة فإنهم يستمعون الغناء ويصفقون معه ، وهذا ما كان يفعله أصدقائي في الجامعة ، فهم يمضون الطريق كاملاً بالمزاح واستماع الغناء فما أن يصلوا مكان العزاء حتى غيَّروا وجوههم ، وأبانوا الحزن عليها والأسى ، فإذا خرجوا من العزاء عادوا إلى سيرتهم الأولى ، وان هذا الفعل يمثل عَرَضاً لاعتياد الموت وسبباً في زيادة نسبة الاعتياد عليه ، وهذا الاعتياد مرتبط بأسباب أخرى سنأتيها تباعاً .
2. شيوع صورة الموت في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي :
تمثل مواقع التواصل الاجتماعي أحد الأسباب الرئيسية في جعل الموت حالة اعتيادية غير مخيفة ، إذ لم يكن الناس في السابق يرون حدوث الموت ولحظات خروج الروح ، فكان يبدو مجهولاً ، وكل مجهول مخيف ، أما اليوم فإن مواقع الأنترنت مليئة بمقاطع الفيديو التي تتضمن حالات قتل وانتحار بمختلف الأساليب المرعبة ، وبدقة رهيبة في التصوير والمونتاج .
أما الأفلام والمسلسلات التي تَعلَّقَ الشباب بها ، فقد أخذت دوراً لا بأس به في التقليل من (الخوف من الموت) بما تصوره لنا من حالات انتحار وحرب وقتال ، دخلت كل بيت عراقي ، وتماهى شبابنا مع أبطالها ، وأخذوا يتابعون حياتهم اليومية بشغف وليس أفلامهم فقط ، بل يحاولون تقليد حياتهم تأثراً بهم ، خذ مثالاً انتشار ظاهرة العراك على طريقة "المصارعة الحرة" في المدارس المتوسطة تأثراً بأبطال هذه اللعبة ، وكذلك محاولة تقليد الممثلين واللاعبين بملابسهم وقصات شعرهم وأسلوب حياتهم .
وهذا ما لم يكن موجوداً أيام النظام السابق ، أساساً : كان عدد "التلفزيونات" قليل جداً ، حيث أتذكر إن بعض أعمامي والجيران يجتمعون في منزلنا لمشاهدة التلفاز إذا ما بدأت مباراة لمنتخب العراق ، بسبب عدم وجودها في منازلهم ، عكس هذا الزمن الذي امتلأت فيه المنازل بشبكات الأنترنت والتلفزيونات ، خاصة التلفاز إذ أصبح جزءاً تقليديا من أثاث الغرفة ، والأدهى الكم الهائل للقنوات التي يسحبها "الستلايت" دون أن تكون هناك أدنى رقابة على المحتوى الذي تبثه .
وقد تنبأ الدكتور الوردي بوصولنا إلى هذا الحال منذ زمن إذ أجرى محرر جريدة الاتحاد حواراً مع عالم الاجتماع العراقي الدكتور الراحل علي الوردي ، سأله فيه عن الحضارة الحديثة ، فأجابه الدكتور بما مضمونه :
"فهي – يقصد الحضارة – تضعف العقيدة الدينية وتؤدي إلى تفكك نظام العائلة ، كما تؤدي إلى انتشار الاكتئاب والانتحار والانحراف" (الوردي ، 2011 : 206)
3. تكرار فكرة الانتحار :
يعد التكرار (التراكم) أحد قوانين العقل الباطن والذي يعني : أن أي شيء تفكر فيه أكثر من مرة وتعيد التفكير فيه بنفس الأسلوب وبنفس الطريقة سوف يتراكم في العقل اللاواعي، كمن يظن نفسه متعباً نفسيا فيأخذ بالتفكير في هذا الأمر ثم يرجع في اليوم التالي ويقول لنفسه أنا متعبٌ نفسيا وكذلك الأمر في اليوم التالي، فيتراكم هذا الشيء لديه يوما بعد يوم، كذلك كمن يفكر بطريقة سلبية فيبدأ يتراكم هذا التفكير لديه وكل مرة يصبح أكثر سلبية من المرة السابقة وهكذا.
والظاهر في الأمر إن تكرار مفردتي "الموت والانتحار" وشيوعهما في الحياتين الحقيقية والافتراضية ، بل وشيوع مشاهدهما الحقيقية والتمثيلية بشكل فيديوات مصورة ، والتفكير فيهما بشكل مستمر سيما بمساعدة رجال الدين الذين دائماً ما يطلبون من الناس التفكير بالموت والآخرة ، جعلهما شيئيين اعتياديين ، غير مخيفين كما في السابق .
الثاني : بروز الانتحار باعتباره حل :
لم يكن الانتحار بارزاً على الساحة باعتباره أحد الحلول الممكنة للفقر والبطالة والمصائب الأخرى ، فيمكن تشبيهه حينئذ بجهاز لم يكتشف وبالتالي ليس استعماله بمستطاع ، لكن شيوعه اليوم ، أو قل اكتشافه باعتباره أحد الحلول الممكنة للمشكلات الاجتماعية والاقتصادية ، جعل الشباب تتبانه باعتباره حلاً ناجعاً لكل المشكلات التي عجزوا عن حلها .
الثالث : طبقية الفقر :
أرجع الدكتور قاسم حسين صالح في مقالته الأخيرة ظاهرة الانتحار إلى تطور الأسباب التقليدية ومنها الفقر والبطالة ، وتوالت الردود التي تذم مقاله ، قائلين : إن الفقر في تسعينات القرن الماضي كان أشد ، ولم نصل هذه النسبة من الانتحار ، والحقُّ إن اعتراضهم هذا فيه شيءٌ من الغفلة ، لأن فقر التسعينات كان موزعاً بالتساوي ، إذ كانت الغالبية تعاني الفقر والبطالة ، حتى الموظف نفسه كان فقيرا بسبب عدم كفاية الراتب الشهري الذي يحصل عليه من الحكومة ، أفلا تتذكرون كيف كان الناس يعجبون من البيت الذي يحتوي (مكيفاً للهواء) أو المنزل ذي الأرضية المرصوفة بالكاشي أو السيراميك ؟!.
ولأن الفقر كان موزعاً بالتساوي تقريباً ، ويشمل حتى البعثية أنفسهم ، إلا من وصل مراتب عليا جداً في الحزب ، فإن تأثير الفقر كان أقلَّ وطأة على الجهاز النفسي للإنسان ، أما اليوم فإن الوضع مختلفٌ تماماً ، إذ أصبح الفقرُ طبقياَ ، فهناك طبقة كبيرة من الناس تحصلُ على امتيازات أو رواتب عالية جعلتهم في ترف من العيش ، بينما تبحث طبقة أخرى عن لقمة العيش فلا تجدها ، الأمر الذي ولَّدَ شعوراً بالنقص والذل والدونية ، والإحباط واليأس ، وفقدان الأمل ، والظلم والغبن ، سيما إذا ما قارن نفسه بأصحاب الثروات والامتيازات الذين لا يراهم يتفوقون عليه بأي شيء ، سوى إن الحكومة ميزتهم ، فضلاً عن إن الأسواق لا تحسب للفقراء حسابا ، لأن أسعار السلع ترتفع بارتفاع الرواتب ، ما تسبب بهوة واسعة بين الفقراء وبين استعادة أنفسهم .
ولا ننسى تطور مفهوم الفقر بدخول الحضارة الحديثة إلى العراق ، فإن كان الفقير قبل التغيير (2003) هو من لا يملك قوت يومه ، فإنه اليوم من لا يملك مبردة للهواء ، وثلاجة للماء ، ومبلغاً يكفي لدخول أبنائه المدرسة ... الخ .
استنتاج :
نستنتج مما سبق إن الأسباب التقليدية كالفقر والبطالة وسوء الأوضاع الاجتماعية لم تكن تؤدي إلى الانتحار في زمن كان فيه الموت يمثل حدثا مرعبا غير معتاد ، فضلا عن الانتحار لم يكتشف باعتباره حلا للمشكلات التي تواجه الفرد .
توصيات :
أولاً / إلى الحكومة والجهة المسؤولة :
- مساعدة أعضاء الجمعية النفسية العراقية ، أو دعم وتكليف مجموعة من الباحثين في علم النفس وعلم الاجتماع لدراسة انتشار الظاهرة والوقوف على مسبباتها ونتائجها ووضع الحلول لها .
- تقليل الفوارق الطبقية .
ثانيا / إلى الأهالي :
- ضرورة التواصل مع أبنائكم وتقليل الفجوة التي خلقتموها ، والاطلاع على مشكلاتهم ومساعدتهم في حلها .
- عليكم أن تدركوا بأنهم "خُلقوا لزمان غير زمانكم" فلا تقيدوهم بالتقاليد الاجتماعية البالية وتفرضونها عليهم ، كمنع الفتيات من الزواج ممن أحبنهم ، والالتزام بالتقاليد التي تحافظ على الأخلاق فقط .
- إن الله خلقَ الناس مختلفين على مستويات مختلفة من الذكاء والقدرات النفسية والجسدية ، فإن فشل ابنك في الدراسة ، فربما ينجح في العمل ، وإن فشل في مهنة ما فربما يفلح في مهنة أخرى ، فكفوا عن التوبيخ المستمر لأبنائكم ، وحاولوا أن تغرسوا الثقة في أنفسهم ، وتتقبلوا رسوبهم إذا كان مستواهم العقلي لا يؤهلهم ، ورحم الله الأصمعي حين قال " لا يزال الناس بخير ما تباينوا، فإذا تساووا هلكوا " .
- مراقبة الأطفال وتجنيبهم ممارسة الألعاب الحربية ، ومتابعة المشاهد العنيفة الحقيقية منها والتمثيلية .
ثالثاً / إلى الشباب :
- عودوا إلى رشدكم ، وحاولوا التقليل من متابعة المشاهد العنيفة ، ومسلسلات الحب والخيانة التي تتداول الانتحار باعتباره حلاً طبيعياً للمشكلات لأنه يؤثر في عقلكم الباطن دون أن تنتبهوا .
تنويه قبل الختام :
كل التحليلات الواردة في الدراسة إنما هي نسبية لا مطلقة ، مثلاً : الخوف من الموت موجودٌ لدى الشاب العراقي لكنه معدوم مقارنة بحجم الانفعالات الأخرى ، ولا يعني كلامي إن العرقيين جميعا انعدم الخوف من الموت لديهم بل تبقى مسألة نسبية تتبع الطبيعة النفسية للفرد وخبراته السابقة عن الموت .
المصادر
- ياسين ، د .مخلد جمال (2016) ، تعريف الموت ، محاضرة في مادة الطب العدلي ، جامعة أهل البيت ، كلية القانون .
- صالح ، قاسم حسين (2019) ، انتحار الشباب ، مقال منشور على حسابه الرسمي في فيسبوك ، 25 أبريل 2019م .
- هليل ، سعدون (2011) ، علي الوردي في النفس والمجتمع ، مكتبة بساتين المعرفة – شارع المتنبي ، ط1 ، طباعة في لبنان .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عاجل.. شبكة -أي بي سي- عن مسؤول أميركي: إسرائيل أصابت موقعا


.. وزراءُ خارجية دول مجموعة السبع المجتمعون في إيطاليا يتفقون




.. النيران تستعر بين إسرائيل وحزب الله.. فهل يصبح لبنان ساحة ال


.. عاجل.. إغلاق المجال الجوي الإيراني أمام الجميع باستثناء القو




.. بينهم نساء ومسنون.. العثور جثامين نحو 30 شهيد مدفونين في مشف