الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شارع الحرية 20

هيثم بن محمد شطورو

2019 / 5 / 26
الادب والفن


لم تـتـوقع منية من صديقـتها هذا الوجه المرح، وهذا الوثوق بالنفس. انها مندهشة من تغير ألوان صديقـتها. كانت سلمى في السابق تـلون وجهها مسحة من الكآبة شبه دائمة حتى وان ضحكت، اما الآن فقد انـقـلبت الى تماوج المرح بشكل ساطع على وجهها حتى وان كان مزاجها غير رائـق.
قالت منية لسلمى:
ـ يـبـدو ان أصل الانسان هو المرح، وما الكآبة إلا نـتاج التربـية والبـيئة والثـقافـة. كم أصبحت جميلة.
قالت سلمى:
ـ انه الحب.. إني أحب. يا الاهي ما أروع هذا الإحساس. كم هو ساحر؟
ـ الحب؟
ـ أحمد. كم هو ساحر..
قالت منية بابتسامة ترسمها على وجهها:
ـ اوه.. فعلا. انه ساحر. انه رجل استـثـنائي. انه لا يُـقارن..
تساءلت سلمى قائـلة:
ـ كأنك تحبـينه انت كذلك.
ضحكت منية وقالت:
ـ طبعا..
اكتسى جو الغرفة بصمت متـفكر من كلتيهما، تساءلت على إثره منية:
ـ هل يحزنـك ذلك؟
قالت سلمى وهي تحدق بعينيها في عيني صديقـتها محاولة فهم ما تـفصح عنه العيون:
ـ طبعا.. كم كان يسعـدني لو قـلتي أنك تكرهينه..
نفخت منية الهواء من فمها معربة عن الانفعال، وتساءلت:
ـ حقا؟ لو كرهته لجعلتـك تكرهينه.. على الأقـل لزرعت الشك فيك منه. كان من الممكن ان أكون حاسدة اياك فيه فأقـوم بدور إبعادك عنه، وتـفسير كل شيء في اتجاه يجعلك تـشكين فيه وفي كلماته وتصرفاته.. انت تعرفين تلك اللعبة الحقيرة التي تمارسها كثير من بنات البوم الناعق مع صديقاتهن..
ابتسمت سلمى وقالت:
ـ أعرف أنك أرفع من ذاك المستوى. لكن بصراحة.. أخبريني الصدق.. هل حدث بينكما اتصال؟
ـ طبعا.
وسكـتـت، فـتـساءلت سلمى من جديد قائـلة:
ـ أقصد هل جمعتكما علاقـة؟
تساءلت منية بتغابي مقصود:
ـ هل تـقصدين الجنس؟
أبعدت سلمى وجهها عن صديقتها وكأنها لتطرد الفكرة من رأسها ثم قالت:
ـ نعم. هذا ما أقصده.
بعد نظرات متبادلة بينهما، قالت منية:
ـ نعم..
غطت سلمى وجهها بكفيها. قامت منية من مجلسها وهي تـقول:
ـ هذا هو الصدق. أنا حرة والحرية تعني الصدق مع النفس ومع الآخرين. لا يمكن ان نبقى أصدقاء ونحن بوجهين متـناقضين نخـفي حقيقـتـنا عن بعضنا. انا لا يمكن ان أقبل بذلك.. ثم الجنس ليس جريمة. بالعكس. انه متعة وفكرة ان المتعة جريمة هي الفكرة المجرمة لأنها تـقسمنا في دواخلنا نصفين متـناقضين، وتلك هي أساس كل الامراض والجرائم والحروب والمظالم والعنصرية وكره الواحد للآخر.. هل كنت سعيدة لو كذبت عليك وقلت لك عكس الحقيقة؟ هل ستكونين سعيدة وانا أخونك بالتـظاهر بعكس الحقيقة؟
قالت سلمى:
ـ ولكن انت تعرفين منذ البداية أنى أحبه.
ـ صحيح. ولكنك لا تملكينه ولا يمكن لاي انسان ان يملك انسانا.
قالت سلمى:
ـ أنت تبررين الخيانة..
ـ أنت تبررين أنانيك المقيتة، او بالأحرى عقلية التملك الحقيرة. انت بشكل واهم تـفكرين في نفسك كمركز للكون. لا يا صديقـتي. أفيقي. لا يمكنك خداعي بهذه الأفكار البالية التي تخفي غريزة تملكية حقيرة. انت تريدين احتكاره وستـفـشلين، وستعيشين الكآبة كأغلب التعساء في نظام التملكية، لأنه هو بالذات كائن حر وواعي بحريته.
ـ هل كلمك عني؟
ـ لا. ولا كلمة. لكني أعرفه أكثر منك لان علاقـتـنا كانت حرة وتـلقـائية وبمستـوى الأفكار التـقدمية التحررية التي نؤمن بها. لماذا نخاف الصراحة والصدق؟ لان ثـقافة البؤس العامة هي ثـقافة الخوف والفصل بين حقيقة الناس بعضهم عن بعض وعن أنفسهم أصلا. ثـقافة ان لم تجد ما تخافه تخاف الخوف ذاته. أي حياة هذه في الأكاذيب.. نعم. مارست الجنس مع احمد الى حد الغثيان..
وحين اقـتربت منية من باب الغرفة لتغادر، التحقت بها سلمى لتمسكها من ذراعها وهي تـقول:
ـ أرجوك لا تـتركيني هكذا.. لا تـذهبي الآن.. حدثيني بكل شيء.. لا بـأس.. سأحاول تـفهم الأمور..
قالت منية:
ـ أن نحب لا يعني ان نملك او ان نحتكر. ان نحب يعني ان نؤمن ان للحب ألوانا مختـلفة كحديقة زهور متعـددة الألوان.. ان نحب يعني ان نـتعلم كيف نحب بعمق. ذاك العمق الذي يجعلنا أصفياء وصادقين. لا يمكن لحب ان يقوم على النـفاق والأكاذيب وثـقافة البؤس المنحطة التي تؤسس للكراهية بين البشر..
مسكت سلمى الذراع الأخرى لمنية وقالت بملامح وجه يترجى:
ـ أنا النار تـشتعل في قـلبي. انا في قـلب الجحيم. أفكارك جميلة ورائعة ولكني أشتعل.. أرجوك.. ربما لا تـفهمين هذا الشعور وربما أنا لا أفهمه كذلك.
وبكت وهي تـقول:
ـ إني أحبه بجنون. أتعرفين ذلك؟ هل سبق لك ان أحببت شخصا ما بجنون؟ أقصد ذاك الحب العميق الذي يهزك هزا من نفسك.
تراجعت منية عن الباب نحو الفراش الذي كانـتا جالستين عليه. جلستا جنبا الى جنب مثل العادة، وكل منهما تـتـساءل فيما بينها وما بين نفسها:
ـ هل بالضرورة يكون علينا العلم بكل شيء؟
قالت منية:
ـ أعتـقد ان مشكلتـك الحقيقية هي أنك تحبـين ولكنـك ترفضين الحب خوفا على نـقـائـك المزعـوم بينك وبين نفسك. هذا التـناقض هو ما يشعلك. في كل الأحوال لا يمكن قول كل شيء..
قالت سلمى:
ـ بل قولي كل شيء ولا تـتركي شيئا. أريد معرفة كل شيء حتى ما تعتبرينه عديم الأهمية..
وأخبرتها بكل شيء، بما فيه ما اعتبرته منية غير ذي أهمية، وهو خروج احمد الى الشرفة حين كانت منية تغـدق غادة بلسعات العصى على مؤخرتها. خروجه الى الشرفة أصبح شيئا فشيئا هو الحدث الرئيسي بالنسبة الى سلمى. كأنها روح استمعت الى تـشنجات روحه على الشرفة. كأنها ترى دائرة الضوء فيه في الشرفة. كأنها تلاقت معه وأحبا بعضهما في تلك الشرفة. كأنه بحث عنها في تلك الشرفة. كأنه جاوز حد العالم المادي يبحث عن الروح والحب الروحي اللانهائي الكوني في تلك الشرفة..
***
عند نـزول منية من عندها رافـقـتها سلمى، لتـؤكـد حرصها على استمرار صداقـتهما، ولتعرب لها بالفعل عن تـفهمها لموقـف وأفكار صديقـتها، بل قالت سلمى:
ـ هناك ما يدعوني الى التـفكير في صدق موقـفـك ومنطقيته إذا علوت على نفسي، والنفس كما تعرفين أمارة بالسوء. بل ان ما تـقولينه لا يزيدني إلا حبا فيك.. في الوقت الذي تـتحدثين فيه، كان دوار يعصف بعـقـلي ووجداني، أما الآن فإني أجد نـفـسي أريد معانـقـتـك.. فعلا، هناك قيمة أخلاقية كبرى يتأسس عليها هذا المنطق وهو الصدق. فعلا نحن نـفـتـقـد الى الصدق والمصارحة لأنـنا نخاف من أنـفـسنا ومن الآخرين.. فعلا أنت حبـيـبـتي..
ضحكت منية، وكسى وجهها السرور والبهجة المعتادة. مسكت يد صديقـتها وهي تـقول:
ـ أرجوك تـوقـفي لحظة..
توقـفت سلمى فعانـقـتها منية وقبلتها في عنـقها، حتى ان سلمى عبرت عن تـفاجئها بالابتعاد قليلا وهي تـقول بوجه كساه الخجل:
ـ هكذا في الشارع؟
قالت منية وهي تـقـترب الى صديـقـتها:
ـ كم أريد تـقبـيلك الآن من رأسك الى أصابع رجليك.. هيا اصعدي معي.. إنك تـثورين على نفسك.. شكرا للحب.
قالت سلمى:
ـ ماذا تـقـولين يا مجنونة؟ اوه.. غير معقول (بابتسامة خفيفة تعرب عن التهكم).. سأتركك الآن..
قالت منية:
ـ تخلصي من عـقـدك وحزنـك الدائم. الحياة نعيشها مرة واحدة وأعظم ما في الحياة الحب. هو السعادة والبهجة. الحب بكل تـنويعاته وأمواجه وألوانه. أحبي الحياة تحبك الحياة. فالمؤكد أن الحياة تحاسبنا على عدم البهجة والمرح والسعادة بالأمراض في البدن والنفس، وبالتعاسة في وجودنا.. الكآبة عدو الحياة.. هذا ما هو مؤكد وهذا هو الحساب المؤكد، فهل من الممكن ألا نخاف الحساب المؤكد لأجل حساب غير مؤكد..
نظرتها سلمى بعينان تـفكران، ثم قالت لتـنهي اللقاء:
ـ يعني أنت لست ملحدة بل من جماعة الاأدرية..
قالت منية:
ـ لا هذا ولا ذاك. أنا لا عنوان لي سوى أني أفكر وفق ما أراه أنا صائبا..
نظرت صديقـتها بحدة ثم قالت:
ـ ماذا أقول؟ في الحقيقة انه منطق صائب.. يعني أنا أفكر إذن أنا موجود.
قالت منية:
ـ نعم. أعظم ما زرعه العصر الكولونيالي التـنويري في بلدنا. أنظري بنايات شارع الحرية بهذا الجمال الكلاسيكي الصامد الذي يشهد بتلك العظمة..
وفعلا أخذت تحدق في معمار شارع الحرية وكأنها تكـتـشفه من جديد. تساءلت منية قائلة وهي تمسك يد سلمى برقة:
ـ هيا اصعدي معي..
رأت نظرات شهوانية من صديقـتها أخافـتها فـقالت:
ـ لا. علي ان أذهب.
تركت منية يدها وهي تـقول:
ـ اوكي. على كل هناك تـقدم كبير قد حصل الى حد الآن..
في طريق عودتها إلى البيت التـقـت بأحمد. بدا غريـبا وكأنه ليس بالشخص الذي ذابت فيه حبا.
" هل أنت ذئب أم بشر؟ هل أنت جميل أم قبيح؟ هل أنت طيب أم خبيث؟ ..."
بدا واضحا تــقلب مزاجها من خلال وجومها.
" يبدو ان منية قد سردت لها ايقاعات اللذة التي جمعتهما مع غادة. اعرف ان ذلك ليس بنية التخريب وانما بنية التـثوير والتـنوير وبناء الأخلاقية الجديدة لأخوية شارع الحرية التي تحدثـنا عنها. لكن هل هو الوقت المناسب لذلك؟ أشك في ذلك. ها أنا أشك في ذلك بكل تأكيد واضح من ملامح وجه سلمى".
هكذا كان يفكر ما بينه وما بين نفسه في تلك اللحظات. تساءل بضيق:
- ما بك سلمى؟
كما الجرس يدق. تحولت نظرتها من الذهول إلى الاحتـقار. بنبرة جافة قالت:
- لا شيء.
- أخاف أن يكون هناك سوء فهم جديد.
رمقـته بنظرة لم تخلو من الازدراء، وقالت بنبرة متوترة متسارعة:
- بدأت أفهم الأمور جيدا. الوقت متأخر. يجب أن أعود إلى البيت.
- هل اصطحبك؟
سكـتـت. رافـقها إلى باب العمارة. حزينة إلا أنها أحست بالدفء والأمان معه. أحست بنفسها امرأة. " ما أحلى هذا الشعور"..
في الطريق سألها:
ـ انـتـظرتك اليوم في "مسك الليل".
قالت بنبرة متسرعة منـفعلة:
ـ مثل ما انــتظرتك انا البارحة وقبل البارحة ولم تأتي.
ـ قبل البارحة كنت مع غادة في لقاء الوداع. سافرت بالأمس الى لندن لتسافر في قلب العالم. البارحة كان لي لقاء مع كاتب جميل جدا، حيث استغرقـنا الوقت في حوار شيق مطول.
تساءلت وهي تـنظر اليه:
ـ يعني رحلت غادة؟
ـ نعم رحلت غادة. ربما لن نلتـقي مكانيا الى الابد. سنكتـفي باللقاء الزمني.
تساءلت:
ـ لم أفهم.
ـ يعني سيقـتصر لقائـنا في عالمنا الداخلي من ذكريات واحاسيس وفكرة كل منا في ذهن الآخر.
هكذا كانت شبه صامتة. كانت مضطربة. حالة من التوتر الواضحة برغم تماوجها أحيانا في لجج من الترنيمات المبتهجة التي تـقطعها بسرعة. لكن باعتبار ما انـتهيا اليه من وئام فإنها تبدو عازمة على الرحيل هي بدورها. تأكد لديه هذا الحدس حين وصلا الى محيط العمارة التي تسكن فيها. سألها قائلا:
ـ على كل في الغد في نفس الموعد في "مسك الليل".
قالت:
ـ لا مسك الليل ولا مسك النهار.
قال:
ـ أنا في نفس الموعد وأنت حرة.
في الحقيقة لم تـقصد هي القطيعة، وانما ما قصدته دون إدراك لما قصدته (في حينه) هي بدورها هو رغبتها في التـقدم بالعلاقة، بحيث ان لقاء المقهى لم يعد يتسع لعواطفها وأفكارها وحالتها النفـسية الجديدة.
بات ليلته والوساوس تـقض مضجعه. أدرك تماما بأنه أحبها أما هي فان إحساسها بكرهها للبيت قد تعاظم في تلك الليلة، وخصوصا كرهها لأمها رغم أنها في نفس الوقت كانت تلوم نفسها لإحساسها ذاك..
***
ولم تأتي الى مقهى "مسك الليل" بمثل ما توقع في اليومين اللاحقين لآخر لقاء بينهما، وهكذا تملكه الحزن، وانـتابه إحساس الإختـناق من تلك الحالة من الارتباط العاطفي والغرابة المتولدة عن الاشتياق لمن خلق الانفصال ما بين الذات وذاتها.
وهو الآخر بقدر تـناميه الشعوري النبيل على مدى تطور حياته، الا ان أقصى ما يمثل له لحظة فارقة مؤلمة وكريهة على النفس، هو الالتـقاء بنفسه وكأنها هاربة منه او منـفـلتـة الى آخر، بدأ الحب يلعب تلك اللعبة الحارقة المؤلمة من الافتراق الغير معقول لديه. فباعتبار ايمانه بالتـقابل بين الأشياء، فإنه شبه متأكد انها تحمل نفس الوهج العاطفي، ولكن الفارق ربما في مازوشية الأنـثى التي تجعلها تـلتـذ بذاك الألم الناتج عن الابتعاد. مازوشية يخالطها الخوف من الاستسلام ربما، او بالأحرى مازوشية تـلتـذ بنفسها كعملية تطهير للذات. ذاك التطهير المنعكس من الطمث الذي يعلق بالنفس الأنـثوية كـقـذارة محتومة لعينة.
وبكل ما تحمله تلك النفس الزكية من اختلالات بيولوجية تـنعكس روحيا في مجمل تـقاسيم الأمزجة العاطفية المتـناقضة والمتـنافـرة، بل أحيانا تجدها كأنها تمتلئ بدوار عاصف يتجلى في أوجاع المفاصل وغثيانات الأمعاء وارتطام المأكولات في المعدة التي تريد عصر الوجود كله، فتستسلم لما يسمى أوجاع المعدة. كل تلك الأخلاط العجيـبة بين البـيولوجي والروحي وانعكاساتها المحولة الحب الى مصيـبة، كان من الممكن إيجاد حل بسيط لها، وهو اعتبار الطمث عمل تـنـقية طبـيعية لأكبر آلة إنـتاجية في الطبيعة، هي آلة الخصب والحياة، التي هي الأنـثى، وبالتالي تـنـقـلب المسألة بقلب الوعي بها من الدناسة الى النـظافـة..
وهكذا كان يكتب على هذا النحو في مقهى "مسك الليل" محاولا تـفسير المخاضات العاطفية، عله يخفف من وطئها على نفسه، ومن سطر الى سطر، كان يعي بنفسه هو بذاته يتماوج بانـتـقال متسارع ومتـناوب بين الجنة والجحيم، بذاك الإحساس العذب الذي يبعثه الحب في النفس، ولعله من شدة تعلقه باللحظة العذبة السرمدية في وجدانه بقدر محاولة عقله في انتاج المنطق الذي يمكنه من تجاوز حالة الحب المتماوجة بين المقت والتعلق. وبما انه كان حديث الإلتـقاء بالفيلسوف الألماني " إيمانويل كانط" في تلك الفترة، فإنه كتب مازجا بين المنطق الكانطي والمنطق الافلاطوني..
" ليس من شأننا إدراك الا ظواهر الأشياء أما الأشياء في ذاتها او النومين فلا يمكننا ادراكه ابدا. وهنا، فانه يـبدو بشكل واضح ان العاطفة ما هي الا أفكار غامضة وما ان تـتجلى في وعينا بوضوح حتى نتمكن من التحكم فيها وتوجيهها وفق ما يحتكم اليه عقـلنا. ونسعى الى اعتبار ما يسمى بعاطفة الحب بالمبهمة، بما هو نحن مجرد ظواهر وتجسيدات لنومن معين خفي عصي عن الادراك، لأن وجودنا المجسد يوهمنا بأنـنا كائـنات قائمة بذاتها كأفراد، بينما الحقيقة أنـنا تمثيلات لنومن معين يتجسد في عدة افراد من الممكن أصلا ان يكونوا قد عاشوا في فترات تاريخية مختلفة، كما ان عددا منهم يعيشون في نفس الفترة، ولكن جميعهم حقيقـتهم غير المدركة هي ذاك النومين الذي يوحدهم في العمق. ذاك النومين الموجود ربما في عالم المثل. لأجل ذلك فهناك تمظهر جمالي معين يتجسد هو الذي يجذبني. في الحقيقة انه نفس النومين الذي يوحدنا كأفراد جزئيـين ولكن تصور لنا أوهامنا أنـنا قائمون بذواتـنا كأفراد. النومين الإنساني هو فكرة واحدة متعددة التجسيدات مثل الواحد رياضيا المتعدد بشكل لانهائي وهو موجود في الاثنين والمليون والترليون، ولكن بما نحن عقل يفكر فان هذا الاكتـشاف يجعلني كفرد واعي بنفسه ومتملك لها بإمكانه ان يتحرر من المقابل الجمالي المعين، وهو على ثـقـة تامة انه سيتعرف على مقابل جمالي آخر كتمظهر جسداني معين، ولكن من الناحية العقلية يكون أقدر على التوافق معه. وبالتالي فإن نهاية حب معين لا يعني ان الحب في ذاته قد مات، وانما ما مات إلا تجسيد معين له لا يتحقـق معه التوافق العقلي الضروري في هذه الأرض لأجل الاتحاد. ذاك الاتحاد الأرضي الذي هو اتحاد بعض خلايا النومين نفسه، اما المتعة العظيمة للحب بحيث تـتحد فيه الذرات المكونة للنومين فانه من الممكن ان يكون في عالم آخر بقوانين أخرى.
الحقيقة ان الفرد كل، لذلك لا يـبـلغ حقيقـته الا بدرجات، كما يعيش غالبـية البشر خارج حقيقـتهم ككل في وعيهم برغم انهم يعيشون ككل بالرغم عن وعيهم القاصر، ولكن العيش بدون هذا الوعي الكلي هو مأتى الشقاء الانساني.."
***
أما سلمى فـقد اعتكـفت في بيتها ليومين. وما كان لنفس شفافة مثلها الا ان تحاول التريث مع نفسها، وما عليها اذن سوى محاولة الإتـقاء من شر العاصفة التي تـقـلب كيانها رأسا على عقب، بمثل ما كانت ترى نفسها في تلك اللحظة. وهي حقيقة ما كانت أبدا لتـتخيل ضياع نفسها بذاك القدر من الاندفاع، او ما رأته اندفاع نحو اللذة، برغم كونها تعتبر اللذة الروحية الطليقة التي نحصلها بالكتب الجيدة والايمان بالله كأعظم لذة يمكن للإنسان تحصيلها.
لأجل ذلك، فإشعاعات الروحانية المركزة تـنعكس بوضوح في محياها وطريقة مشيها، وبالأساس في توقد عينيها المشعان بجمال سماوي. هي كانت بكل بساطة تطرد كل متعلق بها، وقد كانوا كثرا الا انهم لا شيء بالنسبة لها.
كانت تحاول بدورها إيجاد منـفـذ عقلي من شأنه ان يساعدها في تملك نفسها من جديد، برغم وعيها بانجرافها العاطفي غير المسبوق، منذ لحظة مقهى "مسك الليل" خاصة.
لم تـقرر أي شيء، وانما جل ما في الامر انها أرادت التريث للتأكد من نفسها أولا، وفي النهاية فإنها تؤمن أن العواطف الحقيقية يـبعثها الله في الأنـفـس، وهي من بعض آياته العظيمة في الوجود.
ولم تكن قد قررت قطع الإعتكاف في اليوم الثالث، منذ لقائها مع منية التي كانت تـتـراءى لها أحيانا كروح ابليسية. كان قد جد حادث خارج ارادتها، وهو موت ابن عم أبـيـها، وبالتالي ضرورة سفر أبـيـها وأمها الى الجنوب لأجل التعزية. كان عليها ان تبـيت لوحدها تـلك الليلة، ولكن أمها رأت ان تبـيت عند منية. برغم ان المقـترح تضمن عندها تـذكر تهافت منية اللذوي معها في آخر مرة الا أنها وافـقـت.
وهكذا، خرجت مع أمها وأبـيـها عصرا من الشقة، وافترقا لينحوا نحو محطة القطار في ساحة "برشلونة"، ولتطير هي الى منية.
***
وقد شغلته فكرة "النيومن"، وربطها بفكرة "أخوية شارع الحرية" كمشروع فكري واجتماعي حضاري، فقرر أن يـبدأ العمل باستـقطاب الأشخاص اللذين رأى أنهم شبـيهون به، وبالتالي فهم هو من حيث انهم ينحدرون من نيومن واحد. فكر في صديقه عبد العزيز وصديقه جمال وعدة أصدقاء آخرين، وكنموذج حي بالنسبة له ليس أي ثورة من الثورات أو أي زعيم أو نبي، وإنما النموذج هو أخوية شارع الحرية بمثل ما جسدها ثلاثـتهم، أي احمد وغادة ومنية، وذهب خياله الى أن التأسيس بعنصر الأنـثى والجنس والحب كجوهر للأخوية من الناحية الواقعية والفكرية، هو ما يعطي إجابة جوهرية لأجل الثورة الحضارية الإنسانية القادمة.
وبعد ان ذهب الى شقـته في عصر ذاك اليوم ليغـتسل بعد انهاء العمل، خرج متجها الى مقهى الفولكانو، عله يجد عبد العزيز أو جمال أو أي صديق ليـبدأ معه مشروعه الحضاري. وفعلا فقد وجد جمال. وإنه بذلك وجد ما يشغل به نفسه كي لا يفـترسه الحب وينهك قواه الروحية ويستعبده.
إلا أن الحب غمره في شبه غـفلة عن نفسه، فعند خروجه من المقهى صحبة صديقه جمال، تحسس إصبعا يدق على ظهره، فالتـفت فكانت سلمى كأجمل ما تكون. كانت تبتسم، وقالت انها كانت بالداخل مع منية، ولم تـشاءا ان يقطعا لقائه بصديقه.
قام بتـقديم صديقه لهما، كما قدمهما له، فتبادلوا التحية بالأيدي، وقال لمنية:
ـ جمال أخ لنا من نفس النيومن.
تساءلت منية قائلة:
ـ نيومن؟
ـ آه. لم أعلمك بالجديد في الاكـتـشافات النظرية لدي. يعني إمكانية انضمامه الى الأخوية.
ـ أخوية شارع الحرية؟
ـ نعم.
توجهت منية الى جمال قائلة:
ـ هل انت مستعد للدخول في الأخوية؟
قال جمال بكل حبور:
ـ حدثـني الآن عن الأخوية الحضارية. ابداع جديد. أرى انها فكرة جميلة. سأكون سعيدا برغم ان المسالة يلزمها نـقاشات كثيرة وعمل نظري شاق، يعتمد على الثـقة في النفس والخروج من لحظة الصدمة البونابرتية، وبالتالي الخروج من مطلب اللحاق بالغرب الى مطلب ابداع وجود كلي جديد وحضارة جديدة.
ابتسمت منية، وقالت:
ـ بهذه السرعة بلغت جوهر الموضوع؟ لا شرق ولا غرب ولا جنوب ولا شمال.
قال جمال:
ـ فعلا هذا هو جوهر الموضوع. إنسانية حرة منـفـتحة على بعضها. الله واحد أحد ووجودنا كوني لانهائي..
قالت منية:
ـ سأصافحك من جديد اذن.
ومدت يدها فـتـصافحا من جديد الا أنها قبلته على وجنـتيه كذلك وهي تـقول:
ـ هذه فاتحة "أخوية شارع الحرية"..
ضحكوا جميعا. كانت سلمى مسرورة جدا لكلمات جمال " الله واحد أحد ووجودنا كوني لانهائي"، حتى أنها رددت نفس الكلمات لجمال وهو يودعهم.
زالت كل هواجسه، وعاوده فوران العاطفة ناحية سلمى المشرقة الوجه بشكل لم يعهده فيها من قبل. يا لروعة سلمى حين انـقـشع عنها الضباب. شلال حياة يتدفق بغزارة وزقزقة الحب تمطر مسامعي. أخبرته بموضوع موت ابن عم أبيها وأنها ستبـيـت ليلتها عند منية، إلا أن منية قالت:
ـ ما أحلى الحب. كم أتمنى أن أكون معكما هذه الليلة.
هكذا كأنها دفعت بهما في الماء للسباحة. أحست منية بشهقة كليهما من خلال صمتهما ونظراتهما المستـفسرة والمرحبة بهذه الدعوة التي لم يكن لكليهما أن يتجرأ بقولها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با


.. شراكة أميركية جزائرية لتعليم اللغة الإنجليزية




.. الناقد طارق الشناوي : تكريم خيري بشارة بمهرجان مالمو -مستحق-


.. المغربية نسرين الراضي:مهرجان مالمو إضافة للسينما العربية وفخ




.. بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ