الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تونس والوجه الآخر للديمقراطية

رضا لاغة

2019 / 5 / 29
مواضيع وابحاث سياسية


في التفكير الجيوبوليتيكي تتقدم قضية الدولة ـــ الأمّة بحدّ ذاتها لتحتلّ الأولوية على حساب قضية نظام الحكم، ذلك لأنّ دراسة نظام الحكم هو رهن التفاعل الاجتماعي في مناخ من الحرية داخل إطار الدولة. غير أنّ ما يثير الدهشة في التجربة التونسية التناقض العجيب الذي اتّخذ شكلا مأساويّا وجعل من سيل الحراك الثوري سببا حرّك المجتمع نحو الإسلام السياسي كمواجهة لنموذج يزعم أنه عقلاني أو حداثي، ولا يعرف من الحداثة والعقلانية سوى جانبها العياني الشكلي و الذيس صنع رجعية بادئة في تقويض المسار الثوري هذا التناقض نفذ حتى إلى أعماق المسألة الدستورية (1). ولعلّ هذا التعارض العجيب هو ما يبرّر الحكم اللاذع الذي صاغه فتحي المسكيني على الثورة التونسية بكونها لم ترق بعد لتمثّل مفهوم المواطنة بالمعنى الكانطي للكلمة.
إذا كانت الحداثة تربط التقدم بالثقافة و تعارض المجتمعات في صورتها التقليدية وتفسّر كل حدث اجتماعي أو ثقافي وفق محور التراث / الحداثة، فإنّ فهمنا للحداثة يخرج بالضرورة عن نطاق الفعل التاريخي حتى لا يقع احتكارها على الغرب. إنّ هذه الفكرة مهمّة لكي يتسنّى لنا توضيح معطى ممارساتي يتعلّق بالمسار الثوري الذي حصل في تونس.هل هو صياغة معاصرة مرتبطة بعملية التحديث أم هو مجرّد استفحال لتفاقم الأزمة؟
انطلاقا من هذه النقطة بالذات تبرز أهمية هابرماس في كونه يؤسّس صلاحية جديدة للحداثة. وهو ما يقودنا إلى سؤال مهمّ نصوغه كالتّالي: هل يكمن للحداثة أن تنفصل عن الإطار التاريخي الذي ظهرت فيه؟
هل أن الحوار الذي تدعّم بين الفاعلين السياسيين و منظّمات المجتمع المدني يختزل وجه من وجوه العقلنة ليغدو ممكنا الحديث عن خصوصية تونسية باعتبارها مظهرا من مظاهر التحديث؟
في هذا نستحضر خط رئيسي يحمل نزعة تقريضيّة للتجربة التونسية. نحن هنا إزاء جائزة نوبل الدولية للسلام التي تعتبر شكليّا اعتراف دولي واف مشفوع برضى عن التّوافق الذي حصل كانتصار للعقلانية.
ومع أنّ مثل هذا التقييم يظلّ في نظرنا مجرّد فرضيّة بحثيّة تحتاج إلى تمحيص، إلا أنّها تضعنا مرّة ثانية في موقع معاكس للمسلّمة التي صاغها فتحي المسكيني أو على الأقل تمنعنا من قبولها دون تفكير؛ إذ أن الوضعية الأصليّة التي انطلق منها تؤكّد أنّ "انتفاضات الشباب العاطل في هذا العام لا علاقة لها بأيّ هوس ليبرالي فرداني بحماية الحقوق الفردية من الاعتداءات الخارجية. فهذا الشباب لا يملك شيئا يمكنه أن يحميه. ولذلك من السّخرية بمكان أن نحكم على ثورته بأنّها فردانية أو نابعة من حسّ ليبرالي .(2)
لنفترض أن أعمق سوء فهم يمكن أن نقيمه لأنفسنا هو أن نعتقد في أصالة ما يقوله عنّا الآخر. ولكن ذلك لا يعفينا من طرح سؤالين أساسيين: الأول لماذا لا يجب أن نقبل بسهولة هذا التّبجيل الذي أظهره الغرب للثورة التونسية وهي التي سلكت مسارا عربيا مغايرا نأى عن النعرات الطائفية والعرقية والعنف الدّموي؟ والثاني ما الذي يعوز المجتمع السياسي لاستيعاب عملية التّحديث ضمن مساره الثوري الذي قوّض الدكتاتورية وانتهى إلى انتخابات ديمقراطية تستجيب للمعايير الدولية؟
ولو شئنا مزيد تأصيل هذا الطابع الإحراجي لمطلبية هذين السؤالين يمكننا أن نعود لإشارة آلان تورين في "كتاب نقد الحداثة "و هو يناقش أطروحة ماركوز عندما بيّن أنه "إذا كانت الفكرة الثورية تقوم على الاعتقاد بأن السلطة تتحطّم بفعل تناقضاتها وليس بحركة اجتماعية، ينبغي أن نقبل بأن الأزمة الثورية غريبة عن الديمقراطية وأنها بطبيعتها تؤدّي إلى معاداة الديمقراطية" (3). أي ان فاعلية فعل الرفض بالنسبة للثائر هو البذرة الأولى للتأسيس الايجابي للديمقراطية. وهو معطى حظي بفروق ذات دلالة احصائية مهمّة بيّنت أن الشباب ذو ميول ثورية تبحث عن ما هو جديد من مبتكرات سياسية هيّئت في نهاية المطاف أجواء لحياة ديمقراطية. لذلك فإن جدلية السؤال و الجواب التي كشفنا عنها إلى حد الآن هي وحدها التي تمكّننا من تحديد نمط هذا الحراك الثوري: هل هو علامة على القفز إلى ما فوق الهوية أو ممارسة ذات أصول ليبرالية، ربما تكشف بنيتها التأويلية عن اقتباس لا واعي لحياة الغرب الديمقراطية؟
لنتفق أوّلا أن المقوّمات الفلسفية لأطروحة فتحي المسكيني لا تقطع مع الحداثة بل إن لها انشغال بالفكر الحداثي من جانب بحثها في الأسس والقواعد التي يجب أن تقوم عليها كل قراءة نقدية لعصرها. وبمقتضى هذا المعيار يتّضح لنا أن الحداثة "ليست مفهوما سوسيولوجيا، ولا مفهوما سياسيا أو حتى مفهوما تاريخا، إنها نمط حضاري خاص يتعارض دوما مع نمط التقليد" (4). إنها تحيل من منظور هابرماس إلى خلخلة بنيوية توّجت بقرار تحطيم التصوّر الباطني للكوجيتو. إن مثل هذه الخلخلة تعني وفق العقلانية التواصلية، تدعيم موقع العقل التشاركي ليشمل كل ضروب المعرفة. إنه أداة جوهرية
لممارسة النقد من أجل الخروج بالأنا أفكر من جوّانيّته أي من حالته السلبية والدفع به لكي يتعايش مع الآخر. وهي عند فتحي المسكيني "مساءلة للتراث بوصفه مصدرا للحداثة دون أن ننزلق في مرافعة هووية عن أصولنا" .(5)
هنا تتجلّى التجربة التأويلية في واقعنا المعاصر كمهمّة عسيرة؛ إذ أن ماضينا وتراثنا يحضرنا كصيغة لوجود سعيد و نهائي و مغلق. فما يخترقه التأويل (كتمرين للتفلسف) هو هذا السعي الصارم لاستقبال الهوية كحقيقة مطلقة لا مفكّر فيها. لعلّ ذلك ما حدى بفرانسوا ريقيل للإشارة إلى معضلة مفهوم الثورة التي تكفّ عن الوجود متى امتزجت بتهمة التعصّب العقائدي. "لا يمكن القيام بثورة ارتجالا أو بتعصّب عقائدي. فبين الثائر المبهم الذي يتخيّل أنه سيخترع كل شيء في حينه وبين الثائر العقائدي الذي لا يهمه إلا أن يعرف هل تشبه ثورته هذه الثورة أو تلك من الثورات السابقة، وهل تجري حسب الأصول.يتّبع الثاني، ذو الروح الثورية الحقيقية، أسلوب الابتكار المجهّز سابقا والذي يبقي باب المبادرة مفتوحا دائما أمام الجميع" .(6)
من هذه الوجهة تعتبر الثورة وعيا متجددا في مخبر التاريخ.إذ " لم يعد هناك اليوم،حتى في الأحزاب الشيوعية الغربية من يجزم بأن الإتحاد السوفياتي ما زال المثال للثورات في الدول الأخرى. إن الامل لقيام اشتراكية ذات وجه انساني وانتظار التحرير التلقائي للنظام يصابان دائما بالخيبة" . (7)
وفق هذا الأساس نستطيع أن نتبيّن الصعوبة المنهجية في التعاطي مع مفهوم الثورة "الذي يظلّ محتفظا بقدر من الغموض خصوصا إذا ما آثرنا،عند مقاربته، حصر الأسباب الموضوعية التي تقف و راء اندلاعها" (8). لذلك نقترح استبدال سؤال السببية بسؤال الكيفية أي محاولة فهم "منطق اشتغال الثورة". و لعل الصورة الأكمل حسب هشام جعيّط تتّضح من خلال التعريف التالي: " أعرّف مفهوم الثورة ليس فقط بوصفها تزيل حكما سابقا لسبب ما، و إنما لأنها تقام على رؤية مستقبلية، على تغيير عميق في اتجاهات المجتمع" . (9)
إن العالم العربي في نظر هشام جعيط انفتح حقا في المرحلة الأخيرة من حداثته على أفكار التقدّم و التغيّر الاجتماعي و الثورة.و لكن المشكل كما يطرحه الكاتب هو كيف تتحول الديمقراطية إلى إيديولوجيا كبرى، و لكنها ليست دوغمائية، تنضاف الى كل الايديولوجيات الطوباوية الاخرى، بل تتعالى عنها و تتجاوزها.
إن هذا التأسيس في قلب السياق الثوري اصطدم منذ بدايته بنقاش قانونيّ جعل ما حصل يبدو وكأنه محصورا داخل قناة إصلاحية. فلو تأمّلنا مثلا الجدل القانوني الذي صاحب هروب رئيس الجمهورية، كذات قانونية و تجلّيات المأزق القانوني. فرغم دلالة الفروق الاحصائية المرجّحة لمفهوم الثورة، فإن التعقيد الذي يعترضنا يتّصل بمنطق الاصلاح الذي اعتمد منذ بدء الاحتجاجات و الذي يتعارض من حيث جوهره مع الفعل الثوري الذي يقوم عادة على النسف و التدمير و التغيير الجذري و النوعي.
إن الطابع الاصلاحي الذي نسب للثورة نلحظه في اعتماد الحكومة المؤقتة على الفصل 57 من الدستور لإعلان حالة شغور في منصب رئيس الجمهورية.
إن ما حدث بحسب أستاذ القانون الدستوري محمد القاسي(10) هو مسخ دستوري، لأن الاستناد إلى الشرعية الدستورية يعدّ بدعة في فقه القانون باعتبار أن الشرعية كلّية ولا تتجزّأ. إن التقليل من مخاطر هذا التشويه ولّد نفسا معاديا يسمح برفض مصطلح الثورة. لقد كان من الممكن، في نظر محمد القاسمي الاستناد إلى الفصل 53 من الدستور الذي ينصّ على أن للرئيس المؤقّت، طبقا للسلطة الترتيبية المخوّلة له، أن يبعث مجلسا لحماية الثورة، تكون مهمّته سنّ قوانين انتخابية مؤقّتة يصعد بموجبها أعضاء الجمعية التأسيسية لحماية الثورة.فلماذا تعاطت الحكومة المؤقّتة مع الفصل 57 وأغفلت الفصل 53؟
هناك صعوبة كبيرة في أن نخلص إلى إجابة شافية، إذ يتعلّق الأمر في هذه الحالة بالقانونية والمشروعية. فظاهر المسألة قانوني وعمقه متضمّن لأحكام تتصل بالمشروعية. هذا التمييز يتّضح من خلال تأسيس الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات بدل مجلس حماية الثورة.و قد ورد في مشروع المرسوم المتعلّق بتحديد نظام انتخاب أعضائها مبادئ أساسية نذكر منها الفصل 32 و33 و 34 من الباب السادس:
الفصل 32 :"تحدث بمقتضى هذا المرسوم هيئة عمومية مستقلّة تسمّى الهيئة العليا للانتخابات التأسيسية".
الفصل 33: "الهيئة العليا للانتخابات التأسيسية، هي هيئة مستقلة تتمتّع بالشخصية المعنوية و بالاستقلال المالي وتتولّى الاشراف على تنظيم العمليات الانتخابية لغرض اجراء انتخابات حرّة و نزيهة وشفّافة".
الفصل 34 :" تتولّى الهيئة العليا اعداد مختلف العمليات الانتخابية وتنظيمها والاشراف عليها. و لهذا الغرض تسهر أساسا على :
1. وضع القواعد والأسس المعتمدة في العمليات الانتخابية وتطبيق القانون الانتخابي للجمعية الوطنية التأسيسية و ضمان تنفيذها.
2. اعادة وتنظيم وتنفيذ العملية الانتخابية وفرز الأصوات والتصريح بالنتائج.
3. ترسيم الناخبين بسجلّ وطني تتولّى الهيئة العليا مسكه و تحيينه.
ولا يخفى على أحد أنه عندما تختزل العقلانية الثورية فيما هو أداتي و تفرض موضعة المسار ضمن اجتهاد قانوني، ندرك حسب محمد القاسمي كيف ولد من جديد العالم القديم ليبقى مبررا في وجوده ؛ أو على الأقل جعله يتعايش سويّا مع الجديد. هذا التعايش يمكن معاينته على الوجه الأفضل من خلال وجود رموز قديمة في قلب العملية السياسية. وبالتالي اضفاء مشروعية على الحكومة التي تريد أن تثبت أنها أيضا حداثية وليست حركة مضادة للخيار الديمقراطي.
إن هذه النتيجة تدفعنا إلى طرح التساؤل التالي:من هم الفاعلون الواقعيون الذين يحملون لواء الثورة؟
إن هذا السؤال يضعنا إزاء ما يشبه الثقافة الشعبية التي اعترفت رسميا بعدم وجود قيادة للثورة.لذلك سنحاول أن نبحث في الأهمية المركزية المعطاة للعلاقة العاطفية للقيادة كمفهوم يحضر بقوة في الصيغ التاريخية للثورات ولا يمكن قبوله بسهولة ضمن الثورة التونسية.
المراجع:
1 -مسودة 2014 أحدثت شرخا عميقا بين الأحزاب الحداثية و الترويكا
2 - فتحي المسكيني، مقال بعنوان: الثورة و الهوية،الحوار المتمدن.عدد 3264، 01/02/2011
3 - تورين آلان، نقد الحداثة ص 219.
4 -La modernité encyclopédie universaliste corpus 15.Paris 1992
5 - فتحي المسكيني، الحرية و الهوية،نحو أنوارية جديدة ( بتصرّف)،ص 21
6 - رياح التغيير الجديدة، تر، فؤاد مويساتي، دار الآفاق الجديدة، ص 12
7 - نفس المرجع، ص 12
8 - أنظر كتاب ثورة تونس : الأسباب و السياقات و التحدّيات، مجموعة من المؤلفين، مهدي المبروك،ثورة الكرامة و الحرية: قراءة أوّلية في الخلفيات الاجتماعية و الثقافية للثورة التونسية، المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات،، ط1، فيفري 2012، ص 163.
9 -هشام جعيط، مداخلة في الندوة الفكرية، ستة سنوات في مسار الثورة التونسية: الأولويات و التحدّيات،مركز الدراسات الاستراتيجية و الدبلوماسية، يوم 14 جانفي 2017.
10 - خبيبر لجنة التشريعات و القانون الدولي لدى منظمة الأمم المتحدة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهاجمة وزير الأمن القومي الإسرائيلي بن غفير وانقاذه بأعجوبة


.. باريس سان جيرمان على بعد خطوة من إحرازه لقب الدوري الفرنسي ل




.. الدوري الإنكليزي: آمال ليفربول باللقب تصاب بنكسة بعد خسارته


.. شاهد رد مايك جونسون رئيس مجلس النواب الأمريكي عن مقتل أطفال




.. مظاهرة أمام شركة أسلحة في السويد تصدر معدات لإسرائيل