الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ربيع المشافات الحلقة 12

دينا سليم حنحن

2019 / 5 / 31
الادب والفن




(رحلة الى القارة الأسترالية)

الحلقة الثانية عشر


توقظني (تمارا) صباحا وتخاطبني بكل حماسة وبصوتها العالي تعتذر لي عن تأخرها، سوف نقضي معا يوما واحدا فقط، وأصرت أن تصحبني معها في رحلة جميلة، اقترحت أن أقضي بعض الأيام عند والديها في منطقة (بايرون بي) والتي تبعد 165 كم، وحتى حين عودتها من تغطية برنامج توثيقي في (اندونيسيا)، قرأت عن المنطقة لكي أفهم إلى أين سوف تأخذني هذه الصديقة المشغولة جدا.

لم تكف (تمارا) في التحدث عن نفسها، وعن انجازاتها الكثيرة والمثيرة في الإعلام ونحن نمتطي سيارتها السريعة على الطريق السريع، هذه الثرثارة تطلب رأيي في مواضيع شتى وحوارات مختلفة ستجريها لصالح صحيفة يومية، مكررة اعتذارها لي بسبب تأخرها، وبصفتي قادمة جديدة، لم أترك مكانا عبرنا فيه إلا ووضعت فيه بصمة نظراتي المسحورة بجمال الطبيعة الأخاذ.

قالت لي بثقة:
- سوف تحبين المكان كثيرا!
قلت في حماسة واضحة:
- أكيد سوف أحبه فقد أصبحت ومنذ وصولي إلى هنا ابنة الطبيعة!

وأردفت (تمارا) قائلة:

- كاتبه رومانسية مثلك لن تبارح المكان حتى تخرج منه بنوبل.
- نوبل؟ أحلامنا الكبيرة لا تتحقق يا عزيزتي! (قلت في سري)

خشعت أمام المنظر الذي كان أمامي، أو الحقيقة تقال هي أني خشعت خوفا من هذا العملاق الذي يبدو أمامي بكل هذا الارتفاع، لأول مرة أعهد بحرا بهذا السمو!

ظهر المحيط بشموخه من وراء المرتفعات، لقد التقطت مشهدا جديدا، الألوان الرائعة للأفق، والأرض الواسعة التي تكسوها الأشجار، الخضرة تعم المكان وتنتشر الأزهار بجميع أطيافها وأنواعها على طرف الشارع، وشمس خجولة ترسل بعض نورها الى قطرات المطر والتي لمعت بدورها ألوانا تتلألأ على ورقيات الشجر المرهفة. احتجبت الأشعى أحيانا خلف الغيوم المشبّعة بالماء، ثم سرعان أن تنسحب فتغادر في أقصى سرعة لتظهر مجددا في سماء صافية، ثم وبعد برهات تنغمس السماء بمداعبة الغيوم من جديد فتظهر عدة أقواس قزح معا في صحن السماء، نزلت قطرات الماء بثقلها على زجاج المركبة، ثم يعتدل الجو وتسافر السحب مجددا مع الريح، يتحول الجو إلى حار وتعود الشمس لكي ترمي عبئها من جديد على الكون الواسع، ما أوسع الكون هنا وما أكثر غيومه، متقلب المزاج هو!

لم أستطع تمييز فصول السنة في استراليا، بدا لي أنه لا فصول سنوية هنا، فالفصل يتغير كلما امتطينا المسافات وكلما توغلنا أكثر نحو (بايرون باي) اعتدل، يا لهذه المسافات التي تكتسي بربيع دائم، تمنيت لو قضيت ربيع عمري هنا، فرقة (آبا) تغني أغنية عن النقود، (ماني، ماني، ماني...) وصاحبتي تغني معها وهي تهز أردافها، لاحظت (تمارا) شرودي فأغلقت القرص المدمج وسألتني، وكانت أسئلتها جريئة:

- أكيد تفكرين بشيء هام!
أجبتها محتارة بالسؤال:
- مثل ماذا يعني؟
- يا دينا ألا تعلمين أن وجهك يبوح بمكامنك دون أن تدري؟
- وجهي أنا؟
- نعم وجهك مرآة وعينيك تسرق أعماقك؟
- لم أفهم قصدك!
- معناه أني أستطيع قراءة دواخلك!
- ليتكِ تفعلين!
- سوف أكتشف جميع أسراركِ!
- لن تستطيعي!
- هل نتشارط على ذلك؟
قالت (تمارا) بكل ثقة وأجبتها أيضا بملء الثقة:
- نعم نتشارط، لكن على ماذا؟ أجبتها
- على زجاجة نبيذ. أجابتني.
- موافقة.

ماذا تعرف (تمارا) عني حتى تتشارط معي على ما توحي به عيناي من نظرات الرهبة أمام كل هذا العالم الجديد، هذه العملقة والعظمة، الطبيعة، المحيط الذي يحيط بهذه القارة من جميع الجهات، الأنهار التي تنساب في أراض شاسعة خضراء، الطيور، الناس ولطفهم، وماذا أيضا، ألا تعرف (تمارا) أنني من الأرض الغاضبة جئت والى أرض أخرى مغتبطة هبطت وأنني مهما طرت أبقى ابنة الأرض.

- هل توافقين؟ أعادتني (تمارا) مجددا من وحي أفكاري!
- أوافق على الشرط، هههههه سوف نشرب الليلة نبيذا على حسابكِ يا (تمارا)!
- بل سوف نشربه على حساب روائيتنا العاشقة!
- عاشقة؟ فاجأني جوابها، كيف علمت أني عاشقة للطبيعة والناس، الشمس والقمر، جميع الكائنات، أنا فعلا عاشقة الليل والفجر، النهار، الشروق والغروب، الكواكب البعيدة القريبة، عاشقة الأزهار والشجر والبحر، لم تخمن، فقد كسبت الشرط وشربنا النبيذ مساء على حسابها!

انحدرت (تمارا) بسيارتها بأقصى سرعة، في ميراثون غير عادي لتصل بعد ساعتين تقريبا منطقة تدعى (بايرون بي) وهي منطقة ساحلية تقع في أقصى شرق ولاية (كوينزلاند) الواقعة على حدود ولاية (نيو ساوث ويلز)، وتبعد حوالي 790كم من مدينة (سيدني)، عدد سكانها 6000 نسمة، وهي منطقة واقعة في منحدر خطر يؤدي الى غابات شاسعة تطل على المحيط، أما بيت والديها فجميل وأنيق، لقد قررا قضاء الباقي من عمريهما في خلوة تامة، في أحضان الطبيعة الغريبة وانتكاساتها، يمتلئون خاشعين من سحرها وبطشها أيضا.

تكونت المنطقة من عدة جبال بركانية، و(بايرون بي) رأسا جبليا يشبه اللسان، يمتد الى داخل المحيط فيكسر الشاطيء الثائر بأمواجه، مدينة سياحية جميله وهادئة، يؤمها المتزلجون وراكبي الأمواج والفضوليين أمثالي.
كانت سابقا مستوطنة للفلاحين ومصنعا للألبان، لها ميناؤها ومنارتها وتكثر فيها السلاحف البحرية والدلافين والحيتان.

عمل والد (تمارا) حارسا ليليا للمحمية الطبيعية في المنطقة، واحترفت والدتها الرسم وكانت تدير دارا للفنون التشكيلية، كانت لي بمعيتهما أجمل وأثمن الأوقات، اضطررت خلالها برمجة يومي المبتديء مساء والمنتهي فجرا.

صحبني (سميث) والد (تمارا) وهو من أصول إيرلندية معه إلى عمله، بعد إلحاحي المكرر بالذهاب، مدوّنة بذلك أحداثا نادرة لن أنساها.

الليلة الأولى:

هبّت عاصفة مفاجئة، تلاطمت الأمواج فغمرت الشاطيء بأكمله، انقطع التيار الكهربائي فذعرت طيور الليل التي أخذت تتسابق إلى ملاجئها، كان همّ (سميث) هو حمايتي أولا لأني أبديت بعض التخوف، وهدفه الثاني هو نجدة السلاحف البحرية التي ملأت الشاطيء بعشراتها أثناء المد والجزر، حاولنا سحبها نحن الاثنان معرضين أنفسنا للغرق الأكيد بعد أن شجعني الاقتراب منها، حاولنا إعادتها إلى المياه لكن عادت بها الأمواج الصارمة مجددا إلى الشاطيء.

لم يكن يعلم بأني لا أتقن السباحة وأنا بدوري لم أعلم إنني أستطيع السباحة، إلا في ذلك الليل العسير، لم أفكر بالغرق بقدر ما فكّرت باجتياز مغامرة مائية كنت بحاجة إليها أعادت القوة إلى نفسي.

مغامرة السلاحف هذه، ذكرتني بالماضي القاتم الذي عشته عندما قاومت بدون سلاح، وحضرتني عشرات المواقف التي مرت على حياتي وأنا على شواطيء عديدة في الجانب الآخر من العالم، كان الشاطيء ملاذي وكنت ابنته، أجلس وأروي حكاياتي له وهو يستمع لي، أجمل ما كتبته عرف فيه البحر أولا، وأجمل دموعي ذرفتها هناك، وأجمل قصيدة تركتها هناك، قصيدة ما كتبت حروفها من ذهب لكنه انصهر وذاب وضاع، ربما استطيع أن أكتب قصيدة جديدة هنا!
وقفت مشدوهة أمام المشهد، خجلت من نفسي واستغرقت في التفكير، عدت لكي التقي بالأمواج فأحاول المساعدة قدر الإمكان، لكن صعب جدا على من يخاف الأمواج الخوض فيها، ومن لم يتعود السير على الرمل لن يصل بسرعة، خوض المياه العالية هنا شر لا بد منه، هذه المياه الحيّة التي لا تموت تدعني إلى خوض الحياة مجددا وبأكثر شجاعة!

بزغ الفجر واتضحت الرؤية، عشرات السلاحف تصارع الموت على الشاطيء وعشرات المنقذين من أهل المدينة هرعوا للنجدة بعد أن طلب (سميث ) ذلك، أراهم يلهثون ويبكون، يفشلون ويحاولون مجددا، يا لها من مهمة صعبة، ويا لهذه القلوب الرحيمة، منذ وصولي وأنا أتعلم دروسا في الأخلاق وحسن معاملة الحيوان، مسكين الحيوان المنبوذ في العالم الذي أتيت منه، لقد تعبت من المقارنة!

فتيات وفتيان، شيبا وشبابا، يخوضون المحيط بزوارقهم لكي يعيدوا السلاحف إلى الماء، قاموا بحملها بثقلها من الشاطيء وهم يلهثون، هي مشاركة حقيقية جميلة في العمل، مهمة شاقة وصعبة، يلزمها قوة العضلات وحب الوطن.

وعند عودتنا قامت والدة (تمارا) بتضميد جراحي، ارتجفت بردا، ربما بسبب الحمى التي ألمت بي فجأة، كم أنا مدللة! لمت نفسي على هذا الدلال، أصرت على أن تعطيني المسكّن، ناولتني حبتان، سألتني إن كنت بحاجة إلى طبيب فأجبت مصرّة بالنفي، إنها لا تعلم أن طبيبي هو الشعر الجميل، وعندما نعست عيناي تذكرت هذه الأبيات للشاعر الكبير محمود درويش حين قال لريتا:

- والبحر نام أمام نافذتي على إيقاع ريتا
يعلو ويهبط في أشعة صدرها العاري
. . . .
. . . .
سألت يديها، فالتفتُ إلى البعيد
البحر خلف الباب، والصحراء خلف البحر
. . . .
أتى عليّ النعاس، لم أعلم إن كان السبب هو المهديء الذي تناولته أم التعب والإرهاق، كم أنا مرهقة، نمت ولم تكتمل القصيدة بعد!

يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال


.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81




.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد


.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه




.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما