الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بيت المال الحرام... يؤسس دولة المؤمنين (4)‏

محمد مبروك أبو زيد
كاتب وباحث

(Mohamed Mabrouk Abozaid)

2019 / 6 / 1
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


عرفنا في المقال السابق أن الحضارة العربية التي قامت وازدهرت في بغداد والأندلس لم تكن عربية الأصل بل كانت من بقايا الحضارة الفارسية، ولم ‏يشترك فيها رجل واحد من العرب لأن العقلية العربية سادية سيادية وأدبية الطابع وليست علمية بأي حال، ولهذا اشتغل العرب بالسياسة والأدب فقط ‏دون العلم والفكر... وعرفنا أن العشيرة العربية القرشية يغلب عليها طابع البداوة، ولهذا كانت ‏دولتهم ذا طابع منفرد غريب عن غيرها من الدول والحضارات الأخرى. فقد قامت بحركة عسكرية عنيفة جداً نزفت الكثير من الدماء البريئة، وأيضاً ‏عاشت عمراً قصيراً جداً لم يتجاوز أربعة قرون من عمر الزمان، ومعروف أن القرون في عمر الحضارات لا تعني شيئاً لأن عمر الحضارة يُقاس بالألفية ‏وليس بالقرن، فإذا كانت الحضارة العربية قد عاشت أربعة قرون فقط وماتت فهذا يعني أنها كانت طفلة أجهضت في شهرها الرابع ليس أكثر لأن أمها ‏في الأصل عاقر.. وما زالت عاقراً، حتى أن التجربة الحضارية القديمة للعرب قبل الميلاد كانت عاقراً أيضاً، ففي القرن السادس قبل الميلاد قفز شيخ عربي اسمه "ابن كلّدة " على العراق وأسس دولة هناك صارت هي الدولة الكلدانية، وكان تأسيس مجرد هيكل سياسي قائم على القدرة على السيطرة لا أكثر، ولهذا استمرت مائة عام فقط وسقطت، فهي لا تعتبر تجربة حضارية ولم تشهد أي حراك حضاري وعلمي أو فني ومعماري، إنما فقط هيكل سياسي من النوع العربي المعهود، وهو ذاته ما تكرر حينما هجم العرب على الشام والعراق بعد رحيل النبي وأسسوا دولة في هذه المنطقة امتدت أفقياً شرقاً وغرباً لكنها لم ترتق رأسياً بأي حال ولم تعمر فقد سقطت بعد 400 سنة فقط من قيامها كالعادة، إذن هي ليست تجربة حضارية يمكن مقارنتها بالتجارب الحضارية في الصين والهند ومصر القديمة. وهذا ما يدفعنا نحن المصرين إلى توعية أنفسنا وإخواننا الشاميين والعراقيين والجزائريين وغيرهم من مغبة الوقوع تحت ‏الغبار الثقافي والفكري العربي... فالعرب قد نفثوا ريحهم النتنة في أوطاننا، وما زلنا إلى اليوم نتنفس غباراً عربياً يجعلنا مسطولين طول الوقت، مغيبين عن الحقائق، ولا ندرك ‏ببديهية أن العقلية العربية أدبية وليست علمية، وأنها الأكثر خطورة على الشعوب المدنية لأنها تهب من الصحراء كما الرياح محملة بالغبار .. وللأسف ‏الشديد فإن هذا الغبار العربي القرشي تلفع بستار الدين فأساء إلى الدين وغيّب عقولنا لدرجة أن بعضنا إلى اليوم ما زال ينادي بالقومية العروبية وكأنها ‏شرف ! ‏

والملاحظ أن انهيار الحضارة العربية كان على يد أبنائها العرب وليس على يد المغول بقيادة هولاكو؛ لأنه بالتزامن، وتحديداً في القرن الثاني عشر ‏ميلادي، كانت الصراعات قد انتشرت في نفوس الجميع.. الصراع ذاتي مجتمعي، وعقلي جمعي.. سياسي وفكري وديني ومذهبي.. ولم تكن الحضارة ‏العربية ذات حكم واحد مركزي سياسياً أو جغرافياً، بل اتخذت من البلاد المستعمرة مقرات لحكمها، وانقسمت إلى فرقتين من العرب حكمت سلالتهم ‏في العراق وفي الأندلس، بينما بقي الشعب العربي الأصلي في شبه جزيرة الحجاز يعيش حياة البادية ولم ينعم بأي مظاهر الحضارة، فالعرب لم يمارسوا ‏الحضارة إلا في بلاد غيرهم وعندما حكموا الشعوب المجاورة لهم وقامت نهضة في هذه البلاد، ليس بسواعد الحكام العرب الذين قضوا حياتهم في ‏النزاعات والصراعات السياسية والعسكرية، بل بيد أبناء الشعوب التي حكموها، ولذلك اختلفت من شعب لآخر برغم وحدة جنس الحكام، وكان ‏الحكام ينتقلون بمقراتهم إلى مراكز النشاط الحيوي لا أن ينشئوا هم عواصم ينتقل إلى النشاط، فما كان من نهضة في الأندلس لم نجده في اليمن بالتزامن، ‏ولم نجده في ليبيا أو المغرب ولم نجده في مكة والمدينة والرياض التي كان يسكنها العرب، بينما الذين هاجروا إلى مصر والأندلس والعراق هم السلالات ‏الحاكمة فقط الذين جيشوا الجيوش واستطاعوا الوصول لحكم هذه البلاد وتركوا بلادهم في القحط والفقر والجهل، أي الذين هاجروا هم الذين ارتقوا ‏وتحضروا نسبياً فقط في جانب القوة السياسية، وحتى السياسة مارسوها في البلاد التي حكموها بطابع العنف الدموي، وهو الطابع الذي جلبوه معهم من ‏بلادهم، أما جوانب المعرفة الإنسانية والعلوم العقلية فتجاهلوها تماماً لأن عقليتهم ونفسيتهم غير قادرة على هضم هذا النوع من المعرفة، ولم يخرج منهم ‏عالم واحد لا في الدين ولا في الفيزياء ولا الطب لأنهم ليسو من شعوب الحضارات.‏

وفي ذات الوقت الذي تفتتت فيه الدولة العباسية إلى دويلات مستقلة عن العاصمة، في بلاد المغرب:1- الدولة الرستمية.2- دولة ‏الأدارسة.3- دولة الأغالبة.- وفي بلاد الشرق:1- الدولة الطاهرية.2- الدولة الصفارية.3- الدولة السامانية.4- الدولة الغزنوية.- وفي مصر ‏والشام:1- الدولة الطولونية.2- الدولة الإخشيدية.3- الدولة الحمدانية.4- الدولة الفاطمية.5- الدولة الأيوبية.6- الدولة المملوكية.. وتقريباً تفتت ‏دولة الفقه إلى مذاهب وفرق بعدد الدويلات السياسية بالتزامن.‏

وبالتزامن كانت الأندلس الأموية تتفتت بين الطوائف وتشتعل بينها نزاعات سياسية وعسكرية، بين الإخوة وأولاد العم وحتى بين الأب وابنه ‏اشتعلت صراعات عسكرية، وهذه طبيعة العرب. وحقبة ملوك الطوائف‎ ‎هي فترة تاريخية في‎ ‎الأندلس‎ ‎بدأت بحدود عام‎ 422 ‎هـ‎ ‎لما أعلن الوزير‎ ‎أبو الحزم ‏جهور‎ ‎سقوط الدولة الأموية في الأندلس، مما حدا بكل أمير من أمراء الأندلس ببناء دويلة منفصلة، وتأسيس أسرة حاكمة من أهله وذويه.‏‎ ‎وقسموا ‏الدولة إلى 22 دويلة منهم غرناطة وأشبيلية والمرية وبلنسية وطليطلة وسرقسطة والبرازين‎ ‎والبداجوز‎ ‎ودانية والبليار‎ ‎ومورور‎ . ‎ورثت تلك الدويلات ثراء ‏الخلافة، إلا أن عدم استقرار الحكم فيها والتناحر المستمر بين بعضها البعض جعل منهم فريسة لمسيحيي الشمال، ووصل الأمر إلى أن ملوك الطوائف ‏كانوا يدفعون الجزية للملك‎ ‎ألفونسو السادس، وكانوا يستعينون به على أخوانهم‎.‎‏ ‏

وكما يتضح كانت دولة العرب منقسمة نصفين كل نصف يبعد عن الثاني آلاف الكيلومترات، ويفصل بينهما البحر، ولم يستطع العباسيون في ‏بغداد السيطرة على الأندلس رغم محاولاتهم المستميتة في ذلك، ولو كان العباسيون تمكنوا من أشقائهم في الأندلس لكانت وقعت أكبر مذبحة في تاريخ ‏البشرية، لكن الله ستر.. فعاشت الدولة العربية منقسمة هكذا مفتتة دويلات في الشرق ودويلات في الغرب، ولم يكن بينها رابط، بذات طابع التنافسية ‏والصراع القبلي القرشي الأموي في مكة أيام الجاهلية، لأن هذا طبع، فكيف تكون هذه حضارة؟ إذ كان المصريون الفراعنة في أول خطوة حضارية، وفي ‏أولى حقب التاريخ المصري، قام الملك مينا بتوحيد القطرين، ودمج التاجين، تاج الوجه القبلي والوجه البحري لتصبح مصر شعباً واحداً مندمجاً يحميه ‏جيشاً واحداً، ويحكمه ملك واحد في عاصمة واحدة وقانون واحد، ولهذا استمرت الحضارة المصرية خمسة آلاف عام بعد هذا التوحيد.‏

وأما من الناحية الثقافية، فقد هاجر العرب إلى هذه البلاد حاملين معهم ثقافتهم ولغتهم، وموردهم الثقافي انحصر فقط في ميراث النبوة أي ‏الدين الإسلامي، وقد زاد احتقان العقل بشكلٍ تلقائي وذاتي، فأصبح الفقه مذاهب وفرق، وتثور بينها صراعات مسلحة لأتفه الأسباب.. سنية ‏وشيعية وشافعية ومالكية وحنبلية وحنفية.. فقد تطبعت ثقافة العرب التي جلبوها من بلادهم بذات الطابع النفسي الذي هاجروا به، وكل ذلك ‏الانشطار والتصدع الفكري جاء متزامناً مع التصدع والشقاق السياسي العسكري.. كل ذلك كان معالم التفتت والانهيار الذي أشرفت عليه حضارة ‏العرب مبكراً قبل أن يدخل هولاكو عاصمتهم، أي أن انهيار الحضارة العربية كان محسوماً مسبقاً، ليس بقرار شخصي من الحاكم ولكن بقرار جمعي ‏مال إليه العقل العربي على كافة المستويات (سياسياً وعسكرياً وفكرياً). وكان هذا السقوط للحضارة العربية مبكراً جداً مقارنة بالحضارات الأخرى، ‏الفارسية عاشت ألف وسبعمائة عام فأكثر، وكانت فارسية الطابع والمنشأ والمقر. والحضارة الأوروبية القديمة عاشت ألفي عام وأنتجت الكثير من ‏المعارف التي مثلت قاعدة للحضارة العصرية الحديثة، وقامت في مراكز متعددة داخل البلاد وكانت أوروبية الطابع والمنشأ والمقر. وكذلك الحضارة الصينية ‏قاربت الألفي عام، وقد نشأت الحضارة الصينية في العديد من المراكز الإقليمية عبر قرى النهر الأصفر ونهر يانغتزي في العصر الحجري الحديث . ‏

وأما الحضارة المصرية عاشت ما يجاوز الأربعة آلاف عام.. هذه الحضارات قامت في الغالب على جهد أبنائها وبسواعدهم وعقولهم وفي عقر ‏بلادهم واتخذت منها منارات للعمل والعلم والمعرفة في عصر زهوتها، بينما العرب نهض اسمهم فقط مع هيكل سياسي هش في بلاد غيرهم، فهم قفزوا ‏على أكتاف غيرهم، لأننا كي نقول "حضارة عربية: فينبغي على الأقل أن تكون هذه الحضارة وثيقة الصلة بالقومية العربية، والقومية تتمثل في (أرض ‏وشعب وتاريخ وجغرافيا وثقافة عرقية) بينما كانت النهضة العربية منفصلة فعلياً عن الأرض العربية وعن الشعب العربي الذي عاش فقيراً جاهلاً في شبه ‏الجزيرة العربية.. بقيت مكة والمدينة في فقرها وجهلها عدا العائلات العربية التي هاجرت إلى دمشق وبغداد والأندلس ومارست السياسة هناك لأربعمائة ‏عام ولم تمتد يدهم لكت العلم أو الفقه الديني. وبرغم أن جميع الحضارات مارست الغزو والتوسع الجغرافي الاستعماري لتكنيز الثروات، إلا أن أغلب ‏أركان هذه الحضارات كان من جهد أبنائها وبسواعدهم، ولم يعتمد كلياً على النهب والسرقة فقط، فقد استغلت هذه الثروات في بناء كيانات اقتصادية ‏ثقيلة، ومنارات تشع العلم والمعرفة في كل مكان، فكل حضارة احتلت غيرها من الشعوب صدرت له جانب من جوانب حضارتها ومعارفها وخبراتها، ‏بينما العرب نهبوا وسلبوا وأنفقوا هذه الثروة فقط على القصور والضياع ونفقات الخدم وبناء المساجد فقط لزوم الغطاء الديني لسياساتهم المقيتة، ولم ‏يقدموا للشعوب التي احتلوها أي جانب من جوانب المعرفة والخبرة الحضارية والثقافة.. ‏

فقط صدروا الدين الإسلامي، وحتى هذا المورد الثقافي لم يكن من نتاج أفكارهم بل ورثوه عن النبي.. لكنهم صدروه للشعوب بزفير قرشي ‏النكهة.. فشكل غباراً ثقافياً خانقاً نفرت منه الشعوب.. لدرجة أنهم استمروا في الأندلس ثمانمائة عام كاملة، وخلال المائة سنة الأولى اعتنق الإسلام أقل ‏من 1% وهذه النسبة تشمل حتى الفاتحين العرب الداخلين.. بينما في مصر قضى الصحابة مائة عام وأجيالهم وأحفادهم يدعون للإسلام ولم يسلم من ‏المصريين سوى 2% فقط من الشعب المصري، وهذه النسبة تشمل الفاتحين بالآلاف من الصحابة وأبنائهم وأحفادهم.. بينما دخل رجل فلسطيني مصر ‏بنسخة من الإنجيل قبل 500 سنة ونشر الدين المسيحي في مصر بالكامل خلال خمسين سنة فقط.. فقط لأنه لم ينشره بزفير قرشي النكهة، ولم يحدث ‏عنه غبار معارك ولا صليل سيوف ولم تنزف دماء.. مع أن الإسلام أرقى وأشمل لكن العرب أخرجوه عن سياقه الروحي ومبادئه وشكلوه وفق أعراف ‏مجتمعاتهم وطبيعته ونشأتهم، ففي النهاية صدروا ثقافتهم ولم يصدروا الإسلام.. ثم طمعوا في جوها الصافي المريح فسكنوها وتركوا بلادهم صحراء جرداء ‏على حالها.. فأخروا دخولنا الإسلام أربعمائة عامٍ كاملة.‏

بل إن العرب لم يتفقهوا حتى في دينهم ! فكيف يبنون حضارة؟، هم فقط احتلوا شعوباً متحضرة مثل فارس والعراق وأسبانيا وحكموها ليقولوا أن ‏لديهم حضارة ! بل حتى أنهم برغم أن أرضهم هي مهبط الدين الإسلامي، إلا أنهم حتى لم يتفقهوا في دينهم الذي بعث على أرضهم، والذي غزو العالم ‏كله لينشروه في أرجاء الدنيا.. لو كانوا صادقين، لكان حرياً بهم أن يخرج منهم أكبر علماء الفقه ليصدروا علمهم إلى العالم، إنما هم صدروا السيوف ‏وتخاذلوا عن العلم .‏

ولذلك فإن تسمية الحضارة الإسلامية خطأ لأنها تنسب إلي الدين فعل بشري، فالعرب قد أجرموا ونسبوا جرائمهم للدين وصدروه للعالم ملوثاً ‏بسيئاتهم.. فالحضارة هي جهد بشري له مزاياه وعيوبه، وأما الدين فهو منهج ثابت من عند الله، الحضارات تزدهر وتمرض بينما الدين مبادئه تبقى ‏ثابتة.. ولا يمكن تعليق تسمية الدولة بالدين بأي حال لأن سقوط الدولة يعني بذلك سقوط الدين الذي قامت عليه الدولة، بينما مفهوم الدولة هو ‏مفهوم سياسي اجتماعي وليس ديني عقائدي حتى وإن ساهم الدين في قيام دولة، فيظل الدين هو سبب اتفاق مجموعة من البشر أو مجتمع علي إنشاء ‏دولة ، ولكن عند اعتبارها جهد بشري فإن سقوط الدولة يعني مجرد سقوط نظام سياسي لا أكثر، وقد يقوم مكانه نظام آخر بديل أو أنظمة متنوعة، ‏وإلا كان سقوط الأديان في الأصل ظاهرة عادية، فالتوراة هي جزء من الإنجيل، دون أن يقوم الإنجيل على أنقاض دولة توراتية سقطت، والإنجيل جزء ‏لا يتجزأ من الإسلام، لكن البشر يحرفون الأديان بغرس غرائزهم ونوازعهم العدوانية وميولهم النفسية المنحرفة وأعرافهم وتقاليدهم لتصبح ديناً لهم. ‏ولذلك من الضروري قطع الصلة بين التاريخ والدين إلا ما ثبت عن رسول الله وفي عصره فقط لأن عصره هو فقط حقبة التشريع. ‏

وعندما ننظر بجرأة في عيون الحضارة العربية، سنجد أن حركة الترجمة العلمية لم تبدأ وتزدهر إلا في العصر العباسي وخاصة الخليفة المأمون الذي ‏شجع العقلانية العلمية واحتضن المعتزلة وهم أول أجيال المسلمين الذين اتجهوا إلى ترجمة الفلسفة اليونانية لاعتماد مناهج التفكير والبحث العلمي، وفي ‏ذات العصر ظهر سلسلة من العلماء "علماء الطبيعة " ينقلون عن العلوم اليونانية والفارسية والهندية، مثل أبو بكر الرازي والحسن الهيثم وابن سينا ‏والبيروني، فقد اشتهر عصر الخليفة العباسي المأمون بظاهرة الترجمة، ثم بوصول القرن الثاني عشر تعطلت الحركة العلمية في كل أنحاء الدولة، وبدأ انهيار ‏الأندلس تدريجياً خلال مائتي عام حتى انتهى في القرن الخامس عشر. غير أن ترجمة العلوم في حدا ذاتها ليست حضارة وإنما فقط مراحل تحضيرية، ‏فعندما يقرر العقل الجمعي أن يخطو بحضارته للأمام فأول ما يبدأ به هو تمهيد الطريق، وهذا التمهيد يكون بتحصيل كافة المعرفة البشرية التي تم تدوينها ‏حتى العصر، بحيث يبدأ الخطى من النقطة التي انتهى عليها من سبقوه لا من الصفر.‏

وبالنظر إلى أنه عند تقييم حجم الحضارة (باعتبارها كائن حي) فلا بد أن نقف على قدراتها كاملة، ليس فقط في موطنها ولكن قدرتها في التأثير ‏على غيرها من الحضارات ثقافياً في عصر زهوتها وبريقها (الإشعاع الخارجي)، وحجم العلوم والمعرفة الإنسانية، وحجم الخدمات المعرفية التي قدمتها ‏للبشرية بوجهٍ عام، ليس نموذجاً أو مثالاً واحداً وإنما عدد الاكتشافات والاختراعات وحجم الخطوات التي قطعتها مقارنة بالخطوات التي قطعتها غيرها ‏من الحضارات. فالحضارة بطبيعة الحال عندما تصعد قمتها القصوى تخلق حالة من السلطة الثقافية على غيرها من الشعوب والحضارات المعاصرة، أو كما ‏يسميها الأستاذ عمر السكران في كتابه" سلطة الثقافة الغالبة" حيث يشرح مدى أثر الثقافات الغالبة على الشعوب المغلوبة وانبهار أبناء هذه الشعوب ‏المغلوبة بالثقافة الغالبة السائدة، كما هو الحال في عصرنا نجد كافة شباب الوطن العربي يسعون لتعلم الثقافة واللغة الإنجليزية لأنها وصلت إلى مرحلة ‏الهيمنة الثقافية على العالم وصارت تمارس فعلياً " سلطة الثقافة الغالبة " وأصبح تعلم اللغة الإنجليزية دليلاً ومؤشراً على رفعة الشخص ثقافياً واجتماعياً ‏واقتصادياً..‏

لكننا في المقابل لم نجد للحضارة العربية في عصر زهوتها المزعومة أي "سلطة ثقافية " على غيرها من الشعوب ولا هيمنة ثقافية ولا حتى أي احترام، ‏بل العكس تماماً. إذ أن الأستاذ عمر السكران في كتابه "سلطة الثقافة الغالبة " يقدم لنا دليل براءتنا مُشفّى وجاهزاً تماماً، فعندما يشهد شاهدٌ من ‏أهلها فلا حاجة إلى دليلٍ بعد ذلك؛ لأن كل من يحاول الحديث عن الحضارة العربية بنوعٍ من الموضوعية سيقابل سيولاً عارمة من الاتهامات بالزندقة تارة ‏وبعدم الانتماء للقومية العربية تارة، وبالتآمر عليها تارة، ثم بالتآمر على الإسلام تارات عديدة لا تنتهي؛ لأنهم يسمون حضارة العرب باسم الدين، ‏وبالتالي كل من يتحدث عن حضارة العرب سيُتهم بمهاجمة الدين لأنها لبست ثوب الدين.. لكن الله كريم جداً وعطاءه لا ينتهي؛ فقد ساقت الأقدار ‏إلينا دليل البراءة على يد هذا الأستاذ الكريم في كتابه الجميل "سلطة الثقافة الغالبة" (1) حيث يمكننا مطالعة مقدمة الكتاب فقط من الصفحة السابعة ‏إلى العاشرة. حيث يتناول فلاشة ضوئية على هذا الجانب من الحضارة العربية في عصر زهوة الحضارة العربية وفي قمتها القصوى ومع بداية رحلة الهبوط ‏أي مطلع خريف الحضارة العربية ، يقول: ‏

في أواسط القرن الخامس من عمر الحضارة العربية كان شيخ الإسلام إسماعيل الهروي(ت481هـ) يتأمل كيف انبهر بعض المسلمين بالثقافة ‏والفلسفة اليونانية، وقد عبّر هذا الإمام باستعارة بلاغية بديعة، حينما قال: " ينظر الناظر الفهم في جذرها؛ فيرى مخ الفلسفة يكسي لحاء السنة " ‏‏(2).. وبعد الهروي جاء أبو حامد الغزالي (ت505هـ) وألقى ملاحظة مشابهة، وهي أن الانبهار بالثقافة والفلسفة التي يهوّلها أصحابها قاد عدداً من ‏المنتسبين للعلم في زمانه لاعتقاد ذات الأفكار الفلسفية ليشاركهم جاه فخامتها . فإني قد رأيت طائفة يعتقدون في أنفسهم التميّز عن الأتراب، وقد ‏رفضوا وظائف الإسلام من العبادات، وإنما مصدر كفرهم سماعهم أسماء هائلة كسقراط وبقراط وأفلاطون وأرسطوطاليس، وإطناب طوائف من متبعيهم ‏في وصف عقولهم ودقة علومهم، وأنهم مع رزانة عقلهم منكرون للشرائع، فلما قرع ذلك تجملوا باعتقاد الكفر" (3) .‏

في هذه الفقرة القصيرة عن عالمين عظيمين من مشاعل الفكر والحضارة العربية، نقل ابنٌ بار بهم وهو الأستاذ عمر السكران من أبناء شبه جزيرة ‏العرب، نقل هذه الفقرات في كتابه المطبوع في العاصمة السعودية الرياض، في محولة منه لتمهيد طريق الإسلام للشباب ومساعدتهم في إعادة استنبات ‏الحضارة العربية القديمة مرة أخرى، بينما هو يقدم الدليل – دون أن يدري بالطبع- على أن حضارة أجداده العرب الأمويين والعباسيين في عز ازدهارها ‏وبريقها في القرن الخامس من عمرها، كانت الشعوب المسلمة تحت الخلافة العربية تشعر بإطناب وانبهار شديد بالحضارة اليونانية ومنجزاتها العلمية ‏والفلسفية، وعلماءها ورموزها مثل سقراط وأبقراط (المُلقّب بأبو الطب) الذي نبغ في بلاد اليونان قبل ألفي عامة كاملة من هذا التاريخ، فهم حتى لم ‏يهضموا ما قدمته الحضارات الأوروبية القديمة اليونانية والرومانية قبلهم بألفي عام ! وينقل عن العلماء (الهروى والغزالي وابن تيمية) امتعاضهم من هروب ‏عامة الناس منهم (والمنتسبين للعلم أي المثقفين؛ بما يشكل الرأي العام في عصرنا) فكان العلماء يشعرون بهروب الرأي العام منهم وانبهاره بمنجزات ‏الحضارة اليونانية القديمة، وهذا ما دفعه لتأليف كتابه " سلطة الثقافة الغالبة " ليُثبت بالدليل الدامغ أن الرأي العام في عصر الحضارة العربية وفي عز زهوتها ‏وشموخها وعظمتها في العصر العباسي الثاني في القرن الخامس هجري، أن أبناء الشعوب المسلمة في هذه الحقبة كانوا يعيشون في حالة انبهار شديد ‏بالحضارة الرومانية واليونانية القديمة ! ولم يكونوا هم من يمارسون هذه "الهيمنة الثقافية والسلطة الثقافية الغالبة " على غيرهم من الشعوب، بل كانوا هم ‏الذين يشعرون بسلطة الثقافة اليونانية وتفوقها عليهم، وهذا ما يؤكد وجهة نظرنا في أن الحضارة العربية لم تكن حضارة وإنما فقط هوجة عربية لأنها لم ‏تدرك مرحلة الإشباع الثقافي لأبنائها، وإنما ظلوا شغوفين بثقافة غيرهم المتطورة.‏

ويقول الابن البار الأستاذ عمر السكران: (وفي القرن السابع الهجري قدم الإمام ابن تيمية ملاحظات كثيرة حول ظاهرة الانبهار بالثقافة الفلسفية ‏اليونانية، وتأويل نصوص العقيدة لتوافقها، نتيجة أنه قابل فعلياً أمثال هذه الشخصيات وتعجب من انبهارها كقوله " لما كنت بالإسكندرية، اجتمع بي ‏من رأيته يعظّم المتفلسفة بالتهويل والتقليد(4) ويقول الأستاذ عمر السكران أنه من أكثر ما ركز عليه ابن تيمية آلية شحن الألفاظ القرآنية بالمحتوى ‏الثقافي الأجنبي لتمريره في الداخل الإسلامي... كقوله مثلاً: يعبرون بالعبارات الإسلامية القرآنية عن الإلحادات الفلسفية اليونانية(5) وقال في موضعٍ ‏آخر " ولا ريب أن القوم أخذوا العبارات الإسلامية القرآنية والسنية فجعلوا يضعون لها معاني توافق معتقداتهم (6) ويرى ابن تيمية أن هذا لم يكن ‏تصرفاً بريئاً، بل كان إستراتيجية مخاتلة ومراوغة كما يقول (ولكن يموّهون بالتعبير على المعاني الفلسفية بالعبارات الإسلامية) (7) ويشير ابن تيمية إلى أن ‏هذا الأسلوب غير النزيه تسبب في تصدعات عقدية في الداخل المسلم، كما يقول: فيأخذ هؤلاء العبارات الإسلامية ويودعونها معاني هؤلاء، وتلك ‏العبارات مقبولة عند المسلمين، فإذا سمعوها قبلوها، ثم إذا عرفوا المعاني التي قصدها هؤلاء ضل بها من لم يعرف حقيقة دين الإسلام. ")‏

وبغض النظر عن اعتراض ابن تيمية على عملية تضمين الأفكار والحكم والفلسفة اليونانية في الثقافة العربية لأن كل إنسان من حقه أن يعرب عن ‏رأيه بحرية كاملة، وبغض النظر عن وصفه لذلك الفعل بأنه "تمويه متعمد ومراوغة" من هؤلاء المنتسبين للعلم أو المنبهرين بالثقافة اليونانية، برغم أنه ليس ‏من المنطق وصف "الرأي العام" بالتمويه والمراوغة " لأنه لا معنى لوصف عامة الناس والمثقفين بأنهم يمارسون "تمويه متعمد ومراوغة ومؤامرة على الإسلام ‏من خلال استخدام مفاهيم ومضامين يونانية في سياقات لغوية عربية مألوفة" !! وكأن الشعب يتآمر على دينه وثقافته !! فعامة الناس والمثقفين والقراء ‏ليس بإمكانهم التواطؤ مع بعضهم والمراوغة والتمويه والتنسيق لتشكيل رأي عام مخالف للحقيقة "عمدياً " أو أن يمكن وصفه بالتمويه والمراوغة، فالتمويه ‏والمراوغة قد يقوم بها شخص أو مجموعة في إمكانية التنسيق للقيام لعمل ما سواء كانت مجموعة مدنية أو عسكرية، إنما وصف ثقافة عامة الناس ‏وانبهارهم بالثقافة اليونانية المتقدمة بأنه تمويه ومراوغة ! ولما لا يُقال أن الفقهاء الأصوليين يرفضون الثقافة الغربية بوجهٍ عام ؟ فهذا هو الأقرب للمنطق ‏العقلي لأن آراءهم توافقت على رفض الثقافة اليونانية. ‏

ففي الواقع لم يستطع ابن تيمية قراءة الحالة النفسية العامة لشعبه أو المزاج النفسي العام والتوجه الثقافي العام واتهمهم بالمؤامرة على الثقافة ‏الإسلامية، وبغض النظر عن وجهة نظر ابن تيمية وعدم قدرته على قراءة الرأي العام وتحليله ثقافياً واجتماعياً وسبر أعماقه نفسياً كما كان يفعل ابن ‏خلدون. إنما الغاية هنا أن ندرك حجم هيمنة الثقافة اليونانية (القديمة) على الثقافة العربية في عز ازدهارها، بل إن الحضارة العربية في هذا الوقت في ‏العصر العباسي الثاني كانت قد وصلت خريفها وبدأت تتساقط أوراقها أي انتهى موسم الحصاد الحضاري العربي، وكانت إلى هذا الوقت لم تهضم الثقافة ‏اليونانية القديمة (التي من المفترض أنها أصبحت تاريخ العلم بالنسبة للعرب أي مادة تاريخية بحتة هضموها في مطلع حضارتهم وما بقي إلا العروج عليها ‏باعتبارها تاريخ للعلم) إنما هم في الواقع وفي أواخر موسم الحصاد العربي كانوا منبهرين بالثقافة اليونانية القديمة التي سبقتهم بألفي عام كاملة ! أي أنهم ‏أنهوا الموسم الحضاري العربي كاملاً ولم يتمكنوا من هضم الثقافة اليونانية القديمة واستمر انبهارهم بها حتى مرحلة السقوط التام للدولة العربية ! وهذا ما ‏يؤكد وجهة نظرنا في أنه لم تكن هناك أي حضارة عربية وإنما فقط هوجة عربية.‏

ثم ينتقل الكاتب بذات الخطوة إلى العصور الحديثة وعصر النهضة الأوروبية مطلع القرن التاسع عشر، أي قبل مائتي سنة تقريباً، في محاولة منه ‏لربط الحبل وتوصيله بين (قمة الحضارة العربية-وعصر الاستعمار الأوروبي للعالم العربي) ويقارن بين الحالة النفسية العامة للشعوب ويثبت أنها لم تتغير ‏‏(!!) أي أنه يعترف بأن الحالة النفسية لهذه الشعوب في قمة دولته العربية وفي قمة توسعها الاستعماري وعظمتها في بغداد والأندلس كانت الشعوب ‏تعيش تحتها في حالة انهزامية كاملة ونفسية منكسرة للغاية وبرغم ذلك يعتبر هذه الدولة العباسية كانت عظمة للإسلام!، ودون أن يدرك أو يعي بأنه ‏يقارن بين (عصر الاحتلال العربي لشعوب مصر والشام والعراق-وعصر الاحتلال الأوروبي لهذه الشعوب) ويخرج بنتائج متساوية من حيث الجو ‏النفسي العام للشعوب والروح الانهزامية والهيمنة الثقافية الأوروبية على هذه الشعوب)... فيقول استيقظ المسلمون على (فارق الإمكانات) بين أوروبا ‏والمجتمعات المسلمة، فظهرت حركات تبحث عن النهضة منذ رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ثم بعدهم، لكن هذه الحركات سلكت الطريق الخطأ ‏للأسف ! (علامة التعجب للسكران) فبدلاً من أن تحيي معاني العزة والتحدي والثقة بالنفس الجمعية، وبهذا تنهض الأمم، نشرت ما تعيشه في ذاتها من ‏شعور داخلي عميق بالهزيمة النفسية لثقافة الغرب الغالب، فعادت وكررت نفس السلوك التاريخي السابق، وهو تأويل المعطيات الشرعية لتوافق الثقافة ‏الغالبة، خصوصاً على آلية حقن اللفظ التراثي بالمضمون الغربي تمهيداً لتبيئته (8). انتهى.‏

والغريب هنا أن نجد المفكر السعودي الكريم جداً جداً يقدم الدليل بصورة مضاعفة، وليس هناك كرمٌ أكثر من ذلك، فقد قارن بين عصر ازدهار ‏الحضارة العربية في عز قوتها وعنفوانها وبين وضع الشعوب المسلمة العربية في القرن التاسع عشر"مطلع عصر التنوير" الذي ظهر فيه رفاعة الطهطاوي ‏والأفغاني ومحمد عبده، يقارن الكاتب بين هذه الحقبة وبين حقبة العلماء السابقين (الهروي والغزالي وابن تيمية) أبناء الحضارة العربية في عهد الدولة ‏العباسية في عنفوانها وقمة تطورها، ليثبت أن المزاج النفسي العام للشعب والرأي العام كان واحداً في الحالتين، وأن الشعوب العربية في كلتا الحالين كانت ‏تعيش حالة من الهزيمة النفسية والانبهار بالثقافة الأوروبية ولم تتغير الحالة ولم يتغير المزاج النفسي العام للشعب من حيث شعوره بسطوة وهيمنة الثقافة ‏الأوروبية أو ما يسميه الكاتب "سلطة الثقافة الغالبة" وهو يقصد ثقافة أوروبا القديمة والحديثة، ثم يقول الكاتب (بأن المسلمين بعدما استيقظوا في القرن ‏الثامن عشر على فارق (الإمكانات) شعروا بذات النقيصة النفسية ((التي كانت في عهد أجداده الأمويين والعباسيين)) ونشرت ما تعيشه في ذاتها من ‏شعور داخلي عميق بالهزيمة النفسية لثقافة الغرب الغالب، فعادت وكررت نفس السلوك التاريخي السابق ) إذن ذات السلوك التاريخي السابق (عصر ‏ازدهار الحضارة العربية في عز قوتها وعنفوانها) هو بذاته الشعور الذي كان يعيشه أبناء القرن الثامن عشر من انبهار بالحضارة الأوروبية الحديثة، ولهذا ‏تكررت أخطاءهم بتفاصيلها. ما يعني أن الجو النفسي العام والرأي العام في قمة الحضارة العربية هو هو بذاته الجو النفسي العام والرأي العام في القرن ‏الثامن عشر(تحت الاستعمار الأوروبي)، والفارق أن الأول كان منبهراً بالحضارة اليونانية الرومانية، بينما الثاني أصبح منبهراً بالحضارة الأوروبية الغربية ‏الحديثة وهي أوسع نطاقاً. وهذا ما يؤكد وجهة نظرنا في أنه لم تكن هناك حضارة عربية وإنما فقط هوجة عربية. ‏

بل إن الغريب أن الكاتب يحاول توضيح الصورة المزرية أكثر في عهد أجداده العظماء (قمة ازدهار وعنفوان الدولة العباسية)، ويقول أن الرأي العام ‏للشعوب الواقعة تحت دولة العرب في هذا الوقت كانت وكأنها تشعر بمذلة وخضوع اضطراري قهري بفعل سيطرة الثقافة اليونانية الغالبية عليهم، ويقول ‏أن ذلك بسبب انبهار الشعوب بالثقافة اليونانية، فيورد في كتابه فقرة عن ابن خلدون يصف بها حال الشعب في عهد أجداده العظماء العباسيين، والتي ‏قال فيها ابن خلدون: " أن المغلوب مولع أبدًا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده: والسبب في ذلك أن النفس أبدًا تعتقد ‏الكمال في مَن غلبها وانقادت إليه إما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي إنما هو لكمال ‏الغالب... ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبدًا بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه في اتخاذها وأشكالها بل وفي سائر أحواله، حتى أنه إذا كانت أمة تجاور ‏أخرى ولها الغلب عليها فيسري إليهم من هذا التشبه والاقتداء حظ كبير "‏‎.‎‏ انتهى

أورد السكران هذه الفقرة لوصف أحوال الشعب في عهد أجداده العظماء العباسيين، في محاولة منه لتفسير أزمة الهيمنة الثقافية الأوروبية على ‏الشعوب عهد الدولة العباسية، أي أن هذه الشعوب كانت خاضعة لأجداده العباسيين سياسياً ومنبهرة بثقافة اليونانيين والرومان.. بينما لم يدرك ‏السكران أنه بكلامه هذا يؤكد أن القومية العربية تعيش حالة من الفراغ طول عمرها ولم تصل لحظة واحدة لمرحلة الهيمنة الثقافية على غيرها ولا "سلطة ‏الثقافة الغالبة" بما يعني تأكيده هو بلسانه وبشهادته الحية المعاصرة عن أجداده أنه لم يكن هناك حضارة عربية، ولو كانت هناك، فهي لم تستطع اجتياز ‏خطوة واحدة من خطوات الحضارة البشرية حتى أنها لم تستطع هضم واجتياز التركة اليونانية، ولم تستطع تمتيع شعوبها بظاهرة الهيمنة الثقافية ولا سلطة ‏الثقافة الغالبة... ‏

والأغرب من ذلك أن السكران لم يدرك أبعاد نظرية ابن خلدون، فيقول السكران "لقد صعد ابن خلدون بمثل هذه الملاحظات حول تغالب ‏الثقافات من مستوى التصرفات والمواقف الفردية إلى مستوى الروح المجتمعية العامة، فوصل إلى بهذا التنظير إلى مستواه التركيبي الأبعد " بما يعني أن ‏السكران مقتنع أن الحالة التي وصفها ابن خلدون عن ثقافة الغالب والمغلون تنطبق على الشعوب المسلمة في عصر أجداه الأمويين والعباسيين وهذه ‏كارثة مزرية ... فهو يثبت بالدليل الدامغ أن أجداده لم يقيموا حضارة وإنما كانت الناس منبهرة بثقافة اليونان في عز زهوتهم وعنفوان دولتهم... ‏

ولم يدرك السكران أن ابن خلدون كان يتحدث عن أجداده العرب أنفسهم ويهجوهم بهذه الفقرة ! لأن ابن خلدون لم يتحدث أصلاً عن فكرة ‏الهيمنة الثقافية لحضارة أخرى على حضارة العرب ولا انبهار الشعوب العربية بالثقافة اليونانية وإنما تحدث عن (الخضوع والانقياد للغالب) فقد قصد ‏بحديثه "خضوع الشعوب غير العربية مثل المصريين والشاميين والأمازيغ والعراقيين والفارسيين لسطوة وسيطرة العرب بالقوة والهمجية، فصار أبناء هذه ‏الشعوب يتشبهون بالعرب بعد أن تغلبوا عليهم في حقبة الفتوحات وكسروا إرادتهم وسيطروا عليهم بالقمع، وصار أبناء هذه الشعوب نتيجة تأثرهم ‏بمتلازمة ستوكهولم العربية يتبنون أفكار العرب ومبادئهم ويتحدثون لغتهم ويتبنون ثقافتهم بفعل الغلب والقهر وكسر الإرادة، وليس بفعل الانبهار الذي ‏يتحدث عنه السكران، لأن كلام ابن خلدون كان واضحاً جداً في حديثة عن الغالب والمغلوب والخضوع للغالب والانقياد له، وأن المغلوب يعتقد في ‏الغالب الكمال، ومصطلح الغلبة في السياق الذي استخدمه ابن خلدون هو غلبة مادية بالقوة وليس هيمنة ثقافية، واستخدم ابن خلدون ألفاظ ‏وتعبيرات واضحة عن قصده مثل عبارة " ويتشبه به في لباسه ومركبه وسلاحه، وشكل سلاحه بل وفي سائر أحواله ...إلخ. ثم استخدم ابن خلدون مثال ‏أوضح وهو علاقة الجيرة، حيث قال" حتى أنه إذا كانت أمة تجاور أخرى ولها الغلب عليها فيسري إليهم من هذا التشبه والاقتداء حظ كبير ". أي أن ‏أم المغلوب تتشبه بأم الغالب وهما متجاورتان في المسكن أو الشارع، وهذا بالطبع لا يفهمه عاقل أن ابن خلدون كان يصف أحوال انبهار المواطن العربي ‏بالثقافة اليونانية القديمة وفلسفة أرسطوطاليس وعلوم أبقراط في الطب" ! ‏

إنما كان ابن خلدون يصف حال شعبه والشعب المصري الذي عاش فيه وبين أبنائه ويصف علاقة الجوار في الشارع الواحد، ويصف علاقة النساء ‏في البيوت ببعضها، ويعقد معادلة واضحة وصريحة بين (الانهزام الذي ينقلب إلى انبهار بالغالب نتيجة اعتقاد المهزوم بكمال الغالب) وليس انبهار ‏بثقافة أكثر تطوراً). وهذا ما يجسد وضع الشعوب المصرية والشامية والعراقية والفارسية تحت سطوة الدولة العربية ما جعل أبناء هذه الشعوب يتبنون ‏ثقافة العرب نتيجة (الغالب والمغلوب ومتلازمة ستوكهولم العربية)، إنما السكران لم يدرك ذلك واعتبر فقرة ابن خلدون وصف لأحوال الشعوب العربية في ‏انبهارها بالثقافة اليونانية القديمة، فهل كان هناك غالب ومغلوب سلاح وراكب ومركوب بين الشعوب العربية والحضارة اليونانية؟ وهل كانت هناك ‏علاقات جوار للنساء بين العرب واليونان (القديمة) كي تتشبه أم المغلوب بأم الغالب؟! فالعكس هو ما حدث من حيث القوة العسكرية والغلبة، كانت ‏الدولة العربية سيطرت على جانب كبير من شعوب أوروبا وآسيا وأفريقيا، ومن المتوقع أن تخضع وتنقاد نساء أوروبا (الأندلس) للعرب الغالبين بالسلاح ‏والمركوب، فكيف نتوهم أن الشعوب العربية تشعر بالهزيمة النفسية تجاه شعوب أوروبا ؟ الهزيمة النفسية كانت في شعوب مصر والشام والعراق التي ‏انكسرت إرادتها تحت سطوة العرب، وهذا ما تحدث عنه ابن خلدون، وهذا ما لم يدركه حفيد العرب الأستاذ السكران في كتابه. غير أن الأستاذ ‏السكران لديه مشكلة إدراكية؛ وهي أنه حينما يتحدث عن العلم والثقافة والمعرفة، فيجب عليه أن يحترم أجداه وألا ينطق باسم العرب؛ لأن العلم والمعرفة ‏ليس من أبجدياتهم، إنما أبجدياتهم هي الإغارة والإغارة فقط، وإذا أردا التحدث عن العلم والمعرفة وسلطة الثقافة الغالبة والمغلوبة، فهذا يأتي فقط في نطاق ‏الشعوب المدنية مثل الشام والعراق وفارس ومصر والصين والهند وأوربا، لأن هذه شعوب، بينما العرب قبائل، والله تعالى لم يخطئ حينما قال: وخلقناكم ‏شعوباً وقبائل" ‏

وخلاصة هذه الفقرات المقتبسة من كتاب الأستاذ السكران العربي الأصيل الكريم جداً، نتأكد أن الحضارة العربية كانت عاقراً ولم تنجب ولم تصل ‏إلى مرحلة الإشعاع المعرفي الخارجي، بل ظلت شعوبها منبهرة بتاريخ الحضارات السابقة عليها، ولم تكد تكتمل مرحلة الترجمة من الرومانية واليونانية ‏والهندية والفارسية إلى العربية حتى أُجهضت في قرنها الخمس، بينما الحضارات الأخرى استمرت عشرات القرون، والمصرية استمرت أكثر من أربعة آلاف ‏عام، ووصلت لمرحلة الإشباع الثقافي لأبنائها والإشعاع المعرفي الخارجي أيضاً.. فليس ممكناً تقييم حجم الحضارة (باعتبارها كائن حي) دون الوقوف على ‏قدراتها كاملة، ليس فقط في موطنها ولكن قدرتها في التأثير على غيرها من الحضارات ثقافياً في عصر زهوتها وبريقها (الإشعاع الخارجي وليس فقط ‏قدراتها في الاقتباس)، وحجم العلوم والمعرفة الإنسانية، وحجم الخدمات المعرفية التي قدمتها للبشرية بوجهٍ عام، والمزاج النفسي العام لأبنائها، وحجم ‏الخطوات التي قطعتها مقارنة بالخطوات التي قطعتها غيرها من الحضارات. ‏

في الواقع أن الحضارة الغربية الحديثة اتخذت من تركة الحضارة الرومانية نقطة للبداية (بالنسبة للعلوم الطبيعية وهي العمود الفقري للحضارات)، ولم ‏تلتفت كثيراً إلى ميراث الحضارة العربية في العصور الوسطي سوى في قليل مما قدمه علماء مسلمين، وهم بأصلهم وعرقهم وجنسهم ليسو عرب، هم فقط ‏عرب من حيث اللغة والديانة والخضوع لحكم العرب، غير أن معظم انجازاتهم توقفت عند حدود الترجمة عن الرومان مع قليل من الإضافة، بما يمكن ‏احتسابه إضافة واحدة لعالِم واحد في كل مجال من مجالات العلم، وتجربة واحدة تم استحداثها في كل مجال، غير أن هذه التجربة في حد ذاتها ليست ‏عربية خالصة، وإنما أغلبها من بقايا الحضارة الفارسية، وعلماءها مذكورون في التاريخ الفارسي باعتبارهم علماء فارسيين خلال حقبة الاحتلال العربي ‏لبلادهم، وليس من الصحيح احتسابها لصالح العرب لأن من قاموا بها ليسو عرب حتى ولو كانوا مسلمين، فالحضارة تأخذ جنسيتها من شعبها وليس ‏من دين المحتل لبلاده، لأن الدين ليس منهج حضارة وإنما منهج أخلاق يصلح لجميع الشعوب المتحضرة والمتخلفة على حد السواء، أما الحضارة فهي ‏الجهد البشري الذي بذله شعب من الشعوب خلال حقبة من عمر التاريخ. فالدين منزل من عند الله لجميع الشعوب، وليس لشعب أن يستقل ويجعل ‏تاريخه تاريخ للدين. ‏

فالحضارة الأوروبية الحديثة بدأت في القرن الثاني الميلادي واستمرت صعوداً حتى قطعت شوطاً طوله 800 سنة وما زالت في طريق الصعود، بينما ‏حضارة العرب ظهرت واختفت خلال 500 سنة فعلية، ولم تجد الحضارة الأوربية ما يمكن أن تعتبره دعائم علمية حضارية تبدأ من عندها، فتجاهلت ‏حضارة العرب واتجهت مباشرة للبحث والتنقيب في بقايا الحضارة اليونانية والرومانية القديمة جداً ولهذا أخذت الحضارة الأوروبية الحديثة الطابع اليوناني ‏القديم خاصة في مجالات التشريعات وصناعة القوانين والفلسفة والمنطق، وتجاهلت تركة الحضارة العربية والمرويات والأسانيد وكل تراثها.. لأن الحضارة ‏العربية أنهت موسم حصادها الحضاري ولم تُنْه بعد مرحلة الترجمة الأولية عن الحضارات الأخرى ولم تصل إلى مرحلة الترجمة العكسية أو الإشعاع المعرفي ‏للخارج ولم تتمتع بسلطة الثقافة الغالبة كما أثبت ذلك ابنها السكران في كتابه "سلطة الثقافة الغالبة" أو الهيمنة الثقافية، بل إنها حتى لم تحقق الإشباع ‏الثقافي لرعيتها، فظلوا في أواخر عمرها يحلمون بحليب الأم اليونانية وثديها الخصب، ونفروا من شجرة الشوك العربية، وهذا ما أزعج الفقهاء كثيراً جداً ‏وأرق مضاجعهم.‏

ولن نذهب بعيداً طالما كان مورد الماء قريباً.. فما قدمه العالم الجليل أحمد زويل في مطلع القرن الحالي والذي حصل بموجبه على جائزة نوبل في ‏الكيماء.. تلك الفكرة العبقرية التي مكّنت البشر من الاطلاع على واحد من أكثر الأسرار عمقًا وقدرة على التخفّي، فما بدأه ديمقريطس كفكرة ‏فلسفية قبل ألفين وأربعمائة سنة بتصوير أن المادة تتكون من ذرات، أصبح هو نقطة الانطلاق لكل البحث العلمي في نطاقي الفيزياء والكيمياء‎ ‎طوال ‏القرن العشرين، لقد تعرفنا على الذرَّة، وجسيماتها، وحالاتها الكمّية، تعرفنا على تموضع الذرات في الجزيئات، وعلى أنواع التفاعلات الكيميائية، ذلك ‏من خلا الكاميرا العجيبة التي ابتكرها لرؤية الذرات. فالرؤية الفلسفية التي وضعها ديمقريطس قبل ألفي عام لم تجد لها موطناً في حضارة العرب لأن ‏الحضارة العربية كانت تكره الفلسفة والمنطق، ولنقل يكفي أن المهتمين بها واجهوا جميعاً تهمة الزندقة والكفر !.. ولذلك لم يمكننا القول بطمأنينة أن ‏العلوم الطبيعية لم تجد التربة الخصبة في الدولة العربية كما وجدتها العلوم الفقهية والأدب والشعر، ولم تحظ برعاية السلاطين والخلفاء كما حظيت ‏العباءات الفقهية. بل إننا يمكننا القول أن العلوم الطبيعية في دولة العرب كانت أشبه بشجيراتٍ نمت في الصحراء عشوائياً دون مطر ودون غذاء ودون ‏تربة خصبة ملائمة، ولهذا كان علماء الطبيعة نادرون جداً وعددهم لا يعادل 10% من أعداد الفقهاء والمذاهب. ذلك لأن البيئة العربية ونسيجها في ‏الأصل صحراوي، وبطبيعة الصحراء تحوي نباتات زاحفة ذات نسيج مرن وهو الملائم للمعرفة السائلة، لكنها لا تخلوا من بعض الشجيرات متباعدة ‏تقف على سيقان ودعامات رأسية.‏‎ ‎

وحتى أننا لا نجد في تاريخ الحضارة العربية كافة أنواع العلوم المعارف، بل فقط نجد الأدب والشعر والفقه بغزارة، بينما نجد ندرة في مجال العلوم ‏الطبيعية؛ الكيمياء والفيزياء والأحياء، ولا نكاد نجد فكراً معتبراً في مجال الفكر السياسي والاجتماعي سوى ابن خلدون الذي تبرأ من العرب وشن حملة ‏ضارية عليهم، وذكر في أكثر من موضع أن جيناتهم الوراثية لا تؤهلهم لبناء حضارة إنسانية.. حتى أن الأوروبيين عندما عادوا للأصول الرومانية وجدوا ‏مراجع أصلية أفضل صياغة من تلك التي ترجمها المسلمون. وهناك مؤشر قد يفسر لنا ذلك، هذا المؤشر يظهر في مدى اهتمام العرب بالمعرفة الدينية إلى ‏جوار العلوم الطبيعية، فأغلب علماء الفقه نبذوا العلوم الطبيعية، وأغلب علماء الطبيعة تم تكفيرهم والحكم عليهم بالزندقة، وغير ذلك عند مقارنة عدد ‏علماء الدين بعدد علماء الطبيعة لن نجد هناك أي توازن في العلوم بين النوعين. برغم أن الدين في الأصل ليس وحده كل جوانب المعرفة في الحياة، بل ‏إن الدين في الأصل هو أحد عناصر الحياة الثقافية، وتحديداً فرع من قسم العلوم الإنسانية، وهي فروع متعددة، منها معرفة سياسية ومعرفة اجتماعية ‏ومعرفة قانونية ومعرفة تاريخية وجغرافية ومعرفة أدبية شعرية ونثرية ومعرفة فنية. وأما القسم الثاني فهو العلوم الطبيعية، وتنقسم إلى (هندسة وطب ‏وكيمياء وفيزياء وأحياء وتكنولوجيا تربط هذه الفروع ببعضها)، هذه هي أنواع المعارف التي تقوم عليها الحضارة وأي حضارة، ولا يمكن أن تقوم حضارة ‏مع سقوط فرع معين من هذه الفروع، فالدين هو عنصر من عناصر قسم العلوم الإنسانية، وهذه العنصر الثقافي لا يمكن أن يغني عن أي فرع آخر، ‏بينما نجد أن الحضارة العربية قامت في نشاطها الرئيس على هذا الفرع دون غيره من فروع المعرفة وأقسام العلوم الإنسانية والطبيعية، وكانت للفقهاء ‏الغلبة والهيمنة وقد عاشوا تحت الوصاية السياسية لأن الدولة أصلاً قامت تحت غطاء الدين وباسمه، ولذلك كان الفقهاء أصحاب الحظوة بينما باقي ‏أنواع المعرفة والعلوم كانوا في الذيل ولا قيمة لهم، أو يمكن اعتبارهم صف المعارضة المتمردين على دولة العرب سياسياً وفقهياً، ولم يكونوا تياراً علمياً ‏فكرياً موازياً للآخر، وهو ما يعني أن حضارة العرب كانت تسير على جناح واحد والآخر مكسور ومتهم بالزندقة. ‏

ولم تكن هناك مؤسسات علمية أو مختبرات تتولاها الدولة رسمياً أو تقدم لها تسهيلات كما كان الوضع مع مؤسسات التعليم الديني وإنشاء ‏الكتاتيب والمساجد والزوايا، لدرجة أن غالبية الشعوب العربية اعتبرت أن العلم هو الدين فقط، وأن العلوم الطبيعية (فيزياء – كيمياء – أحياء) هي ‏محض فضلات معرفية لا ترقى إلى درجة أن تسمى علم، بل مجرد حرفة من الصنائع، ولا يحصل المتخصصين فيها على مسمى عالِم، بل إن درجة العالِمية ‏كانت مخصصة فقط لرجال الدين. حتى وإن جاء العرب بعد مرور ألف عام ليحتفلوا بمنجزات أبي بكر الرازي أو الحسن الهيثم وجابر حيان وابن رشد، ‏فهؤلاء العلماء لم يعرف العرب قيمتهم وقتها ولم يستفيدوا من علومهم ولم يعترفوا بهم إلا بعدما اعترفت بهم الحضارة الغربية الحديثة، وأشاعوا أسماءهم ‏ومنجزاتهم في المحافل العلمية، ومن هنا احتفل بهم العرب واعتبروهم مصدر فخر لهم!. وجاء علماء الطبيعة بجهودهم الفردية دون رعاية من الدولة أو ‏اعتراف من المجتمع سوى فقط فترة الخليفة المأمون الذي شجع حركة الترجمة من الحضارات الأخرى، وخصص لها قسماً بالمكتبة العامة. إنما في الغالب ‏كان علماء الطبيعة منبوذين مثل شعراء الفسق والهوى، وغالباً ما يتهمون بالزندقة، ويتم سجنهم أو جلدهم أو احتقارهم مثل ابن سينا.. في الوقت ‏الذي كانت ملكة البرتغال تمول حملات المستكشفين في المحيط وتمول العلماء والباحثين. ‏

ناهيك عن الحملة التي قادها الإمام أبو حامد الغزالي ضد العلم والعلوم الطبيعية وإصراره على إنكار السببية.. إنه كان (المسلم المثالي)، الذي ‏أعطى الضربة القاضية للتفكير العلمي في العالم الإسلامي‎ - ‎الإمام الغزالي (1058-1111)‏‎ ‎ولا يزال هذا الرجل يشغل مركزاً مرموقاً بين "علماء" ‏المسلمين، حيث استنكر بصراحة قوانين الطبيعة والتفكير العلمي. قال أن أي قوانين مشابهه تضع السلاسل على يد الله !. كان يجزم إنه لو كان هناك ‏قطعة من القطن تم حرقها، فإنها لا تحترق لأسباب فيزيائية بل لأن الله أراد لها أن تحترق، مع أن إرادة الله تتجسد في قوانين الطبيعة والطبيعة من صنع الله ‏لا من إبداعات البشر، وليست شيطاناً عدوّاً لعبادة الله. وهو ما يعني اعتناق الغزالي سفسطة صوفية لا تؤمن بعلوم الطبيعة ولا يأخذ بالأسباب ولا ‏يعترف بها.‏

وكما يقول د. مهاتير محمد "وأياَ كان سبب هذا التشدد على دراسة العلوم الشرعية حصراً، الحقيقة هي أن اشتغال العلماء المسلمين بدراسة ميادين ‏المعرفة الأخرى تراجعت في وقت قريب عنها في القرن الخامس عشر، وبمرور الوقت، أصبح المسلمون شديدي الجهل بهذه الموضوعات.. كانت هذه هي ‏عاقبة التفسيرات الخاطئة للآيات القرآنية، مثل الخطأ في تفسير ” اقـــــرأ” والعجيب أن بعضاَ لم يحمل الآية على معنى القراءة ". فقد حرم ابن تيمية ‏دراسة الكيمياء، وهو من أوسع فقهاء الدين انتشاراً وصيتاً بين الشعوب العربية برغم فتاواه الدموية المتطرفة، حيث يقول" أن الكيمياء أشد تحريماً من ‏الربا "‏ .

‏(لم ينتهي لقاؤنا... سيدي القارئ؛ أذكرك بأن تكون هادئاً في تناول أفكارك، وأن الدين ليس كتالوج لبناء ‏الحضارة لأن الحضارة هي منظومة (فكر - عمل - بناء – إنتاج )، بينما الدين غذاء ‏روحاني وعنصر واحد من عناصر الحضارة وليس كل أدواتها... ‏نلتقي غداً في المقال الرابع بتصرف من كتابنا؛ غُبار الاحتلال العربي)‏.

الهوامش؛
‏ 1- إبراهيم عمر السكران – كتاب "سلطة الثقافة الغالبة " – الطبعة الأولى 2014 دار الحضارة للنشر والتوزيع الرياض (ص 7 بالمقدمة) الكاتب متخصص وحاصل على بكالوريوس ‏شريعة- ماجستير سياسة شرعية من جامعة الإمام- ماجستير قانون تجاري دولي من جامعة إسكس-بريطانيا‎.‎
الكتاب منشور على موقع "طريق الإسلام " على الرابط التالي : ‏https://ar.islamway.net/book/15916/‎
‎2‎‏ - إبراهيم عمر السكران - المصدر السابق - نقلاً عن : الهروي –ذم الكلام، تحقيق عبد الله الأنصاري ، مكتبة الغرباء الأثرية (5/134) ‏
‎3‎‏ - إبراهيم عمر السكران - المصدر السابق – نقلاً عن الغزالي –تهافت الفلاسفة – تحقق أحمد شمس الدين – دار الكتب العلمية – الطبعة الثانية 1424هـ ص41 ‏
‎4‎‏ - إبراهيم عمر السكران - المصدر السابق (ص 8 بالمقدمة)– نقلاً عن ابن تيمية- الرد على المنطقيين – تحقيق الكتبي، مؤسسة الريان، الطبعة الأولى(1426هـ)،(ص45).‏
‏5 - إبراهيم عمر السكران - المصدر السابق (ص 8 بالمقدمة)– نقلاً عن ابن تيمية، مجموع الفتاوى (7/597) ‏
‎6‎‏ - إبراهيم عمر السكران - المصدر السابق (ص 9 بالمقدمة)– نقلاً عن ابن تيمية، بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية " تحقيق : موسى سليمان الدويش ، مكتبة العلوم ‏والحكم، الطبعة الأولى 1408هـ (ص235) ‏
‏7 - إبراهيم عمر السكران - المصدر السابق (ص 9 بالمقدمة)– نقلاً عن ابن تيمية ، جامع المسائل، تحقيق محمد عزيز شمس، دار عالم الفوائد ، الطبعة الأولى 1422هـ (6/139)‏
‏8- إبراهيم عمر السكران - المصدر السابق (ص 10 بالمقدمة)‏








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سيارة تحاول دهس أحد المتظاهرين الإسرائيليين في تل أبيب


.. Read the Socialist issue 1271 - TUSC sixth biggest party in




.. إحباط كبير جداً من جانب اليمين المتطرف في -إسرائيل-، والجمهو


.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة كولومبيا




.. يرني ساندرز يدعو مناصريه لإعادة انتخاب الرئيس الأميركي لولاي