الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البحث عن قصيدة منسية

سميح مسعود

2019 / 6 / 3
الادب والفن


عرفها بصعوبة شديدة بسبب الإرهاق والإعياء الباديين على وجهها، وجدها ممتلئة بالحزن، وحيدةً كفراشة تبعثرت في كل الجهات... أخبرته عن فقدها زوجها بحادث مأساوي في البصرة، وأدرك من نبرة صوتها أنَّ أيامها بعده أصبحت خالية موحشة، تحاول أنْ تداريها بدموع تذرفها عبر أهدابها دون توقف.

مشيا معا جنبا إلى جنب، ردد بعض العبارات المعروفة في مثل هذه المناسبات الحزينة... رددها بعناية، وطالبها بالصبر...أطلقت تنهيدة طويلة، وأخفضت عينيها... بقيت صامتة، غير مكترثة لأي شيء حولها.

واصل اللقاء بها... كان لديه الوقت الكافي للتحدث معها في أمورٍ تبعدُها عن منابت الأحزان، وتساعدها على رسم مشارف حياة جديدة، كان يقول لها دوما : "أخاف عليك البقاء رهينة لأثواب الحداد السوداء".

وفي ذات صباح يومٍ قائظٍ من أيام تموز، التقى بها، كانت عقاربُ الساعةِ تقارب الساعة التاسعة، جلست بجانبه في سيارته، اندمج معها في الحديث، ولاحظ تحسن حالتها النفسية... على مفترقِ طريقٍ لا ينساه، ما زال يذكره، أسمعها قصيدة بصوت خفيض، ارتجلها في لحظتها، هامت كلماتها حولها، طالبتها بخلعِ أثوابها السوداء، والاهتمامِ برونقِها من جديد... باحمرارِ شفتيها، وكحلِ عينيها، وانسدالِ شعرها طليقا على كتفيها.

ارتج صدرهُ من نفحاتِ تلك الكلمات،لا يدري كيف انسابت منه ولماذا جاهر بها... أراد أنْ يتبرأ منها ويقول لها اعتبريها كلمات اعتباطية لا أكثر.

تراجع عن هذه الجملة الأخيرة في آخر لحظة، لأنها توحي بضعف واستسلام لا تتناغم مع دوافعه البريئة، وصدقية كلماته التي رسمها بروح طيبة صافية.

لاذ بالصمت...ألقى نظرة سريعة عليها لمعرفة تأثير ما قاله لها، وجدها مرتبكة محرجة، ترميه بنظرات جانبية من حين لآخر بعينين حزينتين ذابلتين عاتبتين... لفحتهُ نظراتها العاتبة... تفسخ من شدةِ العتاب.

أمضيا بعض الوقت معا، لم يتحدثا كثيرا... ودعها وعاد إلى منزله...حاول بعد ذلك تذكر كلمات قصيدته ... لم يتذكر شيئا منها، نسيها، فرَّت حروفها منه.

***

افترقا، سارا في دربين مختلفين متباعدين تتماوج بينهما المحيطات... ظلت قصيدته منسية، علامة مفقودة يشعر برغبة ملحة لتذكرها، حاول للمرة الألف استحضار قوافيها... لم تأته الكلمات، بقيت أوراقه بيضاء.

وفي مساء أحد الأيام ، بعد مرور عام على آخر لقاء بينهما، وكانت شمس الغروب تلقي بقايا أشعتها باستحياء فوق "منطقة الوست ماونت" في مونتريال... فجأة سمع صوتاً أتاه من بعيد، هبط على أذنيهِ مثقلاً بلحنٍ ساحَ في داخلِهِ، ذكره بأصحابه...شعرَ برغبةٍ في الحديثِ معهم، وكانت هي واحدة منهم.... أصر على سماعِ صوتِها عبر الهاتف.

اتصل بها، سمع صوتها ، حدثته عن أخبارها وما حل بها طيلة عام مضى وحدثها طويلاً عن أخباره وعن الخريف في مونتريال، وصف لها أوراق الشجر بلونها الأصفر، وهي تتدلى، وتتساقط، على أمل أن تعود مرة أخرى خضراء يانعة في الربيع.

ثم قال لها : "إنني أعيش على أملِ استحضار كلمات القصيدة التي قلتها لك في تموز الماضي... هل تذكرين تلك الكلمات ؟"
أجابت بضحكة مدوية: "لماذا لم تسجلها وقتذاك؟"

قال لها: "هي بنت لحظتِها لم أكتبها قبلَ لقائِنا، ارتجلتها، خرجت دون تمهيد سابق".

واصلت الضحك من أعماقها، وراحت تردِّدُ قصيدته في حنان بالغ، وعندما أنهتها وتوقفت عن الكلام... طلب منها إعادة ترديد القصيدة ثانية حتى يكتبها.

أجابته مداعبة في رقة: "هذه القصيدة من خبايا الماضي،أريدك أن تكتبَ لي شعراً جديداً غيرها."

سألها: "كيف تمكنتِ من حفظِها في تلك اللحظة، لقد شعرت وقتذاك بعدم رضاك عنها."

ردت عليه بصوت هادئ: "إنها أجمل كلماتٍ سمعتُها، حفظتُها وهي تتوالى بين شفتيكَ كلمةً كلمة، ولأن حياتي كانت يومذاك مثقلةً بالأحزان، لم أستطع التعبير عن نشوتي ورضائي". .
كرر عليها إعادة ترديد القصيدةِ عبر الهاتف حتى يسجلها... كررت الرفض ثانية، وطلبت منه شعراً جديداً.

أنهت المكالمة، وتركتهُ وحيداً.

طوال تلك الأمسية امتلكته رغبةٌ لكتابة الشعرِ، وضعَ أوراقَهُ أمامَهُ، حاول نسج كلمات جديدة... لم تأتهِ الحروف.... قرر أن يذهبَ إلى مطعمه المفضل على أمل أن تأتيه على إيقاع الموسيقى، وأصوات الغناء.

خرج من بيته باتجاه شارع "سان كاترين" وعبر نواصي تقاطعات شوارع كثيرة متصلةٍ بهِ، وصلَ بعدها إلى شارع "كريسنت"، اتجه للرصيف المقابل، ودخل مطعمه المعتاد "ثيرسدي"... جلس وحيدا في زاويته المفضلة... وأخذ يستمع بشغف إلى مطرب شاب، كان صوته ينساب بعذوبة وهو يردد أغنية قديمة للويس ارمسترنغ عن جمال العالم وعذوبة الحياة .
ذكرته الأغنية بأيامٍ خلت... حاول على إيقاعها رسم بعض القوافي، طلبَ من النادلةِ ورقةً، وحاولَ أن يكتب... في تلك اللحظة تذكر قصيدة أنشودة المطر للسيّابِ التي قال في مطلعها من وحيِ نخيل البصرة :

"عيناك غابتا نخيل ساعة السحر".

تذكر تلك المرأة ... تصورها في غلالة شفافة وهي تتهادى حالمة بين صفوف لا تنتهي من النخيل، تعطي للحياة طعما "برحيا" حلو المذاق... ومن وحي ما قاله السياب، تذكر شجر الزيتون في قريته... تساقطت عليه بعض الكلمات، كتبها على أوراقه بأحرف نافرة:

عَيناك قنديلا زيت
عُلِقا في صَحن مَعْبَد.
كُلما الليلُ دَجى
أجيئُهُ أتَعَبَدْ.

توقف عند هذه الكلمات، لم يستطع قطفَ حروفٍ جديدةٍ لها... طوى أوراقه، وسرعان ما أسند ذقنه بمتن يده، وراح يستمتع بإيقاع أغنية عاطفية رقيقة لم يسمعها من قبل...

انتهت الأغنية والليل في هزيعه الأخير، ألقى نظرة سريعة على المغني، حياه عن بعدٍ، واندفع نحو باب المطعم... نزل عدة درجات إلى الأسفل وخرج إلى الشارع واضعا يديه في جيبه... مشي تحت زخات مطر خفيفة، وراح يدندن بصوت خافت كلمات الأغنية التي سمعها قبل قليل..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غيرته الفكرية عرضته لعقوبات صارمة


.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية




.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر


.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة




.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي