الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مايكل أنجلو أنطونيوني.. ظاهريات الغياب

محمد الفقي
محمد الفقي (1970) كاتب عربي من مصر.

(Mohamed Elfeki)

2019 / 6 / 3
الادب والفن


يبني أنطونيوني أفلامه على شكل "رحلة"، وغالباً ما تكون دائرية، تعود بالبطل إلى حيث بدأ، ولا تكون الرحلة في المكان فقط، بقدر ما تكون أساساً في الروح؛ رحلة رجاء نحو السعادة المفقودة، والبعث من جديد. لكن الرحلة لا تنتهي إلا إلى الإحباط والخيبة والفشل، واكتشاف استحالة الفردوس الأرضي، ويدفع هذا الاكتشاف بالبطل إلى الموت؛ سواء على يد غيره، أو بيده هو شخصياً .

رحلة بطل أنطونيوني قد تكون رحلة داخل المدينة (الليل، الخسوف، تكبير صورة، تعريف امرأة)، أو في الضواحي (قصة حب، الصرخة، الصحراء الحمراء)، أو في الخلاء والطبيعة (المغامرة، نقطة زابريسكي)، وفي كل الأحوال يستخدم أنطونيوني المناظر الخارجية للتعبير عن الحالة النفسية للبطل. إن اندفاع أبخرة الضغط الكثيف للمصنع في بداية (الصحراء الحمراء) هو صورة خارجية لانفعالات داخلية تحدث في نفس ريتشارد هاريس، كما أن الضباب في المشهد الذي يعقب مشهد الكوخ؛ حيث تنغمس المجموعة في لهو شبقي، هو انعكاس لحالة الضباب الداخلي في نفس مونيكا فيتي، وكما كان الضباب على الطريق أيضاً هو انعكاس للحالة النفسية لبطل (تعريف امرأة).

إن استخدام أنطونيوني للمناظر الخارجية لا يهدف إلى تسجيل الواقع، بل للكشف عن ما يعتمل في نفس البطل، إنه يستجوب العالم والأشياء، ولكن ليس على طريقة السينما التسجيلية، بل على طريقة الفيلسوف الذي يتأمل الحياة الداخلية للإنسان، ولذلك تأتي الصورة عنده تعبيراً جمالياً عن الحياة الداخلية للشخصية، أكثر من كونها انعكاساً لقواعد الدراما الكلاسيكية. من هذا المنطلق، يمكن أن نقرأ افتتاحية فيلم (الخسوف)، على سبيل المثال.

يبدأ الفيلم بمجموعة لقطات تفصيلية لا تكشف إلا أجزاءًا صغيرة فقط من المكان الذي يدور فيه الحدث، ولن يقدم لنا أنطونيوني زاوية رؤية واضحة وشاملة للغرفة التي يتم فيها الانفصال بين الحبيبين إلا بعد سبع دقائق كاملة من بداية المشهد. إن بطلة الفيلم فيتوريا هنا تشعر بالانفصال التام عن شريكها ريكاردو، وهي تدور تلمس الأشياء والإكسسوارات في الغرفة؛ في محاولة لإقامة صلة مع العالم المادي، بعد شعورها بالنفور من العالم الإنساني. لكنها هي نفسها لا تعلم إن كانت لا تزال تحب ريكاردو أم لا، ولا تعلم متى انتابتها حالة النفور تلك.

تشمل التناقضات البصرية كل شيء في هذا المشهد، تعبيراً عن حالة التشوش التي تمر بها البطلة: التناقض في الصورة بين مناطق الإضاءة والعتمة، ملابس فيتوريا السوداء المقابلة لقميص ريكاردو الأبيض، حركتها الهائمة على وجهها في مقابل سكون ريكاردو، وقوفها وحدها أمام المرآة التي تقسمها لنصفين (كما سيقف لاحقاً جاك نيكلسون أمام المرايا التي ستقسمه في "المهنة مراسل")، برودة مشاعرها المناقضة للخوف الذي ينتاب ريكاردو من قرارها بالانفصال، بل والمناقضة أيضاً للوحات التجريدية على الجدران التي تصرخ بأشكال وتكوينات عنيفة. الإكسسوارات في الغرفة هي أيضاً في حالة تناقض: الأشكال الهرمية للتماثيل تتناقض مع الشكل الدائري لمروحة المكتب، المنحوتات الحديثة -الأشبه بأعمال هنري مور- تتناقض مع نفايات السجائر في المنافض، حتى أرضية الغرفة المصقولة، تعكس صورة فيتوريا، وكأنها مزدوجة الوجود. إن أنطونيوني يستغل كل شيء للتعبير بصرياً عن حالة التشوش والالتباس التي تنتاب مشاعر فيتوريا تجاه ريكاردو، وتجاه العالم بأسره.

حين تفتح فيتوريا الستارة العريضة لنافذة الغرفة، ترى صورة الأشجار التي تناقض ما بداخل الغرفة من صمت وأعقاب سجائر وفن تجريدي مقبض، لكنها ترى أيضاً برجاً طويلاً يشبه سحابة المشروم التي تُخلفها التفجيرات النووية؛ وكأن هذا البرج المادي؛ بصمته وبرودته، هو التعبير عن العنف الكامن في المشهد، وكأنه انعكاس لحالة الخراب النفسي للشخوص، وكأننا نسمع هنا مقولة إيميل سيوران: "الإنسانُ يسيلُ خراباًَ". سنلاحظ تكرار الأشكال البرجية التي تعبر عن الخراب الأبدي في أفلام أنطونيوني؛ من قبيل وقوف بطلة (نقطة زابريسكي) في الصحراء لتتفرج على سحابة التفجير التي تشبه برج سحابة المشروم، وكمثل برج المصنع الضخم الذي تتصاعد منه أبخرة الغاز الكثيفة في (الصحراء الحمراء)، الذي يهيمن على الصورة وعلى مونيكا فيتي وابنها الصغير في عدد من مشاهد الفيلم.

إضافة إلى الالتباس والغموض واللايقين الذين هم أهم أبطال الوجود عند أنطونيوني، فإن الصمت يأتي في المرتبة الثانية. لكن صمت بطل أنطونيوني ليس هو نفسه صمت أكيفوسا بطل قصة (الصمت) لياسوناري كاواباتا؛ ذلك الكاتب المريض الذي أوغل في العمر، وكفَّ عن الكلام، وعن الكتابة، وأسلم عنانه للصمت في وحشة أيامه الأخيرة، غارقاً في اللاشيء، والفراغ، والعدم، حتى أنه هو نفسه، وماضيه، وذاكرته، يصبحون نهباً مشاعاً لابنته توميكو، التي ترغب في إعادة كتابة تاريخ أبيها وفقاً لوجهة نظرها هي.

لا، إن كان الصمت عند أنطونيوني فقداً، فهو فقد بهدف الامتلاء. إن مساحات الصمت الممتدة في أفلامه تبدو وكأنها محاولة لمحو كل شيء من وعي البطل، وكأنها محاولة للنسيان لإفساح مجال بكر أمام الأمور البكرة، وهو ما يُذكرنا بأجمل أفلام المخرج الفنلندي الكبير آكي كورسماكي (إنسان بلا ماض، 2002)؛ حين يفقد البطل في بداية الفيلم ذاكرته، لكنه لا يحاول معرفة ماضيه ولا البحث عنه (على عكس بطل رواية "شارع الحوانيت المعتمة" لباتريك موديانو، على سبيل المثال)، بل يتطلع إلى الأمام، ويمارس حياته كأنه قد بُعث من جديد، بذات جديدة. إن أنطونيوني، بالمثل، لا يُعامل النسيان بوصفه ملكة سلبية، ولا يستعمله كناية عن طاقة مُعطِّلة، بل كقدرة فاعلة، وطاقة لمقاومة القوى المعاكسة التي تقف أمام تطلعات البطل. ولذلك يعمل النسيان عنده وكأنه جهاز للمحافظة على صفاء البطل، وإباءه، واستمتاعه باللحظة الآنية أثناء رحلته.

من الأمثلة الشهيرة على النسيان عند بطل أنطونيوني: نسيان ساندرو لهدف البحث عن حبيبته المختفية في (المغامرة)، واستغراقه في الطريق، حتى يضيع الهدف، ويصبح الطريق نفسه هو الهدف. إن النسيان هنا يبدو كما لو كان نتيجة لمرض أو خلل عقلي طارئ أصاب ساندرو في بداية زمن الفيلم. لذلك نلاحظ أن ساندرو يستجيب لنفسه أثناء الرحلة بوصفه "حاضراً"، لا بوصفه "مستقبلاً"، أي دون اضطرار لتقدير عواقب أفعاله، فينغمس في اللهو مع كلاوديا صديقة حبيبته المفقودة، دون أن يحمل هم استشراف ما يخبئه المستقبل، ودون حرص على أن تكون تصرفاته "نظامية" تُرضي من حوله، وكأن ساندرو يتحول أثناء رحلته ليصبح إنساناً "بلا مسؤولية". إن بطل أنطونيوني يضرب في الإنجاز الكبير الذي اشتغل من أجله الإنسان على ذاته منذ فجر التاريخ؛ ألا و هو: المسؤولية، وما ينبثق عنها من "ضمير" يجعل الإنسان مُقدراً للعواقب. إن أنطونيوني يستخدم النسيان في بداية كل رحلة في أفلامه، وكأنه جهاز لتعطيل الحس بالمسؤولية، وتابعها الضمير.

وتماماً مثل ساندرو في (المغامرة)، وآلدو في (الصرخة)، وتوماس في (تكبير صورة)، والشاب الثوري في (نقطة زابريسكي)، وجاك نيكلسون في (المهنة مراسل)، فإن تحرر بطل أنطونيوني أثناء رحلته من الشعور بالمسؤولية، ومن فكرة الضمير، يجعله رشيقاً خفيف الحركة، لأنه قد تخلص من الذاكرة التاريخية الطويلة لتطور أشكال المسؤولية والضمير، وكأنه هنا ينبذ "العقل الحديث" بأكمله، المسؤول عن الرصانة، والتحكم في العواطف والغرائز لدى الإنسان المعاصر، ذلك الذي كلف الإنسان ثمناً غالياً حتى يصل إليه.

لقد لجأ الإنسان إلى أفظع الوسائل حتى يتزود بذاكرة تجعله سيد غرائزه؛ وسائل تشمل مختلف أنواع العقوبات والتعذيب والتنكيل، بغية الوصول إلى مجموعة من الـ (لا يجوز) والـ (ممنوع)، والتي بدونها يفقد الإنسان امتيازات العيش ضمن مجتمع الجماعة وفوائده. إن الوصول للتحكم بالعواطف، والرصانة، وطقوس التهذيب، والعقل الحديث بأكمله، قد كلف الإنسان ثمناً غالياً من الدماء والرعب والفظاعة، التي طبعت بالحديد المُحمَّى على ذاكرته تلك النواهي التي يجب أن لا يقترفها. ومن هنا يأتي "الإحساس بالذنب" و "تعذيب الضمير" في حال خرق تلك النواهي، وعند تجاوز تلك الحدود التي تم تثبيتها في الذاكرة الإنسانية.

فالمرء حين يعيش بين جماعة، يتمتع بما توفره له هذه الجماعة من منافع ومزايا: فهو يتمتع بحمايتها، ناعماً بالسلم والطمأنينة، بعيداً عن البلايا التي يتعرض لها من يظل خارجها، شرط أن يتعهد بالطاعة والمسؤولية والانضباط. أما إذا حدث وخرق الإنسان العهد الذي قطعه على نفسه تجاه الجماعة، فهو لا يُحرم فقط من كل تلك المنافع، بل يصبح عرضة لغضب الجماعة أيضاً، ويناله عقاب العدو المكروه، فاقداً لا فقط حق الحماية، بل حق الشفقة أيضاً (وهذه هي الحالة المتطرفة عند بطل أنطونيوني، والتي نجدها في: نقطة زابريسكي، والمهنة مراسل).

إن محاولة بطل أنطونيوني نسيان العقل الحديث أثناء الرحلة، والتشبه بإنسان ما قبل التاريخ، ما قبل المسؤولية، تجعله كمن يعتمد مقاييس الأزمنة القديمة البعيدة؛ حين كان الإنسان لا يحمر خجلاً من عواطفه وغرائزه (نتذكر هنا مشهد انغماس مونيكا فيتي في الرقص البدائي في شقة صديقتها في "المغامرة"، وأيضاً انغماس الفتى الثوري الهارب وصديقته في اللهو مع العرايا في الصحراء في "نقطة زابريسكي"). وكأن الذاكرة الوحيدة التي بقيت لبطل أنطونيوني، هي فقط أيام تذكر بدائيته الأولى، والتي فجرتها الحادثة المعنية في بداية الفيلم/الرحلة، ولذلك يحن بطل أنطونيوني إلى الخلاء والصحراء (المغامرة، نقطة زابريسكي، الصحراء الحمراء، المهنة مراسل)، بل حتى أننا نلمس ذلك الحنين في العودة المتكررة لتوماس إلى الحديقة التي توجد بها الجثة في (تكبير صورة)، وكأنه يحاول أن يطارد في الطبيعة ماضيه البدائي، بغية العثور على حقل مليئ بالمغامرات، وحديقة زاخرة بالمتع.

ورغم ذلك، وكما لو كان بسبب نوع من الغريزة اللاوعية والمتبصرة في آن واحد، يدرك بطل أنطونيوني مخاطر الخروج الكامل عن المجتمع، فلا يخاطر أثناء رحلته بإعلان العصيان التام (إلا في الحالات المتطرفة، وتكون النتيجة كارثية: نقطة زابريسكي، والمهنة مراسل)، بل يظل يحوم على التخوم والمحيط والهوامش، فتأتي مواقفه سلبية، وأفعاله مجرد ردود أفعال انعكاسية، لا إيجابية بناءة فاعلة. وكأن هناك قوى ما ملتوية داخل البطل، قوى كابحة تعمل على وقف طغيان الأهواء الحيوية العنيفة، حتى لا يخرج البطل عن المجتمع خروجاً كاملاً، وحتى يتم وضع حد لاستشاطة الطاقة الرومانية بداخله. أحياناً يتم ذلك بانتزاع موضوع الرحلة من أيدي البطل (اختفاء الجثة، ثم صورها الفوتوغرافية، في " تكبير صورة")، أو تتولى هذه القوى التقليدية بنفسها إعلان الحرب السافرة على الروح البدائية بداخل البطل (نقطة زابريسكي)، أو باستنباط تسويات وسطية تدجينية (الليل، الصحراء الحمراء)، أو في القليل النادر، وحينما تكون الرغبة والقوة والتصميم عند البطل في أشدها، يتم منح تعويض مكافئ للبطل، لكنه زائف في نفس الوقت، بغرض إنهاء المسألة بإحالة المغامرة والرحلة إلى قرين زائف للرغبة (تعريف امرأة).

ملمح آخر نلحظه في رحلة بطل أنطونيوني؛ أنها أشبه بـ "الحلم"؛ حلم يلفقه الذهن، لأنها تفتقد إلى الفعل الأصيل؛ فعل التغيير؛ حلم يبدأ مع شعور البطل بالتحرر من الماضي، ومن الذاكرة، ومن الديون التي تقع على عاتقه للأسلاف (نقطة زابريسكي، المهنة مراسل). لكن ما أبعد الحلم عن الواقع! إن بطل أنطونيوني، بحلمه، يضع قدمه في حقل لا يستطيع اجتيازه إلا من كان أصلب منه إرادة، إن رحلته ليست قفزة إلى الأمام، بقدر ما هي قفزة إلى الأمام وسقطة إلى الأسفل في نفس الوقت. والسقطة تحدث لأنه يرضى بردود الأفعال الانعكاسية، فهو لديه الطموح اللازم لكي يُبعث من جديد، لكنه لا يتمتع بالقوة الكافية لدفع الثمن الكامل لتحقيق ذلك؛ ثمن الفعل الأصيل لتحقيق مثل أعلى جديد. ولأن رحلته "الحُلمية" تفتقد إلى الفعل، تسفر حالة اليقظة التي تعقبها، عن ردة معاكسة لاتجاه الحلم، فيغوص البطل في خضم الضباب المتشائم للواقع، ويدرك الاستحالة الفولاذية لتحقيق أمله في ولادة ثانية، فتجتاحه التعاسة المريرة عندما يرى نفسه على حقيقتها؛ يرى ضعفه، والدودة العملاقة الكامنة في أعماقه، ويدرك الهوة الرهيبة بين الواقع وبين الحلم المثالي. إن الحلم ينقلب في النهاية على الحالم، فيفقد الوجود بالنسبة له عناء أن يُعاش، ويتمكن منه نقيض الحلم؛ أي اليأس، وينتشر بداخله طولاً وعرضاً وعمقاً، فيُصاب إما باليأس المفرط (المغامرة، الليل، الخسوف، الصحراء الحمراء)، أو يتوق إلى العدم والموت (الصديقات، الصرخة، المهنة مراسل)، أو يتقوقع برعب على فرديته ويتظاهر بالاندماج في الممارسات التدجينية للمجتمع (تكبير صورة).

في مشهد النهاية في فيلم (تكبير صورة)، وعندما يفشل توماس في حل لغز الجريمة، وتختفي جثة القتيلة من الحديقة، ثم الصور الفوتوغرافية التي التقطها لها، وتضيع كل استقصاءاته وتحرياته هباءً، يشارك أخيراً في مبارة تنس وهمية، مع مجموعة من ممثلي البانتومايم، الذين يؤدون حركات إيمائية وكأنهم يلعبون مباراة تنس حقيقية. إن بطل أنطونيوني يفيق من الحلم، وحين يفيق يرى الواقع، ولأنه يدرك استحالة إيجاد توافق بين الحلم والواقع المُفزع، يحاول خلق حلم آخر جديد، يحاول خلق مثالية زائفة، فيستسلم لتصورات غريبة عجيبة، مضادة للطبيعة والواقع والحواس، يستسلم لسيل من الهذيان، وكأن دماغه قد أصابها خلل، فيُخضع الواقع للافتراء والتنكر والكذب، ويُشيد لنفسه مثالاً سلبياً مضاداً للحواس والغرائز.

ومن هنا يمكن فهم حركات الكاميرا "السحرية" التي نراها على وجه الخصوص في نهايات أفلام أنطونيوني؛ من قبيل اللقطة الطويلة المستحيلة في ختام (المهنة مراسل)؛ والتي تطلبت بناء ديكور الفندق بأكمله على نحو يمكن معه شقه إلى نصفين، لتتمكن الكاميرا والعربة التي تحملها من الخروج والالتفاف حول الديكور. إن ما يبدو أنه غرام لأنطونيوني بحركات مستحيلة للكاميرا؛ والتي تتطلب تقنية سينمائية عالية، وخيالاً شديد الإبداع، لا يمكننا اعتباره غراماً بالتقنية وبالخيال في حد ذاتهما، ولا غراماً للساحر بأدواته؛ كحال هتشكوك مثلاً؛ الذي كان على استعداد لبناء دراما كاملة، حباً في تجريب تقنية سينمائية جديدة واتت خياله.

لا، إن كل شيء عند أنطونيوني هو خادم للتعبير عن الحالة الداخلية للبطل؛ ينطبق ذلك على كل العناصر البصرية والسردية في الفيلم: أسلوب السرد، بناء الفيلم، الديكورات الداخلية، المناظر الخارجية، الملابس والإكسسوارات، الألوان، أحجام وزوايا اللقطات، شريط الصوت، المونتاج. ومن ثم فإن حركات الكاميرا المستحيلة عنده، هي أيضاً خادم للدراما الداخلية للبطل؛ إنها كناية عن الأحلام الخيالية التي تجتاح البطل في النهاية؛ إنها كناية عن الانفصال عن الطبيعي والواقعي والحقيقي. إن حركات الكاميرا تلك، بما تتضمنه من "تضليل" و"خداع" مشهور بهما أنطونيوني في حركات كاميرته السحرية، هي المكافئ للعبة التضليل والخداع التي يمارسها الذهن على نفسه بنفسه، لكي يواصل العيش، آملاً في يوتوبيا تُضفي سمة الاستمرارية والانسجام على الأمور غير المنسجمة.

في نهاية الرحلة، يعود البطل إلى حالة الحيرة وخيبة الأمل والحزن، التي كان عليها قبل بداية رحلته، ويصبح كالحيوان المائي الذي يضطر إما إلى التكيف مع حياة اليابسة، وإما إلى الموت. في بعض الأحيان (الليل، الخسوف، الصحراء الحمراء، تكبير صورة) يرضخ البطل، كما يرضخ الإنسان لمرض من الأمراض؛ أي دون مناهضة ولا تمرد، ويتم في النهاية ترويضه، دون أن يعني ذلك أنه قد أصبح إنساناً أفضل. وفي أحيان أخرى، يُفضل بطل أنطونيوني الموت؛ لأنه لا يملك القوة العقلية ولا النفسية اللازمة للبقاء في صحراء النفس الخالية من الماء ومن المأوى، فيلجأ إلى الانتحار، وكأن "نفسه" أقسى من أن يتحملها (الصديقات، الصرخة). يستطيع المرء أن يدرك الآن لماذا تخلو أفلام أنطونيوني من تلك السخرية، التي تميز مثلاً أفلام هتشكوك؛ حيث هروب البطل يجر معه الكثير من المفارقات الساخرة. إن مطاردة بطل أنطونيوني للرجاء، للأمل، للبعث من جديد، من المواضيع التي لا تحتمل السخرية، كما لا تحتمل السخرية ساعة إصدار المحكمة لحكمها على إنسان ضائع.

نغتنم الفرصة هنا لنشير إلى أن بطل أنطونيوني، على عكس بطل هتشكوك؛ مُطارِد لا مُطارَد؛ إنه يهرب إلى الأمام مطارداً الحقيقة؛ حقيقة نفسه أولاً، لا حقيقة العالم، لأن العالم لا يهمه كثيراً، على عكس أبطال دستويفسكي مثلاً؛ الذين يعاملون هموم العالم والوجود كهموم شخصية ذاتية، قد تدفع بعضهم حد الانتحار. لا، إن بطل أنطونيوني لا يمكن أن يموت من أجل التفكير في الكينونة والوجود، لأن ما يؤرقه هو وجوده الخاص والشخصي والمادي، لا الأفكار عن الوجود. وربما لهذا السبب يسود البرود العلاقات بين الشخصيات، على عكس فورات الانفعالات الخارجية الواضحة والعنيفة لدى دستويفسكي، وتصبح البنى الذهنية للشخصيات هي الحاكمة في مملكة أنطونيوني الزاخرة بالانفعالات الداخلية المكبوتة والمشوشة والملتبسة.

تبدأ رحلة بطل أنطونيوني (الحُلمية) بعد إصابة البطل بما يشبه الخلل في الدماغ، وتنتهي وقد أصابه أيضاً خلل في الدماغ، لكن الخلل الأول يكون كناية عن بدايات صحة وقوة؛ مرض من نوع الحَمْل؛ وكأنه شعور طاغ بالحاجة إلى تدارك سنوات الطاعة بأيام تمرد. في حين تكون النهايات كناية عن المرض بمعنى الموت. وكأن الرحلة كانت هلوسة من تلك الهلوسات التي تسبق الموت؛ وكأنها أشبه بوقدة أخيرة للروح، تذكيها قوة وقدات ما قبل الموت، ولكنها تذكيها لوقت قصير جداً؛ كالنار تشتعل ثم تنطفئ.

ولذلك فإن الثبات هو الأصل عند أنطونيوني، والحركة هي الفرع؛ هي الاستثناء الذي يأتي وكأنه رثاء للثبات. إن الثقل الممنوح لمنطق الصور الفوتوغرافية في سينما أنطونيوني، لمنطق الثبات والصمت والجمود، يأتي وكأنه كناية عن مؤقتية رحلة البطل الحُلمية، وتنبؤ بمدى قدرة القوى المضادة على كبح جماح رحلة الأمل. إن مساحات الفراغ في أفلام أنطونيوني؛ مثل تلك التي نجدها في الجزيرة البركانية في (المغامرة)، وفي المصنع والضواحي في (الصحراء الحمراء)، وفي الحديقة وستديو التصوير في (تكبير صورة)، وفي الصحراء في (نقطة زابريسكي، والمهنة مراسل)، وفي الطريق الضبابي والديكورات الداخلية وبحيرات اللاجون الممتدة في (تعريف امرأة)، تذكرنا باستبداد مساحات الفراغ عند فناني السينما العظماء؛ وكأنها كناية عن الخواء والعدم، كناية عن هشاشة الوجود الإنساني ومؤقتيته، وأن الثابت والباقي والأبدي في نهاية الرحلة هو الخضوع والهزيمة والموت.



****
فيلموجرافيا:
ولد مايكل أنجلو أنطونيوني في فيرارا بإيطاليا عام 1912. درس الاقتصاد في جامعة بولونيا، وعمل بعد تخرجه في مجال البنوك لفترة قصيرة، قبل أن ينخرط في كتابة النقد السينمائي، وترجمة الأدب الفرنسي إلى الإيطالية، وكتابة السيناريوهات التسجيلية، والعمل مساعداً للإخراج في بعض الأفلام (منها فيلم: "زائرو المساء"، لمارسيل كارنيه، 1942). بدأ العمل منذ عام 1943 في إخراج بعض الأفلام التسجيلية، وأتيحت له الفرصة في عام 1950 لصنع أول فيلم روائي طويل، واستمر في صنع الأفلام الروائية والتسجيلية في إيطاليا، وبريطانيا، والولايات المتحدة الأمريكية، حتى عام 2004. يُعد أحد أهم رموز الحداثة في السينما العالمية. توفي في روما عام 2007.

من أبرز الأفلام التي صنعها:
1- قصة حب، 1950.
2- المَهزومون، 1952.
3- السيدة بدون أزهار الكاميليا، 1953.
4- الصديقات، 1955.
5- الصرخة، 1956.
6- المغامرة، 1960.
7- الليل، 1961.
8- الخسوف، 1962.
9- الصحراء الحمراء، 1964.
10- تكبير صورة، 1966.
11- نقطة زابريسكي، 1969.
12- الصين (تسجيلي)، 1972.
13- المهنة مراسل، 1974.
14- لغز أوبروالد، 1980.
15- تعريف امرأة، 1982.
16- ما وراء السحاب، (إخراج مشترك مع: فيم فيندرز)، 1995.
17- جزء من الفيلم المشترك (إيروس)، مع: وانج كار واي، وستيفن سوديربرج، 2004.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحكي سوري- رحلة شاب من سجون سوريا إلى صالات السينما الفرنسي


.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع




.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج