الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جبر الحداثة: من فكر البساطة الى فكر التعقد (4/3)

السيد نصر الدين السيد

2019 / 6 / 3
مواضيع وابحاث سياسية


"تمكين الانسان" عبارة قصيرة لا بد وان يصحبها سؤال مشروع وهو تمكينه من ماذا؟ وابسط الاجابات هي تمكينه من الاسهام الفعال، بالفكر او الفعل، في عملية الارتقاء برفاه المجتمع الذي يعيش فيه. ولا يتحقق هذا الاسهام الفعال دون تعزيز قدرة الانسان، أيا كان وضعه الاجتماعي أو الثقافي، على التفكير العقلاني فيما يتعلق بأمور دنياه وعلى تعزيز قدرته على تجسيد ما يتوصل اليه من رؤى وأفكار على ارض الواقع. أي ان لمفهوم "تمكين الانسان" بعدان يتعلق أولهما، الذي أطلقنا عليه اسم "تحرير العقل"، بتخليص عقل الانسان من كافة ما يعوقه عن التفكير الحر والمستقل ويحد من قدرته على بلوغ صواب الاحكام المتعلقة إدارة شئون حياته. وسيكون هذا البعد هو موضوع هذه المقالة. أما البعد الثاني، الذي أطلقنا عليه اسم "تيسير الفعل" سيكون موضوع مقالتنا القدمة، فيتعلق بالبنى الاجتماعية والآليات التي تتيح للإنسان تنفيذ او متابعة تنفيذ قناعاته المتعلقة برفاه المجتمع الذي يعيش فيه.

تحرير العقل
يعيش انسان القرن الواحد والعشرين فترة تحول جذرية شبيهة بتلك التي مر بها اسلافه في أواخر القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر عندما شهدوا تبلور وميلاد "الثورة الصناعية الأولى" التي كانت بدايتها ظهور ت الآلة التي تسيرها الطاقة المولدة من احتراق الوقود وكانت بداية التحول من عصر "حضارة الزراعة" إلى عصر "حضارة الصناعة". ولقد عجزت منظومة الفكر السائدة حينها، والتي ارتكزت على الدين، عن مواكبة التغيرات التي تطلبتها الحضارة الجديدة الوليدة فكانت موجات الحداثة المتلاحقة، الكلاسيكية (1789-1900) و المتأخرة (1900-1989) (Osborne, 1992). ويمكن تعريف الحداثة بأنها "قوة تقدمية واعدة لتحرير الانسان من الجهل واللاعقلانية و تهدف الى تنظيم الحياة الاجتماعية اليومية بطريقة عقلانية" (Habermas, 1993 Rosenau, 1992). أو بعبارة أخرى رفع "كفاءة" Efficiency المجتمع بتعظيم قدرته على تحقيق أفضل النتائج باستخدام أقل قدر من الموارد (Charlton & Andras, 2003). هذا كان عن الحداثة في صورتها الأولى التي قامت على ثلاثة مبادئ رئيسية هي: "العقلانية" Rationalism، "الفردانية" Individualism و"التقدم" Progress.

و"العقلانية"، أولى هذه المبادئ، هي الإيمان بقدرة عقل الإنسان، وعقل الإنسان فقط، على إنتاج المعرفة اللازمة لفهم الواقع الذي يعيش فيه ولتغييره. أي ان العقلانية هي استخدام العقل في كلا من "الفكر" و"الفعل". واستخدام العقل في "الفكر" معناه ألا تعتقد في صحة شيئ ما لم توجد شواهد قوية على صحته. فالتفكير العقلاني ببساطة هو ان تقوم احكامنا وقراراتنا وأفعالنا على معطيات يمكن التحقق من صحتها، ولا تلونها مصالح شخصية، ولا تقيدها الآراء المسبقة، ولا توجهها المشاعر الذاتية. وعبارة "معطيات يمكن التحقق من صحتها" تعني الشيئ الكثير. فهي أولا تعني ديناميكية التفكير العقلاني فكل ما يثبت خطأه من معطيات يتم استبعاده واستبداله بما ثبتت صحته. وهي تعني أيضا مرونته بتقبله لكل جديد من معطيات صحيحة. أما عقلانية الفعل فتعنى قدرتك على تبنى أهداف مناسبة وعلى تحقيقها بأفضل الوسائل الممكنة.

ونقطة البداية لعملية التفكير العقلاني هي "عالم الشهادة"، أو الواقع المعاش، ومنها تبدأ محاولة فهمه باستخدام المنهج العلمي بمختلف أدواته وضوابطه. أما نقطة النهاية فهي استخدام المعرفة العلمية التي أنتجها عقل الإنسان لتغيير الواقع لصالحه. أي أن الواقع، بمكوناته المتعددة وأحداثه المتلاحقة ومتغيراته المتسارعة، هو موضوع نشاط العقل وهو الذي يحدد بمعطياته صحة وصلاحية ما ينتجه هذا العقل من تصورات. أو بعبارة موجزة تعتبر "مرجعية الواقع" واحدة من أهم أبعاد العقلانية وتشكل معيار الحكم على عقلانية أي منظومة ذهنية قد يلجأ لها الانسان في تعامله مع الواقع.

اما ثاني المبادئ، "الفردانية"، فيشدد على استقلالية الفرد، فكرا وفعلا، وعلى اعتماده على نفسه في اتخاذ قرارته المتعلقة بشئونه الشخصية دون تدخل من أي جهة أيا كانت. أي ان هذا المبدأ يؤكد على تحرير الفرد من كافة اشكال الهيمنة والتحكم التي تحد من قدرته على التفكير الحر والابداع.

وآخر مبادئ الحداثة في صورتها الأولى، "التقدم"، فيعنى القناعة بأن المستقبل بالضرورة أفضل من الماضي وأن هذا المستقبل قابل للتحقق بجهد الإنسان وذلك نتيجة لـ "إبداعاته" التي لا تتوقف. وهي الإبداعات التي تتمثل في التنامي الهائل والمتسارع في المعرفة البشرية وفى التكنولوجيات المتطورة. أي ان الزمن، من منظور هذا المبدأ، كالسهم إذا انطلق لا يعود الى الوراء.

ولعل اهم انجاز حققته منظومة الحداثة في صورتها الأولى، أو حداثة الجيل الأول، هو وضعها حدودا فاصلة بين كلا من الفكرين العقلاني واللاعقلاني بتبنيها مبدأ "مرجعية الواقع" في مقابل "مرجعية النص" التي تميز العديد من اشكال الفكر اللاعقلاني.

عقلانية حداثة الجيل الثاني
واليوم يشهد انسان القرن الواحد والعشرين ميلاد ثورة تكنولوجية جديدة هي "الثورة الصناعية الرابعة" التي ازالت الحدود بين ثلاثة عوالم: العالم الرقمي (برمجيات الكومبيوتر)، العالم الطبيعي (او الفيزيائي) وعالم الانسان (أو العالم البيولوجي). ثورة بدأت في رسم صورة لحضارة جديدة يتسم مجتمعها بالتعقد الفائق الذي لا يكف عن التزايد. فمجتمع هذه الحضارة يتميز بتنوع شديد في مكوناته فيتعين على انسانه حسن الاختيار، وبتشابك معقد للمصالح عابر للحدود فيتعين عليه مراعاة التوازنات، وبتسارع غير مسبوق في تعاقب الاحداث وتغيرات التكنولوجيا فيتعين عليه التكيف لينجو من فخ الانقراض. ثورة يلعب فيها الابداع بشتى صوره وفى كافة المجالات دورا غير مسبوق في تعزيز رفاه المجتمعات. وقد أدى هذا كله بالإضافة الاكتشافات العلمية الحديثة، الى مراجعة بعض مسلمات عقلانية حداثة الجيل الأول حتى تتمكن من التعامل مستجدات الواقع الجديد. ومن أهم المسلمات التي خضعت للمراجعة مبدأي "الموضوعية المطلقة" و"قانون الثالث المرفوع" Law of the Excluded Middle وذلك على سبيل المثال لا الحصر.

يفترض مبدأ "الموضوعية المطلقة" إمكانية الفصل التام بين "الموضوع المُلاحَظ" و"الذات الملاحِظة" بما يعنيه هذا من عدم تأثر الواقع بفعل الملاحظة وبعدم تأثر أحكام الإنسان الملاحِظ وتفسيراته لما يلاحظه بآرائه وتوجهاته الشخصية. وقد جاء تفنيد هذا المبدأ على أيدي كلا من نظرية النسبية ونظرية الكم. فنظرية النسبية بينت أن إدراك الإنسان للمكان، وما ينطوى عليه من أبعاد، وإحساسه للزمان، بما ينطوى عليه من تعاقب للأحداث، يتوقف على حركته. أما نظرية الكم فقد جاءت بـ "مبدأ اللاتيقن (أو الريبة)" Uncertainty والذي يؤكد على أن مجرد عملية ملاحظة (أو مراقبة) الإنسان للواقع تؤثر على حالته ومن ثم على ما تتم مشاهدته وتسجيله. وقد أدى هذا كله إلى تآكل مبدأ "الموضوعية المطلقة" فالعالم الذي نعيش فيه يتأثر بأفعالنا ويؤثر فيها. لذا لا يمكن الفصل التام بين "الموضوع المُلاحظ" و"الذات الملاحِظة" فوصف وتفسير أي ظاهرة طبيعية أو اجتماعية مرتبط ارتباطا وثيقا بخلفية "الذات الملاحِظة" المعرفية والثقافية. وهنا يأتي مبدأ "إعادة الاعتبار للذات المشاهدة" ليؤكد على أن وصف وتفسير أي ظاهرة طبيعية أو اجتماعية لا يكتمل إلا بأخذ خلفية "الذات الملاحِظة" المعرفية والثقافية في الاعتبار. ويؤكد مورين، مؤسس "فكر التعقد"، على الدور الهام الذي يلعبه "اللا تيقن" في تطور المعرفة وتناميها (Morin, 1999). فبدون الاعتراف بهذا الدور وبدون أخذه في الاعتبار يصبح كل شيء في حياة الإنسان مقرر سلفا ولا يصبح لـ "الإبداع" والابتكار" و"التجدد" و"التطور" مكانا في هذه الحياة.

وثاني المسلمات التي خضعت للمراجعة قانون "قانون الثالث المرفوع" الذي تعددت مظاهره. وينص هذا القانون، في صورته اللفظية، على "أن الحكم بصحة أمر من الأمور لا يخرج عن اثنتان: فهو إما أن يكون صائبا، أو أن يكون خاطئا". فهذا القانون، الذي وضعه أرسطو (384-322 ق.م) منذ أكثر من ألفى سنة، لا يسمح ان يتصف الشيئ بصفة ما ونقيضها في نفس الوقت. الا ان اكتشافات الفيزياء الحديثة وفى القلب منها "ميكانيكا الكم" Quantum Mechanics القت شكوكا جوهرية على صلاحية هذا القانون. فلقد بينت هذه الاكتشافات ان الضوء، على سبيل المثال، يسلك في بعض الأحيان سلوك الموجات بينما يتصرف في أحيان أخرى كما لو كان تدفقا للجسيمات التي تعرف بالـ "فوتونات" Photons. ولا يقتصر تطبيق هذا المبدأ على الضوء بل تمتد صلاحيته أيضا للجسيمات. فالإلكترون، على سبيل المثال، يمتلك مثل هذه الشخصية المزدوجة إذ يتصرف أحيانا كما لو كان جسيما ماديا بينما يسلك في أحيان أخرى سلوك الموجات. وعلى صعيد التطبيق فإن هذا يعني ضرورة أن تتضمن دراستنا لأي منظومة أو ظاهرة كافة ما قد يبدو متناقضا من تفسيرات.
كان هذا عرضا سريع لبعض ملامح العقلانية الجديدة عقلانية حداثة الجيل الثاني التي وان كانت ورثت عن سابقتها مبدأها الحاكم "مرجعية الواقع" الا انها استخدمت الاكتشافات والمقاربات العلمية الحديثة مثل نظرية التعقد في مراجعة مسلمات سابقتها لتكون النتيجة منظومة فكرية جديدة تدعم قدرة الإنسان على التعامل واقع بالغ التعقد ... منظومة يمكن تسميتها "فكر التعقد".
المراجع
Charlton, B., & Andras, P. 2003. The Modernization Imperative. Exeter, UK: Im-print- Academic.
Habermas, J. 1993. Modernity versus Postmodernity. In J. Natoli, & L. Hutcheon (Eds.), A Postmodern Reader: 91-105. Albany, N.Y.: State University of New York Press.
Morin, E. 1999. Seven Complex Lessons in Education for the Future. Paris.
Osborne, P. 1992. Modernity Is a Qualitative, Not a Chronological, Category: Notes on the Dialectics of Differential Historical Time. In F. Barker, P. Hulme, & M. Iversen (Eds.), Postmodernism and the Re-reading of Modernity: 65-84. Manchester: Manchester University Press.
Rosenau, P. M. 1992. Post-Modernism and Social Sciences. Princeton, NJ: Princeton University Press.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. التصعيد بين إيران وإسرائيل .. ما هي الارتدادات في غزة؟ |#غرف


.. وزراء خارجية دول مجموعة الـ7 يدعون إلى خفض التصعيد في الشرق




.. كاميرا مراقبة توثق لحظة استشهاد طفل برصاص الاحتلال في طولكرم


.. شهداء بينهم قائد بسرايا القدس إثر اقتحام قوات الاحتلال شرق ط




.. دكتور أردني يبكي خلال حديثه عن واقع المصابين في قطاع غزة