الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شام-الفصل التاسع عشر

منير المجيد
(Monir Almajid)

2019 / 6 / 7
الادب والفن


قبل شهرين من إنتهاء خدمتي في المتحف الحربي، كنت أضع خاتم خطبة في إصبعي. أنا، الذي كنت أتبجح دوماً باكتشافي أن الزواج ليس سوى مؤسسة أثبتت فشلها. فالنساء لسن مفرخة أبناء، والرجل، بطبعه المتوحش البدائي، سوف يبقى متخذاً وضعية الصياد، حتى لو أستؤصلت كل بروستاته، أو أقعدته الشيخوخة وحوّلت أعضاءه إلى خرق.

أجدادنا الأوائل، قبل اختراع اللغات والموسيقى، كانوا يشتمّون رائحة النساء، كما يفعل الآن فحول الحيوانات الثديية، فيجروّنهن من شعورهن ويجامعونهن ثم يمضون لإصطياد فريسة اخرى.

في الأزمنة الحديثة تغيّرت الأمور، إلا غريزة الصيد لدى الرجال: صيد النساء.

وهكذا ضربت فلسفتي هذه عرض الحائط، حينما وضعت شابة قامشلاوية من معارف العائلة، ذاك الخاتم في إصبعي.

قبل أمر تسريحي مباشرة، عرض علي نشأت الحمارنة وظيفة.
مدير تحرير مجلة «الكحال»، المختصّة في بحوث وأمراض العيون.

ما علاقتي بموضوع لا أفقه فيه شيئاً؟ أنا العسكري الأقل عسكرية في البلاد، مدرس الفنون، الناقد السينمائي بقرّاء لا يتجاوزون العشرة.
هل أبقى في دمشق، وأمارس عملاً إدارياً في مجلة؟
هل أنا مقدم على اقتراف نذالات كبيرة، أم اجتراح مآثر صغيرة؟
قد أكون بالأحرى مُقدماً على جعل حياتي خدعة ذاتية وتحويلها إلى رزمة تفاهات.

الأمر يحتاج جسارة، وحان وقت أن أضع ساقيّ في ماء بارد.
فقدت التركيز وتشتت أفكاري لمدة. إلا أن نشأت اقترح علي أن أجرب، فوافقت وصدر العدد الأول الذي طبعناه في مطابع دار البعث الجديدة، وشاركنا في أول مؤتمر عالمي لأطباء العيون عُقد في بغداد برعاية صدام حسين.

الكحال، أصدقائي في اللاتيرنا، سهرات باذخة في مطاعم فندق الشيراتون، دمشق بكامل زينتها لم تكن كافية. قررت، بعد نقاش مع والدتي وشقيقتي، العودة إلى القامشلي، الى بيتنا القديم الذي كان مؤجرا طيلة الوقت.

عبق الروائح النفاذة هو هو، لم يتغير، وبقايا مياه الجغجغ مازالت تكدح للوصول إلى الخابور والفرات وشط العرب ومياه الخليج الدافئة اللازوردية المليئة بالأسماك والغاز الطبيعي وسفن الأساطيل البحرية.

بعض دوائر الحكومة كانت قد نُقلت إلى أبنية اخرى أكبر وأقبح، ووُضع على جدرانها صور قماشية كبيرة لحافظ الأسد. ونصبوا له تمثالاً على السبع بحرات أيضاً.

الأصحاب والناس الذين كنت أعرفهم كان شبابهم قد احترق بسرعة نتيجة صعوبة حياة القامشلي، نجمة سماء سوريا المُشعّة في الخمسينات، ومدينة التراب والطين والفقر في الثمانينات.

حفل الزواج تمّ في فناء بناء مخصص للحفلات بحضور حشد هائل لم أتعرف إلا إلى قلّة منهم، وأحياه المغني الكردي سعيد يوسف.
جُنّ الناس بالرقص وتعرّقوا.
الويسكي كان مخبأً عن عيون المحافظين، سعى معلمي في الصف السادس في مدرسة صلاح الدين الايوبي وصديقي فيما بعد عبّاس إسماعيل بتوفيره.

بعد أيام، جاءتنا أخبار هامسة عن مقتل عدد كبير من المعتقلين في سجن تدمر.
البعض تحدث عن تصفية بعض الإرهابيين من الإخوان المسلمين، إثر محاولة فاشلة لإغتيال الرئيس، وآخرون اعتبروها مجزرة بحق المعارضين السياسيين.

وفي شهر أيلول كانت حرب العراق-إيران الطاحنة على أشدها.

ثم بدأ العام الدراسي.
بدأت بالتدريس في إعدادية وثانوية عربستان، ثمّ أراد مدير ثانوية القادسية للبنات خليل ثابت أن آخذ بعض الساعات هناك، وكان يتفحصني في كل مرّة ويطلب مني عدم التأنّق، وأحياناً يقول أن ليس هناك ضرورة لحلاقة ذقني كل يوم واستعمال ماء الكولونيا، فالبنات هنا مراهقات كما تعلم، وأنت شاب في مقتبل العمر.

القامشلي كانت قد توسعت ونشأت فيها أحياء جديدة وبأسماء جديدة، مبتلعة القرى المجاورة لها.
التوسعة تمّت بطريقتين، الأولى بسبب هجرة أعداد كبيرة من فلاحي الجزيرة الذين ذبُلت غلالهم من قلّة الإمطار، والسبب الثاني كان بناء الجمعيات السكنية، فهذه للموظفين، وتلك للمعلمين، واخرى للمهندسين.

بيوت الفلاحين كانت طينية مدقعة لم تُكلف البلدية نفسها عناء تعبيد الشوارع وتمديد المجاري الصحية فيها، وبيوت الجمعيات التي كان بناؤها يحتاج دهراً، تمتاز بالأرصفة والمجاري، إلا أن جدرانها البيتونية الرقيقة الخالية من العزل كانت تتحول جحيماً في فصل الصيف، وتقطر منها الرطوبة في فصل الشتاء.
كلّ هذه السنوات، وكل هؤلاء المهندسين مازارلوا يرتكبون ذات الأخطاء البهيمية.

كان هناك أيضاً طريق اوتوستراد وخط حديدي يربطها بدمشق، عابراً البادية السورية بمحاذاة تدمر، مختصراً المسافة والمشقة إلى حلب ومن هناك إلى دمشق، وكارثة اقتصادية على مواخير بحصيتا وسط مدينة حلب، حيث كان يرتادها مسافروا القامشلي في الإستراحات القسرية في كراجات المدينة.

بعد الظهر، كنت ألتقي بعبد الأحد عبد الله واسكندر شمعون وطارق البزر وحسن قاسم لنتحّلق حول طاولة في نادي المعلمين ونلعب الكونكان، وندخّن ونحتسي قهوة رديئة.

نادي المعلمين الذي نُقل إلى بناء رمادي حزين في الفسحة التي كانت الملعب البلدي، حيث وقفت مع عشرات الآلاف لأستمع إلى خطاب جمال عبد الناصر في الخمسينات.
الفسحة تحولت إلى منطقة سكنية، وبناء البريد الجديد، أما الملعب فإنهم نقلوه مائتي متر خلف الحديقة العامة، وبنوا له مدرجاً صغيراً من جهة واحدة.

وفي الليل، أرافق عباس وحسن وآخرين كانوا معلمين ومدرسين حين كنت تلميذاً، إلى نادي الموظفين، أو مطعم إيشو، لتناول كأس أو إثنين من العرق، وتشكيلة من اللحوم المشوية على الفحم، منها أعضاء الخراف التناسلية.
هل أجرمت بحق والدتي وشقيقتي بالعودة إلى القامشلي؟ أليس الفردوس دائماً في الناصية الاخرى؟ أين هي قناعتي بحياتي التي طالما عملت عليها ونجحت بها؟ هل أنا حقاً ألعب هذا الدور الغبي في حياة القامشلي اليومية؟ كيف يسعني أن أكون زوجاً جيداً وأباً وشيكاً جيداً؟

هذه الأسئلة أرقتني في معظم الأمسيات.

القامشلي فيها نصف مليون نفس، وليس فيها إذاعة أو جريدة واحدة، فيها مسرح واحد في المركز الثقافي، دون أية حياة ثقافية، لكنها تزخر بصالات لإقامة حفلات الزواج، وثلاث أنواع من المخابرات.

الخلافات القومية على الشريط الحدودي مع تركيا بين الأكراد والعرب المُهجّرين، من قرى الغمر من محافظة الرقة وتوطينهم قسراً، كانت تتعمّق، في الوقت الذي كان رفعت الأسد يعقد إجتماعات مع بعض الزعماء الأكراد في اللاذقية لإيجاد صيغة تفاهم بين السلطة ومطالب الأكراد القومية المتنامية.

كان هناك ما ينمو بحذر. شحنات كهربائية قصيرة صغيرة.
كان الناس يتشاجرون لأسباب تافهة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا