الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كيف أصبح تاريخ العرب ديناً للشعوب ! (2)

محمد مبروك أبو زيد
كاتب وباحث

(Mohamed Mabrouk Abozaid)

2019 / 6 / 8
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


السادة القراء الأعزاء... اعتذر جداً عن السقطة اللفظية التي وردت في المقال السابق وأرجو عفوكم عنها... وقد تحدثنا في مقدمة قصيرة عن مسألة فلسفية دقيقة لكن آثارها في الحياة عظيمة جداً إذ على ‏أساسها يتم تحديد العلاقة بين المجتمع المسلم والمجتمع غير المسلم وما إذا كانت قائمة كأصل على السلام الاجتماعي أم قائمة على الحرب الدائمة، ‏وعرفنا أن جمهور فقهاء الأمة الإسلامية قد ذهبوا إلى أنها قائمة على الحرب الدائمة لاعتبارات الجهاد ونشر الدين كما كان سلوك السلف، وبأولوية ‏الجوار الأقرب فالأقرب فالذي يليه، أي أن الحرب تكون دوارة على التوالي، بينما ذات العلاقة قائمة على السلام الاجتماعي بالنسبة للشعوب البعيدة ‏عن ديار الإسلام ، وهذا أمر استغربنا منه كثيراً، إذ كيف يتمتع الشعب البعيد عن الإسلام بالسلام الاجتماعي بينما تعاني الشعوب المجاورة له من ‏الحرب الدائمة بالدور وعلى التوالي ! وعرفنا أن أقلية من الفقهاء لم يقتنعوا بهذا الرأي وأقروا السلام الاجتماعي كأصلٍ عام ودون تفرقة بين الشعوب ‏وأن الجار أولى بالمعروف، والحرب استثناء له مبرراته المشروعة. لكننا لم نعرف الأساس الذي بَنا الفريق الأول رأيه عليه، وكيف اقتنعوا بأن يكون الأصل ‏في الإسلام بين المجتمعات هو الحرب الدائمة وليس السلام...‏

ونقول؛ أن إسلام الفطرة التي خلقنا الله عليها أنقى من إسلام الفقهاء الذين شربوه من تاريخ العرب ودسوه في عقول تلاميذهم على أنه دين، ‏فالعداء بين الشعوب والمجتمعات سمة من سلوكيات الشياطين والمجرمين لا البشر الأسوياء، ولا دخل للدين بهذا ولا يمكن أن يكون الدين سبباً لهذا ‏العداء، بل إن البشر إذا وجدوا نفوسهم تميل للعدوان والحرب يسعون جاهدين لإيجاد مبرر ويقدسونه بغلاف ديني، يسعون جاهدين لتوظيف آيات ‏الجهاد الدفاعي حتى لتبرير العدوان على الشعوب، هم يبدؤون العدوان تحت مسمى الدفاع ويخترعون أسباب وهمية تستدعي هذا الدفاع الموهوم، وإذا ما ‏اصطدموا بأوامر الله ونواهيه بعدم العدوان قالوا أن هذه الآيات منسوخة، أي معطلة عن العمل، وبرغم أن الله يقول: " وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ---فَمَن شَاءَ ‏فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ... (29)/ الكهف، ويقول:" ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين" ويقول :"‏‎ ‎وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن ‏فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ--- أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ--- يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)/يونس، ويقول :"وما على الرسول إلا البلاغ " والكثير من الآيات القرآنية ‏الأخرى. لكنهم لا يحبذون العمل بهذه الآيات، فيقولون بنسخها تارة، وتارة أخرى يغلبون عليها أحاديث مدسوسة من صنع أفكار العرب المسمومة بما ‏يحقق ذاتهم في العنصرية والنرجسية. فالأصل هو التعايش السلمي بين الشعوب، ومن أراد أن يدعو إلى الله وينشر دينه فليدعو إليه بالحكمة والموعظة ‏الحسنة، ولا عدوان إلا على الظالمين. ‏

يقول الشيخ متولي إبراهيم صالح:" أرانا اليوم ندفع ثمن تقليدنا الأعمى لمن سلف بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ومن سلف فيهم الصالحون ‏وفيهم الطالحون، والطالحون فيهم منافقون تظاهروا بالإسلام وأخذوا يهدمونه من الداخل بالإلحاد في آيات الله وبتحريف كلم القرآن عن مواضعه ‏وبمحاولة تبديل ألفاظه إن استطاعوا ليضيع كما ضاعت التوراة والإنجيل، والصالحون فيهم غافلون خالت عليهم تزيينات الطالحين فتلقوها وأشاعوها على ‏أنها الإسلام، وفيهم أغبياء كانوا يكذبون فينسبون إلى النبي ما يستنبطونه من القرآن على أنه إسلام، وقد يكون استنباطا خاطئاً مفسداً للقرآن نفسه ‏حتى قال قائلهم (كنا إذا استحسنا الأمر جعلناه دينا). وقد كانت البداية إكراها فكرياً ساد في سياق سياسي استُغل فيه الدين لتسويق أهواء حكام ‏كانوا فاسدين، فاستخدموا فاسدين ظاهرهم العلم والدين فاختلقوا لهم أحاديث تخدم أهواءهم السياسية ونسبوها إلى النبي وإلى الدين، ثم زاد الأغبياء ‏الطين بلة فطفقوا ينسبون إلى النبي ما يستحسنونه دون أن يثبت لهم أن النبي قاله ولا دليل لديهم على أنه قاله إلا أنهم يرونه كلاما حسناً وأن النبي أولى ‏من غيره بهذا الذي يرونه حسناً فلا يليق أن يتميز أحد عليه بشيء حسن فلا بد إذن أنه قال هذا الذي يرونه حسنا ". ‏

وهكذا توارثت الأجيال أقوالاً ومأثورات شعبية تاريخية رأوها السلف حسنة فاعتبروها ديناً، وتوارثوا تفسيرات وتأويلات خاطئة رأوها السلف ‏حسنة فاعتبرها الخلف ديناً، فإذا عدنا إلى الآية الثالثة والعشرين، والتي قالوا أنها تحكم العلاقة بين المجتمع المسلم والمجتمعات المجاورة له وتحسمها في ديمومة ‏الحرب عليهم بشرط القربى أي الأقرب فالأقرب على التوالي!‏

فنقرأ في تفسير الطبري:‏
القول في تأويل قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ‎ (123)‎‏.. قال أبو ‏جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله:" يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله، قاتلوا من وليكم من الكفار دون من بَعُد منهم،‎ ‎‏ يقول لهم: ابدؤوا ‏بقتال الأقرب فالأقرب إليكم دارًا، دون الأبعد فالأبعد. وكان الذين يلون المخاطبين بهذه الآية يومئذ، الروم, لأنهم كانوا سكان الشأم يومئذ، والشأم ‏كانت أقرب إلى المدينة من العراق. فأما بعد أن فتح الله على المؤمنين البلاد، فإن الفرض على أهل كل ناحية، قتالُ من وليهم من الأعداء دون الأبعد ‏منهم.‏

ثم يقول الطبري مبرراً: "ولصحة كون ذلك كذلك, تأوّل كلُّ من تأوّل هذه الآية، أنّ معناها إيجاب الفرض على أهل كل ناحية قتالَ من وليهم من ‏الأعداء‎".‎‏ ! فالطبري قد برر تفسيره بأن كل من فسر هذه الآية قبله قال بوجوب تفعيل نظرية الحصّادة الدموية في قتل الشعوب المجاورة أولاً بأول وعلى ‏كل أهل ناحية أن يبادروا بقتل جيرانهم أولاً بأول، وهذا أمر عجيب غريب أن يعتمد في تفسيره وإصداره لمثل هذا الأمر الخطير على تأويل وتفسير ‏السابقين عليه دون تفسير أو تدليل أو تعليل أو إقناع أو تفصيل ولكن هذه عادة فقهاء الدين أن يثقوا في آراء سلفهم دون تعليق. لكن بوجه عام ‏هذه هي مشكلة التبعية، فكل من ارتكب خطأ في تفسير كلمة يجد خلفه جيوش من المفسرين الجهلة يتبعونه دون العودة إلى الأصل وهو القرآن، ويبرر ‏قوله بأن ذلك كذلك لأن السلف قالوا ذلك !. برغم أن الله يقول " إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ ‏‏(166)‏‎ ‎وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّاۗ--- كَذَٰ---لِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْۖ--------------- وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ ‏النَّارِ‎(167)‎‏/البقرة.‏

ويسند الطبري ذلك كذلك إلى ما ورده من روايات السلف حيث حدثهم فلان ابن فلان عن فلان ابن علان كذلك؛
‎17481- ‎حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن شبيب بن غرقدة البارقي, عن رجل من بني تميم قال، سألت ابن عمر عن قتال الديلم ‏قال: عليك بالروم ‏‎! ‎‏ (الديلم هي منطقة تابعة لحضارة الفرس، والروم كانوا موجودين في منطقة الشام) وبالتالي فهم شرعوا الحرب على هذه الشعوب بلا ‏سبب، فقط قالوا أن ذلك أمر من الله وعليهم تنفيذه ! ‏

‎17482- ‎حدثنا ابن بشار، وأحمد بن إسحاق، وسفيان بن وكيع قالوا، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان, عن يونس، عن الحسن‎: (‎قاتلوا الذين ‏يلونكم من الكفار‎) ‎، قال: الديلم‎.‎

‎17483- ‎حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن الربيع, عن الحسن: أنه كان إذا سئل عن قتال الروم والديلم، تلا هذه الآية:(قاتلوا الذين يلونكم من ‏الكفار)‏‎.‎

‎17484- ‎حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب قال، حدثنا عمران أخي قال: سألت جعفر بن محمد بن علي بن الحسين فقلت: ما ترى في قتال الديلم؟ ‏فقال: قاتلوهم ورابطوهم, فإنهم من الذين قال الله‎:(‎قاتلوا الذين يلونكم من الكفار.‏

‎17485- ‎حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان, عن الربيع, عن الحسن: أنه سئل عن الشأم والديلم, فقال(قاتلوا الذين يلونكم من ‏الكفار( الديلم)‏‎.‎

‎17486- ‎حدثني علي بن سهل قال، حدثنا الوليد قال، سمعت أبا عمرو، وسعيد بن عبد العزيز يقولان: يرابط كل قوم ما يليهم من مَسَالحهم ‏وحصونهم، ويتأوَّلان قول الله‎: ‎‏ قاتلوا الذين يلونكم من الكفار‎.‎

‎17487- ‎حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله‎: (‎قاتلوا الذين يلونكم من الكفار، قال: كان الذين يلونهم من الكفار العربُ, ‏فقاتلهم حتى فرغ منهم. فلما فرغ قال الله: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ، حتى بلغ، وَهُمْ صَاغِرُونَ ،‎ [‎سورة التوبة: 29‏‎]. ‎قال: فلما فرغ ‏من قتال من يليه من العرب، أمره بجهاد أهل الكتاب. قال: وجهادهم أفضل الجهاد عند الله... ! ‏

هكذا كان حال الصحابة والتابعين وتابعي التابعين في تفسير وفهم كتاب الله، ولطالما صدع الفقهاء رؤوسنا بقولهم أن الصحابة هم صحبة ‏رسول الله وأفضل الناس وأكثرهم فهماً للدين ولأوامر الله ونواهيه ومعاني القرآن ومضامينه لأنهم شربوه رأساً من النبي دون وسيط ولأنهم تربوا على يد ‏رسول الله فهم أفضل الخلق بعده... بينما كان الصحابة والتابعين هم آحاد وأفراد المجتمع العربي ذاته المفعم بالجهل والهمجية والعنف والمادية والسادية ‏والعنصرية والحربية والصلف.. وهم كانوا مرضى عقائدياً وفكرياً وسلوكياً فجاء القرآن لعلاج نفوسهم المريضة، وليس من المتصور أن ينقلب المريض بعد ‏تلقي جرعة العلاج ليصبح طبيباً استشارياً، بمجرد تلقى جرعة علاج !... هذا هو المجتمع المحيط برسول الله، وما كان لهذا المجتمع أن يكون أفضل الخلق ‏بعده لمجرد أنهم عاشوا حوله ومعه لأن نفوسهم نشأت في بيئة قاسية وما زالت تغالب طباعهم والطبع أقوى من التطبع، فمن السهل أن تأتي بثوبٍ قطني ‏وتصبغه بصبغة قرمزية، ومن السهل أن تأتي بثوبٍ صوفي وتصبغه بصبغة قرمزية، فيتحول لونه لامعاً، لكن ليس من المتصور أن تتحول الخامة العقلية ‏والنسيج الذهنية من جنس إلى آخر، فتظل الملامح والمكونات والكاريزما البيئية والشخصية الاجتماعية هي ذاتها بملامحها وطباعها لا تتغير.. فلم يستمر ‏الصحابة على نهج رسول الله ولكنهم انحرفوا وفق طبيعة المجتمع العربي بعد رحيله خاصة عندما سيطر فلول قريش على المشهد وافتتن الجميع ونجحت ‏فلول قريش في النهاية في إعلان الحرب على الدين والتنكر لمدينة رسول الله وضربها بالمدفعية وتحويل المسجد النبوي الشريف إلى حظيرة للخيول.. ثم بعد ‏ذلك تطهروا وقرروا أن يكتبوا لنا سيرة النبي محمد عليه السلام وآراءهم واجتهاداتهم في تفسير القرآن ! ثم جاء الفقهاء ليلتقموا الطعم ببراءة.‏

أما تفسير ابن كثير فيقول:‏
أمر الله تعالى المؤمنين أن يقاتلوا الكفار أولا فأولا الأقرب فالأقرب إلى حوزة الإسلام؛ ولهذا بدأ رسول الله عليه السلام بقتال المشركين في جزيرة العرب، ‏فلما فرغ منهم وفتح الله عليه مكة والمدينة، والطائف، واليمن واليمامة، وهجر، وخيبر، وحضرموت، وغير ذلك من أقاليم جزيرة العرب، ودخل الناس من ‏سائر أحياء العرب في دين الله أفواجا، شرع في قتال أهل الكتاب، فتجهز لغزو الروم الذين هم أقرب الناس إلى جزيرة العرب، وأولى الناس بالدعوة إلى ‏الإسلام لكونهم أهل الكتاب"..‏

هكذا يعترف ابن كثير أن الروم وسكان الشام هم أهل كتاب، وبرغم أن الآية تقول " قاتلوا الذين يلونكم من الكفار" إلا أن ابن كثير استرسل في ‏الحكاية والرواية متباهياً بالحرب معتبراً إياها تطبيقاً عملياً نموذجياً للآية، ومنهجاً لنشر الإسلام في المنطقة، ولم يدرك أن المعارك التي خاضها النبي كانت ‏جميعها دفاعية وليست هجومية، ولو لم يهاجمه الأعداء لما دخلها، لكن ابن كثير فهم ممن سبقوه أن الحرب كانت منهج النبي لنشر الدين ولذلك يقول ‏أن النبي بدأ بالحرب بتسلسل تدريجي الأقرب فالأقرب، بينما الحقيقة أن معارك الرسول كانت دفاعية انتقائية ولا علاقة لها بنشر الدين أصلاً.. ولم ينتبه ‏إلى كون الآية تتحدث عن المنافقين لا عن الحصّادة الدموية التي تصورها هو كما نفذها الصحابة والتابعين قبله. لكنهم كعادتهم فسروا القرآن بما يوجد ‏مبرراً لما في نفوسهم، لا وفقاً لما يقتضيه التفسير الموضوعي للنص القرآني، وحولوا كل أمر بالقتال وكل أمر بالجهاد إلى (أوامر حربية للجيش بحصد ‏المجتمعات الأقرب فالأقرب) مع أن أوامر القتال والجهاد هي في معناها وسياقها ومضمونها ومقتضاها جهاد معنوي ونضال وقتال معنوي من باب ‏المقاومة لا من باب العدوان والبدء بالهجوم، لكنهم في الواقع قاموا بتوظيف النص القرآني بما يخدم طبيعة الحدث وطبيعة المجتمع العربي المفعمة نفسه ‏بالعنف والهمجية والوحشية.. ‏

وأما القرطبي في تفسيره فيقول:‏
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين فيه أنه سبحانه عرفهم كيفية الجهاد ‏وأن الابتداء بالأقرب فالأقرب من العدو ولهذا بدأ رسول الله عليه السلام بالعرب، فلما فرغ قصد الروم وكانوا بالشام. وقال الحسن: نزلت قبل أن يؤمر ‏النبي عليه السلام بقتال المشركين--------- فهي من التدريج الذي كان قبل الإسلام. وقال ابن زيد: المراد بهذه الآية وقت نزولها العرب، فلما فرغ منهم نزلت في ‏الروم وغيرهم: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله. وقد روي عن ابن عمر أن المراد بذلك الديلم. وروي عنه أنه سئل بمن يبدأ بالروم أو بالديلم ؟ فقال بالروم . ‏وقال الحسن: هو قتال الديلم والترك والروم. وقال قتادة: الآية على العموم في قتال الأقرب فالأقرب، والأدنى فالأدنى‎ ‎‏.. قلت : قول قتادة هو ظاهر ‏الآية، واختار ابن العربي أن يبدأ بالروم قبل الديلم؛ على ما قاله ابن عمر لثلاثة أوجه؛‎ ‎أحدها‎ ) ‎أنهم أهل كتاب، فالحجة عليهم أكثر وآكد. الثاني : أنهم ‏إلينا أقرب، أعني أهل المدينة. الثالث : أن بلاد الأنبياء في بلادهم أكثر فاستنقاذها منهم أوجب. والله أعلم".‏

وهكذا جاء القرطبي ليتبع سلفه بالنقل من ذات المصادر دون أن يأتي بجديد، برغم أنه اعترف أن بلاد الروم بها أهل كتاب وصرح أن بلادهم بلاد ‏أنبياء، لكنه يقول أننا أولى بها من أهلها، وهو عالم بأن الله يقول " قاتلوا الكفار، وليس أهل الكتاب " لكنه لم يكلف نفسه عناء تدبر الآية واتبع رواية ‏فلان ابن فلان عن علان ابن علان الذي فهم الآية وظاهرها أنها تأمر بقتل الشعوب المجاورة بالدور وعلى التوالي! وهكذا كان عصر الصحابة والتابعين ‏وتابعي التابعين.. والغريب العجيب أنهم جميعاً فهموا خطأ أن الرسول كان يبدأ بالحرب ولم يعلموا أن معارك الرسول كانت دفاعية أصلاً، فقالوا أن ‏الرسول بدأ الحرب بالتدريج الأقرب فالأقرب، وكأنه جاء ليتخلص من الناس لا لينشر الدين ! هذه هي عقلية العرب في شبه الجزيرة وما زالوا إلى اليوم، ‏لكنا شعوبنا المغبونة ورثت هذا الفكر للأسف بمتلازمة ستوكهولم العربية التي سبق تفصيلها.‏

تفسير ابن عاشور:‏
قوله تعالى" يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ‏‎"‎‏. يقول ابن عاشور:"كان جميع بلاد العرب خلص للإسلام قبل حجة الوداع ، ‏فكانت تخوم بلاد الإسلام مجاورة لبلاد‎ ‎الشام‎ ‎مقر نصارى العرب، وكانوا تحت حكم‎ ‎الروم ،فكانت غزوة‎ ‎تبوك‎ ‎أول غزوة للإسلام تجاوزت بلاد العرب ‏إلى مشارف‎ ‎الشام‎ ‎ولم يكن فيها قتال ولكن وضعت الجزية على‎ ‎أيلة‎ ‎وبصرى، وكانت تلك الغزوة إرهابا‎ ‎للنصارى، ونزلت سورة براءة‎ ‎عقبها فكانت هذه ‏الآية كالوصية بالاستمرار على غزو بلاد الكفر المجاورة لبلاد الإسلام بحيث كلما استقر بلد للإسلام وكان تجاوره بلاد كفر كان حقا على المسلمين غزو ‏البلاد المجاورة. ولذلك ابتدأ الخلفاء بفتح‎ ‎الشام‎ ‎ثم‎ ‎العراق‎ ‎ثم‎ ‎فارس ثم انثنوا إلى‎ ‎مصر‎ ‎ثم إلى‎ ‎إفريقية‎ ‎ثم‎ ‎الأندلس. فالجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا تكملة ‏للأمر بما يتعين على المسلمين في ذيول غزوة‎ ‎تبوك"..‏‎ ‎

والغريب فيما قاله ابن عاشور – وهو يعد من أفضل المفسرين- أنه يعزل الآية عن سياقها تماماً، يفصلها فصلاً كلياً عن سياقها وكأنها نزلت دون ‏مناسبة ودون موضوع فيجعل لها موضوع مستقل من خارج سياق الآية، فيقول أنه استئناف ابتدائي، أي أنه يرى أن الله بدأ بها الحديث بخطاب جديد ‏في موضوع جديد وسياق منفصل عن الآيات التي قبلها، فلم يسأل ابن عاشور نفسه، إلى ماذا يعود الضمير الوارد في الآية التي بعدها وهي تكمل ‏التفرقة بين المؤمنين والمنافقين وتكمل وصف المنافقين بقولها" ‏‎ ‎وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ ‏إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ" فكيف أعاد ابن عاشور الضمير إلى المنافقين عامة في السورة ولم يربطه بالآية السابقة عليه، ومع اعتراف ابن عاشور وغيره بأن ‏الضمير هنا يعود إلى المنافقين عامة الذين تتحدث عنهم السورة فهو إقرار من الجميع أن السورة إنما تناولت المنافقين بأوصافهم وحيلهم وكافة ظروفهم، ‏فلماذا لم يفسر هذه الآية في ذات السياق الذي يتحدث عن المنافقين وجعلها (استئنافاً ابتدائياً ) وأمراً مباشراً بقتال الكفار الذي يسكنون المجتمعات ‏المجاورة؟ مع أنه اعترف بأن سكان الشام هم من العرب النصارى وليسوا كافرين ! ثم يبرر كلامه بما فعله الصحابة في الفتوحات من غزو البلاد المجاورة ‏بداية بفتح الشام ثم العراق ثم فارس ثم انثنوا إلى مصر ثم إفريقية ثم الأندلس ! والغريب أنه يقول أنها وصية الرسول قبل موته بغزو الشعوب المجاورة ! ‏وكأنه لا يتحدث عن نبي وإنما يتحدث عن نابليون ويتفاخر بقدراته القتالية في غزو شعوب العالم..! ‏

للأسف العرب حولوا محمد الرسول عليه السلام من نبي إلى فارس مغوار يجوب العالم بجيشه شرقاً وغرباً غزواً بسيوفه ورماحه ونصاله ! أو ربما فهموا ‏ذلك كذلك لأن عقولهم تشكلت بهذه الملامح النفسية، فتصوروا الرسول كما رسمته مخيلاتهم لا كما رسمه القرآن. والغريب أن ابن عاشر لا يعلم أن ‏معارك الرسول جميعها كانت دفاعية ! ولا يعلم ابن عاشور أن الصحابة فتحوا العراق قبل الشام مع أن الشام أقرب ! فهل أخطأ الصحابة في توجيه ‏الحصّادة وجعلوها على العراق أولاً بدلاً من الشام؟ وهل أخطأ الصحابة في توجيه الحصّادة إلى فارس قبل الشام مع أن الشام أقرب؟ وهل أخطأ ‏الصحابة في توجيه الحصّادة إلى فارس قبل مصر مع أن مصر أقرب؟ وهل أخطأ الصحابة في توجيه الحصّادة إلى الأندلس مع أن وسط أفريقيا أقرب؟ ‏والأغرب من ذلك أنه يعترف بأن أقرب البلاد إلى العرب هي بلاد الشام وبها نصارى العرب! ثم اعترف بأن الشام بها نصارى العرب، مع أن الآية ‏تتحدث عن قتال الكفار، فكيف يصف الله القوم بأنهم كفار، ثم يفهم المفسر بأنهم نصارى؟ ألم يقل الله : وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا ‏إِنَّا نَصَارَىٰ ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82‏‎) ‎وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ ‏الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ‎ (83)‎‏/ المائدة

وهل يقول الله أن النصارى هم أقرب الناس مودة للذين آمنوا، ثم يقول قاتلوا الذين يلونكم من الكفار، لكي يفهم الفقهاء والمفسرون أن المقصود ‏بأمر القتال هنا هم النصارى؟ .. فالله يقول قاتلوا الكافرين ولم يقل قاتلوا النصارى، ومع ذلك بدأ العرب في غزو العراق وهم نصارى ثم زحفوا على ‏فارس وزحفوا على الشام وهم نصارى، ثم زحفوا على مصر ونحن مسيحيون موحدون وقتها، ثم زحفوا على شمال إفريقيا والأندلس وهم أيضاً نصارى ‏وحوّل العرب كنائسهم إلى مساجد ! مع أن الرسول أوصاهم بعدم الاعتداء على بيوت العبادة أياً كانت ! فهل سار الصحابة على خُطى الرسول؟!‏

ثم أن ابن عاشور يفسر الآية في سياق أحداث تاريخية وقعت بعد وفاة الرسول وتوقف نزول الوحي، وهذا على اعتبار أن الصحابة هم ملائكة ‏نزلوا من السماء ليكونوا جند الله في الأرض، ويعتبر هذه الأحداث هي الضابط لمضمون النص القرآني على اعتبار أن العرب هم أنبياء إنما بعثوا لتنفيذ ‏النص القرآني وفق مقتضاه حرفياً ودون أدنى هامش للخطأ، وتجاهل المفسرون أن العرب بطبيعة مجتمعهم أسفل شعوب الأرض قاطبة وأكثرها فُجراً ‏وفسقاً وكفراً ونفاقا، بل إن الكفر مغروس في عروقهم إلى الدرجة التي تجعل قتل أطفالهم الأبرياء عادة مستباحة وعرفاً بينهم دون أي انزعاج نفسي، كما ‏اعتادوا وأد بناتهم أحياء، فهل يتحول هؤلاء جميعاً إلى ملائكة ويتخلصون من خلفياتهم الاجتماعية ونزعة النشأة الأصلية ؟ فكيف يكون مسارهم ‏مستقيم طول الوقت لنعتبرهم القدوة والمثل الأفضل في فهم وتطبيق القرآن ثم ينعكس منهجهم كلياً 180درجة دون مقدمات أو إرهاصات ليقتلوا ‏بعضهم بعضاً !! في الواقع إن ابتعاد العرب عن المنهج جاء تدريجياً، حيث بدأ لحظة احتضار الرسول وتراكمت الأخطاء واستمر الانحراف عن المنهج ‏حتى افترق مسار التاريخ عن مسار الإسلام في نهاية المطاف، والعجيب أن الفقهاء لا زالوا إلى اليوم يقنعونا بأن مسار التاريخ هو ذاته مسار الإسلام ! ‏وأن تاريخ العرب هو تاريخ الإسلام ولا يخجلون من هذا الفصام التام !‏

وما يثير الدهشة والجنون في كلام ابن عاشور أنه يقول: " إن المقصود من الكفار هنا هم نصارى العرب وأنصارهم‎ ‎الروم‎ ‎‏".! ثم يقول الأغرب من ‏ذلك ويعترف بأن المنافقين في المدينة هم الأقرب إلى المؤمنين، فيقول" ومن وراء صريح هذا الكلام تعريض بالتهديد للمنافقين، إذ قد ظهر على كفرهم ‏وهم أشد قرباً من المؤمنين في‎ ‎المدينة‎ .‎‏" أي أنه في تفسيره للآية خالف كل المعايير المنطقية واللغوية والموضوعية وخالف سياق الآية وحرف معناها ‏ومدلولها ومقصدها .. حرف كل ذلك فقط ليبرر غزو الصحابة للبلاد المجاورة لهم وليحسن الظن بهم وبسلفه من المفسرين! ثم عاد في هدوء وخجل ‏ليعترف بأن أقرب الناس للمؤمنين هم المنافقين في المدينة ذاتها، أي أنه فهم وأدرك أن مدلول الآية ينصرف إلى نضال المنافقين في المدينة لكنه لم يجرؤ ‏على البوح بذلك في وجه الصحابة والتابعين ومن فسروا قبله، وهذه من كوارث التبعية للسف، يظل كل جيل يركع لمن قبله ويمجد ويقدس فيه لدرجة أن ‏تصبح جرائم الحرب عبادة لله بل ولها الوصاية على القرآن. !‏

تفسير السعدي
أما السعدي في تفسيره فيرى شيئاً آخر أقرب إلى النفس من الهوى، إذ يرى أن مهمة المؤمن ودوره في الحياة هي تشغيل حصّادة القتل الميكانيكية ‏ليل نهار دون توقف، أي ضرورة استمرار آلة القتل على مدار الساعة، وأن الأولى هو قتل الأقرب فالأقرب، وأن الاستثناء هو قتل الأبعد فالأقرب ‏حسب الضرورة والمصلحة والمصالح كثيرة جداً " !!!‏

وللحقيقة، لا أعرف من أين أتت هذه العقول الغريبة التي تصورت أن مهمة الإسلام هي القضاء على البشرية !‏

يقول السعدي في تفسير الآية السابقة:" وهذا أيضًا إرشاد آخر، بعدما أرشدهم إلى التدبير فيمن يباشر القتال، أرشدهم إلى أنهم يبدؤون بالأقرب ‏فالأقرب من الكفار، والغلظة عليهم، والشدة في القتال، والشجاعة والثبات‏.‏ وقوله:(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ‏ ) أي‏:‏ وليكن لديكم علم أن المعونة من ‏اللّه تنزل بحسب التقوى، فلازموا على تقوى اللّه، يعنكم وينصركم على عدوكم‏.‏ وهذا العموم في قوله‏:‏(قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ‏) مخصوص بما إذا ‏كانت المصلحة في قتال غير الذين يلوننا، وأنواع المصالح كثيرة جدا‏ً".‏ !‏

وأما في تفسير البغوي:‏
قوله عز وجل : (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار).. الآية ، أمروا بقتال الأقرب فالأقرب إليهم في الدار والنسب، قال ابن عباس ‏رضي الله عنهما: مثل بني قريظة والنضير وخيبر ونحوها. وقيل: أراد بهم الروم لأنهم كانوا سكان الشام وكان الشام أقرب إلى المدينة من العراق" ... أما ‏الكارثة العصرية فنجدها في القرن الحادي والعشرين، أي على مدار ألف وأربعمائة عام كاملة، لتستمر المجزرة إلى اليوم، ويتحول القرآن إلى معمل تفريخ ‏إرهاب يخرج لنا بمعد مليون انتحاري/ساعة، ويؤكدها لنا الشيخ الفاضل محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر الشريف في تفسيره.. قوله: يَلُونَكُمْ من الولي ‏بمعنى القرب، تقول جلست مما يلي فلان أي: يقاربه‎.‎

قال ابن كثير: أمر الله المؤمنين أن يقاتلوا الكفار أولاً فأولاً، الأقرب فالأقرب، إلى حوزة الإسلام، ولهذا بدأ الرسول عليه السلام بقتال المشركين في ‏جزيرة العرب، فلما فرغ منهم وفتح الله عليه مكة والمدينة واليمن.. وغير ذلك من أقاليم العرب، دخل الناس من سائر أحياء العرب في دين الله أفواجا، ‏شرع في قتال أهل الكتاب، فتجهز لغزو الروم الذين هم أقرب الناس إلى جزيرة العرب، وأولى الناس بالدعوة إلى الإسلام لأنهم أهل كتاب، فبلغ تبوك ثم ‏رجع لأجل جهد الناس، وجدب البلاد، وضيق الحال، ذلك سنة تسع من الهجرة، ثم اشتغل في السنة العاشرة بحجة الوداع، ثم عاجلته المنية- صلوات الله ‏وسلامه عليه- بعد حجة الوداع بأحد وثمانين يوما وسار خلفاؤه الراشدون من بعده على نهجه‎.‎

وقوله: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ تذييل قصد به حض المؤمنين على التسلح بسلاح الإيمان والتقوى حتى ينالوا نصر الله وعونه‎.‎‏ أي: واعلموا أن ‏الله مع المتقين بنصره ومعونته، فاحرصوا على هذه الصفة ليستمر معكم نصره وعونه‎.‎‏ وإنما أمر الله المؤمنين أن يبدءوا قتالهم مع الأقرب فالأقرب من ‏بلادهم، لأن القتال شرع لتأمين الدعوة الإسلامية، وقد كانت دعوة الإسلام موجهة إلى الأقرب فالأقرب، فكان من الحكمة أن يبدءوا قتالهم مع ‏المجاورين لهم حتى يأمنوا شرهم، ولأنه من المعلوم أنه ليس في طاقة المسلمين قتال جميع الكفار، وغزو جميع البلاد في زمان واحد، فكان من قرب أولى ممن ‏بعد"‏‎.‎‏ !!‏

نجد هنا الشيخ سيد طنطاوي شيخ الأزهر يتبنى تفسير ابن كثير للآية كما تناولنها سلفاً، وتستمر الحصّادة بوقود غزير متجدد من الجهل ‏والهمجية والهمج واللصوص القتلة الذين تصوروا أن مهمة المؤمن في حياة هي قتل البشرية لكن بشروط " الأقرب فالأقرب" أي بالترتيب، وبرغم أن ‏طنطاوي يدرك أن نصارى الشام هم نصارى العرب وليسوا كفار، لكنه يتبع سلفه ابن كثير وغيره في ذات الخطأ الكارثي الذي ولّد مجازر غير إنسانية ‏باسم الدين، والغريب أن طنطاوي قد كشف سراً جديداً هنا وهو قوله: ((لأن القتال إنما شُرع لتأمين الدعوة)) وهو ما يعني قتال الشعوب المجاورة ‏واحتلال بلادهم لتأمين دخول الإسلام في هذه البلاد، فالبدء يكون بالقتال لتأمين دخول الدعوة، كما تفعل الجيوش المعاصرة، إذ تبدأ بدفع وحدات ‏الشرطة العسكرية لتأمين وصول قوات الجيش القتالية إلى ميدان الحرب!! ‏... على اعتبار أنه بدع الشرطة العسكرية سيأتي رحمة وسلام للعالمين !

للأسف ما قاله طنطاوي وغيره هو وصفٌ دقيق لما حدث في التاريخ وليس تفسير للقرآن، فهم يجعلون من تاريخ العرب ديناً للناس تعبد ربها ‏استرشاداً بجرائم العرب !! بل إن هناك فارق دقيق بين طنطاوي وهو من جيل المجددين المحدثين مقارنة بالمفسرين السابقين، إذ أن السابقين قد تصوروا ‏أن المؤمنين مأمورين بصورة دائمة بقتل الكفار فقط بسبب كفرهم، واتفقوا على أن يكون القتل بالترتيب حسب المسافة والأولوية، بينما طنطاوي قد ‏قرن بين قتل الكافرين ونشر الدعوة، وبذلك فالسبب عند طنطاوي مختلف جذرياً، القدماء قالوا بأن القتل هو أمر محض من الله بقتل الكافرين بسبب ‏كفرهم، أما طنطاوي فقد زحزح الأمر وقال أن القتل يكون لتأمين دخول الدعوة !! فأي دين هذا الذي تمهد له الجيوش؟ ألم يقل الله : ‏ادْعُ‎ ‎إِلَىٰ سَبِيلِ‎ ‎رَبِّكَ‎ ‎بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ‎ ‎ۖوَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ". ‏

والغريب الذي يثير الدهشة والجنون أن طنطاوي شيخ الأزهر في القرن العشرين لا يعلم أن المعارك التي خاضها النبي كانت دفاعية وليست ‏هجومية، كانت لها أسبابها الواقعية المادية التي من شأن أي مجتمع أن يقوم بالحرب إذا ما تعرض لهذه الظروف، فالحرب لم تكن أمراً دينياً عقائدياً بل ‏كانت ضرورة دنيوية نتيجة تعرض المجتمع للخطر المحدق، وكون هذا المجتمع قد تعرض للخطر بسبب دينه، وفيه غرس الله بذرة الإسلام فكان فناء هذا ‏المجتمع يعني فناء الدين، وكانت الحرب ضرورية للدفاع عن حياة المجتمع وأمنه وحقه المشروع كما كل مجتمع حتى ولو كان كافر، فلا نتصور أن المجتمع ‏المسلم يدافع عن نفسه والمجتمع الكافر لا يدافع عن نفسه وحقوقه.. وبالتالي فالنبي اضطر للحرب كظرف حياتي دنيوي متعلق بحق الوجود، ولم ‏يستخدمها النبي كأداة للتمهيد لنشر الدعوة بل فقط اضطر للدفاع عن نفسه ومجتمعه، لكن شيخ الأزهر لا يعرف أن معارك النبي كانت جميعها دفاعية ‏اضطرارية، وأن الصحابة هم من استخدموا الحرب الهجومية كوسيلة للسيطرة على الشعوب بحجة التأمين والتمهيد لنشر الدعوة، ولكن لا أحد يملك ‏الجرأة بقول ذلك لأن ذلك معناه تخطئة الصحابة واتهامهم بأنهم وقعوا في خطأ وهذا ليس من شأنهم، فيكون البديل هو تجريم النص القرآن ذاته حفاظاً ‏على كرامة الصحابة !! لأن الصحابة هم شخصيات أيقونية مضيئة وحية، بينما النص القرآني هو محض نص نظري وجثة هامدة يمكنك هجرها أو ‏دفنها أو العبث بها على الوجه الذي تريد ! فالعلماء والفقهاء السلف جعلوا من الصحابة شركاء للنبي في الدعوة لمجرد أن وردت إشارة إليهم بالقرآن، ‏جعلوهم شركاء في النبوة والرسالة محصنين بحصنها، مع أنهم محض تلاميذ تفوقوا في الفصل الدراسي الأول، وبمجرد أن رحل أستاذهم تركوا منهجهم ‏وانصرفوا للعب والعبس حتى أنهم تلاعبوا بسيرته وأضافوا إليها من الأفعال ما لم يفعله وبقيت القلة القليلة منهم غير قادرة على السيطرة على المشهد.‏

أما ما يثير الجنون أكثر، هو أن شيخ الأزهر يقول هذا الكلام فقط في الكتب وفي المحاضرات التي يلقيها لطلاب الأزهر ، وعندما يجلس في ‏مؤتمرات الأمم المتحدة يقول لهم أن القرآن أسبق من الميثاق العالمي لحقوق الإنسان لأن القرآن كفل حقوق الإنسان التي أوردها الميثاق العالمي وزيادة ‏قبل ظهور هذا الميثاق بأربعة عشر قرناً من الزمان.. !!‏

أما الشيخ الشعراوي فقد أفاض واستفاض في كيفية قتل الأقرب فالأقرب وقتال الكافة، أي تدور الحصّادة الدموية في حلقة دائرية وعلى التوالي.. ‏وشرح الاستثناءات التي تبرر قتل الأبعد فالأقرب حتى لا تقع في كماشة بين الشعوب الأقرب والأبعد.. وقال أن أخذ الأقرب أولاً من حكمة القرآن ‏كي تأمن نفسك من الجار الأقرب ولأنه الأيسر لك ! (برغم أن ذلك ليس بحاجة إلى القرآن ولا شيء إنما هو من بديهيات الإنسان الساذج أن يفهم ‏ذلك) وقال أن القوة في القتال والشجاعة غير كافية ولكن لا بد من الغلظة تضاف إليها، وفسر الغلظة بأنها القوة والتحمل في تلقي الضربات؛ لأن ‏القتال إرسال واستقبال ضربات، وإرسال الضربات يحتاج قوة وشجاعة أما استقبال الضربات يحتاج الصبر والتحمل وهي الغلظة.. !!‏

‏(في الحلقة القادة أعدكم سادتي القراء الأعزاء بتقديم التفسير الأدق لهذه الآية التي جعل الصحابة والسلف منها مجزراً آلياً للشعوب المجاورة ، ‏وسنعرف معنى كلمة (الذين يلونكم) في قوله تعالى "قاتلوا الذين يلونكم من الكفار" وهي التي حيرت السلف والخلف وجعلتهم يقلبون معايير الدين ‏بالكامل، ويعكسون مبادئه كلية، لدرجة أنني كنت أتحدث مع صديق حول جريمة قتل البريء المسالم طالما لم يعتدِ، ووصفت ذلك بأنه جريمة حرب ضد ‏الإنسانية، فقال لي: ببساطة؛ ما تراه أنت جريمة حرب ضد الإنسانية أراه أنا عبادة لله !!... بتصرف من كتابنا؛ غبار الاحتلال العربي)‏.










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تصريح عمر باعزيز و تقديم ربيعة مرباح عضوي المكتب السياسي لحز


.. طقوس العالم بالاحتفال بيوم الأرض.. رقص وحملات شعبية وعروض أز




.. يوم الأرض بين الاحتفال بالإنجازات ومخاوف تغير المناخ


.. في يوم الأرض.. ما المخاطر التي يشكلها الذكاء الاصطناعي على ا




.. الجزائر: هل ستنضمّ جبهة البوليساريو للتكتل المغاربي الجديد؟