الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خلافات الجبهة الشعبية أو عودة يسار الانتقال الديمقراطي من جديدة لأمراض البدايات(1)

بشير الحامدي

2019 / 6 / 10
مواضيع وابحاث سياسية


الجزء الأول
1 ـ يسار ما قبل 17 ديسمبر : مجموعات سكرتارية متنازعة بلا أي مشروع للتغيير الجذري
لن نعود إلى تتبع نشأة "اليسار الجديد" في تونس بالتفصيل فكتب التاريخ تغنينا عن ذلك ولن نضيف شيئا ذي بال في هذا المستوى التَأِريخي لما هو منشور ومعروف وطبيعة المقال الذي نكتب لا تتحمّل ذلك أيضا بل سنقتصر على محاولة تحديد طبيعة المشروع الذي تأسس من أجله هذا "اليسار الجديد" وكيف تطور هذا المشروع وتطورت المجموعات التي تتبناه حتى انتهت إلى ما هي عليه الآن لنخلص لبعض الاستنتاجات المتعلقة بحاضر وبآفاق هذا المشروع وهذه المجموعات.
مثّل ما يسمى بالاستقلال سنة 1956 وما رافقه من تأسيس لأجهزة الدولة الناشئة الوكيلة التابعة وبداية ترسخ مسار الحزب الواحد والحسم قمعيا في ملف اليوسفيين وحظر الحزب الشيوعي التونسي ومنعه من النشاط السياسي ما صار يعرف فيما بعد بدولة الحزب الواحد التي مكنت بورقيبة رئيسه من أن يحصر كل الشأن السياسي والاجتماعي والاقتصادي بيديه وبأيدي فئة صغيرة العدد من المتنفذين المقربين منه في هذا الحزب والذين لم تكن لهم مساهمة فعلية في إقرار السياسات بل لقد اقتصر دورهم وغالبا على تزكية مواقف وسياسة الزعيم الأوحد الحكيم وتنفيذها وإلزام ما كان يعرف بمنظمات الحزب بها على شاكلة الاتحاد العام التونسي للشغل و اتحاد الصناعة والتجارة و اتحاد الفلاحين واتحاد المرأة.
كانت السنوات العشر الأولى من الحكم البورقيبي سنوات التأسيس لجهاز الدولة الذي سيرث النفوذ والسلطة عن الأجهزة الاستعمارية المباشرة لدولة فرنسا في إطار استراتيجية الوكالة الاستعمارية التي بدأت تخطط لها فرنسا وتنفذها منذ خمسينات القرن العشرين والتي فرضتها طبيعة استراتيجيات الاستعمار المباشر التي كان لابد لها أن تمر لطور جديد من الهيمنة لا يتطلب كل ذلك الإنفاق وكل ذلك الحضور المباشر المكلف الذي فرضه الطور الأول.
وقد وجدت الطبقة البرجوازية التونسية التي نشأت في أحضان المعمرين الفرنسيين وإلى جانبهم كما وجد ممثلوها السياسيون وقتها وبالتحديد زعماء الحزب الحرّ الدستوري التونسي الجديد في هذه السياسة ضالتهم خصوصا إذا ما علمنا أن حزب بورقيبة نفسه ومنذ أول الثلاثينات كان في كل مرة يلوح ويطالب بهذه السياسة وينصح بها الساسة الفرنسيين ولا يرى لهم من إمكانية أخرى لضمان مصالحهم في تونس غير توكيل حزبه بإدارة الشأن السياسي العام بالوكالة عن فرنسا ولنا أن نذكّر هنا بعديد المواقف التي أعلنت على امتداد السنوات اللاحقة والتي تدعم هذا التوجه بدءا من الموقف الذي دعا إليه بورقيبية بالوقوف إلى جانب فرنسا في الحرب العالمية الثانية إلى حكومة شنيق الثانية سنة 1950 إلى اتفاقية الاستقلال الداخلي وواحد جوان 1955 إلى بروتوكول الاستقلال إلى 15 أكتوبر1963 إلى 12 ماي 1964.
لقد تزامنت فترة نشوء "اليسار الجديد" مع بداية طور ترسخ مؤسسات الدولة البورقيبية بوصفها راعية المصالح الفرنسية بالدرجة الأولى والوكيلة لرأس المال العالمي عموما وفي إطار تشكيلة اجتماعية اقتصادية تهيمن فيها العلاقات الرأسمالية المتخلفة بشكل واضح إلا أن المعطى المهم والذي يقع تغافله دائما حين البحث في هذه الموضوع هو أن هذه التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية لم يكن بوسعها التطور لتشكيلة بمقدورها تنمية علاقات الإنتاج وبالتالي التطور تطورا مستقلا ينتج نموا للقوى المنتجة وتمركزا للملكية ورأس المال ويفرز طبقة برجوازية صناعية بمقدورها المنافسة والتطور المستقل وقد عبر التذبب في السياسات الاقتصادية التي تبنتها الدولة البورقيبية منذ بداية تأسيسها عن هذا العجز لذلك كانت معظم هذه السياسات أو ما كان يعبر عنه وقتها بالمخططات الاقتصادية للدولة مخططات تدور في حلقة مفرغة وتؤسس دائما على رؤى واستراتيجيات متناقضة ولم تراكم سوى تذرر طبقي بقي يعاد انتاجه كل مرة بشكل جديد على مدار حكم كل من الديكتاتورين بورقيبة وبن علي فمن سياسة استعادة السيادة الاقتصادية بالاعتماد على القطاع العام كمحرك للتنمية إلى سياسة التعاضد إلى سياسة تشجيع القطاع الخاص ثم مرحلة الانفتاح والسياسة الاقتصادية الموجهة لاستقطاب الاستثمارات الخارجية التي انتهت بالارتهان كليا لصندوق النقد الدولي والبنك العالمي ومخططات إعادة الهيكلة ودفعت إلى سياسة التداين التي صارت اليوم تمتصّ أكثر من نصف الناتج الداخلي الخام.
لم تتمكن الدولة الوكيلة التي أنتجها بروتوكول الاستقلال في الحقيقة من النجاح سوى في إنتاج أجهزة بيروقراطية متينة للدولة بشريحة واسعة من الموظفين في مؤسساتها الإدارية (صحة تعليم نقل ثقافة) والقمعية (بوليس جيش قضاء) سيتبين فيما بعد وبحسب مخططات البنك الدولي وتبعية الاقتصاد وهيمنة النمط الاقتصادي العولمي أنها أصبحت عبئا كبيرا على ميزانية الدولة وعلى الدورة الاقتصادية عموما وسيدفع ذلك إلى تنفيذ مخططات ما يسمى بالخصخصة والتسريح والمناولة والترفيع في سن التقاعد ومضاعفة الضرائب على الأجراء وهي مخططات وقع تنفيذ الكثير منها في القطاع الخاص أيضا كما يتواصل تنفيذها إلى حدّ اليوم في القطاع العمومي.
في وضع محلّي مهيئ اقتصاديا للدخول في أزمة عميقة وطويلة وسياسيا لترسيخ النهج الديكتاتوري للزعيم ولأجهزة دولته نشأ "اليسار الجديد" في منتصف ستينات القرن الماضي مشكلا في الأساس من تعبيرات سياسية عديدة بأطروحات عائمة تكاد لا تميزها عن بعضها سوى بتشيّع المعبرين عنها فمنهم من يقول عن نفسه ماوي ومنهم من يقول عن نفسه ستاليني ومنهم من يقول عن نفسه تروتسكي ومنهم من يقول عن نفسه بعثي ومنهم من يقول عن نفسه ناصري إلا أن كل تعبيرة من هذه التعبيرات كانت في الحقيقة خليطا هجيبا من كل هذه التعبيرات في نفس الوقت ولم ترتق لا نظريا ولا سياسيا إلى التمايز عن غيرها من الأطروحات ويمكن ملاحظة هذا بكل يسر لدى "تجمع الدراسات والعمل الاشتراكي في تونس" الذي انبثق عنه تنظيم آفاق سنة 1963 وقد تواصل هذا التخبط مع كل الحلقات التي جاءت بعد آفاق واستمر إلى حدود الثمانينات أين ظهر التمايز الحقيقي بين اتجاهات هذا "اليسار الجديد" التي عبرت عن نفسها مستقلة في تنظيمات وحلقات سرية محدودة النشاط ومنغلقة سواء منها التي تقول عن نفسها ماركسية أو تلك التي تعتبر نفسها قومية ناصرية أو بعثية ويمكن في هذا الباب حصرها في التعبيرات التالية: الشعلة وما سيتفرع عنها فيما بعد من حلقات وتيارت ستنسب لنفسها جميعا صفة الوطني الديمقراطي وحزب العمال الشيوعي التونسي والشيوعيون الثوريون والبعثيون والقوميون الناصريون وما سيتفرع عن كل اتجاه منهما من حلقات أيضا.
في الحقيقة وطيلة العشرين سنة الأولى من حكم الديكتاتور بورقيبة كانت معارضة هذا اليسار معارضة عاجزة عن التأثير فهي معارضة تتخبط في عجزها الذاتي بحكم غياب الرؤية النظرية والسياسية المنسجمة والمشروع الجذري للتغيير وضعف البناء التنظيمي والانفصال عن الجماهير وانحصار أطروحاتها في قلة قليلة من الشباب الطلابي وبعض الحلقات الضعيفة من البرجوازيين الصغار ذوي الأصول الطبقية الفلاحية من موظفي الدولة لدى كل مكوناتها وهو وضع زداته حالة القمع ومصادرة الحريات وتغول أجهزة الدولة البوليسية واندماج الحزب الحاكم بأجهزة الدولة وسطوتهما التي لا حدّ لها ضعفا على ضعف.
لقد نشأ اليسار الجديد تيارا أيديولوجيا ثقافيا أكثر منه اتجاها سياسيا برؤية للتغيير الاجتماعي وقد سادت داخله طيلة العشريات الأربعة التي سبقت ديسمبر 2010 الروح الحلقية الضيقة والنقاشات الأيديولوجية المسقطة على الواقع والانقسامات وانحصر مجال نشاطه في أوساط الشبيبة الطلابية ولم تكن معارضته للنظام البورقيبي أو لنظام بن علي فيما بعد معارضة مؤسسة على تصور جذري للتغيير الاجتماعي بقدر ما كانت معارضة هلامية لا ملامح واضحة لها وغالبا ما كانت لا تتجاوز مساحة التنديد والتظاهر أو الدعوة لمقاطعة النظام مجال اشعاعها محدود ومنحصر في الحركة الطلابية وفي الحركة النقابية التي نشأ فيها هذا اليسار تيارا منافسا للبيروقراطية النقابية المرتبطة بالدولة و الأعراف الرأسماليين على التموقع داخل المنظمة النقابية وعاجزا عن الاستقلال عنها وعن تجاوز خلافاته وصراعاته التي تجري في حلقات مجموعاته المتناثرة .
و إجمالا يمكن القول أن برامج مختلف هذه الحلقات كانت تدور حول المطالبة بالحريات السياسية [حق التعبير حق التنظم ...] أي لم تتجاوز أفق اعتبار المهمة الاستراتيجية هي مهمة ديمقراطية وهو طرح خلفيته النظرية واحدة وتقول بها مختلف هذه المجموعات برغم ما تدّعيه من تباينات فيما بينها وهي أن طبيعة الثورة المطروحة ثورة وطنية ديمقراطية أي ثورة ستطرح مهام برجوازية كمسألة الحريات والإصلاح الزراعي وستستند في ذلك على تحالف العمال والفلاحين مع البرجوازية الوطنية والهدف ليس أكثر من تنمية القوى المنتجة وخلق اقتصاد وطني يؤهل في مرحلة لاحقة لثورة أخرى مؤجلة ولا يقع الحديث عنها ستختص بمشركة وسائل الإنتاج. هكذا بكل بساطة!!!
كان ذلك أمر كل مجموعات الوطنيين الديمقراطين التي تأسست وأسست خلافاتها فيما بينها كخطوط متصارعة ومختلفة على قراءات متنوعة للماوية. حزب العمال الشيوعي التونسي الذي خرج من العامل التونسي وتأسس في منتصف ثمانينات القرن العشرين لم يكن يختلف كثيرا عن مجموعات الوطنيين الديمقراطيين حول فهم طبيعة الثورة والتي بدوره يعتبرها ثورة على مراحل تبدأ وطنية ديمقراطية لإنجاز برنامج الحدّ الأدنى برنامج الجمهورية الديمقراطية التي تطلق الحريات السياسية ويتحالف فيها العمال والفلاحون تحت قيادته بوصفه الحزب الثوري مع البرجوازية الوطنية لفتح الأفق للاشتراكية وتكاد تنحصر خلافاته مع مجموعات العائلة الوطنية الديمقراطية كلها دون استثناء على مرجعية النظرية فبوصفه حزبا بمرجعية ستالينية كانت خلافاته رجع صدى للخلافات الصينية الستالينية التي تكثفت فيما بعد فيما صار يعرف بالخلاف الصيني الألباني ولا أسس لها حول قضايا الواقع المحلي التي استمرت غئبة عن الطرفين عدا بعض المواقف المهزوزة حول الخلافات حول طبيعة المجتمع.
في الثمانينات ستعرف الساحة ظهور تيار الشيوعيين الثوريين وهو تيار تأسس أيضا على قاعدة انتماء أيديولوجي للتروتسكية ولأحدى منظماتها العالمية المعروفة بالأممية الرابعة عن طريق بعض العناصر التروتسكية العائدة من المهجر والتي نجحت في نسج علاقات مع بعض العناصر الناشطة في الداخل من خارج صفوف مجموعات العامل التونسي ومجموعات الوطنيين الديمقراطيين وكانت تجتهد في بلورة رؤية نقدية تريدها متجاوزة للطرفين لتنصهر المجموعتان في وقت سريع ويعلن عن تنظيم الشيوعيين الثوريين الذي يبدأ في إصدار نشرة الشرارة إلا أن هذا التنظيم يبقى بدوره يتخبط في نفس معضلات المجموعات الأخرى لينتهي في السنوات الأولى من التسعينات إلى إعلان حل نفسه وتستمر أغلب عناصره في النشاط باستقلالية عن كل رابطة تنظيمية ليعود قسم منهم في 2011 ويؤسس رابطة اليسار العمالي.
القوميون بعثيون وناصريون لم يختلف حالهم عن حال مجموعات "اليسار الماركسي" لقد كانوا أيضا مجموعات وفرقا عديدة كل مجموعة منهم تنمو بالانقسام وكل خلافاتها فيما بينها لا تتجاوز الخلاف حول سياسة الزعماء القوميين ناصر أو صدام حسين أو القذافي أو حول بعض المقولات المتعلقة بالوحدة والاشتراكية والحرية أو حول التشيع لنصوص وأفكار ميشال عفلق أو لنصوص و أفكار عصمت سيف الدولة ومن أحق منهما بمكانة المنظر القومي ناهيك عن أن هناك من يعارض الاتجاهين الناصري والبعثي بتنبني أفكار الكتاب الأخضر لمعمر القذافي ديكتاتور ليبيا.
لقد استمر هذا اليسار سياسيا وتنظيميا على هذه الشاكلة طيلة الثمانينات وطيلة حكم بن علي مجموعات متناثرة منغلقة متصارعة فيما بينها بعيدة عن تمثل مشروع للتغيير الجذري يحدد المهام التي تمكن الأغلبية من أن تنخرط في المقاومة لصالحها كأغلبية في وجه نظام الأقلية التي احتكرت كل شيء. فبهذا الضعف والهشاشة وغياب الرؤية الطبقية المنحازة لأغلبية ضحايا نظام بن علي وبمشروع معارض لا نعثر فيه على غير باب الحريات السياسية سيفاجأ هذا اليسار بمسار 17 ديسمبر وبالمعركة الطبقية التي دشنها وبجذريتها وبانخراط الأغلبية فيها إلا أنه وعوضا عن الحسم في معوقاته وتجديد نفسه سياسيا وتنظيميا والانخراط في المعركة مع الأغلبية والعمل على تجذيرها والبدء مع الأغلبية ومن داخلها في كنس نظام بن علي والشروع في التأسيس للحكم الأغلبية الثائرة رأيناه ومن يومه الأول مترددا مرتبكا متوجسا حيال حركة الجماهير وحيال الأشكال المقاومة الجديدة التي أسستها مستبدلا عملية نسف الجسور مع ما بقي من الفوق الفاسد الذي لم يكن له من هدف غير الانقلاب على 17 ديسمبر لترميم النظام بمشاركة هذا الفوق الفاسد عملية الترميم هذه والتي ستكون صغتها السياسية وقتها تلك المهمة البائسة التي سيعبر عنها بالمجلس التأسيسي والتي ستتيح حين تنفيذها المجال لوقف المسار الثوري والانقلاب عليه باسم الانتقال الديمقراطي الذي سيعطي "الشرعية" لأحزاب النظام لتزعم العملية السياسية على امتداد السنوات الثماني الفارطةـ
(1) المقال في ثلاثة أجزاء وسينشر الجزء الثاني والثالث لاحقا
الجزء الثاني: يسار الانتقال الديمقراطي جزء من الانقلاب على 17 ديسمبر
الجزء الثالث: خلافات الجبهة الشعبية و العودة من جديدة لأمراض البدايات: أهم الاستنتاجات








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لبنان - 49 عاما بعد اندلاع الحرب الأهلية: هل من سلم أهلي في


.. التوتر يطال عددا من الجامعات الأمريكية على خلفية التضامن مع




.. لحظة الاصطدام المميتة في الجو بين مروحيتين بتدريبات للبحرية


.. اليوم 200 من حرب غزة.. حصيلة القتلى ترتفع وقصف يطال مناطق مت




.. سوناك يعتزم تقديم أكبر حزمة مساعدات عسكرية لأوكرانيا| #الظهي