الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حركية المعرفة فى الشارع السياسى العربى: 5/2 – الخصائص

محمد رؤوف حامد

2019 / 6 / 13
مواضيع وابحاث سياسية


بينما تتجدد التظاهرات الجماعية الوطنية على مستوى المواطن العادى فى كل من السودان والجزائر, كإمتداد لسياق التظاهرات المثيلة التى شهدتها بلدان عربية أخرى منذ سنوات, فيما أطلق عليه ثورات الربيع العربى, فإن إعتبارات عدة تستدعى الإجتهاد والوعى بشأن جوهر حركيات بزوغ هذه التظاهرات (سواء ما سبق منها أو مايجرى الآن), وكذلك نتائجها, ومستقبلياتها.
فى هذا الخصوص تجدر الإشارة الى مايلى:
1- أن هذه التظاهرات, فى إخلاصها الوطنى, وفى جماعيتها, قد جاءت بعد طول معاناة (لعقود عدة), وأنها كانت المنفذ الوحيد الممكن لإزالة بعض الأنظمة أو خلع بعض رؤسها.
2- أن البعد الثورى الحقيقى لهذه التظاهرات يتجسد فى ثورة الإنسان العادى على صمته, مما أدى به الى التشابك (فى التظاهر الجماعى) مع الآخرين من جموع الإنسان العادى فى وطنه.
3- أن تدخلات العناصر الخارجية (الأجنبية) مع حركيات التظاهرات قد جاءت بعد إكتمال قدر كبير من عزم الجماهيرعلى التصدى للسلطات, أو بعد بدء التظاهر بالفعل. بمعنى أن هذه التدخلات لم تكن مولدة (أو صانعة) للعزم الثورى لجماهير المواطن العادى فى شتى البلدان العربية, وإنما هى قد جاءت لتركب هذا العزم, بحيث تتمكن من توجيهه لما يخدم مصالحها بقدر ماتستطيع.
4- أنه فى التعامل التقييمى (و/أو التقويمى) لأحداث ثورات الربيع العربى, سواء ماسبق منها, أو مايجرى الآن, لابد من وجود حد أدنى من الإنصاف فيما يتعلق بضعف قدرة الجماهير العربية على تنظيم نفسها, بل وأيضا فيما يختص بتشتت القوى السياسية الوطنية/التقليدية وتواضع قدراتها على التعامل مع بعضها بنضج وتوافق.
ذلك أن كلاهما, الجماهير والقوى السياسية, قد حُرما لزمن ليس بالقصير من ممارسة السياسة, بفعل رعونة, وأنانية, وبطش أنظمة الحكم, والتى مرضت بالغواية المزمنة للسلطة.
5- أهمية الحد الأدنى من الإنصاف أنه يتيح القدرة على رصد المستجدات الإيجابية التى يمكن لثورات الربيع العربى أن تكون قد مهدت لها, أو قد أتت بها, أو هى فى طريقها اليها.
وهكذا, يهدف الطرح الجزئى الحالى الى الإشارة لمايمكن إعتباره مستجدين رئيسيين يتكاملا مع بعضهما فى تجديد وتطوير حركيات الشارع السياسى العربى, وهما:
أ‌) تصاعد منسوب المعرفة السياسية.
ب‌) بدء التغذية المرتدة بين كل من تصاعد منسوب المعرفة السياسية, من ناحية, وحركية المعرفة السياسية من ناحية أخرى.

أولا – عن تصاعد منسوب المعرفة السياسية:

يجدر الإنتباه الى أنه قبل إندلاع ماعرف بثورات الربيع العربى (2010/2011) لم يكن للمواطن العربى العادى, خاصة خارج الأراضى الفلسطينية, إهتمام جاد متواصل بالشأن السياسى العام. كانت إهتماماته السياسية تأتى متقطعة, وتظهر -أساسا- كإستجابة أو كرد فعل لأحداث كبرى, مثل العدوان الثلاثى على مصر (1956), أو حرب أكتوبر (1973), أو إنقلاب سياسى ما, مثلما كان يحدث فى سوريا والعراق واليمن على مدى عقود.
أما بعد إندلاع ما عُرف بثورات الربيع العربى, ونتيجة لحدوث تداعيات سلبية – فى المجمل – لهذه الثورات, فقد إرتقت حمية المواطن العربى العادى
فى الفهم (لما جرى, ويجرى, ويمكن أن يجرى) بقدر يكاد لم يحدث منذ زمن.
هذا التحول يشير الى تصاعد "منسوب المعرفة" السياسية لديه.

ذلك بمعنى الإرتقاء فى قدرات جموع جماهير المواطن العربى العادى على الفعل وردالفعل, أو الإجتهاد فى هذا الإتجاه, مما ينعكس إيجابيا على جودة نضجهم السياسى, مقارنة بحالتهم فيما سبق.
وربما يكمن خير برهان لذلك فى إرتفاع قدر الفهم, والحيطة, والمثابرة, وطول النفس للجماهير السودانية والجزائرية فى التعامل مع ما جد من سلطات بعد خلع (أو إنحلاع) رئيسي النظامين. كما يضاف الى ذلك بزوغ عديد من الأحداث أو الإجتهادات السياسية المختلفة أو المعارضة أو المصححة فى كل من تونس ومصر (كنموذجى الرباعى القومى التونسى للحوار, وما عُرف ببيان السفير مرزوق فى مصر).
وهكذا, يمارس المواطن العربى العادى تخطى شرنقة الموقف الوجدانى, والذى كان محصورا فى مسألة إسقاط الحاكم, حيث يجرى الآن القفز الى مسار المعرفة (السياسية), بما يتضمنه من حركيات مثل إستجلاب وتصنيف المعلومات والملاحظات, وممارسة الفهم والتحليل بشأن تضاريس الأحداث ومجرياتها (من توجهات وقرارات وقضايا وتبعات ...الخ), الأمر الذى يقود بالضرورة الى تحسين القدرة على التقييم, والتقويم, وتصور البدائل.

بمعنى آخر يجتهد المواطن العربى العادى حاليا فى تجاوزعزوم التوازنات التقليدية للقوى الأكثر بروزا فى أنظمة الحكم السابقة , والتى كانت متحكمة فى الشارع السياسى وقتها, ولايزال بعضها يجتهد فى إستمرار وتنويع هيمنته على أوضاع ومستقبليات الشأن العام.

وكتحليل, يمكن القول بأن قوة الدفع الأساسية لهذا التصاعد فى منسوب المعرفة السياسية تتكون من تراكمات مزمنة لمشاهد نقدية ترسبت فى اللاوعى المجتمعى على مدى زمنى طويل, ثم جرى إستحضارها الى سطح الوعى بفعل رؤى وإنفعالات (ومراجعات) نقدية جديدة للذات (أو للآخر), بحيث تشابك ما هو كامن فى اللاوعى مع ما طرأ بشدة على الوعى من مستجدات, مما أدى الى تصاعد فى حمية عموم المواطنين على الحوار والفهم والتقييم لمايجرى حولهم وبشأنهم من أحداث وتوجهات وسياسات. ربما تجدر الإشارة فى هذا الخصوص الى بعض التحليلات المتعلقة بالنموذج المصرى لمنسوب المعرفة السياسية,وبعض مايتعلق به من سياقات, والتى كانت قد نُشرت للمؤلف منذ فترة فى جريدة الشروق المصرية تحت العناوين التالية: "البحث فى السياقات الحاضنة للتطرف" – "ظاهرة تصاعد منسوب المعرفة السياسية عند عموم المصريين" – " فى منافع وعواقب تصاعد منسوب المعرفة السياسية – " حركية المعرفة السياسية".

هذا ويمكن القول بأن مظاهر التأهل المعرفى السياسى الجارى تتجسد
فى حركيات تحوُلية Transformational , يمكن رصد ملامحها الرئيسية فيما يلى:
1- إستيعابات وتساؤلات إستراتيجية بخصوص قضايا معينة مثل التبعية للإجنبى, و الإرهاب, والسيناريوهات الممكنة فى التعامل مع ما يُرى كحيودات من جانب أنظمة الحكم.
2- تحولات فى الإدراكات والممارسات فيما يتعلق بقدرة المواطن العادى على الإستماع النشط لوجهات النظر المعاكسة, وعلى الحوار السياسى البينى, مما يؤدى الى تنمية حد أدنى من المعرفة المشتركة, برغم التباينات فى الرؤى.
3- وكذلك تحولات فى التفاعلات البينية للقوى السياسية.
4- الميل النسبى للموضوعية, ولإستحمال الآخر, فضلا عن إعادة التقييم.
ولعل ذلك يتجلى فى ذهاب البعض الى تصنيف وإعادة تصنيف إيجابيات وسلبيات أنظمة الحكم الأسبق ورؤسها, فضلا عن تقييم إيجابيات وسلبيات ما كان قد جرى من إنتفاضات ثورية.

ثانيا – عن حركية المعرفة السياسية:

عندما يتصاعد منسوب المعرفة السياسية فإن حركية هذه المعرفة تتزايد.
وباعتبار أن الظروف والمتغيرات المتعلقة بكليهما (منسوب المعرفة وحركيتها) تؤثر فى الآخر, وأن التأثيرات الناجمة قد تصل فى إنعكاساتها المجتمعية الى خليط من التعقيدات والشواش (أو الفوضى), حتى أن الإحتمالات الإيجابية والسلبية للمخرجات يمكن أن تتباين بقدر يصعب إستشرافه, فإن الحاجة للتعرف على خصائص حركية المعرفة السياسية تكون قصوى.
من هذا المنظور تبزغ أهمية تناول أبعاد العلاقة بين منسوب المعرفة وحركيتها.
بينما يمكن الإشارة الى المعرفة باعتبارها الفهم النظرى والعملى لموضوع ما, أو هى جملة الحقائق و/ أوالمعلومات و/أو القدرات و/أو الإنتباهات التى يمكن أن تُكتسب من خلال الممارسة و الخبرة, أو عن طريق التعليم والتأهيل, فإن للمعرفة ذاتها طاقة تؤدى بمالكها كفرد, أو ككيان (جماعة أومؤسسة أو أمة ...الخ) الى القدرة على الإنجاز.
قد يتمثل الإنجاز فى صياغة لرؤية (أو سياسة), أو فى إقتراح لبدائل, أو فى تصميم لمخطط أو برنامج, أو فى ممارسة للتواصل والتشارك مع الآخر ...الخ.
وعموما يمكن القول بأن تحقيق الإنجازات أو المساهمة فيها, أيا كان نوعها, يعنى صناعة مخرجات (وعائدات).
هنا يجدر الإنتباه الى أن التحول, بمعنى الإنتقال أو التحرك من مجرد المعرفة بالشىء الى تحقيق الإنجازات, يحدث من خلال ماتحمله (أو تُنشئه) هذه المعرفة عند صاحبها من عزم.
وهكذا, للمعرفة عزم وحركية.
من أرقى أنواع حركية المعرفة تأتى الحركية السياسية, والتى تختص بالشأن العام من حيث أهدافه, وآلياته, وعملياته, وتبايناته, وعلاقاته, وتحدياته, ومساراته, ومخرجاته.
من هنا, فإن تصاعد منسوب المعرفة السياسية عند عموم المواطنين فى الشارع السياسى العربى إنما يعنى التغيير فى إحتمالات وممكنات حركية المعرفة.
التغيير قد يكون إيجابى أوسلبى, بدرجات نسبية مقارنة بالأوضاع الأسبق.

فى هذا الشأن يمكن القول,مثلا, بأنه مع الإرتقاء فى منسوب المعرفة السياسية لدى عموم المواطنين يكون من المتوقع أن تتجه مؤسسات ومكونات الدولة المعنية الى زيادة قدراتها على الإستشراف (والترتيب والسماح و الرعاية) لمزيد من التطويرات الكمية والنوعية للحركيات السياسية, الأمر الذى قد يؤدى الى التوافق السياسى, ومن ثم تسارع التقدم والإزدهار للدولة ككل. تماما كما يؤدى منعه أو تحاشيه الى إنفجارات (نفسية / إجتماعية / سياسية), وبالتالى تصاعد للمتناقضات فى المسار السياسى العام للكيان أو للدولة, ومن ثم تصاعد للمتناقضات والشواش فى بقية المسارات الحياتية, الأمر الذى يجرى فى بعض البلدان العربية الآن, لأسباب محلية وخارجية.
لذلك يمكن القول بوجود عائد إرتدادى (أى Feedback ) مابين منسوب المعرفة وحركيتها. هذا العائد الإرتدادى لا يتعلق فقط بتصاعد حركية المعرفة مع تصاعد المنسوب, أو بتجريفها مع إنخفاضه (والعكس), وإنما يتعلق - أساسا - بإتجاه المعرفة. هل هو إتجاه إيجابى (أى للصالح المجتمعى العام), أم إتجاه معاكس يخدم مصالح خاصة, أو مؤقته, أو مضادة للمصالح المجتمعية الأطول مدى.
هنا يجدر الإنتباه لشدة تأذى العائد المجتمعى / الوطنى / القومى العام من جراء عمليات تزييف المعرفة, أو تزيين المعرفة المضادة (والتى قد تأتى من خلال الإستهتار المعرفى أو الجهل أو سؤ القصد أو الأنانية).
من النماذج التاريخية فى هذا الصدد ماكان قد أقدم عليه الرئيس السادات بدعم وتقوية الجماعات الإسلامية بغرض ضرب القوى السياسية التى على يسار نظامه.
بهذا التوجه قام السادات, بخلق معرفة مشوهة, ملتبسة وغير الصالحة, مما الى إدخال الإهتزاز على عقيدة أجهزة الأمن الوطنى, والتى كانت قد بُنيت ركائزها على إعتبار قوى التسييس الدينى مضادة للصالح المجتمعى العام.
ولأن عمليات تزييف المعرفة, أو دعم المعرفة التى تتضاد مع المصالح المجتمعية, تكون لحركياتها سلاسل من المخرجات والتداعيات متناهية السلبية, فإن ماكان قد أقدم عليه السادات لم يأت بالضرر فقط على شباب المجتمع وتوازناته السياسية, وإنما قد أدى الى إغتياله هو نفسه بينما كان فى أبهى حالات الإطمئنان أثناء الإحتفال بذكرى نصر أكتوبر.
هذا فضلا عما قد أصاب المجتمع ككل من تعقيدات, إضافة الى ماتبع من تدهورات وإنحرافات فى منسوب المعرفة (وحركياتها) عند عموم المصريين.

فى سياق مشابه بخصوص تعطيل المعرفة تأتى التوجهات التى كان قد إتخذها النظام السياسى المصرى فى أعقاب يوليو 1952 باحتكار فرص العمل السياسي لتكون بواسطة تنظيم أوحد, الأمر الذى ثبت فيما بعد أن الرئيس عبد الناصر قد تراجع عنه - فكريا- قبل رحيله بقليل, عندما توصل الى اعتبار أن تعدد القوى والأحزاب السياسية يُعد لازمة أساسية للتقدم. ذلك أن فى تعطيل حركيات المعرفة السياسية تعويقا للإستنهاض الوطنى.
والى حد كبير, على نفس المنوال, يمكن الإشارة الى سلوكيات سياسية سلبية كبرى من جانب زعيمين عربيين آخرين, وهما الراحلين صدام حسين و معمر القذافى, مما قد أدى - على المدى الطويل – الى تخريب بلديهما, بالرغم مما عُرف عن قدر من تقدمية كل منهما.

وهكذا, يمكن ملاحظة أن محتوى النماذج المطروحة عن الزعماء العرب الراحلين كان الى حد كبير "فردى الصنعة" من حيث الخروج عن المعايير المعرفية, سواء فيما يتعلق بالتسييس الدينى, أوبحجب فرص تداول السلطة, أو باستخدام العنف المحض فى ممارسة الحكم وفرض الرؤى والتوجهات, الأمر الذى لايمكن فصله عن التدهورات المزمنة التى شهدتها وعاشتها شعوب المنطقة.
الآن, وقد إختلف الزمن, حيث يتصاعد منسوب المعرفة وترتقى حركياتها من خلال تشبيكات وتعقيدات تتفوق فى تأثيراتها على التوجهات الفردية, فإن "إشكاليات" حركية المعرفة السياسية تتعاظم. إنها (أى الإشكاليات) مسألة جديرة بتناول تفصيلى خاص.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمطار غزيرة تضرب منطقة الخليج وتغرق الإمارات والبحرين وعمان


.. حمم ملتهبة وصواعق برق اخترقت سحبا سوداء.. شاهد لحظة ثوران بر




.. لبنان يشير إلى تورط الموساد في قتل محمد سرور المعاقب أميركيا


.. تركيا تعلن موافقة حماس على حل جناحها العسكري حال إقامة دولة




.. مندوب إسرائيل بمجلس الأمن: بحث عضوية فلسطين الكاملة بالمجلس