الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وهم العقل

سامي عبدالقادر ريكاني

2019 / 6 / 23
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


منذ القدم والانسان ينشد بقيمة العقل باعتباره المصدر والوسيلة في نفس الوقت، الذي يمتاز بالموثوقية المنقطعة النظير في قدرته على ايصالنا الى معرفة الحقائق المطلقة عن الاشياء والامور، سواء اكانت تلك الامور مادية طبيعية، اومعنوية ميتافيزيقية. وكان سقراط وتلميذه افلاطون من المدافعين عن قدسية العقل ومن الداعين الى بقائه في صرحه العاجي متربعا على عرش المعرفة المطلقة، قابعا في عالم المثل خارج الانسان المادي، محتكرا لكل اسرار الحقيقة.
واستمر هذا الاتجاه مع تلميذهم ارسطو ليكمل المشوار من بعدهم، ولكن مع بعض الاختلاف وبعد ان وضع لهذا العقل اصولا وقواعد سمي باسم علم المنطق.
وكان ذلك بمثابة رد فعل ضد موقف ا"السوفسطائيين" ومحاولاتهم في انزال العقل عن عرشه المثالي، لوضعه في عالم الانسان المادي المحدود، وطعنهم في مصداقية هذا العقل ومحاولة البرهنة على زيف تصوراتنا حول قدراته المعرفية الخارقة.
حيث ذهب السوفسطائيون الى القول "بان العقل ليس سوى وعاء فارغ لايملك أي معلومة معرفية ذاتية باستثناء ما يمده حواسنا الاخرى من معارف حول المواضيع والامور الخارجية التي تنقلها الى هذا الوعاء الذي يسمى بالعقل، وهذا ماكرره ودافع عنه اكثر الفلاسفة المعاصرون من المدرسة البراكماتية والديالكتيكية والوجودية وبكل افرعهم توجهاتهم.

ونحن لاننسى بان الموقف السوفسطائي بدوره كما المعاصر ايضا ، كانا تعبيرين عن رد فعل طبيعي لديهم لمواجهة نتائج ما اصاب الانسان من ماسي جراء اتخاذ جبابرة القهر الانساني منذ العصور السحيقة في القدم وكالة لقدسية العقل الالهي كوسيلة لاستعباد الانسان، باسم امتلاكهم للحقيقة المطلقة حول الوجود، وذلك في مرحلتي الخرافة والاسطورة المعرفية قديما ، وكذلك عند تكرارها في عهد احتكار الحق باسم العقل الالهي في العصور المظلمة .
وفي العصور الوسطى كان ان اسند الى هذا العقل مهمة المعرفة المطلقة ليس في العالم المادي فحسب بل والميتافيزيقي ايضا وحاول فلاسفتهم ومنهم بعض الفلاسفة المسلمون القيام بالبرهنة على التفوق المعرفي العقلي حتى على الوحي والنبوة " كالرازي والفارابي".
من ثم جاء دور "ديكارت" ليعطي مكانة ارفع لهذا العقل وليثبت وجوده الموضوعي وكمال قدرته الذي يحوي بداخله كل الحقائق المطلقة قابعا خارج الذات الانساني، واقتصر دور الانسان فيه على اعتباره المستكشف لهذا العقل ومافيه وليس المتملك والمتحكم فيه ، فالعقل عند ديكارت موجود خارج الذات الانساني، ينتظر منه ليكتشف ما في العقل من علوم وحقائق، فالحقيقة تنكشف عند ديكارت من خلال دورة استكشافية يقودها حاسة التفكير عبر تنقلات ذهنية بين ماتكتشفه حواس الانسان من الاحداث والظواهر الخارجية وبمعية حاستي الوعي والادراك الباطنيين لدى الانسان، وبين ما يستجيب لها هذا العقل الذي يحصر مهامه في ترتيب هذه المعارف واصدار حكمه عليها وتحويلها الى ارادة ومن ثم الى فعل وسلوك.
ولكن جاء بعدهم "كانط" ليهدم هذه الاسطورة حول العقل وليثبت عبر فلسفته في "نقد العقل الخالص" او"نقد العقل المحض" وليبرهن بطلان هذه الحقيقة الافلاطونية والديكارتية حول قدرات العقل المعرفية بما يخص عالم المثل الغيرمادي، وليبرهن باستحالة الوصول الى معرفة حقيقية حول أي عالم خارج نطاق المادة ، وقام بحصر والتقليل من قدرات العقل المعرفية حتى في عالم المادة ايضا، عدى مايقع او ينكشف عن طريق التجربة .
ولكن بعد تطور العلوم الانثروبيولوجية الحيوية وعلم النفس اكتشف بان العقل البشري ليس سوى حاسة من الحواس البشرية الاخرى الخارجية كالعين والاذن، او الحواس الداخلية كالمشاعر والاحاسيس مهامه في ماعدى الجانب التجريبي، هي الدفاع عن مصلحة الفرد وليس وسيلة للوصول الى الحقيقة المطلقة عن الاشياء فالحقائق عن عالم المثل خارجة عن قدراته بل ان الكشف عن الحقائق النسبية هي فقط التي تدخل ضمن نطاق قدرات العقل المعرفية حتى في عالمه المادي ايضا.

اما اعمال العقل في الامور الاخرى النظرية ضمن المعارف الانسانية كالسياسة والدين والعلاقات الاجتماعية فيتحكم فيها المصلحة والحاجة التي تنبع من دوافع غريزتي الحياة والموت المغروسة في الانسان تدفعه للبث فيها، وليس بدافع البحث عن الحقيقة المحضة.
فالعقل يتفاعل مع ماتنقله هذه الحواس من العالم الخارجي من تصورات ومايصدر عن النفس الانسانية من مخاوف ورغبات انفعالية ازائها حيث بعدها ياتي مهام العقل هنا فقط ليظهر قدراته في الدفاع عن مصلحة الفرد اما لتجنيبه من خطر يحيط بوجوده او لمساعدته في الحصول على مصلحة يرغب فيه، فهو ليس حياديا ابدا بل اناني الى ابعد الحدود ولا يعمل الا بما يتوافق مع مصلحة الفرد الذي يكافح مع الوجود في صراعه من اجل البقاء.

لذلك فكل التقلبات في القيم والاراء والمواقف والمعتقدات، وكل التقييمات حول الامور المتعددة، وكل مايقال بانه الصواب والافضل والاحسن، وكل تقويم يصاحب تقييما ما، انما هو عبارة عن احكام متغيرة مصلحية تتغير مع تغير مايستنتجه العقل بانه الافضل للفرد او الجماعة ، وليس لكونه اكتشاف للخطا والصواب وفق معيار الحقيقة المجردة واصولها. فالحقيقة المطلقة لاسبيل الى معرفتها وكل ما نتعامل معه مما نسميه بحقائق ما هي الا حقائق نسبية .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملف الهجرة وأمن الحدود .. بين اهتمام الناخبين وفشل السياسيين


.. قائد كتيبة في لواء -ناحل- يعلن انتهاء العملية في أطرف مخيم ا




.. وسائل إعلام إسرائيلية تناقش تداعيات الرد الإيراني والهجوم ال


.. إيران وروسيا والصين.. ما حجم التقارب؟ ولماذا يزعجون الغرب؟




.. مخلفا شهداء ومفقودين.. الاحتلال يدمر منزلا غربي النصيرات على