الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تأملات في مشروع محمد أركون

الطيب عبد السلام
باحث و إعلامي

(Altaib Abdsalam)

2019 / 6 / 23
مواضيع وابحاث سياسية


يسكنني هاجس الكتابة عن محمد أركون، اللحظة و الروح، لا بحرفية المؤرخ الوصفية الميته، وصفية نقدها أشد النقد و هي تسرق كامل التجربة الإسلامية و تحولها إلى مجرد تسلسل إخباري رتيب لقوم "بدائين"،او "بشرا خارقين".
اكتب عنه بشوق الرفيق المخلص، الرفيق الذي يؤؤل رفيقه ليؤؤل نفسه هو بتأويله إياه، فيمتزج كليهما في فهم جديد و روح جديدة، بتعبير درويش "من انا بعد عينين لوزيتين"، من انا بعد محمد آركون.
تلك المحاورات الكبيرة التي إشتغل عليها كانت تجري بدقة في حياتي بوصفي جزاءً من التصور العام، جزاء مما يقال، قطرة المطر الذي حكي مذكرات السحاب، و جزئ الضوء الذي يؤرخ تلك الموجات الهادرة من الضوء بتعبير شاعري لمحمد الجابري.
إلتقيت بإركون في لحظة قلقة من لحظات الرغبة في التصالح مع واقعي الديني بعد فشلت تصوراتي "العلمانية" في التفاعل مع الواقع، فشككت في أحكام الإدانة التي وزعتها على حوادث التاريخ الإسلامية،احكام أطلقتها بناء على تصور أيديلوجي للإسلام، أيديلوجيا غذاها "تصوري العلمي" بل ب الأحرى تصوري للتصور العلمي، بل ب الأحرى تصوري للعقل نفسه، و هو تصور فقير و معزول يحكم على الاشياء من منطق "الوجود العيني".
تصور "علمي مادي" وضع نفسه بوصفه قصة التناقض بين الدين و العلم، و الإنتصار المجيد للعلم.
و كأنهما صيرورتين منفصلتين، و كأنهما يشبهان تلك الثنائية المانوية بين اهور مزدا إلاه الخير و اهريمن إلاه الظلمة...بين الله و الشيطان.
تصور للتاريخ غذته أيديلوجيا التنوير، و انا ديكارت المتعالية، و سفن الفاتحين الأسبان و الحملات الصليبية، انا اوروبا نرجسية تمسحت او تعلمنت، انا ترى في الأخر رمزا للتوحش
و البربرية، انا سألتها و هزتها اعمال نيتشه في اوثانها، و اعمال مدرسة الحوليات الفرنسية اصحاب نظرية التاريخ الجديد، و دراسات "ليفي شتراوس" و "رينيه جيرارد" في مجال البحث الإجتماعي و كشف التشابه بين الظواهر الإجتماعية البشرية، ظواهر ظنها الاوروبيون قمة التحضر إزاء ظواهر للمجتمعات الأخرى في افريقيا و اسيا و إميركا اللاتينية و الهند عدوها "تخلفا و همجية"، فجرحا بذلك النرجسية الاوروبية في العميق و شككاها في أسطورة تقدمها.
و فلاسفة مدرسة فرانكفورت "هبرماس و ثيودور ادورنو و هوركهايمر" ، و تحديدا هبرماس الذي فتح العقل الماركسي الذي هو وليد الأتموسفير الاوروبي على العقل النقدي، بوصف النقد وقوفا عدلا للعقل تجاه تصوراته فلا يؤقنمها و لا يعبدها و لا يسقط في فخ
" إمتلاكه للحقيقة المطلقة"، بوصف تلك التصورات وليدة ظروف دائمة التغير.
و ميشيل فوكو الذي إكتشف إرادة السلطة خلف "مفهوم الحقيقة"، عرى الحقيقة من نرجسية تعاليها و كشف البشري فيها، كشف محاولة اللفظ تقييد المعنى و سجنه في طقوسه ليطلق الأحكام من خلفه، احكاما ب
" الهرطقة" إبان الزمن البابوي، او ب "البدائية" بعد الثورة الفرنسية، إبان الزمن العلموي.
و جاك دريدا، الذي فكك مركزية المعنى عن المفردة و وزع دم المعنى في العلاقات بين الالفاظ، الألفاظ التي تقال هكذا وفقا لأدوار مسبقة متبادلة، و ان اللغة ماهي إلا مسرح لتبادل الأقنعة، مسرح نتفرج عليه و نشارك فيه،فنفى بذلك كون اللفظ حامل لمعناه في ذاته و كنهه بل هو يعرف بإختلافه من غيره، تماما كما نعرف أن الملعقة ليست هي القلم لإن القلم ليس هو الملعقة، هذا التفكيك المهم لمركزية المعنى عن اللغة، يقود لتفكيك أسبق لمركزية الذات الاوروبية.
و جيل دولوز الذي أحب ان أسميه ب "فيلسوف الصيرورة"، جاء دولوز و اعاد تدفق "النهر الهيرقلطيسي" و قفز إلى صميم الوجود ليبصر السيولة فيه و يتعمق في دقائقه ليدخل الوجود كل لحظة ببراءة جديدة و تلهف طارق على الباب وصل لتوه.
من هذا الزخم النقدي الاوروبي جاء محمد أركون، جاء بخلاصة النقد الاوروبي لعقله، عقل ليس بعيدا عن العقل الإسلامي بحكم الإنتماء لذات الأتموسفير الروحي، "الديانات الإبراهيمية"، و علاقات الجوار المتوسطي، بل و التاريخ الطويل المشترك سلما كان او حربا.
بل و الإنسان الثاوي تحت كل الديانات و الأيديلوجيات.
نقد عقلا اوروبيا إكتشف انه تحول من الزمن البابوي للزمن الدنيوي تحولا أيديلوجيا طوباوبيا و ليس تحولاً ابيستيمولوجيا معرفيا، تحولا املته الظروف السياسية لطبقات النبلاء في صراعها مع "مؤسسة الكنيسة"، و ان الذات الاوربية المتعاليةو المسيحية لا زالت قائمة، و هذا نراه بجلاء في تعامل اوروبا المسيحية مع شقها الشرقي المسلم من لدن البوسنة و البانيا و تركيا و كوسوفا، لم تخبو الروح المسيحية لإنها قناع للروح الاوروبية المتوهمة لنقاءٍ عرقي كما ظهر في المانيا او حداثي كما في فرنسا.
وعى أركون كل ذلك و نقله ليسائل عبره تصورات العقل الإسلامي لنفسه من جهة و تصورات العقل الغربي له من الجهة الأخرى.
جاء اركون و فكك الفكر الإستشراقي و التاريخ المكتوب وفقا لتصور اوروبي إستعماري يريد الحط من اديان الشعوب و ثقافاتها و حيواتها لصالح "فكر تقدمي" و هنا أسمع صوت درويش يقول لصاحبه المستشرق إدوارد سعيد "قد يكون التقدم جسر الرجوع إلى البربرية"، البربرية المادية، بربرية الإستهلاك و تحول البشر إلى أرقاء بكرفتات و أحزية لامعة،
و تحول الفكر إلى سلع لا يعترف بها ما لم تنتجها "مصانع التعليم المعترف بها".
وقف أركون في المنتصف، وقف ضد تصورٍ حالم للتاريخ لا يعترف بأسبابٍ مادية في مقابل تصور مادي للتاريخ لا يعترف ب أحلامه و خياله و إيمانه.
وقف ليقدم تأويلاً اكثر واقعية للتاريخ، أكثر أقترابا منه، أكثر حيوية ، اكثر قربا من حياتنا اليومية الحاضرة التي كانت هي نفسها ذلك التاريخ، لا يختلف الإنسان كثيرا عن الإنسان،
و ليس الماضي بذلك البعد الذي نتخيل.
جاء أركون بوصفه نتاجا لتلك العلاقات الفكرية النقدية التي عاش فيها و تعلم مناهجها، النقد الجديد قدمته اوروبا لنفسها و لأيديلوجيا حداثتها التي اوصلتها إلى حرب عالمية أرتها إلى اين تأخذ نرجسية التقدم و التفوق صاحبها.
وقف على فهم جديد للتاريخ، عززه فهم جديد للمادة نفسها، و طبقه على الإسلام ب إبتكارية مبدعة.
ذلك و أن التاريخ لم ينتهي، لم يمضي بعد، بل هو حركة و حياة مستمرة، ليست احداثا سردت بل حدوث لا زال يحدث و إن تغير شهوده فما زالت الحركة تحدث في صيرورتها و ما زالت تعيد إنتاج مفاهيهما و تصوراتها.
تاريخ لم يعد الإنسان سيده بل صار جزاءً منه، جزاء من تقلبات اجوائه، و من علاقات إنتاجه و من تصورات أخلاقه و معاييره العليا، جزء تؤثر على مجرياته حركة لجناح الفراشة.
على تلك التلة فهم أركون الإسلام، على تلة التأويل و الفهم لا المحاكمة و الإتهام، و ان القرارات الكائنة هي بنت ظروفها و صيروراتها بما في ذلك ما يسمى اليوم "حقيقة علمية" و هي تقال كأنها تتحقق خارج الشرط الإنساني و خارج فهمه للكون و الظروف التي قادت لذلك الفهم.
فهمه بوصفه حركة كانت وليدة حركات كثيفة و معقدة، في أفق لا ينفصل البته عن الأفاق حوله، حركة تحركت صوب حركات أخرى هي الأخرى كانت في علاقة تحركات محيطة غيرها او كما قال "بشر إبن عوانة" و هو يلتقي اسدا فيقاتله و يقتله "هزبراً اغلبا لأقى هزبرا"، صيرورتين تلتقيان.
فما عادت صيرورة الإسلام الاولى هي ذاتها و هي تلتقي بصيرورات أفريقية و اوروبية و اسيوية، اخذ ابناؤها طريقا أخراً و إن كانت جيناتها و ملامحها ظاهرة عليها، لكنها محال ان تكون ذاتها.
بل انها هي نفسها في الجزيرة العربية أخذت مسار صيرورتها الخاص وفقا للمجريات السياسية و الإقتصادية و القبلية التي حدثت و لا زالت تحدث، بل أن صيرورتها الاولى نفسها في العين النبوية كانت مغايرة لتصور أقرب الأقربين إليها، مغايرة في الفهم
و الإستبطان املتها الفطرة البشرية في الإختلاف الطبيعي، إختلاف كان يرى في مراءة التشابه الذي تخلقه اللغة و المعايشة المشتركه،او كما قال درويش في حوار ماتع له مع عبده وازن "ان الإبن يشبه والده و لا يشبهه"، إختلاف للخبز و تشابه في العجينة.
هكذا قال اركون و مات و في عينيه حسرة شديدة من أن تذهب روحه ادراج الرياح، حسرة و كأنها عتاب و يأس بعد ان لم يعترف بمشروعه لا في "مؤسسات الغرب"، "كنائس الحقيقة العلمية" و لا حتى بين اهله الذين يرفعون تصورهم للتاريخ إلى تخوم الإلاهي و المستحيل، اراد لهم ان يفهموا ما قاله درويش "هناك ما يكفي من الا وعي كي تتحرر الاشياء من تاريخها، و هناك ما يكفي من التاريخ كي تتحرر الاشياء من معراجها"، ان نرى محدودية البشري في خياله و احلامه و خلوده المشتهى، ان نرى في لا محدودية اشواقه محدودية قدرته و اعماله.
و ان نرى الخلود و هالة الفرادة في بساطته و يوميه و عاديته، ان نرى ما لن يحضر يوما، التخوم البعيدة التي تقصدها مجرات الكون في إندفاعها الأزلي نحو المجهول.. و المزيد المستمر من المجهول.
اعاد الإحترام لقيمة "النموذج الأعلى" ال IdeoI الذي يسهر البشري للوصول إليه.
بل و تجاوزهم حينما جعل له تأريخا و حياة، لا تأريخ السكون بل تأريخ التفاعل و الحركة، لقد "اعاد للرب كرامته"،رب محايث لا متأله متعالي، رب يتحقق و لا يتحقق.
لا احب أركون "الفرد المطلق" فقد كسر نرجسية فردانيتي تلك و اراني انه لا أبطال خارج السياق و اننا ابناء أزمنتنا و لغة مجتمعنا و مزاج ابائنا و مدينتنا، بل بوصفه ذلك الفرد المختلف قليلا، إختلاف حتمته الطبيعة في نحتها على أديمها.. تماما كما تفعل المادة المظلمة و هي تنحت أديم الغبار الكوني و تنجب من رحمه النجوم و المجرات، تفرد يضع صاحبه امام محنته الخاصة في محاولة دؤوبة ليعرف "أين ينتهي هو، و اين يبداء الأخرون" او كما ظل يردد هو مقولة ابوحيان التوحيدي الحبيبة إلى قلبه "أن الإنسان أشكل عليه الإنسان".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما التصريحات الجديدة في إسرائيل على الانفجارات في إيران؟


.. رد إسرائيلي على الهجوم الإيراني.. لحفظ ماء الوجه فقط؟




.. ومضات في سماء أصفهان بالقرب من الموقع الذي ضربت فيه إسرائيل


.. بوتين يتحدى الناتو فوق سقف العالم | #وثائقيات_سكاي




.. بلينكن يؤكد أن الولايات المتحدة لم تشارك في أي عملية هجومية