الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حسام عقل يكتب: تشكلات الرؤى الشعرية للوجود في عالم -زجاجي- / قراءة في ديوان - تسيالزم إخناتون يقول- للشاعر - طارق سعيد أحمد -

طارق سعيد أحمد

2019 / 6 / 26
الادب والفن


أطل "خليل حاوي" على الوجود من داخل صومعته في قصيدته الشهيرة "الناي والريح في صومعة كمبردج"، فلم تكن العوالم المستهدفة بالمتابعة والتقصي"زجاجية"، بل حملت في جوهرها أمشاجاً من الرؤى والأحلام الطافرة أوالمجهضة، وعاود الشاعر" طارق سعيد أحمد" في أعقاب كل هذه السنوات الإطلال على الوجود من داخل صومعته الجديدة، بعد ما يربو على خمسة عقود في ديوانه الجديد " تسيالزم، إخناتون يقول" فبدت العوالم الجديدة "زجاجية"، قابلة للتصدع السريع، مفتوحة على احتمالات الهشاشة والاهتراء وتفكك الرؤى نثاراً، في لحظة حضارية شديدة السيولة بدورها لم تقرعلى قرار، ولم تثبت فوق أرض قيد شعرة!، فالديار والقلوب والدموع زجاجية جميعاً، والشخوص في قصائده "الغرائبية" منذورون للانكسار دائماً، ليس في جعبتهم أية دروع، يناهضون بها أنواء اللحظة أو يحتمون بصلابتها المفترضة، أمام موجات الزحف القادم، وهو ما يلخصه في المجمل هذا المقطع/المفتاحي:

"كراكيب
من أيام ما كان
الشجر أسود
والضل أبيض
أيام ما كان في خلق
بيوتهم من إزاز
وقلوبهم من إزاز
ودموعهم من إزاز".

وقد لا تكون العوالم زجاجية على الحقيقة، ولكنها بدت كذلك، في مخيلة الذات الشاعرة، وتشكلت بهذه الكيفية الهشة على سن القلم الذي هيكل به الشاعر مفردات الوجود أرضاً وبشراً بصورة مازجة بين الواقعية الملاصقة للأمكنة الحية، والسريالية النزقة المفعمة بالجنون، ولا يتعين أن نطل هنا على هذه السمة "الزجاجية" بالمنظور السلبي وحده على معنى القابلية للهشاشة والانكسارالسريع وإنما تقترن الزجاجية، في حقيقتها، بقدر معتبر من الشفافية والنقاء اللوني، الذي يجسد خبيئة الداخل وبراءته في آن، ويشف عن الصورالمتداخلة المتوارية خلف الحاجز الأمامي الوهمي.

حملت عتبة العنوان"تسيالزم.. إخناتون يقول" الجسر الأولي للنص فيما يرى "علم النص" المعاصر قدراً ظاهراً من تلبس الروح الإصلاحي، المقترن بقدر موازٍ من القداسة والعلوية، وهو ما يتبدى بوضوح في العنوان الفرعي "إخناتون يقول" فبدت الذات الشاعرة فارساً إصلاحياً مهيباً محملا ً بالرؤى العلوية المستنيرة، يصب رؤاه الإصلاحية الثورية على وجود "زجاجي" يبحث عن مزيد من التماسك والصلابة، ولم يسلم الفارس، في أية مرحلة من ملحمته، أنه نجح في جبر الكسر أو توحيد قطع الزجاج المهشمة / المتشظية، في كيان جديد أوفر قوة وتعافياً، على نحو ما نجح مثلاً "أوديسيوس" في ملحمة "الأوديسا" في قهر الحوائل والعقبات، في مسعى الخلاص والعودة إلى وطنه الأعز"إيثاكا"، وإذا حق لبطل الأوديسا أن يفاخر بملحمته المتفوقة، المضمخة بالانتصارات، فإن بطل "تسيالزم"، المتخفي خلف قناع "إخناتون"، لم يملك يوما ً هذا الحق إذ لم يصب شيئاً من نجاحات البطل الأسطوري القديم، ولم يستطع شأن البطل القديم أن يعود إلى مدائنه السليبة، ولكنه، مع هذا كله، لم يتنصل لحظة من ملحمته، ولم يفر من تبعاتها ونتائجها، أوعلى الأقل لم يشعرنا في أية مرحلة بهذا التملص، ولم تكن المسافة، على أية حال، كبيرة بين صيحة "صلاح عبد الصبور" العلوية التي عنون بها ديوانه الشهير "أقول لكم"، وبين صيحة " طارق سعيد أحمد" في ديوانه الجديد "تسيالزم إخناتون يقول"، حيث كان النفس القداسي الإصلاحي العلوي، حاضراً في الحالتين، بذات القوة والنصوع، وإن اختلفت المسارات وطرائق التشكيل الشعري وطبيعة الرؤى الفنية والفكرية المثارة.

وقع الديوان في نحو من تسع وعشرين قصيدة، ومن داخل عباءة المصلح "إخناتون" بكل قداستها وعلويتها جسدت الذات الشاعرة تيمة "البطل الإشكالي"، الذي تحدث عنه باستفاضة الناقد البنيوي "جولدمان"، وهو البطل الساعي إلى تحقيق القيم الأصيلة في عالم مفعم بالزيف،
وقد ظهرت نزعات البطل الإشكالي الأساسية في قصيدة "تحويل"، حيث تسعى الذات للإمساك بجوهر العالم، في تمرد شامل على المسعى الساذج لتنميط البشر في البرواز التقليدي، ومن ثم امتلأت السطور الشعرية بالسخرية اللاذعة من التحديد الضحل للوجوه، من خلال برواز مألوف موروث، وريشة وألوان نمطية:

"تاريخي مش برواز
ولا فاضي أنا لفن النحت
والتجريد
والشعبطة فوق السحاب".

ويبدو للملاحظ أن ما أسمي بـ"الشعبطة فوق السحاب"، قد غدا سمة لمرحلة وسيماء لجيل بتمامه، مزق صلاته بالواقع الاجتماعي والسياسي، فكرس لنخبة فنية وفكرية معزولة، من الوجهة السوسيولوجية عديمة الجدوى، منزوعة الفاعلية والتأثير، وكأن الذات الشاعرة عبر استغاثتها المنغومة لا تفتأ تذكر هذه النخبة بالحط على الأرض ومخالطة البسطاء في استنفار حي لـ"بلاغة المغمورين"، الذين يقطنون ما وصفته الذات بــ "شوارعنا القديمة"، (و يلاحظ هنا إضافة الشوارع إلى ضمير الجماعة / الملحمي " أنا ").

وفي قصيدة "حلم" يتوطد حنين الذات الشاعرة إلى رقعة الحلم بظمأ لافح، حيث يتم استهلال القصيدة بظرفية / زمانية، تشد العوالم المستدعاة إلى رقعة الزمان بوضوح "كل ليلة ":

"كل ليلة
ينام على سريري
حلم
تنبش عينه
تفاصيل وشي".

وتجتاح القصيدة موجة ملحوظة من "النوستالجيا" الشاملة، التي تضرب في أودية الصبا البعيدة، وتستحلب الأيام الخوالي بانتشاءعميق، وتتسع مساحة المفارقة في بنية القصيدة بوضوح حين تورق سنبلة الحلم قبل احتساء "فنجان القهوة" الصباحي، في تنافٍ وتضاد شاملين مع "قرار الانتحار" الذي تذيل القصيدة فيما يجسد رفضاً شاملاً للواقع الأرضي الجاثم الذي يخنق الروح ويكرس دلالة القيد.

ولم يكف البطل الإشكالي، في مسعاه المتصل لتوطيد رفيف الحلم، عن الدعوة المستمرة للحاق بآخرعربة من قاطرة الحس الرومانتيكي النبيل المستوفز، المشدود لفضاء الأحاسيس الموارة:

"إلحق شوية نور
قبل ما تجف
الحكاوي والعيون".

فمع كل المحبطات المخذلة، مازال الفارس المصلح كما العهد به متمتعاً بإيمان راسخ بقدرة الجموع المأزومة، على تدارك ما بقي من مساحات الأمل، ممثلاً في "الحكي" المؤنس الرافل في نهر الوجدان الحي، أو"العيون"المفعمة بما بقي من صفاء للشخوص والمرحلة.

وتعكس قصيدة "9 صور" من وجه آخر قدراً من المشارب الفكرية والفلسفية والنفسية لقصيدة الشاعر"طارق سعيد أحمد"، حيث يهيمن"الملل الوجودي"، الذي آنسناه في دراسات "سارتر"، وهو الملل الذي أضحى فيما بعد بالتصعيد شعوراً عدمياً عبثياً لمسناه في مسرح "يوجين يونسكو" بوضوح أكثر جهارة، حيث تشد الذات الملل من مساحته الفردية إلى رقعته الأونطولوجية الأوسع في مثل هذا المقطع:

"بقيت ممل
أكتر من شروق الشمس
ومن غروبها
ممل أكتر من زمن محبوس
في لوحة".

ويصاحب المشهد كما نلاحظ ملمح التوق المستمر للانعتاق من البرواز، والخروج التمردي من واقع اللوحة، وهو التوق الذي يلازمنا، خميرة دائرة، في مسارات رحلة الديوان بتمامها، ولم يكن نزوع الفارس في رحلته العصيبة، حلماً طوباوياً خالصاً لرفيف الأمنية، إذ كان ثمة وعي مؤلم / فاجع صاحب الرحلة، بأن واقع "التصحر" صدر العقم إلى كل شيء، وتغلغل بــ "أرضه اليباب" كما في الملمح الاستعاري لـ "إليوت" ليعشش في كل الزوايا والأركان، ولازمنا هذا التصحر بكل ما يحمل من دلالة العقم حتى ونحن في أرض الكروم و العنب:

"وسط عناقيد العنب
وتحت رجلك
بقايا من صحرا
بتروح معاك
في أي مكان".

وهنا تترسخ مساحة المأساة، حيث تتبدد الفضاءات المورقة، ويجثم بمنحى"كافكاوي" واقع التصحر مهيمناً على كل شيء، ومع تصاعد نفاثات من الأدخنة الضبابية، التي تهيمن على بؤرة الصورة الشعرية الشاملة تنعدم قدرة الرؤية، وتتبدد كل المرايا التي تعيننا على أن نبصر بالصورة على وجهها الصحيح:

"والعالم من حواليك
من غير مرايات".

إن جدل المرايا الحاضرة ونظيرتها المتهشمة، يجوس في مساحة الصورة الشعرية الماثلة، ويتوازى معه حضور الرؤية الواضحة للهوية أو انعدامها، على نحو ذكرنا بفحاوى الرؤية النقدية المهمة التي قدمها الناقد البنيوي "جاك لاكان" في دراسته الشهيرة "مرحلة المرآة" (1949)، وهي الدراسة التي مثلت منطلقاً واعداً ملهماً لكثيرين من النقاد العرب في العقود الثلاثة الأخيرة، وتقطع قصيدة:"حوار خاص" بمثول معجم "Diction" متميز، متجذر في الوجدان الرومانتيكي العربي بصورتيه التراثية والمعاصرة، حيث تكفي المراجعة المتأنية لمفردات المعجم المتخلل، لتبين هذه السمة الرومانتيكية المتغلغلة بوضوح:
("جمالك" / "شريطة بيضة" / "تضفير أحزان" / "دمع بلاستيك" / "غناء الطيور" / "الغيوم" / "زهرة اللوتس").

ويضاف إلى هذا الملمح الأسلوبي اللافت، مجسداً في طبيعة المعجم ملمح آخر يتمثل في مستوى أسلوبي مغاير فيما أسميه "تجديد دوائر التركيب والنعت التقليديين"، كما يظهر لنا بصورة نموذجية في هذا التركيب المشحون بالجدة الحية والطزاجة "أيقونة المجد الظلامي" في قصيدة "تيوليب"، وهذا النحت التركيبي، بخصوصيته وفرادته، يسرب بوضوح دلالة التطرف التي تدمغ المرحلة الإنسانية الراهنة، بكل تحولاتها الفاجعة وعنفها الدامي، الذي رسم للصوت المغالي المتهوس أيقونات، ونحت له بأزميله تماثيل.

وتتجذر الولاءات "اليونسكوية" بطابعها العبثي المهاتر، بقوة، في قصيدة "عبث"، حيث تحيك الذات الشاعرة نسقاً أخيراً لمفردات المشهد، وترسم قوساً لاحماً نهائياً لتفاصيله، من خلال مونولوج حاسم:

"أفكارك مش واضحة
مليانة عيونك تفاصيل
بالأبيض
والأسود
هي مشاعرك مجنونة
ولا حنونة
ولا انت خايف م الفرشة
والألوان
والعيشة على الجدران؟!".

ويتوازى مع فجيعة اكتشاف "الذوات" الزائفة، فجيعة اكتشاف "الحواضر" التي فقدت قسماً كبيراً من نضارتها المتوردة:

"اكتشفت أد إيه
القاهرة الصبية
عجوزة جدا ً".

وهكذا يزحف التقادم الدميم إلى نفوس ظننا بها خيرا ً يوما ً، بمثل ما يزحف إلى حواضر تعلقت بها قلوبنا إلى غير حدود يوما ً، ويتلاحظ في منحى أسلوبي شامل يتعلق بالأداء اللغوي في ديوان "تسيالزم، إخناتون يقول" للشاعر "طارق سعيد أحمد" عموماً تضفير "الموزاييك" بين الفصحى والعامية فيما يعرف أسلوبياً بـ "العامية المتفصحة"، وهي المساحة التي برع فيها بتمكن لافت الشاعر الكبير الراحل "فؤاد حداد" في فرائده الشعرية المتوهجة وخصوصاً فريدته المميزة "موال البرج"، وتتبدى هذه العامية، المغذاة برحيق الفصحى ونسقها البنيوي في مثل هذا المقطع:

"لو مصدق اللحظة دي
اخرج من هذا الجسد المُرعب".

وهنا يستدعي النسق التركيبي الماثل اسم الإشارة بصورتيه الدارجة "دي"، والفصيحة "هذا" في تأكيد متصل لتلاحم المستويين اللغويين وتمازجهما الكيميائي المتسق في بنية زاوجت الفضائين اللغويين في إطار هارموني لافت برغم ضعف بعض الصياغات الأدائية لاحقا ً.

وتشتغل قصيدة "عدل" على لعبة الإدهاش وكسر أفق التوقع، حين تستدعي مفردة "القمر" فلا تقرنها بالبهاء والفتنة والتورد كما ألفنا في ميراث الشعرية العربية، وإنما تقرنها بواقع "المسطح المثقوب بالتجاعيد"، بمعنى استدعاء الصورة الفلكية الحقيقية للقمر كما صورته مركبات الفضاء عن كثب لا صورته الحالمة التي رسمتها المخيلة اللاهبة للشعراء والرسامين من أقدم العصور، ففي أعقاب قول الذات "زي القمر" يمضي المقطع الشعري في تغذية
"التوقع العكسي":

"زي القمر
كلك صخور
كلك حفر
وأنا
زي الحُفر
مفعم بليل كثيف".

وفي مساحة الاستيحاء المراوحة بين فضاءات "بيرم" وأفق "فؤاد حداد"، مضت قصيدة الشاعر"طارق سعيد أحمد" في ديوانه الجديد "تسيالزم، إخناتون يقول"، تبني بدأب ووعي كامل جسراً لاحماً بين أشواق الجدود ومحنهم الكبرى، وبين أشواق الأحفاد والذراري، التي حملت هموماً مترادفة، وأزمات متجانسة، مشدودة في الجوهر إلى الشوق الأكبر، أعني شوق "الحرية"، في تباريحها وأصدائها الحية المتجاوبة عبر العصور.


مارس 2017








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الممثلة رولا حمادة تتأثر بعد حديثها عن رحيل الممثل فادي ابرا


.. جيران الفنان صلاح السعدنى : مش هيتعوض تانى راجل متواضع كان ب




.. ربنا يرحمك يا أرابيسك .. لقطات خاصة للفنان صلاح السعدنى قبل


.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف




.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي