الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المؤثرات الفكرية في شخصية حكمت سليمان

سعد سوسه

2019 / 7 / 1
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


اعداد د . سعد سوسه .
ان عامل البيئة قد أدى دورا ً فاعلا ً في بناء شخصية ، حكمت سليمان ، وفي رسم تطلعاته ، وبلورة آرائه ، فقد كان لأسرته التي تربى في كنفها في مراحل حياته الأولى ، الفضل الكبير في هذا الشأن اذ ان والده سليمان فائق كان إداريا ومؤرخا ، معروفا ً وأخيه غير الشقيق ، محمود شوكت باشا ، كان عسكريا ً مرموقا عرف بكونه قائداً للانقلاب العثماني ، ولأهمية الاثر الذي تركاه في شخصيته ، يعرض البحث هنا ترجمة مختصرة لكل منهما ، فضلا ً عن أشارةٍ ، لأثر بقية أفراد أسرته .ولد ، سليمان فائق ، سماه والده سليمان تيمنا ً بأسم مولاه سليمان باشا الكبير ، ولقب بـ ( فائق ) لتفوقه في العلم على اقرانه ، في بغداد في سنة 1816 م ، في أجواء كانت فيها عائلته متنفذه ، وقُدّر له ان يتلقى علوم عصره ، ولا سيما الأدب على أفاضل علمائه البغداديين ، وتضلّع باللغة التركية ، وتبحر في علومها وآدابها حتى أصبح من ، مشاهير عصره في الأدب التركي ، كما انه ألمّ ألماما ً واسعا بتاريخ العراق ، واشتهر مجلسه في بغداد ، فكان تجتمع اليه رجالات العرب والترك .
تقلد سليمان فائق مناصب عدة اهمها ، منصب مدير الحسابات العسكرية في الجيش السادس في بغداد عام 1850 ، وفي السنة ذاتها عُين رئيسا لديوان الإنشاء في ديار بكر ( مكتوبي الولاية او مكتوبجي الولاية ) ، وفي سنة 1857 عُيّن ، بمنصب قائممقام قضاء خريسان ( بعقوبة ) حاليا ً ، وفي سنة 1863 م عين ، محاسبا ً للواء المنتفك ( محافظة ذي قار حاليا ً ) نظرا ً لخبرته في الشؤون الإدارية والمحاسبة وبشؤون القبائل العربية ، ثم تولى في سنة 1869 متصرفية البصرة في عهد مدحت باشا ، الذي استدعاه وذكر له (( كنت قد تتبعت باهتمام المقالات والرسائل التي نشرتها في صحف الاستانة ، بشأن إجراء الإصلاحات في العراق ، الا ان الإصلاحات لم تكن تتم بمجرد نشر المقالات والرسائل ، فأني ، اعهد اليك تدوين أنظمة وقوانين تنظم بموجبها دوائر الحكومة في العراق )) .
وفي عام 1891 م ، عُيّن ، كاتب ديوان في ولاية آيدن جنوبي ازمير بعدها وفي عام 1892 ، نقل للمنصب نفسه في ديار بكر ، وفي السنة ذاتها نقل الى ، بغداد وللمنصب ذاته ، ثم ختم مناصبه بمنصب ، متصرف سنجق الديوانية عام 1895م ، حتى وافاه الاجل في 28 جمادي الاخرة سنة 1314 هـ / 1896 م دفن في المسجد الذي شيده والده في محلة جديد حسن باشا ورثاه الشيخ محمد سعيد التميمي بقوله:

ذاك الذي فاق ايمانا ً ومعرفة حتى تشوقه في الخلد رضوان ُ
مذ غاب واحدها نادى مؤرخهُ قد حل في رحمة الباري سليمان ُ
مخلفا ً اثارا ً عدة تمثلت بجملة من المؤلفات ، لا سيما في كتبه ، (( تاريخ المماليك الكولمند )) طبع في بغداد سنة 1961 وقام محمد نجيب ارمنازي بتعريبه والكتاب ذو قيمة علمية تناول حقبة مهمة من تاريخ العراق الحديث ، في عهد المماليك . وقد ساعد حكمت سليمان على نشر هذا الكتاب .
وكتابه ( مرآة الزوراء في اخبار الوزراء ) وهو تاريخ بغداد ، وكتابه الآخر، (( العلاقات العراقية الإيرانية )) وهو في الاصل مخطوطة في المتحف العراقي نقلها الى العربية محمد خلوصي الناصري وكتابه ( تاريخ المنتفك ) وهو صورة واضحة لتاريخ هذه القبيلة ، منذ اوائل القرن الثامن عشر حتى نهاية حكم مدحت باشا ورسالته، (( في ترجمة الحاج احمد عزت باشا ) والي خدوندكار الاسبق ، ومؤلفه ، ( الرسائل المقدسة ) ثم مؤلفه الاخير، ( سفينة الرؤساء ) الذي ختم به مؤلفاته التي مثلتّ ، وجهة نظر المماليك خير تمثيل في، الإصلاح ، والتجديد والاستقلال ، موضح لسان حالهم في التعبير عن عراقيتهم في محاولة ، الاستقلال عن الدولة العثمانية، متأثرا ً بالمجددين الاتراك أمثال، المؤرخ جودت باشا ، ونامق كمال نامق كمال ( 1840 – 1888 ) من اوائل المجددين الاتراك الذي استخدم لاول مرة مصطلحات الوطن والحرية والمشروطية وعمل على تلقيح الفكر التركي بالافكار الاوربية الحديثة ، يلقب بشاعر الحرية التركي ، ينظر عنه ، وحيد الدين بهاء الدين ، نامق كمال شاعر الوطن والحرية ، ولهذا عدّه المؤرخون العراقيون واحدا ً من المجددين في الحركة الفكرية في العراق .
ان مجرد ارتباط اسم ، حكمت سليمان ، بهذا المؤرخ المجدد المتنور، كان ينطوي على مغزى كبير ، والذي عبر عنه ، كامل الجادرجي ، بقوله ( نشأ حكمت سليمان في محيطين يختلف احدهما عن الاخر، لقد كان سليمان والد حكمت متعلما ً على الطريقة التركية وكان يُعد بحق من مثقفي زمانه ، ولما كان ثائراً بطبيعته ِ فقد نقم على السلطان عبد الحميد واعتبر من مناصري كل جماعة تعمل ضده، واذا كان حكمت لم يساعده سنه على مصاحبة والده فان شخصية، والده بقيت هي المسيطرة على محيطه العائلي حتى بعد وفاته فعاش الطفل ، حكمت، مشبعا ً بذلك الجو الذي تركته تلك الشخصية الثورية، والظاهر ان مبادئ الثورة بصفة عامة والثورة على كل الظلم وعلى كل اضطهاد وعلى كل ما هو اعوج، قد غُرست في نفسه منذ طفولته) .ويبدو ان هذا الامر نفسه انطبق على اخيه ، محمود شوكت باشا اسم محمود شوكت ، مركب على الطريقة العثمانية الشائعة انذاك ، اما لقب باشا ، فهو لمن يحمل رتبة امير لواء فما فوق ، عضو جمعية الاتحاد والترقي البارز ، الذي ولد في بغداد ، في عام 1857 ، من ام ٍ عربية ، وهو الرابع في ترتيب اخوان ، حكمت ، الثمانية وهم على التوالي : نشــــأت بك ، وراغــــب بك ، ونعمــان بك كان حسن الاخلاق ، تربى في كنف والده وكان اديبا ً ، قرأ بعض الكتب التركية والفارسية واحسن الانشاء ، سافر الى الاستانة مع والده وهناك طبع كتاب تاريخ المماليك الكولمند باسمه بلقب مستعار ( ثابت ) خوفا ً من السلطان يومئذ ، استخدم بمنصب قائمقام في بغداد في العهد العثماني ، توفي في بغداد يوم 2 / كانون الاول / 1915 ، ومــراد بك كان صاحب املاك ، تقلد منصب مكتوبجي ولاية بغداد في العهد الوالي ناظم باشا عام 1913 ، انتخب عضوا ً في اللجنة الادارية لجمعية الاتحاد والترقي في بغداد ثم رئيسا ً لفرعها عام 1908 ، اصدر جريدة بغداد باللغتين العربية والتركية في عام 1908 ، ثم انتخب عضوا ً في مجلس المبعوثان عن ولاية بغداد ( دورة عام 1912 ) و ( دورة عام 1914 ) وعد من غلاة الاتحاديين ، لذلك نفاه الانكليز الى الهند ، وخالــد بك كان عضوا ً في مجلس المبعوثان العثماني عن لواء الديوانية في عام 1914 ، ثم صار وزيرا ً للمعارف في وزارة توفيق السويدي الاولى في ايلول عام 1929 ، ووزيرا ً للزراعة والري في وزارة ناجي السويدي الاولى في عام 1929 ، عُين مديرا ً للاشغال في كانون الثاني 1932 ، وعُين مديرا ً عاما ً للبريد والبرق عام 1934 ، ثم وزيرا ً مفوضا ً للعراق في ايران في عام 1935 ، ذكرت الوثائق البريطانية عنه ، انه رجل طيب لطيف المعشر شريف ومحبوب ولكنه ليس له تأثير سياسي ملحوظ ، وكمــال بك
نشأ ، شوكت ، في كنف أبيه ، منذ حياته الأولى وسافر الى الأستانة بصحبة والده عام 1870 ، بعد ان أكمل دراسته الأولى في بغداد ، اذ التحق بالمدرسة العسكرية العثمانية في اسطنبول فتخرج فيها عام 1882 ، ثم عمل مدرسا ً في ، مدرسة الأركان عام 1883 ليدرّس، الجبر ، والمدفعية ، فأبدى فيها ، كفاءة مشهودة ، حتى أعجب به الجنرال الألماني ، فون درغولنج فون درغولنج ( 1843 – 1916 ) من القادة الالمان البارزين ومؤلف كتاب (الامة في الحرب ) المعدود من امهات الكتب العسكرية ، انتدب للعمل في تركيا عام 1883 في عهد السلطان عبد الحميد للعمل كمشاور عسكري ورأس هيئة تدريسية ، عاد للخدمة في الجيش العثماني في اثناء الحرب العالمية الاولى حين تولى قيادة الجيش السادس ، توفي في بغداد في نيسان 1916 ، ودفن فيها ، وقارنه بنابليون وتنبأ له ، بمستقبل لامع ، وأوصى مرارا ً ، بإرساله الى أوربا لشراء الأسلحة ، كما استعان به في ترجمة كل ما يحتاج اليه الجيش العثماني من المؤلفات العسكرية ومن هذه المؤلفات ، كتاب ، عثماني تشكيلات وقيافة عسكرية ، أي (( تشكيلات الجيش العثماني وكسوته )) ، وفيه شرح لهيكل الجيش وترتيبه وصنوفه ، اذا عُدّ هذا الكتاب من المصادر التاريخية المهمة ، وهذا الأمر هيأ لشوكت ، أجواء ً من البحث والتأليف ، فأنصرف الى وضع مؤلفات عدة عن الأسلحة والعلوم العسكرية ، فضلا ًعن ، اهتمام واضح له في الأدب ، اذِ ترجم عن الفرنسية بعض الروايات الأدبية من هذه الروايات ، رواية تحت ظلال الزيزفون للكاتب الفرنسي الشهير الفونس كار ، وبحكم انصرافه الى التأليف والمطالعة ، فقد اجتمعت لديه، مكتبة واسعة ، ضمت كتبا ً ومؤلفات ثمينة ، شملت ميادين ، العلوم ، والآداب ، وايمانا ً منه بضرورة شيوع الفائدة العامة ، فأنه اوصى ان تودع مكتبته بعد وفاته ، وقفا ً في مدرسة خيرية في الاستانة، عرفت باسم ، ( دار الشفقة ) .
تدرج ، محمود شوكت ، في مراتب الجيش العثماني حتى وصل في نيسان 1909 الى، رتبة فريق اول ، وعُين واليا ً في بلاد البلقان ، وظل فيها الى حين الانقلاب العثماني وعودة العمل بالدستور في سنة 1908 حينها عُين ، قائدا ً للفيلق الثالث المرابط في سلانيك .
بيد ان شوكت في هذه الفترة تأثر كغيره من الشباب العثماني بالحركة الدستورية في اوربا التي تغلغلت بذورها بين رجال الجيش وعندما قامت حركة الارتداد ( الحركة الارتجاعية ) ضد الانقلاب العثماني في 13 من شهر نيسان 1909 في العاصمة اسطنبول زحف شوكت على رأس جيش ودخل العاصمة في 24 من الشهر نفسه واسقط الحركة وانتظم مجلس المبعوثان ، واعلن خلع السلطان عبد الحميد الثاني ، لذلك دُعي للمشاركة في الحكم ، فعُين وزيرا ً للحربية ، في وزارة ، ابراهيم حقي باشا عام 1910 ، ثم في المنصب نفسه في ، وزارة سعيد باشا عام 1911 ، حتى تموز 1912 . وفي الوقت الذي كانت تشهد فيه اسطنبول نشاطا ًسياسيا ًوجوا ًمضطربا ً مشبعا ً بالانشقاق الحزبي، وخلافاً اتسعت شقته ، وزادت حدته بين الائتلافيين من جهة وبين الاتحاديين هم اعضاء جمعية الاتحاد والترقي من جهة اخرى ، وفي هذا الوقت بالذات وفي هذه الأجواء ، تولى الاتحاديون الحكم ، فدعوا ، محمود شوكت باشا ، الى تأليف الوزارة ، فألفها في 25 / كانون الثاني / 1913 متقلدا ً، الرئاسة ، ووزارة الحربية وقد استبشر اهل بغداد لهذا الحدث اذ صار البغدادي الاصل بين عشية وضحاها بطل الامة يتردد اسمه من البسفور الى شواطئ الرافدين ، وكان في نية الاتحاديين استغلال فرصة استلامهم الحكم للتخلص من خصومهم ، الا ان ، محمود شوكت ، كان عقبة ً دون تحقيق مآربهم اصدر محمود شوكت منشورا ً منع بموجبه اشتغال الضباط بالسياسة ، ودعاهم الى التمسك بوظيفتهم العسكرية فقط ، وكان هذا خلاف رغباتهم وطموحاتهم السياسية ، اذِ كان حريصا ً، على النظام العام ، وقد استاء الاتحاديون من اسلوبــه فــي الحكم وتهاونــوا فــي حراسته فدبر خصومهم لــه مكيدة اودت ، بحياته في 11 حزيران من عام 1913 اضطرب الناس لمصرع محمود شوكت ووقع نبأ الناعية في بغداد وقوع الصاعقة ، واعترى اهلها دهشة لهذا الحادث المؤلم ورثاه شعراء بغداد ، وكان منهم مصطفى العلاف بقصيدة مطلعها :
نعى في ليلـــة ظلماء ناعي وشر النعي في سود الليالي
وروع قلبا ً بعظيم خطـــب ٍ به بغــداد باتت في وبال ِ
فأنكـرت الحوادث وهي شؤم ومثلي بالحوادث لا يبـالي
امحمـود الخصال يموت غدرا ً وهمته رقت اوج المعالـي
ولما كان ، محمود شوكت ، ينتسب الى ، جمعية الاتحاد والترقي ، فقد اجريت له مراسيم جنازة لم تشهد اسطنبول مثلها ، على حد وصف ، شاهد عيان ، فقد اشترك في التشييع عدد من ، الوية الجيش العثماني ، ومئات الالوف من ، رجال الدولة والمواطنين على اختلاف طبقاتهم كما اشترك ممثلون من الدول الممثلة في العاصمة جميعها ووحدات من الاساطيل الحربية لدول ، امريكا ، وانكلترا ، وفرنسا ، والمانيا ، واذ ما قورنت هذه المراسيم المهيبة بمراسيم تشييع ، الفريق ناظم باشا ، وزير الدفاع الذي اغتيل ايضا ً ، والذي كان ينتمي الى حزب الحرية والائتلاف ، يلاحظ ان مراسم تشييع جنازته ، لم يشارك بها سوى مجموعة من الجنود فقط ، نقلوه الى مثواه الاخير ، ولم يشترك احد غيرهم وهذا يظهر ، مدى الشعبية التي كان ، يتمتع بها محمود شوكت ، في اسطنبول ، وقد اشترك في مراسيم تشييعه ، اخواه ، خالد ، وحكمت سليمان ، وناجي شوكت قريبه .
ولا شك ان أعمال وانجازات محمود شوكت باشا ، ومصيره قد غدا بدوره عوامل اثرت بقوة في شخصية ، حكمت سليمان ، السياسية ، فضلا ًعن ، ما اثر فيه مركز جده الاجتماعي ، وتراث والده ُ الغني ، الذي ما لبث ، ان تجسد في اعمال ذات طابع خاص ، تحققت في مراحل حياته اللاحقة ، لان المرء الطموح يتأثر ، عادة ، بالجو الذي عاشه ، وعلى رأي المؤرخ ، مير بصري ، ( ان درس الانقلاب والزحف الذي قام به ، محمود شوكت ، سنة 1909 ، لم يذهب سدى ، فقد كان اخوه الصغير ، حكمت ، يراقب الأحداث ، ويختزن الذكريات ) .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نور الغندور ترقص لتفادي سو?ال هشام حداد ????


.. قادة تونس والجزائر وليبيا يتفقون على العمل معا لمكافحة مخاطر




.. بعد قرن.. إعادة إحياء التراث الأولمبي الفرنسي • فرانس 24


.. الجيش الإسرائيلي يكثف ضرباته على أرجاء قطاع غزة ويوقع مزيدا




.. سوناك: المملكة المتحدة أكبر قوة عسكرية في أوروبا وثاني أكبر