الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


8 ساعات في معسكر الرشيد

ربيع نعيم مهدي

2019 / 7 / 11
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


قد تكون للحركة الانقلابية التي قادها العريف "حسن سريع" لإسقاط حكومة 8 شباط، أغرب حكاية تناقلتها الذاكرة العراقية المتخمة بالثورات والانقلابات، فالعرفاء الاثنا عشر قادوا خمسة جنود وسبعة رجال من العمال والكسبة في معركة غير متكافئة لتغيير نظام الحكم، لكن أحداث الحركة التي شغلت ثمان ساعات من صباح الثالث من تموز 1963م، ضاعت حقيقتها بين روايتين، الاولى رواية السلطة التي رسمت صورة مشوهة عنها، والأخرى رواية المنكسر الذي تخلى عن رفاقه واكتفى بتمجيد المشانق ورصاص الغدر الذي عانق صدور المنتفضين.
تحدث الكثير عن الحركة وعن أسباب فشل العرفاء في إذاعة البيان الأول، والتي كان أهمها افتقار ها للدعم الخارجي، الذي رعى أغلب الانقلابات والأنظمة الحاكمة في العراق منذ تأسيس الدولة العراقية في مطلع القرن الماضي، لكن ما بين السطور يشير الى أسباب كثيرة تغافل عنها أصحاب القلم، والشخص الوحيد الذي أدرك أسباب الفشل، تمسك بالصمت واكتفى بإصراره على تحمل المسؤولية، وهو العريف الذي قاد الثورة.
رواية العريف
لم يكن حسن سريع مهتماً بتقديم روايته عن الحركة، ولم يستطع إخفاء ازدرائه بأحكام الموت التي أصدرتها المحكمة العسكرية بحق من شارك في انتفاضة معسكر الرشيد، ليجلس في زنزانة السجن وعلى وجهه ابتسامة صغيرة، رسمتها أمانيه بأن ترفع طفلته علم الثورة في المستقبل.
وحيداً، جلس العريف في زنزانته المزدحمة بالرفاق والمخبرين، منشغلاً باستذكار أيام الطفولة في ريف السماوة، وأيام تعليمه الابتدائي في "عين التمر"، لكنه أستفاق من رحلة الذاكرة على أنين رفيقه "كاظم فوزي" الذي ألقى به جلادي التحقيق في الزنزانة، ليتبادلا نظرات العتب الممزوج بالمرارة والألم، فالعريف حسن لا يريد ان يشاركه أحد في تحمل مسؤولية ما حدث، لكن الجميع يعلم ان اصراره لا قيمة له، لأن الجلاد يريد أسماء تصلح للقتل.
أما على الجانب الآخر من باب الزنزانة وقف "منذر الونداوي" -زعيم الحرس القومي- شاخصاً بنظره نحو حسن، الغريم الذي أدرك ما تحكيه عيون منذر، كان يطلب منه النظر الى رفاقه من المعتقلين، الذين لم يحركوا ساكناً لتحرير أنفسهم عند قيام الحركة، والحزب الذي رفع شعار الوطن الحر لم يكن حراً، وترك العرفاء في ثورتهم كالقطيع وهو يساق الى المجزرة.
كان لحديث العيون ان يستمر لولا صرخات الاستخفاف التي أطلقها بعض المعتقلين للترحيب بـ "حازم جواد" وتذكيره بما حدث لحظة استسلامه للثائر "موزان عبد السادة"، فسرعان ما بدء أحدهم بتقليد وزير الدولة هو يسير متعثراً، ليسقط على الارض ويصرخ متوسلاً بأن لا يقتلوه وان يرحموا حاله. لكن الاستخفاف الذي أطلقه المعتقلين سيدفع ثمنه شخص واحد فقط، وهو الفتى "موزان"، ذو الستة عشر عاماً، والذي ستأمر المحكمة بإضافة سنتين الى عمره ليحكم عليه بالإعدام رمياً بالرصاص.
من بين زحام الضحك الذي هرب منه وزير الدولة "حازم جواد" تسلل عازف الناي الكفيف "خضير تقي"، ليجد له مكاناً بجوار العريف الذي تنبه الى يد الأعمى وهي تقدم له علبة سجائر " لوكس"، فيما سارع الرفيق خصير الى القول: "أنا اعلم جيداً ان وجودي بينكم يثير الكثير من علامات الاستفهام، لكنني واحد منكم، كنت بانتظار إعلان ساعة الصفر لأداء واجبي في الثورة، صحيح انني فاقد للبصر إلا انني أمتلك البصيرة، واتمنى ان تدرك المعنى من سؤالي: ما الذي يجبرك على احتلال الاذاعة إذا كنت تمتلك أخرى تستطيع من خلالها إذاعة البيان الاول؟، لقد أخبرت الرفيق محمد حبيب بوجودها لكنه تجاهل الأمر ".
بين العقيد والعريف
العريف الذي استجار بالصمت لم يستطع تجاهل حراس السجن وهم يقتادونه الى غرفة التحقيق، ليجد في انتظاره رئيس الجمهورية "عبد السلام عارف"، وقبل ان يترك الحراس الغرفة جلس العريف مشعلاً سيجارته في تحدٍ للعقيد الذي يكره الدخان، لكن الأخير لم يعترض واكتفى بالابتسامة بوجه غريمه، وبدأ الحديث قائلاً: "لا أنكر ان حياتك لا قيمة لها عندي، لكنك تذكرني بنفسي في الماضي، إذ سمحت للزعيم ان يتسلق على كتفي حتى وصل الى السلطة، أما انت فقد حاولت ان ترفع عامل المقهى "محمد حبيب" الى ذات المكان الذي شغله عبد الكريم قاسم، ونسيت ان الرجل لا يصلح إلا لإطلاق الشعارات".
أراد حسن مقاطعة العقيد لكنه فضل الاستماع على الاعتراف بان "محمد حبيب" كان مندوب الحزب وحلقة الوصل بين الطرفين، وان المشتركين في الحركة لم تكن لديهم نوايا لاتخاذ اي منصب في حكومة ما بعد التغيير ، وفي كل الاحوال لم يكن للاعتراض أثر على واقع الحال.
أما العقيد فهناك ما يشغله ويود معرفته، لذلك استرسل في حديثه عسى ان يقنع العريف بمشاركة بعض المعلومات: "أتعلم؟.. ان السجناء الذين سعيتم لإطلاق سراحهم والاستعانة بهم، لم أكن أخشى منهم شيئاً، فالخطر الحقيقي يكمن في صدور شركائي في الحكم، ولهذا السبب أمرت برفع بطاريات التشغيل من كل الدروع الموجودة في المعسكر، ولذات السبب استعنت بكتيبة الدبابات الرابعة لمواجهتكم، وانا على يقين بأن قادة الكتيبة من رفاقك في الحزب، وربما على علم بساعة الصفر".
هنا أدرك العريف حسن سر الزيارة التي تجمعه برئيس الجمهورية، فقرر قطع الطريق على غريمه وإنهاء الزيارة بسؤال محدد عن الحزب الشيوعي العراقي، وإن كان يمتلك إذاعة أم لا؟، فأجاب العقيد بأنها بدأت بث برامجها منذ شهر تقريباً، والغريب انها لم تذكر شيئاً عن محاولة المعسكر الانقلابية، ولازالت تطلق الشعارات والوعود بوطن حر .
حديث العرفاء
عاد العريف الى مكانه في الزنزانة، ولأول مرّة ينتبه الى ان رفاقه في الحركة متمسكين بربط شرائط الابيض والاحمر على العضد الايسر، فهذه كانت علامة الثورة التي انطلقت مع أول خطوة سار بها الجندي "كاظم شنوار" حاملاً على أكتافه سلماً لقطع اسلاك بدالة المعسكر، ولم يلاحظ تلك العيون التي تراقب كل شاردة على الارض.
استذكر العريف حسن أحداث الحركة، واستعاد صور المسرحية المثيرة للضحك، والتي كان أبطالها جنود سرية الحراسة الذين فضّلوا الوقوف على الحياد والتظاهر بالاستسلام، وفيما انشغل حسن سريع باعتقال الضابط الخفر تكفل أحد الثائرين بتقييد المجموعة.
فجأة دوى صوة إطلاق رصاصة، وأدرك العرفاء ان احد رفاقهم قد تم إعدامه، لترتفع صرخة العناد باسم الحزب الشيوعي العراقي، لكن الزنزانة التي احتضنت ضجيج الثائرين عانقت الصمت في إحدى الزوايا حيث جلس "عريبي محمد ذهب"، الرجل الذي قاد رفاقه لكسر بوابات السجن العسكري، ولم تفلح رصاصات بنادق "السيمونوف" إلا في إقناع مسؤول السجن بالإقدام على الانتحار.
ان الصمت الذي اختاره "عريبي محمد" فشل في ستر دموعه التي اختلطت بالدماء التي تعلقت بثيابه عندما سحقت دبابات الكتيبة الرابعة أجساد رفاقه من الثائرين، ولم يجد ملاذاً للهروب من الوجوه التي كانت تبحث عن الاسباب، فالمجموعة التي تقدمت نحو مطار الرشيد العسكري أكملت مهمتها وانتظرت بلا جدوى وصول الطيارين للتحليق في سماء الثورة، فيما لا زال البعض يفكر في سبب اختفاء بطاريات التشغيل من دبابات الكتيبة الأولى، التي كان ينتظرها "عريبي" لتحطيم بوابة السجن.
من بين العرفاء الاثنا عشر، اثنان فقط فضّلا مواجهة جدران السجن للهروب من غضب الرفاق، العريفين "جليل خرنوب" و "كاظم زراك"، اللذان تسلما مسؤولية الباب الشمالي للمعسكر، حيث توقفت دبابات الكتيبة الرابعة، ليترجل منها رئيس الجمهورية "عبد السلام عارف"، الرجل الأول في قائمة المطلوبين.
عارف الذي أحس بالخوف الشديد بعد ان تهيأ الجندي "عبد العظيم" لقتله توقف بالقرب من العريفين، اللذان لم يترددا في أداء سلام الأمراء، ليعود الرئيس الى دبابته وسط ذهول الجميع من حماقة الرجلين التي تسببت في كتابة أول سطر لنهاية الحركة، إذ سارعت أسلحة الدبابة الى حصد الثائرين بنيرانها، والسماح للجنازير بسحق من تبقى ولم يرفع راية الاستسلام.
أما في الجانب الآخر من مدينة بغداد فقد تحركت قطعات من الدروع لتطويق معسكر الرشيد بالكامل، والغريب في الأمر ان المدافع توجهت ضد رفاق قادتها، لتحدث معركة شرسة بين البنادق والدروع، لم تعرف النهاية إلا عند الساعة الثامنة صباحا، حيث سكتت بنادق الثائرين، وتم بعدها اعتقال حسن سريع وباقي الجنود المشاركين في التمرد، لتعلن السلطة روايتها للحدث في الساعة الحادية عشر من صباح الثالث من تموز.
حديث النهاية
في خاتمة المطاف ساد الصمت في زنزانة الثائرين، فالجميع استسلم لانتظار ساعة تنفيذ الاعدام إلا حسن سريع، جلس وحيداً يترقب رسالة الحزب الذي تلاشى في زحمة الرصاص وهو يحصد أرواح الثائرين، الذين علقت جثث بعضهم على مشانق البعث للتنكيل برفاتهم، لكن حكاية الصمت لم تعرف النهاية إلا بعد ان وصلته إشارة من أحد الرفاق مفادها بأن الحزب لم يكن يعلم شيئاً عن الحركة.
عندها تقدم العريف نحو نافذة السجن ليلتحق به باقي رفاق الحركة في وقفة لم تستمر طويلاً، إذ صدحت حناجر العرفاء بترديد القسم الذي اعلنوا به ولادة الحركة، "نقسم بتربة هذا الوطن ان نحرره من رجس المتآمرين اعداء الشعب"، ولأكثر من مرّة انطلقت اصواتهم لتطرق اسماع رفاق الحزب، الذين تجرأ بعضهم على طرق قضبان السجن بما متوفر من أوان الطعام والملاعق في رسالة بلا كلمات لكنها تعني الكثير.
لتنتهي رواية العريف في صباح الثالث عشر من تموز 1963 بعد أن تم تنفيذ الاعدام بالوجبة الاولى التي ضمت العريف حسن سريع وثلاثين شخصا من رفاقه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلام ستات | أسس نجاح العلاقات بين الزوجين | الثلاثاء 16 أبري


.. عمران خان: زيادة الأغنياء ثراء لمساعدة الفقراء لا تجدي نفعا




.. Zionism - To Your Left: Palestine | الأيديولوجية الصهيونية.


.. القاهرة تتجاوز 30 درجة.. الا?رصاد الجوية تكشف حالة الطقس الي




.. صباح العربية | الثلاثاء 16 أبريل 2024