الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تداعيات المنظومة الأخلاقية في العراق ... من يوقفها ؟

داخل حسن جريو
أكاديمي

(Dakhil Hassan Jerew)

2019 / 7 / 12
مواضيع وابحاث سياسية


لا نبالغ كثيرا إذا قلنا أن أخطر ما تواجه أية أمة من الأمم في حياتها , وتهدد حاضرها ومستقبلها كثيرا , هو ألإنهيار التدريجي لمنظومتها القيمية والأخلاقية وتشويه أعرافها وتقاليدها التي توارثتها وشذبتها جيلا بعد آخر عبر تاريخها الطويل , بحيث أصبحت أعرافا ونواميس ثابتة لا يجوز المساس بها . وهكذا كان حال العراق حتى وقت قريب , تحكم مجتمعه قيما وأعراف سامية توارثتها جيلا بعد آخر , آخذة بنظر الإعتبار تطوره الحضاري والمعرفي, لتنظيم حياة شعبه وحفظ أمنه وإستقراره , وتضمن على وجه العموم لكل ذي حق حقه بموجب القوانين المرعية بشكل أو بآخر. ونحن هنا لا نتحدث عن مجمتع إفلاطوني فاضل بكل المعاني يتحلى جميع أفراده بالأخلاق العالية وتسود فيه العدالة التي تضمن لكل ذي حق حقه , بل مجتمع فيه الصالح وفيه الطالح , غالبيته ملتزمة بالقييم والأخلاق بدرجة معقولة التي تؤمن حقوق الناس وتحفظ السلم الإجتماعي بينهم.
بدأت المنظومة الأخلاقية بالإنهيار التدريجي منذ منتصف عقد الثمانينيات , بعد أن دخلت الحرب العراقية الإيرانية في نفق مظلم وكأن لا نهاية لها في الأفق المنظور, حيث عشعش اليأس في نفوس الكثير من الناس , وراح كل منهم يسعى للحفاظ على روحه وماله وعرضه بكل الوسائل المتاحة , مما أتاح لبعض ضعاف النفوس ممن يمتلكون قدرا من السلطة , الفرصة للعبث بأعراض الناس أو تلقي الرشى مقابل عدم زج ابنائهم ولولبعض الوقت في آتون الحرب المستعرة يومذاك, لتزداد الأمور سوءا في عقد التسعينيات بعد أن أطبق الحصار الظالم على أنفاس الناس , ليتركهم فريسة للجوع والفقر والجهل والمرض , ويجعلهم لقمة سائغة لمافيات الفساد والمفسدين مقابل توفير لقمة العيش لهم . أصبح تعاطي الرشى من قبل الكثير من موظفي مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية والأمنية , أمرا طبيعيا مقابل تمشية مصالح مراجعيهم بحق أو بدونه بما في ذلك تزوير الوثائق والمستمسكات الرسمية. لم تجدي نفعا بعض إجراءات السلطة المتخذة يومذاك بحق بعض الموظفين المرتشين , وإصدار بعض القوانين والتعليمات لتنظيم العمل الحكومي كتأييد صحة صدور الوثائق والمستمسكات الرسمية.
بدأت ظاهرة تعاطي الشباب بعض أنواع المخدرات للهروب من واقعهم البائس تطفو على السطح أكثر فأكثر, وإنتشرت دور الرذيلة والدعارة بصورة ملحوظة, الأمر الذي دفع بعض رموز السلطة الحاكمة إلى ذبح العشرات من النساء في جميع محافظات العراق في يوم واحد في اواخر عقد التسعينيات بدعوى ممارسة البغاء.
ولعلها مفارقة غريبة حقا , أن كل هذا الفساد كان قائما على قدم وساق والسلطة الحاكمة تروج ليل نهار لحملتها الإيمانية المتمثلة ببناء بعض المساجد الفخمة في مدينة بغداد ومراكز المحافظات , وفتح بعض المعاهد الدينية , وإلزام الكادر الحزبي المتقدم بإجتياز دورات دينية معينة, وإدخال مادة التربية الإسلامية لأول مرة ضمن مواد الأمتحان الوزاري للصف السادس الإعدادي , وقيام الجامعات ببناء مساجد داخل الحرم الجامعي.
وبعد غزو العراق وإحتلاله عام 2003 بلغ الفساد والإنحدار الأخلاقي ذروته , بدءا بنهب ممتلكات الدولة ومؤسساتها من قبل بعض الرعاع تحت مسمع ومرأى القوات الغازية وبتشجيع منها في الكثير من الأحيان, لينتقل هذا الفساد فيما بعد إلى من آلت إليهم مقاليد السلطة والتحكم برقاب العباد والبلاد , حيث بات نهب المال العام مستباحا دون رقيب أو حسيب , وما زال الحال على ما هو عليه حتى يومنا هذا . ومرة أخرى تنتهك الحرمات وينهب المال العام والجميع يتحدثون ليل نهار عن الدين والتدين ,وتغص دور العبادة والمراقد الدينية المختلفة بملايين المؤمنين , وكأن الفاسدين والمفسدين أشباحا قادمون من كواكب أخرى . والغريب في الأمر هنا أن الجميع حاكمين ومحكومين بما فيهم رموز السلطة الحاكمة يتحدثون عن الفساد والمفسدين ويؤكدون على ضرورة محاسبتهم , دون أن تتخذ أية إجراءات بحق أي من الفاسدين , وكأن هيئة النزاهة ودائرة الرقابة المالية ودوائر المفتشين العموميين في الوزارات والسلطة القضائية مجرد تشكيلات ديكورية.
ولا شك أن منظومة الأخلاق والقييم تتغير بمرور الزمن , بسبب الإختلاط والتفاعل مع حضارات وثقافات أمم مختلفة عبر العصور , وربما أصبحت هذه التغيرات أسرع وأشد تأثيرا في عصرنا الراهن بفضل التقنيات الحديثة المتسارعة , وبخاصة تقنيات المعلومات والحواسيب وشبكات المعلومات والهواتف الذكية التي جعلت العالم وكأنه قرية صغيرة, يتبادل فيها الناس المعلومات بالصوت والصورة بكل يسر ودون أية قيود وبعيدا عن كل اشكال الرقابة. وبقدر ما يكون فيه التفاعل بين الناس عبر شبكات المعلومات هاما ومفيدا في مناحي الحياة المختلفة , فأنه ممكن أن يكون ضارا ومدمرا بالقدر نفسه إذا ما أساء البعض إستخدامها. وهنا تكمن الخطورة وبخاصة في المجتمعات الهشة التي أنهكتها الحروب والصراعات وتفشى فيها الدجل والشعوذة , وأنهكها الفقر والجوع والمرض, وغابت عنها الرقابة وضف لديها الوازع الأخلاقي , وأنعدمت لديها وسائل التسلية والراحة ,حيث قد تجد فيها بعض هذه الفئات متنفسا للهروب من واقعها المرير , وبخاصة بعض الأطفال والمراهقين من الذكور والأناث وبعض الفئات الأقل ثقافة والأقل وعيا , وربما الأكثر فقرا, ليكونوا فريسة سهلة لمافيات الجنس الرخيص والرذيلة والنصب والإحتيال وكل أنواع الفساد والإفساد , لما تمتلك هذه المافيات من وسائل إغراء وقدرة عالية في التمويه والخداع لإصطياد ضحاياها . وهذا ما تتناقله وسائل الإعلام حاليا من إنفلات أخلاقي وشيوع ظواهر أخلاقية مدانة في الشارع العراقي وتداولها بصورة واسعة بين الشباب والشابات عبر الأنترنت ووسائل التواصل الإجتماعي المختلفة .
ولا عجب أن يشهد العالم إزدياد حالات الإحتيال والنصب الألكتروني بنهب المال العام والخاص , وترويج تجارة المخدرات والجنس الرخيص,وتجارة بيع الأعضاء البشرية لضحايا أبرياء من الأطفال والناس الآخرين ممن وقعوا في شباك عصابات الجريمة المنظمة بصورة أو بأخرى, ولا نريد هنا الخوض كثيرا بتفصيلات هذه الجرائم التي يطول الحديث فيها كثيرا . أن ما يعنينا هنا هو ما تتناقله وسائل الإعلام المختلفة وشبكات التواصل المختلفة من تزايد شبهات صفقات الفساد وهدر المال العام والإستيلاء على ممتلكات وعقارات الدولة بدون وجه حق من بعض كبار المسؤلين في عراقنا اليوم, وفقدان الأمن والآمان حيث بات العراق مسرحا للمافيات وعصابات الجريمة المنظمة لهتك أعراض الناس وإبتزاهم بخطف بعض أفراد عوائلهم من النساء والأطفال, وإرتكاب جرائم بحقهم يقشعر لها البدن .
إتهم المرجع الديني محمد اليعقوبي الزعيم الروحي لحزب الفضيلة في كلمة له ألقاها في النجف الأشرف في شباط 2019, أحزابا متنفذة بحماية بيع الخمور والملاهي وبيوت الدعارة وصالات القمار. واضاف، أن " الانحدار في المجتمع في ظل وجود احزاب ومليشيات متنفذة وحكومات يتسيدها الإسلاميون وتدعي الالتزام بتوجيهات المرجعية الدينية وهي تحمي بيوت الدعارة والملاهي وصالات القمار وتسرق المال العام”.وتابع اليعقوبي قائلاً: “استشرى وجود الملاهي ومحلات بيع الخمور بشكل غير مسبوق وأصبحت متاحة حتى للصبيان وتمارس عملها بشكل علني وبحماية السلطة وبعض الأحزاب المتنفذة". وأشار حاكم الزاملي رئيس لجنة الأمن والدفاع في مجلس النواب في مقابلة تلفزيونية إلى " أن المبالغ التي تصرف في صالات القمار, هي عملية غسيل أموال لشخصيات فاسدة ضالعة بتهريب النفط والسلاح والمخدرات والرقيق , ويمتلكون أموالا طائلة " . ويندر أن لا تجد سياسي عراقي في السلطة أو خارجها لا يتحدث عن الفساد المالي والإداري والأخلاقي, والأدهى من كل ذلك أنهم جميعا يتحدثون صراحة عن مسؤوليتهم بما آلت إليه أوضاع العراق من فساد وهدر المال العام , وبفشلهم في إدارة البلاد, وبرغم ذلك ما زالوا متمسكين بالسلطة بكل قوة, ودون أن يتمكن أحد من محاسبتهم وكأنهم فوق القانون .
وعلى الرغم من أن العراق هو ثاني أكبر منتج للنفط في منظمة الدول المصدرة للنفط ( أوبك ) ويتلقى عشرات مليارات الدولارات سنويا من بيع النفط الخام , لكن الحكومات العراقية لا تزال عاجزة عن توفير الخدمات للسكان, بسبب الفساد المستشري في جميع مفاصل الدولة , حيث حل العراق عام 2017 في المركز ( 169 ) بين ( 180 ) دولة في مؤشر الفساد الذي تنشره منظمة الشفافية الدولية سنويا . وتقر هيئة النزاهة المرتبطة بمجلس النواب العراقي بأن العراق فقد بسبب الفساد الحكومي نحو(320 ) مليار دولار منذ العام 2003 . وكان رئيس الوزراء السابق، حيدر العبادي، طلب رسمياً من هيئة الأمم المتحدة الكشف عن مصير ( 361 ) مليار دولار مفقودة من موازنات العراق بين الأعوام 2004 و 2004 ,فضلا عن مصير آلاف المشاريع والإستثمارات في قطاعات الكهرباء والإسكان والزراعة, على الرغم من إنفاق الحكومة على هذه القطاعات ما مجموعه نحو ( 98 ) مليار دولار خلال عشر سنوات. وغالبا ما ينتهي المطاف بالمتورطين بالفساد إما إلى هاربين خارج العراق أو أحرار خارج القضبان بموجب قانون العفو العام.وما زال الفاسدين سادرين بغيهم وفسادهم , وغير مكترثين لآهات الناس ومآسيهم , موهمين البعض منهم بأنهم هبة السماء لهم , وما عليهم إلاّ تقديم فروض الطاعة والإحترام لهؤلاء القادة القادمين من وراء الحدود لإنقاذهم من الظلم والإستبداد كما يطبلون في فضائياتهم ليل نهار.
لقد بلغ الفساد في العراق بأنواعه المختلفة حدا لا يطاق , وبات حريا بالعلماء والمفكرين والأكاديميين العراقيين وبخاصة علماء الإجتماع , دراسة أحوال المجتمع العراقي دراسة علمية وموضوعية مستفيضة للوقوف على مسبباته وتداعياته ,وإقتراح سبل إستئصاله من جذوره أو في الأقل الحد من تأثيراته , إذ لا يعول على رموز سلطة حاكمة تباع مناصبها ومواقعها القيادية المدنية والعسكرية والمدنية وتشترى في بازار المحاصصة الطائفية والأثنية, التصدي لظاهرة الفساد االذي باتت تشكل قاعدته الأساسية وحاضنته . من يا ترى سينقذ العراق من هذا البلاء المستشري في كل مكان , بعد أن طفح الكيل وسال الزبى , وتبعثر الناس شذر مذر بين الطوائف والأثنيات . ويحدونا الأمل أن يستعيد العراق عافيته في القريب العاجل إن شاء الله , ويجمع شمل أهله على الود والمحبة والعيش الكريم وإستئصال الفساد والفاسدين والمفسدين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عقوبات أوروبية جديدة على إيران.. ما مدى فاعليتها؟| المسائية


.. اختيار أعضاء هيئة المحلفين الـ12 في محاكمة ترامب الجنائية في




.. قبل ساعات من هجوم أصفهان.. ماذا قال وزير خارجية إيران عن تصع


.. شد وجذب بين أميركا وإسرائيل بسبب ملف اجتياح رفح




.. معضلة #رفح وكيف ستخرج #إسرائيل منها؟ #وثائقيات_سكاي