الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أهازيج في رثاء توماست / قصة قصيرة

أحمد أغ أبو اليسر
(Ahmed Ag Aboulyousri)

2019 / 7 / 13
الادب والفن


القمر ما زال يسكب أضواءه الخافتة، وهو يصارع غيمة تبلعه بأجزائها المتفرقة كلما زحف ليهرب منها بيأس فيلقي بلمعانه الباهت على "انُّوكْمَمْ" الذي يتابعه، وهو مستلق على ظهره في السرير الخشبي أمام كوخه، وزوجتُه التي تحررت من أعباء ملابس النهار تدلك خده بلطافة.. تلتصق معه بصدرها الفارع، حتى تستشري منه أنفاسها الساخنة.. إحدى نهديها العارمين ينسكب فوق قلبه مباشرة ويبعث فيه الدفأ.. يتأمل القمر قليلا، ثم يقوم بتسريب أصابع إحدى يديه التي طوَّق بها عنقها إلى شعرها الثري المتناثر على وجهه، قبل أن يسرق النظر بشكل خجول في أسنانها الطرية، يفكر في تقبيلها، ثم يستمر في مشاهدة القمر.. مشاهدة القمر الباذخ وهو ينشر ذيول النور وسط السماء بين حبيبات نجوم صغيرة ترضع منه نوره أهم لديه من ألف امرأة، لكن المرأة لا تأبه لرومانسية القمر.. ظلت "تُوماسْتْ" تعجن عليه بطنها الدافئة كملحفة فقراء شتوية، وتستثيره بشفاهها التي تقطر نعومة، وهي تمررها ببطئ من أسفل عنقه المتسخ كجلد ضبٍّ إلى أذنه اليمنى.. مرة أخرى تولدت لديه رغبة قوية في أن يُقبِّلها، وهي تُنعش عليه جسدها الساخن، وينزلق عليه بطراوة فأرسل شفاهه نحو شفاهها، لكن في تلك اللحظة انتعش إبليس اللعين في تيسٍ شبق عند حظيرة الماعز القريبة، فقفز على ظهر معزة عجوز ليست لديها رغبة في التزاوج، فقفزت هي الأخرى طلبا للنجدة من عضو التيس اللعين الذي يهدد مؤخرتها إلى داخل الحظيرة التي تُربط فيها الجديان الصغار، فانقطع الحبل.. انقطع الحبل فانفرطت الجديان متقافزة إلى أمهاتها، وهي تملؤ الدنيا ضجيجا بثغائها المزعج.. تنهدت توماست منزعجة من ثغاء الجديان وهي ما تزال تجلخ زوجها بجسدها الدلع النابض بكل معاني الحياة، فقامتْ من فوق صدره قاصدة ربط الجديان.. من خلال ضوء القمر الذي أرسل في تلك اللحظة فيوضا عجيبة من الأشعة تأمل "انوكمم" دلاخة جسدها المترف الجمال، والمليء بالأسرار وهو يندلع كقطرات مياه شفافة عندما استدبرتْه متجهة نحو الجديان، لكن في تلك اللحظة التي بدأ يتأمل فيها جسدها بإعجاب شديد، وباعتزاز كبير بنفسه لأنه تزوج أبهى امرأة على الإطلاق في الصحراء الكبرى كلها، قصفتْها دبابة همج "الكندكوي" التي وصلت هي الأخرى لتوها لمربط الماعز بقذيفة صاروخ أصابت رأسها فحولتْه إلى شظايا نارية متطايرة في الهواء.. قبل أن يتدلدل جسدها البض متساقطا نحو الأرض بلا رأس فجَّرها أحد الجنود بقنبلة يدوية بدائية طارت بها كليا فانقشعت في الهواء، متحوِّلة إلى لطخات دموية متناثرة.. صاح أنوكمم من هول الفزع وهو يسترجع على حافة البئر العميق كل هذه الذكريات الأليمة التي حصلت قبل ستين عاما.. تذكر أيضا كيف أطلق هؤلاء الجنود الذين يحاصرونه الآن بعد ستين عاما من مطاردته في الصحاري الخمس كلها زخيرة مخازن كاملة على رضيعه في ذلك السرير المشؤوم بعدما استطاع هو الهرب بأعجوبة من رصاصهم.. تيقن تماما من أنهم حوّلوا رضيعه إلى أشلاء كما فعلوا مع والدته، لكن الجند الذين ينحدرون على سفح الجبل الوعر أمامه شرقا متجهين نحوه بحذر من أن يطلق عليهم الرصاص وقف أكثرهم بدانة ببطنه الرجراجة ككثيب من الروث، عند آخر صخرة تفصل الجبل عن السهب القفر الذي يجلس الضحية فيه عند البئر، فصاح وقال:
-- "إن سلمتنا نفسك فنحن نعدك بمحكمة لائقة، وسنريك ابنك أيضا.. إنه لم يمت"..
فكر في أن يجيبه بإفراغ رصاصتين في بطنه المتدلية من خلف الصخرة كحاوية نفايات، ثم تراجع وأطلقه على آخر خلفه فتهاوى قتيلا.. اختفى الجند جميعا خلف الصخور منتظرين قرار الإطلاق من البرميل القائد.. بعد أن هدأ رصاص انوكممْ، أطل البرميل من خلف الحجر الناتئ، فقال هازئا: -- "سأريك المسخ الوحيد الذي أنجبتْه توماست؛ زوجتك المحبوبة قبل ستين عاما لتتأكد أنه ما زال حيا، وأنه ما زال لديك السبب لكي تحيا".. أشار لجندي خلفه بنظرة الذكاء الميداني فقدم له حقيبة.. زررها ثم أخرج منها الرضيع فلوَّح لأبيه به: "انظرْ.. إنه منذ ستين عاما لم يكبر، منذ ستين عاما وهو رضيع حتى الآن.. كما قلتُ لك: توماست أنجبتْ منك مسخا عاجزا عن أن يخلفها"
عن بُعد وتحت لمعان شمس الظهيرة تأمل انوكممْ ملامح وجه الولد فتأكد من ملامحه أنه هو، وأن ابنه ما زال حيا، لكنه لا يكبر.. إنه لم ينجب سوى مخلوق عاجز حتى عن أن يكبر.. لم يسمح لعاطفته الأبوية أن تتغلب عليه فأجاب الجندي بلا مبالاة: "سيكبر يوما، وسيطلب ثأر أمه يوما.. أنا سأقتل نفسي حتى لا يتحمل ثأريْن.. سأغرق نفسي في..." انبثق خيط دمٍ طويل من عينه اليسرى التي طعنها جندي من خلفه بسكين عسكري حاد، مرَّغه فيها حتى انبثق دماغه أيضا، قبل أن يركله الجندي بركبته فيسقطه في هاوية البئر.. وقبل أن يرتطم رأسه بقاع البئر ظل يسمع صراخ الجندي البدين وهو يعلق ساخرا: "حتى لو افترضنا أن هذا المسخ سيكبر جسديا يوما إلا أنه سيظل مشلول الدماغ.. إنه مشلول الدماغ أيضا يا أنوكمم" كان يسمع صوت الجندي تقريبا في نفس اللحظة التي يسمع فيها دبيب عزرائيل، وهمهمات منكر ونكير، وأصوات ملائكة آخرين لم يسمع بهم من قبل..!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ربنا يرحمك يا أرابيسك .. لقطات خاصة للفنان صلاح السعدنى قبل


.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف




.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81