الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عمليّةٌ قيْصريّة في غرفة الغسيل

محمد الحاج صالح

2019 / 7 / 14
الادب والفن


كثيراً ما نسمعُ من هناك من الغرب أنّ طبيباً أو طاقماً من الأطباء يحاكمُ أو يُحاكمون بسبب خطأ طبيّ. الخطأ بالطبع ليس مقصوداً وإنما يندرجُ عادة تحت باب الإهمال أو التقصير، لكنّه على أي حالٍ خطأٌ أدّى إلى ضررٍ واستحقّ أن تقوم على أساسه دعوى.
هناك الطبيبُ والمريضُ مؤمّنان على الأقلّ في الحدود الدنيا، لذا يتمترسُ كلاهما خلف القانون، كيْ لا يخسر ما يخسره المرءُ عندنا في ظلّ أعرافِ تبويس اللحى والتنازل عن الحقّ خجلاً واستحياءً من الضغوط التي يلجأُ إليها المعارفُ.
بعضُ الأخطاء قاتلٌ. بعضها فيه ضررٌ. وبعضها طفيفٌ يشبه الطرفة لا ضرر فيه سوى ما قدْ يُلحقُه بسُمعةِ الطبيب، وسوى الألم النفسيّ الذي يتعرض له المريض والطبيب.
أحدُ زملائي من أطبّاء النسائية تعرّض ذات يومٍ إلى حالةٍ من تلك الحالات. إذْ زارتْه في عيادته امرأةٌ في المخاض، لعلمها أنّ في العيادة غرفة ولادة. كانت الولادةُ "خروساً" في سنّ الخامسة والثلاثين. والخروس هي منْ لم تلد من قبلُ. ملأ صراخُها العيادةَ، مما اضطرّهُ على استثنائها من الدور. ولما فحصها قرّر على الفور أنها تحتاج لعملية قيصريّة عاجلة لاستخراج الجنين. لم يترددْ في القرار أبداً، لأن المرأةَ ليستْ شابة، وهي خروسٌ، وواضحٌ أنّها و والد الوليد المُنتظر يتحرّقان في انتظار مجيئه. وقد كان الوالدُ المسنّ هو أيضاً يفركُ يديه بنفاذ صبرٍ ويهمهمُ بالدعاء ويرفعُ عينيه بين لحظةٍ وأخرى إلى السماء عبر السقف.لا مناص. عملية قيصرية.
على عجلٍ هتف الطبيبُ للمشفى الخاصّ، طالباً تحضير غرفة العمليات... يقولُ زميلي: "لا أدري كيف جرتِ الأمورُ... اعتقدتُ أنّني أقومُ بواجبي دون خلَلٍ. أذكرُ أنّني ودّعتُ الولادةَ وزوجها على باب العيادة وأنا أقول بصوتٍ عالٍ كما لو أن الله أراد أنْ يفضحني: "دقائق وأكونُ في المستشفى. نصف ساعة أخرى ويكونُ ابنك بين يديك" حتّى أنني سمعتُ بعضَ النساء في الردهة يبتهلنَ إلى الله ويطلبن أن يخلّصها ويرزقَها بالولد على يديّ... تلك الدعوات الحارّة التي تعودنا عليها نحن أطباءَ النسائيّة، والتي نقدّرها حقّ قدرها، فنحن نعلمُ ربما أكثرُ من غيرنا معنى أنْ تتألّمَ الولادةُ وأن يتأخر مجيء الولد، فضلاً عن الرغبة العارمة للمرأة في أن تصبح أمّاً بعد طول انتظار.
في دقائق معدوداتٍ كان طاقم غرفة العمليّات بانتظار الولادة والطبيب. حضرت الولادةُ أولاً وهي تصرخُ في الشارع، ثم على باب المشفى وبملء فِيها دون أن يصدّقلُها أحدٌ: "سألد... ياناس سألد"
في الممرّ الطويل حيث تجلسُ الزائراتُ، وحيث أفراد الطاقم الطبيّ يجيئون ويذهبون، استرعى الانتباهَ تغيّر صوتِ المرأة الولادة المُداهم بالآلام الحادّ، وأحسّ من حولها أن أمراً ما يحدثُ بالفعل. وقبل الوصول إلى جناح العمليات البعيد؛ أَلْهمَ اللهُ المُمرّضةَ التي تدفعُ سريرَ النّقل، أنْ تنزاحَ عن الممرّ وتدخلَ غرفة الغسيل المَفتوحة، بينما كانت المرأةُ الولادة تدفعُ آخرَ قوّتها إلى أسفل بطنها وتصرخُ من بين أسنانِها: "إنه يخرج... يا ناس إنه يخرج". تباوعت الممرضة ورأت رأس الطفل خارجاً.
ثوانٍ وإذا بصراخ الوليد يملأ الممرّ، ويُلفتُ أعناقَ الجميع. ثوانٍ أخرى ويحضرُ زميلي مهيأً نفسه للجراحة! فيجدُ لوماً واتّهاماً في عيون الجميع يقولُ سرّاً ما لا يُقال علناً: ألهذا الحدّ النقود غالية على قلبِك يادكتور؟ كيف ترسلُ امرأةً في المخاض إلى عملية قيصرية، فتلدُ حتى قبل أن تلجَ بابَ غرفة العمليات؟
... ساعتها. يقول زميلي: ساعتها ارتسمتْ أمام عيني العبارةُ الذهبيّةُ التي كثيراً ما قرأناها في كتب التوليد. العبارةُ التي تكثّفُ تجربةَ البشريّة في ما يخصّ سلوكَ الطبيب أثناء الولادة: "الانتظارُ والمراقبة" فما الولادة إلا جزءاً من طبيعة البشر. ويا ليتني فعلتُ!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا