الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نُورا

محمد الحاج صالح

2019 / 7 / 14
الادب والفن


ابنةُ عمي "نورا" عذابي وبلواي في الصغَر. خرجتْ مشلولةً، وماتَ والداها وهي ابنةُ ستّ سنين، إثر حادث سيّارة. فتكفّلها جدّي. أو فلْنقلْ تكفلتْها العائلةُ، إذْ لم يكن جدّي ليسمحَ لأيّ من أعمامي المُتزوجين أوْ أبي بالانفصالِ عن البيت الكبير.
"الأرض كبيرةٌ وتحتاجُ للعمل. في حياتي لن ترثوني. متى متُّ افعلوا ما تريدون" يقولُ جدي دائماً. فيردّد الجميعُ "بعيد الشر!".
مشكلتي تتضاعفُ ما إن يأتي الصيفُ، حيث يذهبُ الجميعُ رجالاً ونساءً للعمل في حقول القطنِ، حتى الأطفالُ الرضّع يحملونهم بسلال القصب مع "زوّدات" الطعام، ويتركون نورا وديعةً لديّ مع الكثير من الوصايا الحازمة من جدّي الذي لا ينسى أبداً أنْ يختتمَ وصاياهُ بالجملة التي لا تتغيّر: "حطّها بعينك. هي عروسك في المستقبل" فأنْقهرُ وأخجلُ، وتبدأُ هي بالدلال: "دخيلكْ اسحبْ فراشي عن الشمس". "دخيلكْ اعْطني حسوةَ ماء". "أعطني رغيف خبز"... في البداية كنتُ أُراعيها خشيةً من قسوةِ جدّي الذي لم يتركْ طبيباً إلا وعرضها عليه. كلّ الأطباء أجمعوا أن أعصابَها سليمةٌ وأنّ الأمر غير مفسّرٍ إلا بالصدمة التي تعرضتْ لها. شيئاً فشيئاً رحتُ أكرهُها، وأتحيّنُ الفرصَ كيْ أنتقمَ منها. ما إن يغيبوا بعيداً بين شجيراتِ القطن حتى أقومُ بتعذيبها. أسحبُ فراشَها من الظلّ إلى الشمس. أشعلُ عود قطنٍ وأنفخُ عليه وأُقرّبه من عينيها فتشرعُ هي بالزحفِ متراجعةً على مؤخّرتها، وتحوَلُّ عيناها، وتصرخ: يا جدي ياجدي,,, يريد أن يحرقني...
وعندما يعودون تبدأُ بالشكوى والولولةِ التي تجدُ دائماً صداها لدى جدّي.
مرّةً ارتقيتُ شجرةَ التوتِ الضخمة، ومن الأعلى تفنّنتُ في إزعاجِها. أقتربُ منها وأنا متعلقٌ بغصنٍ وتحتي غصنٌ إلى أن يمسَّ الغصنُ السفلي رأسها، عندها أشرعُ بالقفزِ فوق الغصن مثل قرد، والأوراق والفروع الصغيرة تتلاعب، وتخمشُ، وتتعلّقُ بشعرها، بينما هي تستعطفُني وتبكي، ثمّ تهددني بجدي وتبكي، وأنا أزداد انتقاماً. يا حدي. يا جدي. وأنا أكزّ على أسناني وأتقافزُ فوق الأغصان، وللأوراق حفيفٌ، وثمارُ التوت تتساقطُ على فراشها. ياجدّي. يا جدي.
لمّا شكتْني إلى جدّي زادتْ كذباً: "يا جدّي ركب على الشجرة... و.... من فوق بلّل ثيابي!". الكذّابة! صحيحٌ أنني فعلتُها من فوق الشجرة، لكنْ من الناحية الأخرى بعيداً عنها حيث تتطاولُ الأغصانُ لتصلَ إلى أوّل أشجارِ الرّمان. صرخَ جدّي غاضباً: "تعال يا جرو... كلّه إلا قلّة الأدب!". أردتُّ أن أكذّبُها، لكنّ خوفي ربطَ لساني. يومها رأيتُ جدي يومئُ نحو أعمامي وزوجاتهم وإلى أمّي بإشارات تعني إنه لا يريد لأحدٍ أن يتدخّل. ربطني إلى جذعِ شجرة التوت بحبلٍ وهو يقول بصوتٍ عالٍ: مَنْ يفكُّهُ أو يعطيه ماءً قبل الصباح سأربطُه بدلاً عنه. تخيّلتُني طوالَ الليلِ مَربُوطاً إلى الشجرة والدنيا ظلامٌ والكلابُ تعوي من بعيد، ونظرتُ إلى أمّي وهي تكادُ تجهشُ في البكاء، فبكيت بكاءً مرّاً صار بعيد قليل جعيراً، وأحسستُ أنني سأتبوّلُ على نفسي بعد لحظاتٍ... حينذاك رأف جدّي بي وضمّني وعيناه تغرورقان بدموع لم يرد لها أنْ تسقطَ، ومع ذلك حذّرني: " ابنة عمّك... ما لها غيرك... سيحرقُك اللهُ بنار جهنم إن فعلت مرة أخرى ما فعلت". أردتُ أن أحلفَ أنني كنتُ بعيداً عنها، لكنّ الكلام غابَ عنّي كما لو كنتُ أخرساً.
فجأةً... وبعد أيامٍ من ربطي إلى شجرةِ التوت ظهرَ لنا "عثمانُ" المهبولُ قادماً من البعيد وهو يتمايلُ بمشْيتِهِ اللولبيّة. قلتُ مُتظاهراً بالخوف "جاء عثمان المهبول. سيقتلُنا ويلقي بنا في البئر". نظرتُ بطرفِ عيني، ورأيتُ الخوفَ يتملّكُها. زدت " أنا سأهربُ وأتركك وحدك". تشبّثتْ بثوبي وهي تصرخ "لا. لا... دخيلكْ.... أبوس رجلكْ". عثمانُ رجلٌ درويش مشوّه الساقين و القدمين. ينترُ قدميْهِ في المشي كما لو أنّه ينتشلُهما من الطين، وفمُهُ مائلٌ إلى جهةً يسيلُ منها لعابٌ دائمُ الجريان، وصوتُه يحمحمُ كما لو أنِه يحملُ حملاً ثقيلاً. كان يتقدّمُ نحونا بصورتِهِ هذه، عندما التقطتُ حجراً وقذفتُه نحوه، وفي الوقت نفسه تملّصتُ من نورا، وانْطلقتُ راكضاً وأنا أسمعُ خلفي خفقَ الأقدام وحفيف الثياب بأوراقِ شجيرات القطن. لم أكن خائفاً في البداية، لكنّ استمرارَ الصخب خلفي جلب لي الخوفَ، وبتُّ أحسُّ بعثمان وركضِهِ المتعثّرِ يكادُ يدهمني ويقبضُ عليّ.
المفاجأة كانت أنني رأيتُ نورا، وأنا أرتفع إلى كتفيْ جدي، تركضُ وتلفتُ إلى الخلف، بينما الجميعُ يهلّلون ويركضون نحوها. وعثمان المهبولُ من بعيدٍ يشيرُ أيضاً بأيدٍ مجنونة فَرِحَة... لم أدركْ، إلى أن درستُ الطبّ، أنّ نورا كانت مُصابةٌ بشلل هستريائي زال فجأةً بسبب الرعبِ الشديد من عثمان!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ربنا يرحمك يا أرابيسك .. لقطات خاصة للفنان صلاح السعدنى قبل


.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف




.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81