الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اسعاف في الريف

محمد الحاج صالح

2019 / 7 / 14
الادب والفن


إسعافٌ في الريف
اسْتُدعيتُ على عجلٍ لزيارة مريضة. كانتْ لهفةُ الرجل الذي أتي لاصطحابي تُوحي بأنّنا قد نلحقُ المريضةً حيّةً، وقد لا نلحقُ. في تلك الأيام لم يكن عددُ الأطباء كثيراً كما هو اليوم، لذلك كانت العياداتُ تغصّ بالزوار، وقرارُ ترك هؤلاء والذهابُ إلى إسعاف منزليّ ليس بالأمر السهل كما قد يتخيّلُ المرءُ، لكنّ الطبيبَ في النهاية سيحسمُ أمره لصالح الزيارة الإسعافية، إذْ من يدري لربّما كانتْ زيارتُه إنقاذاً لحياةٍ. الإشكالُ هو أنّ نسبة "الإسعاف" أي الحالات الحرجة بين ما يُسمّيه الناسُ "إسعافاً!" لا تزيد عن العشرة بالمائة.
كان علينا أنْ نلتفّ في طريق تُرابي حول الجزءِ الشمالي من بلدة "تل أبيض"، وأن ندخلَ في بستانٍ كثيف الشجر. وعلى الطريق الممتدّ إلى المنزل كان جمعٌ من النساء يحثّ الخطا. تلك عادةٌ غريبةٌ فعلاً! ما إنْ يسمعنَ عن مرضِ إحداهنّ حتى يتجمّعنَ للزيارة. يَجلسنَ حول المريضة ويبدأنَ بالهذر والثرثرة. واجبُ الزيارة هذا يكرهُهُ الأطباء، فالأفضلُ هو بكل تأكيدٍ فرضُ عزلةٍ على المريض. لكن هيهات!
بضعُ أشجارِ رمّان تفصلُنا عن حرس الحدود الأتراك. هناك تحت داليةِ عنبٍ وجدتُ المريضة ممددةً على فراش مُرتجلٍ ومُغطاة بغطاءٍ خفيف، تحُوطُها نساءٌ واجماتٌ يرسمنَ على وجوهِهنّ غمّاً وحزناً.
سألتُ: ما بها؟ ما الذي حدث؟ فلم أتلقّ جواباً. سألت مرّة أخرى، ومرةً أخرى لم أتلقّ جواباً. عندئذٍ سألت عمّنْ هي أقرب للمريضة. كانتْ أختُها. هكذا علّمتْنا التجربةُ في الريف. لا تسألْ جمعاً من الناس، فإنّكَ لن تستقبلَ ردّاً. اعزلْ شخصاً واحداً، ثم اسألْله تجدْهُ طيّعاً مُتعاوناً. وهكذا علمتُ من أختِها أنّها وقعت فجأة. كانت تتكلّمُ، وفجأة مال رأسُها وسقطتْ على الأرض.
"استجوِبْ جيّداً أيّها الطبيبُ فإنك ستهتدي. الاستجوابُ الدقيقُ نصف الطريق" هذه كلماتُ أحد أساتذتِنا. ألححتُ بالسؤال عن الظروفِ التي كانت فيها المريضة قبل أنْ يُغمى عليها، فلمحتُ من طرفٍ خفي أنّ لهجةَ الأخت تخفي خلفها شيئاً ما. سألتُ بشكلٍ مُباغتٍ لا يتركُ فرصةً للتفكير: هل كانتْ خائفةً أو قلقةً أو تشاجرتْ مع أحدٍ؟ هنا ارتسمَ ذاك التعبيرُ ليس على وجه الأختِ فقط، وإنما على وجوهِ النساء الحاضرت أيضاً. ذاك التعبيرُ الذي أعرفُهُ جيّداً والذي يعني أنّني وضعتُ يدي على مَكمن الداء. هنّ لن يصرحنَ ولن يقلن شيئاً، فهذه منطقة يحرّمُ فيها الكلامُ. وأنا أعلمُ ذلك. لكنني أعلم جيداً أيضاً أنّهن وضعن المفتاح في يدي.
تأكّدتُ تمام التأكّد عندما شرعتُ بالفحص ولاحظتُ الذبابةَ التي حطّتْ على زاوية أنف المريضة، حيث راحت الذبابةُ تلعّب أطرافها وتمسّدُ أجنحتَها، آنذاك رأيت فمَ المريضة يتكوّرُ ويميل إلى الجانبِ لينفخَ الهواء ويطردَها. لا جدلَ أنّ الغائبَ عن الوعي لنْ يحسَّ بذبابةٍ تتوضعُ على أنفِه.
أكملتُ معاينتي. وليس دون صراعٍ في النّفسِ يتعلّقُ بالأخلاق الطبيّة بين "الصدق" و"الكذب". قررتُ أخيراً أن أكذب كذبةً بيضاء.
قلتُ: سأعطيها حقنةً وسيأتي مفعولُها بعد نصف ساعة... هنا ضبطتُ المريضةَ وهي تختلسُ نظرةً إلى ساعة يدِها من تحت أجفانها المُسدلة... أكملتُ: بعد نصف ساعة ستنهضُ بإذن الله. لكنّها يجب أن لا تتعرّض من الآن فصاعداً لضغطٍ نفسي. يجب أن لا يزعجُها أحد...
نهضت المرأةُ بعد نصف ساعة بالتمام والكمال وتلفّتتْ وهي تقول: أين أنا؟ كأنّي نمت.
كانتْ"المريضةُ!" قد تشاجرتْ مع زوجها اللعوب الذي يشتغلُ سائق شاحنة بين سورية وتركيا والعراق، والذي كثيراً ما سرتْ عنه شائعاتٌ تتعلّقُ بالنساء.
تلك الحادثةُ أجبرت الرجلَ على أن يبقى في البيت بضعة أيامٍ ريثما تصحّ الزوجةُ المكّارة، لكنّها أيضاً منحتْني سمعةَ الطبيب الحصيفِ التي سأستفيدُ منها أيّما استفادة!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا