الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإشادة بالأطفال المُتْعِبين الجزء 2

محمد برازي
(Mohamed Brazi)

2019 / 7 / 15
التربية والتعليم والبحث العلمي


وفي الصف الأول الابتدائي، كان يثور ويتمرد على الجدول المدرسي الروتيني. فأساء التصرف وخالف القواعد. ولم يكن لديه العديد من الأصدقاء. وكان يشعر بالإحباط والفشل. ونحن أيضا كنا نشعر بالإحباط والفشل. وبدا الأمر وكأنه مهما نحاول فلا ينفع شيء، ما عدا عندما يكون بين أحضان الطبيعة وليس بين أربعة جدران.

وكان كايل يمضي ساعات في عطل نهاية الأسبوع لمراقبة الحشرات أو تسلق الأشجار والجلوس على أغصانها لمشاهدة الطيور. واكتشف الأعشاش وبدأ بتجميعها، وأخذ يتعلم عن أساليب الطيور المختلفة. ولما بدأ يستمع إلى تسجيلات لتغريد الطيور، صار يحفظ ألحان تغريدهم، وعندما كانت الأسرة تتنزه وتمشي في الطبيعة أصبح قادرا على التعرّف على هوية الطيور بشكل مضبوط وقبل رؤيتها.

أما فصل الصيف فقد جلب معه فرحة النوم في الحديقة الخلفية، وحفلات السمر أمام نار الحطب، وتحميص حلوى المارشميلو على هذه النار، والاستسلام للنوم تدريجيا تحت الملايين من النجوم. وساعده والده بصنع قارب صغير، وأمضيا ساعات لجعل القارب يبحر ويعوم على طول جداول المياه الجياشة. ويبدو على الأرجح أننا قضينا مئات الأميال في رحلات السير الطويلة وركوب الدراجات الهوائية لمجرد مواكبة ابننا كايل.

إلا أن فصل الخريف يعاود زيارتنا كل سنة. فكان ينبغي أن يعود كايل إلى طاولة الفصول الدراسية، ويبدأ في داخله التهييج النفسي والذهني المفرط، والمطالب الدراسية. فقررنا اتخاذ الإجراءات اللازمة. وبعد أن فكرنا مع معلميه وطبيب الأسرة، توصلنا إلى خطة للمعركة.

فبدأنا بتقليل الأشياء المركومة والفوضى في غرفته ومن حوالي طاولته الدراسية في المدرسة. فأزلنا العديد من الصور، واللُّعب، والكتب، والألعاب، وعملنا مكانا لأعشاش الطيور، وشتى أنواع الصدف البحري، والأخشاب الطافية التي وجدها في الجداول والأنهر. ثم قمنا بتخفيف نظام الألوان في غرفته، وإزالة أي شيء ساطع واستعمال ألوان ترابية بدلا من ذلك، مثل جوزي وكستنائي وخمري.
وقلّصنا الأنشطة والفعاليات: ففي المساء، وبعد يوم دراسي مليء، كنا نصل البيت للاسترخاء وذلك بقراءة كتاب ما في بيت صغير خشبي مبني على شجرة أو على الأريكة، بدلا من لعب الكرة. ولم نعُدْ نقبل كل دعوة تأتينا لزيارة بيوت الآخرين. وكنا نردّ على الدعوات بأدب ونقول لهم أننا نسقنا شيئا لهذه الأمسية – لئلا نجرح مشاعرهم، غير أن ما نسقناه كان البقاء بهدوء في البيت!

ولو كانت هناك حفلة قادمة لعيد ميلاد أو لرحلة تخييم، فما كنا نقول له بفترة طويلة سابقة لأوانه – لأن ترقب هذه الفعاليات لم يكن يستحق كل هذا الإفراط في الإثارة. وحاولنا المحافظة على جدول منتظم قدر الإمكان، وعلى الروتين نفسه كل يوم. ووعدناه بإعطائه تشجيع إيجابي متى ما نجح، بدلا من تبعات سلبية متى ما فشل (حتى لو كان فشله أكثر من نجاحه). وباختصار، أخذنا الحياة يوما بيوم، ولحظة بلحظة، وهي في الواقع الطريقة التي يعيش بها الطفل.

وفي النهاية، كانت الطبيعة دائما الدواء الأكثر فاعلية. ففي صباح أحد أيام الشتاء، كان يجلس بهدوء، ويطعم عصفور القرقف على يده المفتوحة. فسأله أحد زوار المدرسة عن كيفية نجاحه في ترويض العصفور. فأجابت عنه معلمته الحكيمة معلقة كالآتي: «لم يروِّض كايل العصفور بل العصفور روّضَه.»

ونصيحتي إلى كل أب وأم يصارعان من أجل مساعدة ولدهما الفريد على إيجاد طريق سليم يتقدم فيه، هي كالآتي: واصلوا العمل التربوي باستمرار، ولا تتوقفوا عن محبة ولدكما. أما ابني كايل فأكمل دراسته وحصل على مهنة ناجحة في علوم الحاسبات. وهو سعيد بزواجه الآن ولديه طفلان صغيران، واشترى مؤخرا منزلا متكاملا مع حديقة خلفية كبيرة مليئة بالأشجار حتى يمكن لطفليه أن يجدا موطئ قدم لهما في الطبيعة كما فعل هو.
كانت أسرة آيرين محظوظة – إذ نرى أن طبيب الأسرة والمعلمين في المدرسة تأثروا فعلا بمقترحات الأهل وقاموا بالتعاون والعمل المشترك معهم وأصبحوا كفريق واحد لصالح كايل. وكم تمنيت أن يحصل الشيء ذاته لكل طفل. وربما يجب على مكاتب الأطباء والأخصائيين بالعلاج الطبيعي وضع لوحة تقول ما يلي: «ينبغي أن لا يُنظر إلى أي تشخيص طبي سوى كعامل مساعد لفهم الصعوبات التي يواجهها الطفل، وذلك للتوصل إلى أفضل السبل لدعمه ومساعدته.» ولدى كل طفل صعوبات، لكن هل ستؤدي صعوباته إلى تحقيق الهدف المرجو منها وتتحول إلى شيء إيجابي أو إلى انقلاب الحال إلى كارثة؟ إنّ الجواب على هذا السؤال يتوقف وإلى حد كبير علينا نحن البالغين وعلى دعمنا له ومساعدته، فالتربية مسؤولية جسيمة. وقد يساعدنا هذا الموضوع في تفهم مدى صعوبة تحديد الطفل والجزم بأنه «طبيعي.» فهل هناك شيء من هذا القبيل؟ فبدلا من تصنيف حالة الطفل بأنها غير طبيعية في سن مبكرة، فيمكننا التحرّر من ذلك والتركيز على جذور التغيير، مثل: بيئة سليمة، وتوقعات أقل صرامة، وتعليم أكثر مرونة.

إنّ مرض التوحُّد أو الذاتوية هو مرض نفسي يصيب الأطفال الصغار، ومن أعراضه حركات متكررة من التأرّجُح أو الدوران في المكان نفسه، وعدم الاندماج الاجتماعي، والتأخّر في تعلّم اللغة، وترديد كلام الآخرين، والشعور بالحزن لأسباب بسيطة. فقد تم تشخيص مرض التوحّد وبدرجة بالغة عند السيدة تمبل غراندين Temple Grandin عندما كانت طفلة. إلا أنه بفضل عزيمتها القوية وبفضل تشجيع والدتها المستمر وبفضل الرؤية البعيدة المدى لمعلمها في درس العلوم، أكملت دراستها لتصبح عالمة، وأستاذة جامعية، ومؤلفة كتب، ومخترعة، وناشطة دؤوبة من أجل الأطفال الذين يتعلمون بشكل مختلف. وفي حديث لها بعنوان «العالم بحاجة إلى شتى أنواع العقول،» بيّنت الميل الثقافي للمجتمع الذي يفترض أن نهجا تربويا موحّدا يجب أن يتلاءم مع جميع الأطفال، فقالت:
إنّ مرض التوحُّد هو طيف واسع جدا والتشخيصات الطبية ليست دقيقة بشأنه. فهو خصائص سلوكية، وسلسلة متصلة من الميزات. . . . نصفها علمي، والنصف الآخر ما هو سوى شجار الأطباء حول طاولة المؤتمرات. وهناك مصطلح آخر وهو اضطراب التواصل الاجتماعي الذي يقولون عنه أنه يختلف عن مرض التوحُّد. وهناك أيضا «اضطراب النمو الشامل غير المحدد PDD–NOS» ما هذا؟ لقد صار الأطفال يُلصق عليهم شتى أنواع الحالات المرضية مثل أطفال أسبرجر – نسبة إلى متلازمة أسبرجر Asperger syndrome وهي إحدى اضطرابات طيف مرض التوحُّد، أو ADHD، أو لا سمح الله، الاضطراب التخريبي الذي يُسمى اضطراب التحدي الاعتراضي – فهذا أسوأ ما يمكن فعله. فلنعلم بأن كل طفل سوف يتحول إلى حالة اضطراب التحدي الاعتراضي ما لم نعمل على تحفيزه.

فلابد أن نبيّن للأولاد أن هناك أشياء مثيرة للاهتمام في العالم وذلك لتحفيزهم. ولابد أن تتعاون شتى أنواع العقول وتعمل معا، والنتيجة ستكون حتما أفضل. وأنا قلقة جدا من نظامنا التعليمي الذي يتناسى مفكري البصر ومفكري الرياضيات. إذ يزداد النهج اللفظي في التعليم أكثر من اللازم. . . . وصارت المدارس تزيل التفكير البصري والأعمال اليدوية. فلا تختبر المدارس مؤهلات وكفاءة التلاميذ بشأن فهم واستخدام الآلات أو المكائن أو العدد اليدوية. فالأطفال الغريبي الأطوار والأطفال الذين يصعب التعامل معهم هم مصدر الإبداع للمستقبل. . . . وأنا قلقة من أن هذا البلد يلتهم رأسماله التعليمي.

اِسترسلت السيدة تمبل غراندين لتشير إلى أنه وفقا للإطار الحالي للتشخيص الطبي، فربما يجري تشخيص شكل من أشكال مرض التوحُّد عند عباقرة مثل الموسيقي موتسارت Mozart، والمخترع العلمي تسلا Tesla، وواضع النظرية النسبية آينشتاين Einstein. لأنه وقبل كل شيء، لم يتمكن آينشتاين من الكلام لغاية الثالثة من عمره.
ويُعتبر آينشتاين من أحد أبطالي، ليس لتألّقه العلمي الكبير وإنما لحكمته وتواضعه. وغالبا ما كان يتحدث عن التعليم الصحيح، فقال مرة: «لستُ ذكيا جدا ولا موهوبا بموهبة متميزة. فأنا ليس سوى مُحِب للاستطلاع جدا جدا!» وقد كتب في مناسبات أخرى، ما يلي:

من المهم جدا عدم التوقف في طرح الأسئلة. لأن حب الاستطلاع له أسبابه في الوجود. ولا يمكن للمرء سوى الشعور بالمهابة عندما يتأمل أسرار الأبدية، وأسرار الحياة، وأسرار البنية الرائعة للواقع. ولو حاول المرء فهم جزء يسير من هذه الأسرار في كل يوم لكان ذلك كافيا. فلا تفقد أبدا حب الاستطلاع المقدس.

وأسأل نفسي أحيانا، كيف حصل الأمر لأصبح أنا الشخص الذي وضع النظرية النسبية؟ والسبب، كما أعتقد، هو أن الشخص البالغ العادي لا يتوقف أبدا في التفكير في مشاكل المكان والزمان. وهذه أشياء كان يفكر فيها عندما كان طفلا. غير أن تطوري الفكري كان متخلفا، ونتيجة لذلك، فلم أبدأ بالتساؤل عن المكان والزمان إلا عندما كبرت.

يتحدث آينشتاين هنا عن عدم تطابق واقع الطفل مع توقعات الوالدين والتربويين. فهناك طفل في كل أسرة وفي كل صف مدرسي يتعدى الحدود المقبولة أو يتطرّف، ويتكلم بصراحة محرجة، ويتورط دائما في مشكلة. وهو ذلك الطفل الذي يوقِع كل معلم في أطول حيرة ويطيّر أعمق نوم من كل والد أو والدة. ومهما تكن الظاهرة طبيعية، فإنّ عدم ملائمة مثل هذا الطفل ليست أمرا سهلا أبدا لا على الأهالي ولا على المعلمين. وها هي جانين Janine، وهي امرأة عانت لسنوات من توجيه أصابع الاتهام إليها وأيضا الرفض، تحكي لنا:

كنت أقول للناس عن رأيي بالضبط دائما منذ كنت طفلة صغيرة جدا، وإن كان هذا نادرا ما يجري تقديره. فلو كان هناك عيب ما على وجه أحد الأشخاص، ولو تعثّر أو تنشق
بصوت مسموع أو كان له ارتعاش عصبي، لأشرت إلى ذلك دائما. ولو رأيت أحد الكبار مكتئبا، لأحببت أن أسأله فيما إذا كانت هناك مشكلة معينة. وبطبيعة الحال، كنت أتلقى دائما توبيخا.

وأنا ممنونة جدا من أن الكثير من تجارب طفولتي لم يبقَ منها سوى غشاوة خفيفة الآن، لكن لا يمكنني أبدا نسيان الإحساس المرير عندما كان يُنظر إليّ بأني شاذّة أو غير ملائمة – متورطة دائما في مشكلة، ومتهمة دائما بخلق المتاعب. وقد سرقت وغششت وكذبت في المدرسة، التي كانت مدرسة خاصة ولا تقبل أيّا من كان. فكنت منكمشة جدا على نفسي، ولو رأيت انتقادات توجه إليّ أو اتهامات أو إلقاء باللوم لأصبحت شرانيّة. غير أنه كان أيضا ينقصني كثيرا الأمان والاطمئنان النفسي. أما لصق ألقاب عليّ لاسيما من قِبل معلم معين كنت متحذِّرة منه فلم يساعدني ذلك في تخطي محنتي. وكانت تلك السمعة تتبعني أينما ذهبت، وأدّت بالناس إلى أن يأخذوا نظرة عني بأني كنت على وشك أن أُسيء التصرف دائما. وكان يجري تقديم النصيحة التالية لجميع المعلمين البدائل: «احترس منها، فلهذا تراها جالسة في الصف الأمامي.» وكنت أكذب للابتعاد عن المشاكل، وعندما يضبطون كذبتي أكذب أكثر.

وبحلول موعد مغادرتي للمدرسة الابتدائية، كنت قد فقدت الأمل من نفسي. لما لا؟ فلم يكن هناك مَنْ يعقد الآمال عليّ. ولما كنت محطمة نفسيا تحجّر قلبي في وجه كل المشاعر وأصبحت مجرد حجر يمشي. فلم يكن في وسعي البكاء لسنوات.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قبل عمليتها البرية المحتملة في رفح: إسرائيل تحشد وحدتين إضاف


.. -بيتزا المنسف- تثير سجالا بين الأردنيين




.. أحدها ملطخ بدماء.. خيول عسكرية تعدو طليقة بدون فرسان في وسط


.. سفينة التجسس بهشاد كلمة السر لهجمات الحوثيين في البحر الأحمر




.. صراع شامل بين إسرائيل وحزب الله على الأبواب.. من يملك مفاتيح