الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أضواء على الحلقة المفرغة للسلطة السياسية في الدول العربية: بين العسكريين والليبراليين الجدد

محمد عبد الشفيع عيسى

2019 / 7 / 16
مواضيع وابحاث سياسية



-1-

الجيوش و السياسة ، نظرة في ظرف الزمان والمكان

الحلقة المفرغة للسلطة في البلدان العربية؛ تقديم
كيف نفهم واقعنا الراهن، وكيف ننظر إلى الأمام ؟ هو سؤال الساعة حقا. وجدنا من خلال إنعام النظر في الأحوال العربية الراهنة، ومنها الحالة المصرية، أن بلدان العالم العربى و الإسلامى، من المنظور التاريخي، قد بقيت تسبح فى بحر هائج مختلط الأمواج، من القديم والجديد طوال مئات السنين. وإن اقتصرنا على نصف القرن الأخير، أو أقل قليلا، فإننا نجد أن هياكلنا الاجتماعية، ومن ثم السياسية، امتلكت السيادة فيها خلائط متنوعة من شرائح مختلفة. ومنها الشرائح ذات النفوذ في ممارسة السيطرة الثقافية و "القهر التراثى" إن صح التعبير، فيما يسمّى بالإسلام السياسي أو الحركي من دون أن يتحقق، بالطبع، المقابل المكافيء للإصلاح الديني الذي تم في الغرب في مطلع العصر الحديث- مع التسليم بنقائصه الجوهرية. كذا نشير إلى الشرائح ذات النفوذ فى مجال ممارسة العنف المجسد و العنف "المشروع" باسم الدولة، امتدادا لميراث "أسلوب الإنتاج الآسيوي" في الشرق، مقابلا للإقطاعية في أوربا الغربية بالذات. وهنا برزت فئة العسكريين، ذات النفوذ المتوارث الطويل عبر أكثر من خمسمائة عام، تحت وطأة التحديات الخارجية، وثقل الحماية المفروضة من قبل الوجود التركى مقابل التسلط الغربى المتجه نحو "تحويل المستعمرات" كولونياليّا" أي وفق صيغة "تقسيم العمل الإنتاجي" الاستعمارية: حيث تتخصص الدول المسيطرة في الصناعةالأعلى تطورا، بينما تتخصص البلاد المتخلفة والنامية في المواد الخام والصناعات الأقل تطورا .
كما تبرز ضمن معادلة السلطة، شريحة "أهل الحكم" الذين هم في الحقيقة يعتبرون ممثلين أو وكلاء فعليين عن النتوء الطبقي السائد في كل مرحلة. فماذا عن العسكريين في البلدان العربية ودورهم في السلطة السياسية؟
من الصعب التحدث هنا عن طيف واحد ليس غيره من أطياف النخب العسكرية أو ذات الجذور العسكرية في البلدان العربية. ولنذكر في البداية أن هناك من قاد مشروعا وطنيا-قوميا تقدميا، ومثاله جمال عبد الناصر.
والحق عندنا أن قيادة جمال عبد الناصر تمثل نموذجاً فذّاً لتحول النخبة العسكرية، ذات الجذور الوطنية والأصول الاجتماعية الوسيطة، إلى نخبة سياسية ثورية ، وطنية وقومية عروبية، تقدمية المنحى الاجتماعى والمنهج الاقتصادى (التنمية والتصنيع) فى إطار نزعة استقلالية أصيلة . كل ذلك رغم عدم القدرة على صياغة نسيج جديد للسلطة السياسية يرقى إلى مستوى التحولات الاجتماعية الكبرى التي تحققت بالفعل. ورغم الاستعانة بعنصر "الضباط الأحرار" وغيرهم من سلك الضباط العاملين ، فى إدارة دولاب الحكم و تسيير مشروعات القطاع العام وخاصة بعد 1961 ، فضلاً عن الاستعانة بهم فى السلك الديبلوماسي، إلا أن ذلك لم يكن يمثل حُكْماً للعسكريين بالمعنى الدقيق، نظراً لقوة شكيمة القيادة السياسية وسعيها الراسخ الدؤوب إلى إحداث التحول الاجتماعي وفق رؤية معينة. قد حدثت تجاوزات (خطرة) فى ثنايا قرارات التأميم لشركات القطاع الخاص وفرض ماسُمّي (الحراسة) على بعض الأفراد أو الجهات، وتولّي من هم أقل كفاءة مواقع لا يستحقونها، لمجرد أنهم (أهل ثقة). بل لقد تجاوزت القوات المسلحة دورها الخاص فى الدفاع عن مصر و البلدان العربية، و خاصة بعد حدث الانفصال (السورى) عام 1961، و جنحت القيادة العسكرية النافذة آنئذ، ممثلة فى وزير الدفاع، خلال فترة السنوات الخمس 1962-67 ، وخاصة 1964-67 ، إلى تجاوز دورها ، وقامت بوضع حاجز بين عبد الناصر والقاعدة الاجتماعية ، فيما يشبه "الطبقة العازلة"، وأقامت ما سمّي فيما بعد بدولة "مراكز القوى"، مع انحراف أجهزة الأمن الخارجى عن دورها المرسوم . و كل ذلك قد جرى كشفه ومعالجته بطريقة معينة بعد الهزيمة من العدوان الاسرائيلى فى الخامس من يونيو – حزيران – 1967.
رغم الثغرات، فقد كان دور العسكريين- مع التأكيد على التجاوز الخطير- مثالاً للاندراج العسكرى فى إطار مشروع وطنى وقومى اجتماعى تقدمي كبير . كانت فترة ثورة 23 يوليو بهذه المثابة ، منذ انبثاقها عام 1952 حتى وفاة عبد الناصر (28 سبتمبر 1970) استثناءً من ظاهرة الانقلابات العسكرية التى بدأت فى البلدان العربية فى نهاية الأربعينات ومطلع الخمسينات (سامى الزعيم و أديب الشيشيكلى فى سوريا) و التي تجسدت فى أنظمة استبدادية خالصة فى لحظات معينة من تطور العديد من بلدان الوطن العربي و كذا في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية على وجه الإجمال.

ذلك الاستثناء (اليوليوىّ) – إن صح التعبير – وما يناظره فى بلدان أخرى من القارات الثلاثة بدرجات متفاوتة، يثبت القاعدة العامة القائلة بجنوح النخب العسكرية الخالصة إلى الإندراج فى سلك أنظمة تسلطية ذات توجّه رجعي اجتماعياً، وتابع للغرب وقيادته الأمريكية على وجه العموم.

يصدق ذلك على الحالة المصرية فى المرحلة ما بعد وفاة عبد الناصر (1971) حيث قام أنور السادات ببناء نظام تسلطي اندمجت من خلاله قيادته السياسة ذات الجذور العسكرية بتشكيلة اجتماعية موالية للقوى الطبقية الجديدة التى استفادت من السياسة المسماة بالانفتاح الاقتصادى، ومن التبعية للغرب وأمريكا، والخضوع لبعض من الإملاءات الإسرائيلية بمقتضى "الصلح المنفرد" . وعلى هذا النهج سار النظام المباركى طيلة ثلاثين عاماً (1981-2011) وإن اختلف الشكل الذى اندرج فيه العنصر العسكرى فى بنية النظام السياسى، فقد حدث ما يشبه "البناء الموازى" للسلك العسكرى مقابل سلك الأمن الداخلى (المتواطىء) مع القيادة السياسية العليا، وخاصة فى فترة التجهيز لمشروع "الوريث" خلال العقد السابق على اندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 . و خلال "ثورة يناير" وقفت القوات المسلحة فى غير تعارض مع المطلب العام للقوى الإجتماعية الغالبة، و مارست دورها السياسى بشكل مباشر حتى إجراء أول انتخابات رئاسية وتشريعية (2011-2012)، ثم أخذت تمارس دورها ذاك بصورة أو أخري.
...

الجيش والسياسة عندنا وعند غيرنا
لم يكن الدور السياسي الحاكم، أو الحاسم، عندنا، وقفا علينا، فقد أدت الظروف التاريخية للقارات الثلاثة في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية إلى خضوعها لمسار مختلف عن أوربا، والغرب عموما؛ لا بل لقد كانت وضعيتها الاقتصادية والاجتماعية بمثابة "مقلوب" الوضعية الأوربية بالذات، بحكم إخضاعها للاستعمار الأوربي بالذات. وذلك حديث يطول فيه الحديث.
المهم أنه فى مرحلة ما بعد الاستقلال السياسي (أو ما بعد الاستعمار) post colonialism أدت الجيوش الوطنية الجديدة، في الخمسينات والستينات من القرن المنصرم، دورا محورياً فى السياسة المحلية والعلاقات الخارجية للبلدان الناشئة، المستقلة بعد رحيل الاستعمار القديم ، خاصة البريطاني والفرنسي، بوجهه العسكري والسياسي السافر . وقد وجدت في هذا المضمار عدة حالات متنوعة، ولكن النتيجة مشتركة : في الحالة الأولى كان الاستعمار يؤسس لأجهزة عسكرية للمساعدة فى حفظ الأمن داخل المستعمرات؛ وحينما تم الاستقلال بقيادات وطنية متنوعة المشارب ، فإن هذه القيادات فى سعيها لإقامة أركان الدولة الجديدة لم تجدْ بُدّاً من الاعتماد على البناء العسكرى القديم وإعادة تكييفه مع الوظيفة الجديدة . كان الجيش المعاد بناؤه على هذا النحو هو أقوى الهياكل الموروثة من العهد الاستعمارى ، إلى جانب جهاز إدارى صغير محدود الكفاءة، مصمّم في الأصل لتسيير أمور المستعمرات . كانت هذه هى حالة معظم الدول الإفريقية جنوب الصحراء، بصفة خاصة، وعديد الدول الآسيوية. أما بلدان أمريكا اللاتينية الحاصلة على استقلالاتها عموما خلال الربع الأول من القرن التاسع عشر فقد كانت لديها بُنى عسكرية مستقرة نسبياً، كوريثة لقوى المقاومة على النموذج (البوليفارى) ضد الاستعمار الأسبانى والبرتغالى. وهذه هى الحالة الثانية فى مضمار العلاقة بين الجيوش والسياسة . أما الحالة الثالثة فهى التى كان الجيش فيها بعد الاستقلال هو نفسه قوة المقاومة الوطنية المسلحة ضد الاستعمار و قد أعيد بناؤها . هذا ما حدث فى الجزائر حيث "جيش التحرير الوطنى" سليل قوات "جبهة التحرير الوطني" التى خاضت الحرب التحريرية المسلحة طوال ثماني سنوات تقريبا ( فاتح نوفمبر 1954- الرابع من يوليو 1962)، قدمت خلالها نحو مليون ونصف المليون شهيد.
و حدث مثل ذلك فى فيتنام أيضا.
و إذا كانت الجزائر و فيتنام تقدمان الحالة "النقية" للجيش الوطنى الذى هو جيش المقاومة السابق، فإن هناك حالات مختلطة كانت القوات المسلحة فيها بعد الاستقلال وريثة مزيج من قوى الأمن فى العهد الاستعمارى و من قوى المقاومة. وكان هذا المزيج مختلف النسب بين دولة وأخرى ، فحيناً يتغلب عنصر الأخذ عن العهد الاستعمارى ، وحيناً آخر يتغلب عنصر الأخذ عن قوى المقاومة، وتلك حالة عديد الدول الآسيوية، مثل أندونيسيا وماليزيا .
تبقى الجيوش فى الدول العربية ممثلة للأطياف السابقة جميعاً : فالجيش المصرى الحديث مزيج من البناء المركب للجنود والضباط من الفلاحين – ورثة أحمد عرابى – ومن شرائح وسطى على غرار (دفعة جمال عبد الناصر) فى الكلية الحربية وما يتزامن معها تقريباً منذ أواخر الثلاثينيات من القرن العشرين... بالإضافة إلى أثر التكوين الاستعمارى البريطانى للجيش كأداة معاونة فى معارك بريطانيا إبان الحربين العالميتين : الأولى (1914-19) والثانية (1939-45) ، وكأداة معاونة للإنجليز فى السيطرة على السودان لصالح بريطانيا بمقتضى ما سمى "باتفاقية الحكم الثنائى" لعام 1899 .
و بعد ثورة 23 يوليو 1952 و استقلال السودان عن مصر رسمياً عام 1956 أعيد بناء الجيشين الوطنيين من العناصر التركيبية السابقة على نحو ما ذكر .
وفى كل من هذين البلدين العربيين، كان الجيش هو أهم المؤسسات الوطنية الجديدة لما بعد الاستعمار، بل لعله ربما كان المؤسسة الوحيدة تقريباً بالمعنى الكامل للبناء المؤسسي، إلى جانب جهاز إدارى محدود للإشراف على جباية الضرائب وحماية نهر النيل وضبط تدفق المياه .

من ثم كان للجيش فى مصر والسودان دور كبير، تمثل سودانياً فى إقامة (ديكتاتوريات) متتابعة ذات عصب عسكرى أساسي، يفصل فيما بينها حكم (مدنى) بتكوينات مختلفة ، طائفية أحياناً ( المهدية و الختمية) مع مشاركة ليبرالية أو (شيوعية) أحياناً أخرى.

إضافة إلى جيوش مصر والسودان والجزائر، كان هناك دور بارز للجيش العراقي ، حيث تتشابه ظروف نشأته نسبياً مع الحالة المصرية، بفعل التماثل النسبي للظروف الإجتماعية والسياسية بحكم الانتماء إلى الوطن العربى الكبير، ثم بالنظر إلى وحدة المحتل (البريطانى) . كما كان للجيش دور ملحوظ فى البنية المؤسسية لدولة المغرب الأقصى المخزنيّة، ذات الطابع التاريخى التليد.
فيما عدا ذلك، لا نلحظ وجوداً مؤسسياً مهيمناً للجيوش فى بلدان عربية متنوعة مثل تونس ولبنان ، و دع عنك البلدان الأعضاء فى (مجلس التعاون الخليجى) .

لا غرْوَ إذن أن نجد للعسكريين دوراً جلياً فى السياسة العربية فى مختلف الأقطار العربية، ولا غرابة أن يكون للعسكر أدوار متعددة قوية فى عملية الحكم، وأن يتناوبوا السلطة مع النخب المدنية، ودائماً يعودون بعد أن يذهبوا، فى لعبة كرّ و فرّ دائرية دائبة . هذا جزء لا يتجزأ من الدائرة المفرغة للعبة السلطة فى البلدان العربية – المعاصرة، أو للدائرة المفرغة، إن شئت ذلك قولا واحدا. فماذا عن بقية أجزاء "الدائرة المفرغة للسلطة في البلدان العربية، وخاصة "نخبة السلطة"؟














بين العسكريين و "الليبراليين الجُدُد":
"الحلقة المفرغة" للسلطة السياسية في الدول العربية

د.محمد عبد الشفيع عيسى

-2-
"نخبة السلطة" في البلدان العربية:
"الليبراليون الجدد" في مواقع الحكم


د.محمد عبد الشفيع عيسى

كيف نفهم واقعنا الراهن، وكيف ننظر إلى الأمام ؟ هو سؤال الساعة حقا. وقد حاولنا أن نقدم بعض إلماعات حول ذلك على صفحات "الشروق" خلال الفترة الأخيرة. وقد وجدنا من خلال إنعام النظر في الأحوال العربية الراهنة، ومنها الحالة المصرية، أن بلدان العالم العربى و الإسلامى، من المنظور التاريخي، قد بقيت تسبح فى بحر هائج مختلط الأمواج، من القديم والجديد طوال مئات السنين. وإن اقتصرنا على نصف القرن الأخير، أو أقل قليلا، فإننا نجد أن هياكلنا الاجتماعية، ومن ثم السياسية، امتلكت السيادة فيها خلائط متنوعة من شرائح مختلفة. ومنها الشرائح ذات النفوذ في ممارسة السيطرة الثقافية و "القهر التراثى" إن صح التعبير، فيما يسمّى بالإسلام السياسي أو الحركي من دون أن يتحقق، بالطبع، المقابل المكافيء للإصلاح الديني الذي تم في الغرب في مطلع العصر الحديث- مع التسليم بنقائصه الجوهرية. كذا نشير إلى الشرائح ذات النفوذ فى مجال ممارسة العنف المجسد و العنف "المشروع" باسم الدولة، امتدادا لميراث "أسلوب الإنتاج الآسيوي" في الشرق، مقابلا للإقطاعية في أوربا الغربية بالذات. وهنا برزت فئة العسكريين، ذات النفوذ المتوارث الطويل عبر أكثر من خمسمائة عام، تحت وطأة التحديات الخارجية، وثقل الحماية المفروضة من قبل الوجود التركى مقابل التسلط الغربى المتجه نحو "تحويل المستعمرات" كولونياليّا" أي وفق صيغة "تقسيم العمل الإنتاجي" الاستعمارية: حيث تتخصص الدول المسيطرة في الصناعةالأعلى تطورا، بينم تتخصص البلاد المتخلفة والنامية في المواد الخام والصناعات الأقل تطورا .
كما تبرز ضمن معادلة السلطة، شريحة "أهل الحكم" الذين هم في الحقيقة يعتبرون ممثلين أو وكلاء فعليين عن النتوء الطبقي المشكل من ملاك الأراضي الكبار، و كبار التجار و المستوردين وشركات السمسرة في الصفقات المالية والعقارية، وأصحاب رؤوس الأموال المستفيدين من عقود الإنشاءات والمشتروات للحكومة والقطاع العام و المقاولات "من الباطن"، و قليل جدا من الصناعيين. وقد مارس السياسيون المحترفون من "أهل الحكم"، نفوذهم، عبر التسلط المشترك مع العسكريين أحيانا، و في أحيان أخرى ارتدى بعضهم حلّة "الليبرالية السياسية" بالمعنى العام، وتارة ثالثة، لم تُعن نخب الحكم والسلطة (أو نخبة القوة Power elites بتعبير "رايت ميلز" ) بالشق السياسي والثقافي من الليبرالية ولو كانت بدون محتوى اجتماعي حقيقي، وإنما كان تركيز هذه النخب على "الحرية الاقتصادية، التي تنصرف، في التحليل النهائي" إلى حرية كبار أصحاب المصالح الاقتصادية و المحتكرة للنصيب الأوفر من الثروة والدخل الوطني. و بصورة عامة، فإن نخب السلطة تولت رعاية ممارسات الفساد المعمّم، و خاصة عبر احتكار السلطة الإدارية على المستويات المركزية واللامركزية، و كانت هذه الممارسات ومصاحباتها تمثل الظاهرة الرئيسية المركبة الطافية على السطح ، والثاوية فى العمق، فى آن معاً .
وقد تناولنا في مقالاتنا السابقة ظاهرة "العسكريين" ودورهم النافذ في معادلات السلطة في البلاد العربية والإسلامية؛ و اليوم نناقش ظاهرة "أهل الحكم" –نخبة السلطة"- من حيث الانتماء إلى ما يسمى بتيار "الليبراليين الجدد" Neo liberals، على الصعيد العالمي خلال العقود الزمنية الأربعة الأخيرة، أو أبعد قليلا.
ولقد تعملق اتجاه "الليبراليين الجدد" الذين تلبسوا أشكالاً و أثوابا جديدة، بعضها قشيب مستحدث، وبعضها قديم : ابتداء من "المحافظين الجدد"، من أضراب رونالد ريجان ومارجريت تاتشر في أمريكا وبريطانيا خلال الثمانينات و مطلع التسعينات، مرورا بتيار "المحافظين الجدد المجانين" Crazy Neo- conservatives أواخر التسعينات ومطلع الألفية، الذين مثلّهم (جورج بوش الابن) ، انتهاءً باليمين الشعبوى الذى حمل دونالد ترامب إلى مقعد الرئاسة الأمريكية.
فى جميع هذه الحالات ، ارتفعت راية "الليبرالية الجديدة" التى تمثل المقابل لما يسمى "الكينزية"، أي مذهب تدخل الدولة، القاضي برفع مستوى التشغيل للقوى الإنتاجية وخاصة قوة العمل إلى ما يقرب من حالة التوظف الكامل full employment . هذه الكينزية قد انتعشت في مواجهة أزمة "الكساد العالمى الكبير" التي أصابت النظام الرأسمالى المركزي الأوربى الأمريكي ومن ثم بقية العالم إلى حدّ بعيد (1929-1933)؛ واستمر المدّ الكينزي الذي حمله "أتباع كينز" حتى منتصف السبعينات، أى لأربعة عقود تقريباً.
فى ظل الكينزية ارتفعت رايات "دولة الرفاه" من حيث خفض مستوى ومعدل البطالة، ورفع مستويات الأجور ومن ثم مستوى المعيشة ، مرتبطاً كل ذلك بنوع من الدور الوظيفى الإشرافى للدولة على قوى السوق العمياء ، قوى العرض والطلب ، وخاصة قوى العرض الممثلة لقطاع الأعمال الكبير. وفى مواجهة ذلك جاءت إدارة ريجان فى مطلع الثمانينات تحت راية "اقتصاديات العرض" بالذات : supply-side economics .
وهكذا، على الضدّ من الكينزية، جاءت موجة "الليبرالية الجديدة" لتعيد إحياء أسوأ ما فى الليبرالية بشكل عام، عبر إعادة الاعتبار الكامل لمبدأ تعظيم الربحية الخاصة وتمجيد القطاع الخاص، وبالتالى "خصخصة" ما قد يكون هناك من "قطاع عام"، بالإضافة إلى استخدام سلّة السياسات المالية والنقدية لتحجيم الإنفاق العام الاجتماعى الموجه لصالح الفئات محدودة الدخل والفقيرة بالذات. و قد تم تحميل هذا الإنفاق الاجتماعي بالذات (على لسان جماعة"النقديين الجدد" بزعامة ميلتون فريدمان)، وليس الإنفاق العسكري والتسليحي- و "الإنفاق غير الضروري اجتماعيا" للطبقة البورجوازية وجهاز الدولة الممثل لها- تحميله المسئولية عن عجز الموازنات العامة، و اللجوء "الاضطراري" للسلطات النقدية، من ثم، إلى التمويل التضخمي لسد فجوة العجز، وهو الكابح لمستويات الإنتاج، مما يولد ظاهرة "التضخم الركودي" Stagflation حسب هذا الزعم.
وقد تم استخدام أدوات النظام المالى العالمى ومؤسساته النافذة، مؤسسات "بريتون وودز"، وهي منظومة البنك الدولى وصندوق النقد الدولي، من أجل إضفاء "المشروطية" Conditionality الكاملة أو شبه الكاملة على التدفقات المالية الدولية الموجهة للبلدان ذات العسر المالي، المحتاجة إلى الاقتراض الأجنبى، ميسراً كان أو غير ميسر، وخاصة من خلال ربط القروض الميسرة بتنفيذ برامج معينة لما يسمّى بالإصلاحات الهيكلة، والتي تتحمل أعباءها غالبية المجتمع في جميع الأحوال.
فى ظل الليبرالية الجديدة بوجهها القبيح ذاك، تفاقمت فى البلاد النامية المدينة أو المعسرة، التباينات الطبقية، و حدث انحراف شديد فى منحنيات توزيع الثروة والدخل الوطنى لصالح الفئات ذات النصيب الأعلى من الدخل والثروة، وذات القدرة الأكبر – بما لا يقبل المقارنة – على الوصول إلى فرص التكسب ومراكمة العوائد الخاصة، ولو من باطن جهاز الدولة عبر عقود المقاولات والأشغال العامة ، وعقود "المناقصات والمزايدات" والمقاولات الفرعية، من باطن الجهاز المصرفي– من بنوك عامة أو خاصة– عبر القروض غير المضمونة بغطاء حقيقى، وكذا الممارسات غير الصحيحة فى أسواق المال والبورصات. وتم كل ذلك فى غياب قواعد الإدارة السليمة (و يسمى بالحوكمة الرشيدة Good Governance ) سواء على مستوى الحكومة أو مستوى شركات الأعمال وأسواق المال، ومن ثم غياب ممارسات المحاسبة والشفافية وقواعد الإفصاح المالي.
أدى ذلك في النهاية إلى إهدار المال العام، وارتفاع سقوف الاستدانة ممثلة فى الدين العام المحلى، والدين العام الأجنبى ، مقابل إفقار متزايد للغالبية الاجتماعية الساحقة (80% من السكان على الأقل).
يضاف إلى ذك فوضى ما يسمى بالتحرير Liberalization من خلال إطلاق قوى السوق باسم "الاقتصاد الحر" الذى لا يعد كونه وهماً من الأوهام عبر التاريخ. ونضيف أيضا الممارسة "شبه العمياء" لتحرير حركات رأس المال، من وإلى البلاد، دون ضوابط من أى نوع Capital controls ، أو دون ضوابط حقيقة. ترتب على ذلك نزح أو تدفق عكسيّ لرؤوس الأموال من البلاد النامية إلى الدول المتقدمة المستثمرة والمقرضة، بما في ذلك نقل الأرباح المغالى فيها المحققة للمشروعات الأجنبية إلى الخارج دون أن يعاد استثمارها ، ثم نقل "أصل رأس المال" بعد تصفية المشروعات .
لا ننسى، بعد ما سبق، ما ألمحنا إليه من تطبيق توصيات صندوق النقد الدولى، الذي أوكلت إليه منذ أواسط الثمانينات، مهمة "الإشراف" على سير النظام المالي الدولي، وخاصة بإزاء الدول النامية، من خلال "المشروطية" للقروض الممنوحة من أجل محاولة "تعويم" الاقتصادات الغارقة في بحر الديون. لم يتم ذلك فقط من حيث الدعوة إلى خفض سقف الإنفاق العام الاجتماعى، عبر تقليل مستوى الدعم السلعي و الخدمي، وعدم ربط الأجور بالأسعار وفق جدولة معقولة indexation ، ولكن أيضا من حيث التوصية بخفض سعر صرف العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية، لا سيما الدولار الأمريكي، بفعل "التعويم الحر أو النظيف"، دون إدارة للتعويم أصلا managed floating أو دون إدارة فعالة. و قد نتج عن التعويم وخفض العملات الوطنية المزيد من التضخم السعري، مقيسا بمؤشر التضخم الأساسى عبر المستوى العام للأسعار أو من خلال "الرقم القياسى لأسعار المستهلك" .
إن الملاحظ أن الليبرالية الجديدة، بوجوهها القبيحة السابقة، فى المجال الاقتصادي، تتم ممارستها الفجة فى غيبة الليبرالية السياسية والفكرية. ذلك أن السياسات الاقتصادية المناصرة للفئات ذات النصيب الأعلى من الثروة والدخل، والتى يرتبط دخلها وثراؤها بالمعاملات الخارجية إلى حدود متفاوتة، تتم في أحيان كثيرة ارتكازاً إلى "احتكار السلطة" والتضييق على حريات الرأى، والحريات المدنية المختلفة، ودع عنك الحريات السياسية وخاصة حرية التنظيم، وحق الاقتراع "الشفّاف". وقد وجدنا أن الممارسات الاقتصادية لليبرالية الجديدة، بقيامها على قاعدة احتكار السلطة، ودعوتها إلى الفساد المعمم و الإفقار المتزايد للجماهير، ونهب المال العام ، وتدفق رأس المال عكسياً إلى الخارج، تؤدى فى غياب من الحريات العامة، إلى استفزاز قطاعات متزايدة من النخبة السياسية والثقافية، و دفعها باتجاه التركيز على الليبرالية السياسية والفكرية ولو في غياب محتواها الاجتماعي. ومن ثم ينتعش الاتجاه الليبرالى العام، الذى لا يفصح عن المضمون الاقتصادى – الاجتماعى ، أو لعل بعضاً منه يحرص على ألا يفصح عن ذلك حتى لا ينفضّ عنه بعض مؤيديه ، وينفرط عقده الوثيق. و المفارقة هنا أن (الليبرالية تكون ضد الليبرالية)، بمعنى أن ليبرالية الساسة "المستقلين"، والمثقفين تقف قبالة ليبرالية رجال الدولة وقطاع الأعمال الخاص، أو "تحالف" مركب الدولة – رأس المال" capital – state alliance .
ختام
بذلك نكون قد تناولنا الشكل التخطيطي العام لنماذج الممارسة السياسية في البلدان العربية خلال العشريات الأخيرة، فيما يمكن أن يمثل "مورفولوجيا" الظاهرة السياسية، ضمن ما أطلقنا عليه "مربع السلطة" المكون من "العسكريتاريا"، و"الإسلام السياسي" و "الليبراليين الجدد" في الأبنية الحاكمة، و الزمرة الليبرالية بالمعنى السياسي والثقافي لتلك الشريحة الاجتماعية النافذة. و إذا أضفنا شريحة "اليسار والتيار الوطني –القومي –التقدمي" باعتبارها الشريحة الغائبة نسبيا من المعادلة في الوقت الحالي، لأمكننا إطلاق تعبير "التشكيل الخماسي" للممارسة السياسية. أما إن أضفنا "الشعب" نفسه، خارج النخب المذكورة جميعا، فإنه يمكن الحديث عن "المكعّب السداسي السياسي" كإطار تفسيري للتطور السياسي في بلداننا، والذي يبدو أنه قد دخل في مضمار "الدائرة المفرغة" حتى تتغير الظروف جذريا بإحداث قطع غير قابل للرجوع في مسار الحركة بالاتجاه إلى الأمام، ولو عبر مسار لولبي-حلزوني- مستقبلي طويل.
ولئن كنا قد فصلنا نسبيا في معالجة كل من "العسكريتاريا" و "نخبة السلطة"، فإنه يتبقّى امامنا كل من الإسلام السياسي و التيار الليبرالي العام. ونأمل أن تتاح لنا الفرصة لمعالجتهما في وقت لاحق.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -تكتل- الجزائر وتونس وليبيا.. من المستفيد الأكبر؟ | المسائي


.. مصائد تحاكي رائحة الإنسان، تعقيم البعوض أو تعديل جيناته..بعض




.. الاستعدادات على قدم وساق لاستقبال الألعاب الأولمبية في فرنسا


.. إسرائيل تعلن عزمها على اجتياح رفح.. ما الهدف؟ • فرانس 24




.. وضع كارثي في غزة ومناشدات دولية لثني إسرائيل عن اجتياح رفح