الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اِكتشاف التوقير

محمد برازي
(Mohamed Brazi)

2019 / 7 / 17
التربية والتعليم والبحث العلمي


عندما يمشي طفل في طريق، يتقدّمه حشدٌ من الملائكة التي تنادي: «اِفسحوا المجال لصورة القدوس.» قول صوفي يهودي من المذهب الحسيدي
في المجتمع المليء بالمشاكل التي لا تُعد ولا تُحصى، فإنّ أكبر المخاطر المهددة للأطفال واضحة، مثل: الفقر والعنف والإهمال وسوء المعاملة وعدد لا يحصى من الأمراض الاجتماعية، لكن ماذا في وسع كل منا أن يفعله للتغلب عليها؟ لقد أشار الكاتب هيرمان هيسه Hermann Hesse، الحائز على جائزة نوبل في الأدب، في مقالة له حول التجديد الاجتماعي، إلى أن أول خطوة لتجديد المجتمع يجب أن تكون عن طريق التعرف على الأسباب الجذرية لمشاكله، ألا وهي: افتقارنا إلى توقير الحياة. فيقول:

إنّ أية حالة يحصل فيها قلّة احترام أو عدم توقير أو قساوة قلب أو احتقار، فما هي سوى القتل بعينه. ولا تقتصر إمكانية القتل على قتل ما هو في الحاضر فحسب بل حتى على ما هو في المستقبل. وبمجرّد شيء من السخرية والهزء بالطفل والضحك عليه يمكن قتل قدر كبير من المستقبل في داخل طفل أو شاب. فالحياة في اِنتظارنا في كل مكان، وتزهر في كل مكان، لكننا لا نستطيع أن نرى سوى جزء صغير منها، وندوس الكثير منها بأقدامنا.

يتطرق الكاتب هيسه إلى ظاهرة عدم التوقير التي تشكل مخاطر تهدِّد الأطفال أكثر من أي شيء آخر في العالم اليوم. إذ يسود عدم التوقير كل شيء تقريبا في ثقافة تمجّد الجنس والعنف على حساب البراءة والوداعة. وبالرغم من أنه لم يسلم أحد من هذا التيار المدمر إلا أن أكبر ضحاياه هم الأطفال دائما. ويبدو حال الأولاد في كثير من الأحيان أنهم لم ينالوا فرصة ليكبروا فيها على الإطلاق – إذ يتم قذفهم إلى حياة عالم الكبار قبل أن تصبح قلوبهم قادرة على التمييز بين ما هو جيد في جوهره وما هو فَتّان في مظهره فقط. وتراهم ينتهي بهم الأمر بمجرد تقليد أسوأ ما في سلوك الكبار من دون أن يدركوا ماذا يفعلون. وربما لا يكونون كبارا راشدين فعلا، إلا أنهم من ناحية ثانية لم يعودوا بعد أطفالا حقيقيين بكل ما تعنيه الكلمة.

أما المدافِعة عن حقوق الأطفال الأمريكية دايان ليفين Diane Levin فتسلط الأضواء على مصدر الكثير من هذا التلوث، فتقول:

بعد أسبوع من العطلة الصيفية للمدارس، عقدت إحدى المعلمات اجتماعا في صفها مع مجموعة من الأطفال البالغة أعمارهم ست إلى سبع سنوات. وعندما طلبت منهم أن يحكوا لها عن فعاليتهم المفضلة التي مارسوها في العطلة، أعطى كل طفل منهم مثالا عن عالم الميديا. فبالنسبة إلى الفتيان، كانت ألعاب الفيديو، وأكثرها مليء بالعنف. وبالنسبة إلى الفتيات، كانت في الأغلب مشاهدة عروض رائجة لفنانات شهيرات من ذوات الطابع الجنسي. وعندما سألت المعلمة الأطفال: «ماذا كنتم ستفعلون في العطلة لو لم يكن لديكم أي شاشات لتستخدموها؟ فصار الجميع يحدق بها مشدوها. . . .

ويمكن للانخفاض في مستوى المهارات الاجتماعية أن يستفحل من جراء تلقيم الأطفال برسالة العنف التي تقدمها لهم وسائل الميديا والإنترنت ورسالة العداء والسلوك الخبيث بالإضافة إلى الجنس، وإضفاء طابع جنسي على كل شيء، والتركيز على المظهر. لأن ثقافة وسائل الإعلام والميديا كثيرا ما تدعم النظرة النمطية الشائعة التي تقول للفتيات إنّ أساس العلاقات تُبنى على مظهرهن وعلى ما لديهن من حاجيات، بدلا من تشجيعهن على التواصل مع الآخرين. وتعلم ثقافة الإعلام والميديا الفتيان على أن يحكموا على أنفسهم ويقيّموا بعضهم بعضا على أساس مدى قوتهم البدنية واستقلاليتهم واستعدادهم للقتال، وليس على أساس روابطهم الإيجابية مع الآخرين. أي بمعنى أنه قد تمّ تحويل كل من الفتيان والفتيات إلى حاجات مادية خالية من الأحاسيس. فعندما يتحول الإنسان وأحاسيسه إلى جماد فسوف ينعكس ذلك على تصرفاته وسلوكه بحيث تصبح أساليبه خبيثة وخالية من الرعاية والحنان والإنسانية في علاقاته.

عندما يرى الأولاد بأن الناس يعاملونهم كأشياء مادية، فلا غرابة في أن يتعلم الأولاد منهم ويصبح تعاملهم مشابها لهم. وتبدو المسألة في نظرهم بأنها لا تتعدى سوى أن يكون المرء إما ذكرا وإما أنثى ويفوتهم كل شيء رائع وفريد وعجائبي في حياة كل إنسان. فالواقع هو أن الذكور أيضا يختلف بعضهم عن بعض وكذا الأمر مع الإناث. فلكل إنسان شخصيته الفريدة والمتميزة. فلو لم يكن لديهم وضوحا عن معنى ذواتهم لما كان لهم تقدير وتثمين لنفوسهم أو لكيفية مجيئهم إلى هذه الحياة. ثم يجري أيضا تلقينهم بتفسير جديد منحرف عن معنى أن يكون الإنسان ذكرا أو أنثى.

وهذا بدوره يعزز تشكيل الشِلاّت التي عادة ما يكون أفرادها غير ودودين مع الذين ليسوا في مجموعتهم، وتؤدي غالبا إلى البلطجة والاعتداء. فيميل الفتيان إلى تبني مظاهر رجولة كاذبة، مثل الزهو بالعضلات المفتولة الذي يخفي (عنهم شخصيا على الأقل) الجُبن الجماعي. ويمكن لشِلَّة الفتيات أن يكون لها الآثار المدمرة نفسها وذلك بسبب الخصوصية التي يشددون عليها والضغط القاسي الذي يمارسنه من أجل أن يكنّ متماثلات ضمن الشِلَّة. والأسوأ من ذلك، فإنّ هؤلاء الأطفال مثقلين بحمل النشاط الجنسي للبالغين قبل أوانهم.

وتتناول شينا Shaina، وهي أم لبنت في سن المراهقة، هذا التعريف المُحرَّف والفاسد لفُتُوَّة البنات:

عندما حظيتْ آخر مغنية من المغنيات المراهقات ذات الوجه البريء بنجاح كبير على شاشة التلفزيون في برنامج مشابه
لبرنامج ذا فويس كيدز، كان عمر بنتي أحد عشر عاما. وكنت أعمل آنذاك لساعات متأخرة، ونادرا ما كان لدي وقت لمشاهدة التلفزيون وتقييم الرسائل الإيجابية لذلك العرض الموسيقي. غير أن جميع أمهات صديقات بنتي أكّدنَ لي ليُطمئِنني بأن هذه المغنية قدمت مثالا إيجابيا، فلم تلبس بوقاحة، وكلمات أغانيها يرتاح لها جميع الأهالي، ولديها علاقة حسنة جدا مع والدها، وهلم جرا. لذلك، سمحتُ لبنتي الانضمام إلى الحشود – ولست متأكدة فيما إذا كان بمقدوري إبعادها عنها.

وفي الوقت الذي بدأت بنتي بارتداء ملابس مماثلة للمغنيات في ذلك البرنامج، وتغني أغانيهن، وتؤدي حركات الرقص، وتقوم بتحليل كل عرض مع صديقاتها إلى ما لا نهاية، صارت الشهرة تستحوذ على تلك الفنانة الصغيرة التي ظهرت في ذلك البرنامج الغنائي التلفزيوني. ثم اختفت في موجة من التهم المتعلقة بالمخدرات، والصور غير اللائقة، الرشاوي، والأكاذيب. وعندما عادت إلى الظهور، غيرت أسلوب حياتها كليا وصار منظرها وصوتها وتصرفاتها شبيهة بالبغايا الفاجرات. وكانت تجرّ معها جميع عابديها، عابدي «الفتاة الفاضلة.»

لقد تألمت كثيرا عليها بقدر ما أتألم على بنتي. فيجب أن لا تكون على خشبة المسرح في سن الثانية عشرة بالأساس. وكان على والديها أن لا يضعانها هناك، وكان ينبغي أن لا أسمح لبنتي بمشاهدة ذلك البرنامج. لأن الشهرة تلتهم الأطفال، بدون اعتذار أو تفسير. فلا توجد قدوة جيدة في ذلك المشهد التلفزيوني؛ إذ يتحولون إلى قنابل انتحارية، ويؤثرون على جميع المتفرجين ويفتكون بهم.

يبدو أن الكثير من عناصر «حضارتنا المتقدمة» عازمة على تدمير روح الطفولة. فهناك الكثير منها تضرّ الأطفال سواء كانت الماديّات، أو الاعتماد المفرط على الأدوية، أو الامتحانات الموحدة، أو الأجهزة الإلكترونية والكومبيوترات الزائدة عن اللزوم، أو الإثارة المنحطة والفاسدة التي صارت مقبولة في مجالات الترفيه.
وأؤمن بأن جميع الأطفال يحملون ختم خالقهم عند الولادة. فنقاوتهم وبراءتهم عطيتان عظيمتان. ولو فُقِدَتا لما أمكن استبدالهما. فيجب أن تزداد حمايتهما ككنز لا يملك أحد الحقّ في تدميره.

ولو أردنا حماية البراءة لدى الأطفال، لوجب أولا تطهير قلوبنا من التلوث. وقد قالت في إحدى المرات الكاتبة النمساوية ماجدة فون باتنبرغ Magda von Hattinberg ما يلي:

أشعر دائما بأننا نحفظ طفولتنا مقفولا عليها، في داخل خزانة مخفية. ونحملها معنا، ونراها بكل وضوح في تلك اللحظات عندما نتجاوب مع الأطفال بكل المشاعر. وأعتقد أن بعض الناس قد دفنوا طفولتهم، أو حتى أنهم قد اقترفوا شيئا رهيبا بحقها: فقد قتلوها. فإنّ مثل هذه الشخصيات الحزينة التي يراها المرء تمرّ من جانب وجه بريء مرورا غير مباليٍّ أو غير فرحٍ أو مثقّلا ضميريًا.

عندما نصادف طفلا فيجب أن لا يكون ردّنا بأقل من التوقير. لقد صار المعنى الحقيقي لكلمة توقير غير واضح، وربما لأن الكلمة تبدو ذات طابع قديم. فيعني التوقير أكثر من مجرد محبة، إنه يشمل موقف احترام وتقدير لصفات الأطفال التي يمتلكونها (التي قد خسرناها نحن الكبار)، ويشمل أيضا استعدادا لإعادة اكتشاف قيمتها، ونحتاج إلى تواضع للتعلم منها.

إنّ التوقير هو موقف يتسم بالاحترام العميق أيضا كما تعبر عنه الكلمات التالية التي كتبها جدي:

إنّ الأطفال هم الذين يأخذوننا إلى الحقّ. ولسنا جديرين بتربية طفل واحد منهم. فشفاهنا نجسة؛ وتفانينا ليس خالصا من كل قلوبنا. ومصداقيتنا ليست كاملة؛ ومحبتنا منقسمة على نفسها. وإحساننا غير نزيه. ونحن أنفسنا لم نتحرّر لحد الآن من جفاف القلب وحب التملك والأنانية. فليس هناك من هو مناسب للعيش والعمل مع الأطفال سوى الحكماء والقديسين – أيْ سوى أولئك الذين يَمْثُلون بين يدي الله كالأطفال.

يجرأ بعض منا احتساب نفسه حكيما أو قديسا. ولهذا السبب بالذات يجب أن تكون القواعد التي تعتمد عليها التربية، ليست المعرفة والفهم فحسب وإنما التوقير أيضا. وفي رواية «طريق العودة» للكاتب الألماني اِيريش ماريا ريمارك Erich Maria Remarque، التي كتبها مباشرة بعد الحرب العالمية الأولى، يوجد مقطع يوضح هذا المبدأ بطريقة لا يمكن نسيانها. واسم الراوي في ذلك المقطع من الرواية هو ايرنست Ernst، وهو من المحاربين القدامى الذي شارك في حرب الخنادق في الحرب العالمية الأولى، فها هو يحكي:

يأتي الصباح وأذهب إلى صفي في المدرسة. ويجلس هناك الصغار مكتوفي الأيدي، ولا تزال في عيونهم الدهشة البريئة لسنوات الطفولة. وينظرون إليَّ بثقة كبيرة وبإيمان كبير – وفجأة وَخَزَني قلبي.

هَأنَذا واقف هنا أمامكم، واحد من مئات الآلاف من الرجال المفلسين معنويا، الذين دمرت الحرب كل إيمان لديهم، وأفقدتهم جميع طاقاتهم تقريبا. فأقف هنا أمامكم وأرى مدى حيويتكم ومدى تأصلكم بجذور الحياة أكثر مني. فأنا واقف هنا ومن المفروض عليّ أن أكون معلمكم ومرشدكم. فماذا سأعلمكم؟ هل سأخبركم بأنّ الحياة ستجفّ في داخلكم بعد عشرين عاما وستُصاب بالشّلل، وستتعرض أكثر اندفاعاتكم الحرة للتشوّه وستُقحم بالقوة وبلا رحمة إلى داخل القالب نفسه؟ وهل سأخبركم بأن التعلّم كله والثقافة كلها والعلم كله ما هو بشيء سوى عملية استهزاء شنيعة، ما دام البشر يصنعون الحروب، بالغاز والحديد والمتفجرات والنار، باسم الله وباسم الإنسانية؟ فماذا سأعلمكم إذن، أيتها الكائنات الصغيرة، التي بَقِيت وحدها غير ملطخة بالسنوات الفظيعة؟
ماذا بإمكاني تعليمكم إذن؟ هل سأخبركم كيف يتم سحب فتيل قنبلة يدوية، أو كيف تقذفونها بأفضل طريقة على الإنسان؟ وهل سأبيّن لكم كيف تطعنون رجل بحربة، وكيف يمكن إسقاطه بضربة هراوة، وكيف يمكن ذبحه بمسحاة؟ هل سأشرح لكم عن أفضل الطرق عن تصويب بندقية نحو أعجوبة لا يدركها العقل البشري مثل صدر يتنفس أو قلب ينبض؟ هل سأشرح لكم ما هو مرض الكزاز؟ وما هو العمود الفقري المكسور؟ وما هي الجمجمة المحطمة؟ هل سأُمثِّل أمامكم كيف يتأوه رجل أصيب بجرح في معدته؟ أو كيف يتغرغر رجل أصيب بجرح في رئته؟ أو كيف يصفِر بحدّة شخص أصيب بجرح في رأسه؟ فأنا لا أعرف أكثر من هذا. ولم أتعلم أكثر منه.

هل سآخذكم إلى الخريطة الخضراء الملونة هناك، وأحرك إصبعي فوقها وأخبركم أن الحب قد قُتل في هذا المكان؟ وهل سأشرح لكم أن الكتب التي توجد بين أيديكم ما هي سوى شِراك، قام الناس بصنعها لتكون فَخَّاً لنفوسكم البسيطة، ولكي تَعْلَقوا بمتاهات التعابير الجميلة وبالأسلاك الشائكة للأفكار المزورة؟

وها أنا واقف هنا أمامكم، كرجل ملطّخ ومذنب ولا يسعني إلا أن أناشدكم لتبقوا كما انتم، وأتمنى أن لا تعانوا أبدا من استغلال نور طفولتكم الساطع وتحويله إلى لهيب متطاير للكراهية. ولعل طلعتكم البهية تستمر في إشعاعها لعبير البراءة. فكيف سأحسب نفسي معلما مؤهلا لتعليمكم؟ فأنا أحمل في جعبتي السنوات الدموية التي ما تزال تلاحقني. فكيف إذن سأجازف معكم وأدرّسكم؟ ألا يجب عليّ أولا أن أعود طفلا مرة ثانية؟

أني أحسّ بتشنج آخذ بالانتشار في داخلي، كما لو أني أتحول إلى حجر، وكما لو أني أتداعى تدريجيا. . . . فوقفت. وقلت بصعوبة: «أيها الأطفال، يمكنكم الذهاب الآن، فلا يوجد دوام في المدرسة اليوم.»
فنظر الأطفال إليّ من أجل التأكد بأني لست مازحا. فأومأت إليهم برأسي بالموافقة مرة أخرى، «نعم هذا صحيح – اذهبوا والعبوا اليوم – كل اليوم. اذهبوا والعبوا في الغابة، أو مع كلابكم وقططكم، ولستم بحاجة إلى العودة حتى الغد.»

حاول أنت الآن القيام بشيء مماثل في أحد الفصول الحقيقية، فسوف يجري استجوابك بالتأكيد، إن لم يفصلوك من عملك. إلا أن النقطة المهمة في الموضوع، كما يوضح ريمارك، ليست الحدث بحد ذاته. فما هو مهم هنا هو أن الروح الذي فقده عصرنا كليّا قد لمس قلب إنسان. فعندما تواجه الإنسان مع البراءة والضعف والصدق والعفوية أدرك أن الرد المناسب الوحيد هو التحلي بالتوقير والتعامل الوقور مع الأولاد.

ويمكن لفهمنا للتوقير أن يغيّر نظرتنا عن العالم وعن مهمتنا فيه. إذ بمقدور هذه الكلمة البسيطة أن تساعدنا على الحفاظ على حياتنا خالية من تشابكات الأمور السيئة التي قد تحاول جرنا إلى الحضيض. ولما كان المستمعون الصغار يراقبون كل حركة من حركاتنا، فبإمكاننا أن نصير لهم نموذجا للنزاهة والاحترام. فيمكننا ارتداء ثياب بأسلوب مهذب يعبّر عن قيمتنا الروحية، بدلا من الحطّ من مكانتها. وينبغي أن لا نقصف الأطفال الصغار بمعلومات مكشوفة عن الحياة الجنسية والإنجاب، وإنما يمكننا السماح لهم بالنمو وفقا للسرعة التي يحتاجونها في فهم معنى أن يكون الإنسان كائنا بشريا، وأيضا الإجابة على أسئلتهم بصدق وببساطة متى ما طرحوها.

ويمكننا تقديم مثال صالح عن العلاقات الصحيحة. فقد تعلمت أهمية هذا الموضوع من والديّ، اللذين كانا يختلفان أحدهما مع الآخر أمام الأطفال، لكنهما كانا دائما ينهيان النقاش بضحكة وبعناق. ورأيت أن والدي لم يستحِ من إظهار الحنان والمرونة والانكسار لوالدتي ولا من دعمه لها بكل شجاعة ولا من تأييد توجيهاتها المترفِّقة. وكان زواجهما المبني على الوفاء والاحترام مثالا لجميع الذين عرفوهما.
وعندما نتحلّى بموقف فيه توقير لحياة كل إنسان، فسوف تمتلئ قلوبنا بالرأفة أيضا، ونبدأ بتعليم الآخرين على تثمين قيمة التوقير. ويمكن للأطفال أن يتعلموا التجاوب بالمشاعر والتعاطف مع الآخرين حتى لو حجَّرت الظروف قلوبهم وجعلتهم منغلقين، وما أحلى مشاهدة حدوث ذلك وهم يتجاوبون فعلا ويحسّون بمشاعر الآخرين. وهذا ما اكتشفته ميري جوردون Mary Gordon عندما أسست جذور التعاطف Roots of Empathy، وهو برنامج يتضمن إدخال أطفال رُضَّع في صفوف مدرسية ليقضوا وقتا مع تلاميذ المدرسة، فكان له تأثيرات عجيبة في التقليل من ظاهرة البلطجة، وزيادة تفهُّم الآخرين، وازدياد عنصر الرعاية عندهم. فها هي تكتب:

لم يسبق لي أن أرى طفلا كبير العمر في برنامج جذور التعاطف مثل الطفل دارين Darren. فقد كان في الصف الثامن ورسب مرتين فيه. وكان أكبر بسنتين من جميع التلاميذ الآخرين في صفه، حتى أن لحيته أخذت بالظهور. وعلمتُ بقصته: فقد تمّ قتل أمه أمام عينيه عندما كان في الرابعة من عمره، وعاش منذ ذلك الحين في سلسلة من بيوت عائلات تقدم الرعاية للأطفال. وكانت ملامح دارين مهدِّدة لأنه أرادنا أن نعرف بأنه كان شرسا: فقد حلق شعر رأسه ما عدا خصلة على شكل ذيل حصان في أعلى رأسه، وكان لديه وشم على الجزء الخلفي من رأسه.

وكانت المرشدة من برنامج جذور التعاطف تشرح يومذاك للصف حول موضوع الاختلافات في المزاج. ثم دعت أمّا شابة كانت تزور ذلك الصف مع طفلها الرضيع اِيفان Evan البالغ من العمر ستة أشهر لتحكي للصف عن مزاج طفلها. وعندما شاركت الأم في النقاش أخبرت التلاميذ عن مزاج طفلها اِيفان ورغبته في الجلوس بعكس الاتجاه لتوجيه وجهه إلى الخارج عندما تحمله في حمالة الأطفال الرضَّع، التي هي مقعد محمول يرتديه البالغون لحمل طفل رضيع قريب من جذعهم، وأخبرتهم أيضا عن عدم رغبته في أن يحضنها، وعن أمنيتها الشخصية لأن يزداد حب طفلها في أن يحضنه الناس.
وعندما انتهى الدرس، سألت الأم فيما إذا كان هناك أي تلميذ يريد أن يجرب ارتداء حمالة الطفل بنفسه، التي كان لونها أخضر ومنقوشا عليها زخرفة وردية.

واندهش الجميع عندما عرض دارين نفسه ليحاول ذلك. وفيما سارع التلاميذ الآخرون للاستعداد لتناول طعام الغداء، قام دارين بربط الحمالة عليه ولبسها. ثم سأل: «هل يمكنني وضع اِيفان في الحمالة؟» أما الأم فكانت متخوفة بعض الشيء، لكنها مع ذلك سلمته الطفل، فوضع دارين اِيفان في الحمالة بحيث كان وجه الطفل نحو صدره. فاستكن ذلك الطفل الصغير الحكيم وركن في حضنه، وأخذه دارين إلى زاوية هادئة من الغرفة وصار يتأرجح يمينا ويسارا لعدة دقائق والطفل بين ذراعيه وحضنه. ثم عاد أخيرا إلى حيث الأم والمرشدة منتظرتين وسألهما: «لو لم يرَ الإنسان أية محبة في حياته على الإطلاق، فهل تعتقدان بأنه يمكنه مع ذلك أن يكون أبَّا صالحا؟»

لقد زُرعت بذرة هنا. فهذا الصبي، الذي شهد أشياء لا ينبغي أن يشاهدها طفل، الذي اتسمت حياة طفولته بأنه كان متروكا ومنبوذا، الذي كان يعاني من عدم تلقيه لأية محبة تُذكر من الوسط الذي تربى فيه ولغاية سن الرابعة عشرة، قد شهد الآن بصيصا من الأمل. فمن خلال هذه اللحظات التي التقى فيها مع مودة الطفل الخالية من أي انتقاد أو إدانة، تجلّى للصبي في سن المراهقة صورة عن نفسه كوالد، صورة تتعاكس مع طفولته الخالية من المحبة. وربما غيّر الطفل الرضيع مسار مستقبل هذا الشاب وذلك بالسماح له برؤية الإنسانية التي في داخله.
يمكننا التحدث عن الرحمة. إلا أنها تصبح في الغالب حقيقية لنا عندما نتطوع مع أولادنا في الخدمة في المطابخ الخيرية أو أولمبياد المعاقين عقليا، أو أخذهم في زيارة لمركز رعاية كبار السن أو لمستشفى. وكلما زاد ترددنا على هذه الأماكن نما التفهُّم في قلوب الأطفال. وسوف يستجيب الأطفال من كل قلوبهم، بدلا من أن يردّوا على الناس الذين يرونهم هناك بتخوّف أو بمشاعر التأسُّف والحزن على سوء الحظ، وسوف يُزرع الاحترام تلقائيا في نفوسهم بعدئذ. وتحكي لينا Lena، وهي معلمة وكاتبة، عن تجربة أسرتها فتقول:

لا نحتاج إلى تعقيد الأمر، لكن من المهم جدا تعليم الأطفال على كيفية معاملة الجميع باحترام. فلو لم نريهم الكيفية العملية فلن ينفع كم مرة نوصيهم بذلك.

عندما كنا نعيش في دولة المكسيك، كنت أعمل في توزيع الأدوية للمرضى في الأحياء الفقيرة جدا حيث بيوتها مبنية من صفيح التَّنَك أو ورق المقوى وتسمى أحيانا بالبيوت القصديرية. وكانت تلك الأحياء واقعة على تلال خارج العاصمة. وبالإضافة إلى ذلك، كنت أزور الناس هناك. وصادف في أحد الأيام أن أولادي كانت لديهم عطلة مدرسية، فأخذتهم معي إلى تلك الأحياء الفقيرة. وكلما زرنا أحد البيوت فيها، أرادوا تقديم شيء ما لنا، مثل مشروبات غازية دافئة أو علبة عصير. فتمكن الأطفال من رؤية أن مضيّفينا يقدمون أفضل ما عندهم. فأخذوها مع كامل التقدير.

فأريد لأولادي أن يكونوا قادرين على أن يعاملوا أي إنسان بكرامة وباحترام، مهما كان غنيّا أو فقيرا. وهناك قول مأثور في المكسيك يقول: «الأصدقاء أفضل من المال.» وبإمكان أولادي الآن رؤية الحقّ في ذلك القول.

في يومنا الحاضر، يسمع الأطفال الصغار أيضا عن العديد من الأحداث المهدِّدة، بدءا من أعمال الإرهاب وإلى اشتعال الحروب وإلى ظاهرة الاحتباس الحراري وإلى توسُّع بقاع المجاعات. فيمكن لكل من هذه الأمور أن تخيف الطفل. إلا أن الإيمان البسيط للطفل في قوة الخير يمكن هنا أن يحوّل بسرعة هذا الخوف إلى ثقة واطمئنان ورغبة في تقديم خدمة ما إلى الآخرين – لأن إيمانه البسيط يقول له إنّ المحبة والرحمة أقوى من الكراهية أو اللامبالاة. وقد وجدت هذا الإيمان عند الأطفال في جميع أنحاء العالم، بغض النظر عن دينهم. إلا أنه من
الضروري أن يرعاه الآباء. وعندما نخبر أطفالنا بأن الله الذي خلق العالم يحب كل واحد منهم شخصيا، فإننا نعطيهم بذلك يقينا تاما بأنه مهما يحدث، فهم ليسوا وحيدين أبدا.

وباعتباري قسيسا، أرى أنه على الرغم من أن اسم الله واسم يسوع المسيح أصبح ذكرهما «ممنوعا» في الفصول الدراسية في المدارس العامة بحسب تشريعات البلاد، إلا أن المعلمين ينبغي أن لا يخافوا أبدا من أن يعيشوا إيمانهم، حتى لو كان بدون كلام، بل حتى أن يدعوا إيمانهم أن يرشدهم في تفاعلاتهم الاجتماعية اليومية مع الأطفال. فيمكننا التسليم بوجود شرارة سماوية من الحياة الأبدية تعيش في كيان كل طفل ويمكننا حمايتها، لأن روح كل طفل روح فريدة تحتاج إلى أن نتعامل معها بتوقير واحترام، حتى لو كان الطفل مُتعِبا أو غير سعيد. وينبغي احترام إيمان الأطفال الذي عندهم ودعمه. فلو كانوا يؤمنون بأن الله يرى كل شيء، أو أن ملاكهم الحارس يحفظهم، أو أن يسوع المسيح صديقهم، لساعدهم ذلك على الصمود في وجه الضغوط السلبية التي تغمر ثقافتنا ومجتمعاتنا.

هناك جانب آخر من جوانب الحياة يجب تقديمه بكامل التوقير إلى الطفل. فبالنسبة إليّ، لا يمكن التعبير عن سرّي الولادة والموت إلا على أساس الحياة الأبدية. ولا يعود هذا بسبب تربيتي، وذلك لأن والديّ عاشا إيمانهما أكثر مما تكلما عنه. وإنما بسبب ما أحسست به شخصيا في بعض الأحيان وبوضوح تام عن شيء أعظم بكثير من مجرد كلام، وذلك بفضل إنسان لم ينطق بتاتا أية كلمة. وقد رأيت كيف أن أقصر عمر في الوجود لطفل وليد يمكن له أيضا أن يغير حياة كل الذين من حواليه.

لقد توفيت شقيقتي الصغيرة ماريان Marianne عندما كنت في السادسة من عمري. وكانت أسرتي تنتظر قدومها بفارغ الصبر. وقد ولدت بعد أن مرّت والدتي بأكثر من ستين ساعة من آلام الولادة والمخاض وكانت على حافة سكتة قلبية قاتلة. ونجاتها من عملية الولادة كانت معجزة حقا في تلك المستشفى البدائية لإحدى القرى في دولة باراغواي. غير أن الطفلة الوليدة كانت في حالة صحية حرجة، ولم تعِش سوى أربع وعشرين ساعة. ولمّا كنا نسكن بعيدا عن المستشفى، ولم يكن عمري سوى ست سنوات آنذاك، لم أكن قادرا على رؤية أو لمس أو حمل شقيقتي الصغرى مطلقا. غير أنني أحسست مع ذلك بهذه الخسارة طوال حياتي. وأصبح الأمر مع مرور الوقت أكثر أهمية بالنسبة إليّ لأن أتذكر بأن ماريان كانت – وما تزال – جزءا حقيقيا من حياتي ومن أسرتي. وعلى الرغم من أنها لم تكن هنا على هذه الأرض سوى يوم واحد، إلا أنها سوف تبقى شقيقتي دائما.

وشهدتُ بعد سنوات لاحقة ازدياد وضوح هذا الرابط مع السماء أكثر من قبل بفضل طفل آخر، وهي حفيدتي ستيفاني جين Stephanie Jean التي ستبقى في قلبي لبقية أيام حياتي. فعندما ولدت ستيفاني، عرفنا على الفور أنها كانت طفلة معاقة جدا بتشوهات كبيرة. وتم تشخيص حالتها بأنها مصابة بمرض يدعى متلازمة باتو أو تثلث الصبغي 13 «Trisomy 13» وهو اضطراب جيني يتميز بقصر العمر. إذ يموت معظم الأطفال الذين يولدون مع هذا الاضطراب في غضون أيام قليلة.

كان لستيفاني ثلاث أخوات وأخ واحد. فأخذوا يصارعون نفسيا في محاولة لكي يفهموا لماذا لم يجلب والداهم إلى البيت ذلك الطفل السليم الذي اشتاقوا إليه جميعهم، بل جلبا لهم عوضا عنه طفلا معاقا للغاية ولم يكن ليعيش طويلا. وصلينا كلنا بلا انقطاع من أجل أن تتم إرادة الله في حياتها، ومن أجل أن نفهم معنى ولادتها.

وعشنا أعجوبة حملها بين أذرعنا يوميا تقريبا، أنا وزوجتي. وعاشت ستيفاني لمدة خمسة أسابيع، وعندما جاءت ساعتها، رقدت بسلام. ولم نصدق عدد الناس الذين حضروا مراسم دفنها. فقد سمعوا كلهم بولادتها ومرضها، وأثّرت فيهم بعمق. فأرادوا المشاركة في هذا التعبير الأخير من المحبة لطفل صغير كان ينتمي بطريقة أو بأخرى إلى الجميع.

وجاء الناس من جميع أنحاء الحيّ ومن خارجه أيضا، مثل: عمال البناء، ومعلمو إخوتها وتلاميذهم، ورجال السلطة التنفيذية للمقاطعة، ومدير الشرطة المحلية، وغيرهم من أوساط قوات حماية القانون. وعندما صار الناس يجرفون التراب بالمعاول اليدوية إلى قبرها الصغير، أراد كل من هؤلاء الأصدقاء والجيران أن يأخذ دوره في هذه الخدمة، في بادرة لا تُنسى من الوقار. والأمر العجيب هو كيف لمست هذه الفتاة الصغيرة في مثل هذا الوقت القصير نفوس الكثير من الناس وكيف أثرت في حياتهم.

فلم يتم نسيان حفيدتي. وهي بمثابة شعاع نور من السماء ما يزال يعمل في نفوس الناس ويغيّر حياتهم. ومأ أزال أنا وزوجتي نشكر الله ونحمده على أنه وهبها لأسرتنا، ولكل من التقته.

وهناك العديد من الأطفال الآخرين مثل ستيفاني. فإنّ كل طفل في نظري هو جزء من خطة الله الذي لا يخطئ. فعندما يكون الطفل معاقا، تكتسب حياته أهمية خاصة. ومتى ما نصادف مثل هؤلاء الأطفال، نحتاج إلى إيلاء الاهتمام. فلديهم أشياء مذهلة لتعليمنا عن الثقة والمحبة غير المشروطتين.

وفي الوقت الذي غالبا ما يتم تقييم الناس على أساس قيمتهم، أو ذكائهم، أو جاذبيتهم، فهناك العديد من المنبوذين أو غير المقدرين، لكن لو أحببنا الأطفال حقا، فسوف نرحب بهم جميعا. وكما قال يسوع الناصري: «وَمَنْ قَبِلَ وَلَداً وَاحِداً مِثْلَ هَذَا بِاسْمِي فَقَدْ قَبِلَنِي.»

وعندما كنت شابا في سنّ المراهقة، شرّفني لعدة مرات لقاء دوروثي داي Dorothy Day، وهي الشخصية الأسطورية من دعاة السلام التي أسست حركة العمال الكاثوليك WorkerCatholic في الولايات المتحدة الأمريكية، وشرفني أيضا المشاركة معها في بعض المناقشات المثيرة للتفكير. أما في أيام حياتها السابقة غير الملتزمة، فكانت قد أجهضت طفلها، غير أنها أنجبت لاحقا وبعد عدة سنوات بنتها تمار Tamar، وتأثرت دوروثي كثيرا حينها فكتبت تقول: «يكتنف الإنسان العجب ويقف بمهابة أمام حقيقة الخلق المذهلة. ومهما تعامل بسخرية خبراء شؤون الحياة مع ولادة طفل أو اعتقدوا أنها مجرد مسألة مصادفة عرضية، تبقى الولادة حدثا هائلا روحيا وجسديا. لقد غيّرت ولادة تمار حياة والدتها، وبالحقيقة، فإنّ كل طفل لديه هذه القوة التي تغيّر قلوب الآخرين. ولولادة طفل ميت أو وفاة طفل صغير السن القوة المؤثرة ذاتها.

وفي وسع جميعنا إظهار المحبة والاحترام للأطفال الذين في رعايتنا سواء كنا مؤمنين بالله أو غير مؤمنين به. فسيعمل هذا بدوره على إيقاظ حسّ الوقار الفطري فيهم – نحوهم شخصيا كأفراد فريدين وكذلك نحو الآخرين، فسوف يحسون بأن الآخرين أعزاء عليهم كعزة نفسهم وبأنهم أشخاص فرائد لا نظير لهم. وسوف يفهمون بحقّ عندئذ هدفهم ومسؤوليتهم في العالم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كاميرات مراقبة ترصد فيل سيرك هارب يتجول في الشوارع.. شاهد ما


.. عبر روسيا.. إيران تبلغ إسرائيل أنها لا تريد التصعيد




.. إيران..عمليات في عقر الدار | #غرفة_الأخبار


.. بعد تأكيد التزامِها بدعم التهدئة في المنطقة.. واشنطن تتنصل م




.. الدوحة تضيق بحماس .. هل يغادر قادة الحركة؟ | #غرفة_الأخبار