الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دردشة في الفيتشية وفي سحر المطبوع

ناجح شاهين

2019 / 7 / 17
مواضيع وابحاث سياسية


دردشة في الفيتشية وسحر المطبوع
إلى عادل سمارة وزكريا محمد
ناجح شاهين
قبل بضعة ايام قالت لي صبية تدرس في جامعة بيرزيت وتعمل في متجر “برافو" في حي الطيرة في رام الله: "اكتشفت يا عمو إنك مهم، شفت صورتك في الجريدة، الظاهر إنك كاتب. قلت لصاحباتي هناك واحد مهم ومشهور بشتري من عندنا." للأسف، ودون أي تواضع زائف، لست مشهوراً ولا مهماً ولا من يحزنون. والحقيقة أنني لست معروفاً إلا على نطاق ضيق تماماً في بعض مناطق الضفة من قبيل رام الله والخليل إضافة إلى بعض أوساط مدينة عمان في الأردن. لكن الصبية وقعت تحت تأثير "فيتشية" الورق التي لا يضاهيها، أو يتفوق عليها، إلا سحر التلفزيون.
أذكر أن أكاديمياً بارزاً يعمل في بيرزيت كان بصدد انتقاد أحد الكتاب "المنشقين" فقال عنه إنه "كاتب إنترنت." وأضاف إن الإنترنت يمثل لعنة كبرى، لأنه يسمح لأي شخص لا يتمتع بأية موهبة أن يمارس النشر بسهولة بسبب عدم الحاجة في نطاق الشبكة العنكبوتية إلى تقديم المؤهلات التي تتطلبها الكتابة. بل إن أحد الكتاب فيما أذكر أشار بوضوح إلى أن الكاتب والقاص زكريا محمد هو كاتب إنترنت. وقد رد محمد على ذلك مدافعاً عن كتابة الإنترنت، مبيناً أنه كان قد كتب في الصحف والمجلات المطبوعة دهراً من الزمن قبل أن يكون من انتقده معدوداً بين الكتاب أو المبدعين.
على أية حال ليس الأفراد وحدهم من يقع فريسة سهلة لسحر الكلام المطبوع. السحرة أنفسهم ممكن أن يكون ضحية للسحر. لذلك أذكر أن صحيفة القدس المحلية كانت تعيد نشر المقالات التي كنت أنشرها قبل زمن بعيد في صحيفة "الخليج" الإماراتية. لكنهم عندما اكتشفوا أنني "متوافر" في رام الله فترت حماستهم كثيراً. كنت كاتباً غامضاً "مهماً" يظهر اسمه وصورته في صحيفة الخليج، وفجأة اتضح أنني شخص عادي تماماً يقيم في رام الله، ويردد أفكاراً بالية عفا عليها الزمن.
لكن الظهور على صفحات الصحف والمجلات وعلى شاشات التلفزيون يتفاوت في أهميته وسحره الفيتشي. إن قناة مثل "المنار" أو "فلسطين اليوم" لا تعطي صاحبها الوهج الذي يمكن الحصول عليه من قنوات مثل سي ان ان أو يورو نيوز أو الجزيرة أو حتى القنوات الإسرائيلية. ومن هنا فإن ظهور أحدنا على شاشة المنار لن يتجاوز أن يكون ظهوراً "أيديولوجياً" لا يثبت العمق والأهمية العلمية للشخص المستضاف. يبدو لمجتمع "النخبة" أن قنوات مثل المنار أو مثل قنوات الدولة السورية تبحث عن أي شخص مهما كان متواضع القدرات من أجل أن يقول كلاماً في صف "معسكر المقاومة" ويناكف الولايات المتحدة ومعسكرها. لسبب ما يبدو العكس مختلفاً: الظهور على صفحات مثل هآرتس أو نيويورك تايمز أو فضائيات مثل قناة العربية أو القناة العاشرة الإسرائيلية يسبغ على صاحبه سمة العالم أو الخبير أو المحلل السياسي...الخ.
هناك جهات نافذة تمنح المرء الامتياز "الطبقي" العلمي، وهناك ملامح لا تخطئها العين لمن يتمتعون بهذا الامتياز. إن اللغة الإنجليزية بداهة من أساسيات الشخصية العلمية. كما أن لقب الدكتور لا يستهان به في إسباغ سمة العالم أو الخبير على صاحبه، لكن هاتين السمتين لا تكفيان بالتأكيد لكي يصبح أحدنا عضواً في نادي النخبة العلمية أو المفكرة. لا بد من أن يكون المرء جزءاً من مؤسسة أكاديمية "محترمة،" مثلاً في الضفة يستسحسن أن يكون الأكاديمي أستاذاً في بيرزيت أو أو النجاح أو القدس، ولا بد أن يكون ضيفاً مألوفاً على الفضائيات الهامة من قبيل الجزيرة أو العربية أو الميادين، غير أن أن المرء يغدو براقاً على نحو خاص إذا تمت استضافته من جانب القنوات الإسرائيلية، أما القنوات الأمريكية فترتفع به إلى مصاف صفوة الصفوة.
عوداً على بدء، نود التأكيد على أن الحضور في الكتب والأبحاث المطبوعة الممولة هو أمر غاية في الأهمية، كما أن المشاركة في "المؤتمرات العلمية" خارج البلاد ووجود "التعاون" مع مؤسسات أوروبية أو أمريكية، والقدرة على جلب التمويل للمشاريع "العلمية" المحلية كلها أمور حاسمة في إثبات أهمية العالم المحلي وعمق إسهامه المعرفي.
بالنسبة لملامح عضو النخبة العالمة، لا بد أن يكون صعباً ومعقداً بقدر الإمكان، لأن ذلك يشير بقوة إلى مقدار تعمقه في المعرفة الغربية. أذكر أن أحد طلبة بيرزيت جاءني في إحدى المرات مصدوماً من سهولة الكلام الذي كتبه أستاذه باللغة الإنجليزية مقارنة بالجمل المستغلقة التي لا يمكن فك ألغازها التي كان يكتبها باللغة العربية. لقد مارس الرجل بالطبع سياسة الكتابة المبهمة محاولا قدر الإمكان تقليد طريقة جاك دريدا، وقد نجح في ذلك أيما نجاح إلى درجة أنه قد أعطى الانطباع بأنه عالم "تفكيكي" عميق ومعقد. في اللغة الانجليزية التي تظل بالنسبة له لغة أجنبية ولا يتقنها أبدا على الرغم من رغبته في ادعاء العكس، لم يتمكن من ممارسة الألاعيب اللغوية فجاءت كتابته بسيطة، وربما فجة.
البضاعة التي يروجها أعضاء النخبة يجب أن تنتمي فيما نحسب إلى أحد اتجاهين، أو إلى تراث إحدى المدرستين ومريديهما: الليبرالية بدءاً بجون لوك وصولاً إلى رولز، والمابعديات بألوانها وخصوصاً ما يتصل بالشيخين الكبيرين فوكو ودريدا. من المستحسن دائماً الإشارة إلى ماركس مع شيء من الظرف أو السخرية اللطيفة العابرة لكي يعرف القاصي والداني أن المفكر العالم على اطلاع تام على هذا الإرث المنقرض الذي يتوهم بعض السذج أو "الثوريين البسطاء" أن فكره هو البوصلة لتحديد اتجاه الصراع الكوني أو معالم طريق الثورة العالمية.
ما بين دورس الليبرالية المتصلة بحقوق الإنسان والديمقراطية وحقوق المرأة والحريات الفردية والمواطنة والقوميات المتخيلة...الخ من جهة، ودروس المابعديات التي تشير إلى فشل المشروع الحداثي كله، وسقوط أحلام الإنسان، واندثار السرديات الكبرى كلها وعلى رأسها الماركسية، ما بين هذه وتلك ينتشر أعضاء النخبة المميزة العاملين في جامعاتنا. بالطبع يوجد عدد لا بأس به من "التكنوقراط" المتدين الذي يردد بسهولة وتلقائية: "الإسلام هو الحل". ولكن هؤلاء حتماً ليسوا أبناء النخبة العلمية التي تتمتع بأسرار الحكمة الغربية التي يعتد بها معيار الامتياز.
والواقع أن وجود المرء على نقطة ما على متصل "الليبرالية والمابعديات" هو شرط ضروري –وإن يكن غير كاف- لكي يظهر على صفحات الصحف والمجلات وعلى شاشات التلفزيونات. ولابد أن هذا المتصل يحتوي المواد الضرورية التي تمكن "سكانه" من "اكتشاف" أن أهم مشكلة تواجه سوريا أو السودان أو فلسطين هي مشكلة الدكتاتورية وغياب الديمقراطية أو عدم إجراء الانتخابات الدورية الشفافة والنزيهة. ومن اللطيف بالفعل أن أصحاب المعسكرين يتفقون تماماً على أن النموذج الأمريكي/الأوروبي في الحياة والسياسة يظل هو النموذج الأفضل -أو الأقل سوء- الذي أبدعته البشرية. وإذا كان النموذج الليبرالي يتغنى بسذاجة ببهاء التجربة الغربية، فإن النموذج ما بعد الحداثي الموجه إلى العقول الأكثر حذراً وميلاً للتأمل المنطقي الصارم، يبين أن التجربة الحداثية الأوروبية مليئة العيوب، ولكنها تظل شئناً أم أبينا نهاية المطاف. بل إن هؤلاء يميلون إلى "تتفيه" وتسفيه "المتخيلات" جميعاً بما فيها الصراعات القومية والوطنية والطبقية، وينصحون البشر المتسامحين –على نحو يذكر بتجربة إدوارد سعيد- بأن يتناسوا صراعات الماضي وينطلقوا من اللحظة الراهنة. عفا الله عما سلف في التاريخ والسياسية والاقتصاد...الخ من هذه الناحية، يلفت نظرنا كثيراً تقاطع النظرة المابعدية مع الموقف السياسي الرسمي للولايات المتحدة منذ هنري كيسنجر أو ربما منذ المفكر "الواقعي" مورغنذاو. وفي هذا السياق يمكن أن نغتنم هذه "الدردشة" لننصح الفلسطينيين بنسيان ما جرى كله والعيش في الحاضر في كنف إسرائيل بمحبة وتسامح وسلام.
عندما يتمتع المرء بالسمات الفكرية والسياسية "الواقعية" الحداثية/الليبرالية أو ما بعد الحداثية/التفكيكية ليقدم نصيحة مثل نصيحتنا السالفة، يمكن له أن يجد الطرق معبدة أمامه لكي يعثر على من يمول له الكتابة المطبوعة، ويستضيفه في المؤتمرات، وعلى شاشات الفضائيات، من أجل تزيينه بالنياشين "الفيتشية" الضرورية لكي يغدو شخصاً مهماً ومشهوراً، وعضواً دائم العضوية في منتدى النخبة الخبيرة أو العالمة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل بدأ العد العكسي لعملية رفح؟ | #التاسعة


.. إيران وإسرائيل .. روسيا تدخل على خط التهدئة | #غرفة_الأخبار




.. فيتو أميركي .. وتنديد وخيبة أمل فلسطينية | #غرفة_الأخبار


.. بعد غلقه بسبب الحرب الإسرائيلية.. مخبز العجور إلى العمل في غ




.. تعرف على أصفهان الإيرانية وأهم مواقعها النووية والعسكرية