الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البنيوية الفوقية

حكمت الحاج

2019 / 8 / 2
الادب والفن


أعترف بادئ ذي بدء بصعوبة نقل مصطلح (superstructuralism) إلى العربية إذ يكفي أن نشير إلى أنّه يتكون من ثمانية عشر حرفا وهو شيء نادر في اللغة الإنكليزية أن يكون اللفظ بهذا الطول ولكنها الضرورة القصوى تلك التي حدت بالناقد "ريتشارد هارلاند" أن ينحت هذا الاصطلاح ليعبر به عن فلسفة البنيوية وفلسفة تيار ما بعد البنيوية، فالكلمة المنحوتة هي في الأصل جمع لمصطلحين بعيدين عن بعضهما في الظاهر على الأقل، الأول هو مصطلح "البنية الفوقية" Superstructure والثاني هو مصطلح البنيوية structuralism فهل سأكون قريبا من الصواب والدقة معا إذا ما اقترحت تعريبا له ولو بشكل مؤقت على غرار "البنيوية الفوقية"؟
إن المصطلح أعلاه مصطلح واسع وفضفاض وهو يشتمل على البنيوية وما بعد البنيوية والسيميوطيقيا واللسانيات البنائية وكل الحركات الفرعية المتصلة بعموم المنهج. وفي كتابه المعنون بنفس الاسم (الطبعة الثانية عن روتليدج للنشر – لندن) يؤكّد، ريتشارد هارلاند، أن كل هذه الحركات الفكرية تنبثق من خاصية بنيوية-فوقية، أو طريقة فوق-بنيوية، تجعل لما يسمى بـ البنية الفوقية، التي اعتدنا أن ننظر إليها على أنّها ثانوية، أسبقية وأولوية على ما يسمى بـالبنى التحتية، التي كانت تعتبر هي الأساسية.
إنّ البنيوية- الفوقية ليست مذهبا له وحدة وتماسك وتمركز واضح، ولا يمكن إخضاع نص معين أو لحظة معينة لها، فالمذهب لم يتبلور بعد وهو يشبه رواية تتوالى أحداثها ولم تصل بعد إلى النهاية. إنّ هذه الرواية ليست مجرد سلسلة من الأحداث وتفرعاتها، صحيح أنّ هذه الأحداث وقعت في بداية الحكاية (حكاية المذهب) خاصة في المرحلة البنيوية المبكرة، لكننا نستطيع أن نلتمس بوضوح كيف امتدّ تأثير اللسانيات البنائية على الأنثروبولوجيا والنقد الأدبي حتى وصلنا إلى السيميوطيقيا.
ولكن، "البنيوية الفوقية" لا يمكن فهمها بشكل أفقي فقط. فلكي نفهم تطوّر هذا المذهب لا بدّ أن ندرك أنّ هذا التطور كانت له خاصية تعاقبية تحتوي على نقد ذاتي، وكذلك على تصليح مذهبي للأخطاء، وكأنّ المذهب بذلك ينتقل من مستوى إلى آخر أكثر عمقا متخليا عن طرائق التفكير العادية. فمن مبدأ التفارق عند "دي سوسير" إلى خطاطة "جاكوبسون"، ومن نظرية "ألتوسير" في التقدم العلمي إلى نظرية "فوكو" التي تنكر هذا التقدم تماما، ومن "جاك لاكان" إلى "جاك داريدا" إلى "بلوز" و"غوتاري" و"بودريارد"، تكون قصة "البنيوية-الفوقية، قصة تطهير ذاتي وطرد وقبول وتقويم، للخروج من مستوى عميق إلى مستوى أعمق منه وأشمل.
وهكذا فإنّ " البنيوية – الفوقية" لا تحمل في طياتها تشابها مع الفلسفة الميتافيزيقية فحسب، بل إنّها تعيد إنتاج الديالكتيك الهيغلي وفق مسار جديد، ولكنها لا تلتقي أبدا مع المثالية. ويقول "هارلاند" أن كلمة "المثالية" هي كلمة مريبة وقذرة بالنسبة لمفكري هذا المذهب إذ أنّهم يعترضون تماما ويتعارضون مع فلسفة "الأنا" الذاتية التي نادى بها "ديكارت" على أساس أن الفرد هو المحرك والمفكر بالنسبة للمجتمع، وذلك لأنّ الذاتية تجعل من الكون مجموعة مفاهيم ذاتية ليس إلاّ.
ويؤكّد المؤلف أنّ فلسفة "البنيوية الفوقية" هي فلسفة تجريدية إلى حد كبير، وبذلك فإنّها تلتقي مع الفلسفة الميتافيزيقية. ويضيف بأنّ فلسفة البنيوية الفوقية تمكننا من رؤية المنطق الأساسي والسليم للميتافيزيقيا. وبوضوح أكثر فإنّ علماء ونقاد ومفكري هذا الاتجاه لا يعارضون الفلسفة التجريبية لموضوعيتها فقط، ولا يعارضون فلسفة الأنا لذاتيتها فقط، ولكنهم يعارضون العلاقة المتناقضة بين الفلسفتين.
ويمكن القول إن "البنيوية الفوقية" عبر تطورها كمذهب قد ألقت الأضواء على مناطق فكرية جديدة كانت الفلسفات السابقة تتعامل معها كمسلمات، وذلك كما يقول المؤلف - فضيلة كل مذهب فلسفي جديد أنّه يتحدى ما هو مسلم به وما هو بديهي من الأشياء. ولقد نجحت "البنيوية الفوقية" في ذلك أيـما نجاح. ولكن المشكلة هي أنّ هذا التيار يأخذ بمبدأ الحقيقة المطلقة فلسفيا وغير الخاضعة للمراجعة. هذا هو المقصد الذي ترمي إليه النشاطات الرئيسية للمذهب ولكن البنيوية الفوقية أكّدت وتؤكّد أنها مـجلبة للحيرة وذلك إنّ أية فلسفة لم تستطع أن تأتي بنتائج مقبولة بحيث تكتسب صفة الحقائق المطلقة بالنسبة لكل الناس ستكون عبئا على التاريخ الفكري للإنسانية. إن" فلسفة "جون لوك" التجريبية وفلسفة "كانط" المتعالية وفلسفة "هوسرل" الظاهراتية وفلسفة "الوضعية المنطقية"، كل هذه المذاهب ألقت بنفسها في أماكن محيرة ولم تستطع أن تجعل نفسها مقبولة كليا عند الناس. وليس مذهب "البنيوية الفوقية" بمختلف عن هذه المذاهب كما أنّه ليس استثناءا فريدا.
ريتشارد هارلاند كاتب بريطاني يعيش في أستراليا ولد عام 1947 في يوركشاير في المملكة المتحدة ثم هاجر إلى أستراليا عام 1970 هو أستاذ جامعي ومؤلف درامي وسبق له أن نشر خمسة روايات وثلاثة كتب في النقد وقصصا قصيرة ومجموعات شعرية.
البنيوية الفوقية هي أطروحته للدكتوراه وقد نشرت عام 1987 وتم الاحتفاء بها نقديا على نطاق واسع وحظي هارلاند من جرائها بمقعد أكاديمي في احدى الجامعات البريطانية لعشر سنوات.
قضى هارلاند جانبا من حياته شاعر ومغنيا وجواب آفاق وكاتب مسلسلات من الخيال العلمي قبل أن يعود إلى الحياة الرصينة في رحاب العمل الأكاديمي بفضل كتابه هذا "البنيوية الفوقية".

للوصول الى الكتاب يمكن اتباع الرابط التالي:
https://www.amazon.com/Superstructuralism-Richard-Harland-dp-0415606888/dp/0415606888/ref=mt_paperback?_encoding=UTF8&me=&qid=

لقراءة الكتاب مجانا بالانكليزية:
https://www.academia.edu/26099420/Richard_Harland_Superstructuralism_The_Philosophy_of_Structuralism_and_Post-Structuralism_._Reviewed_by








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ربنا يرحمك يا أرابيسك .. لقطات خاصة للفنان صلاح السعدنى قبل


.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف




.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81