الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فوكو نيتشويا

الطيب عبد السلام
باحث و إعلامي

(Altaib Abdsalam)

2019 / 8 / 3
مواضيع وابحاث سياسية


افضل عين نبصر بها قطرة الغيم هي الغيمة نفسها، لهذه القطرة الهابطة من السماء كامل حكاية الغيم، تماما كما تفعل الكواكب و النجوم بوصفها الوثيقة المكتوبه لكامل المادة المهولة المنتشره في الكون، هذا الإستدلال هو اوضح الدروب لفهم الظواهر بوصفها جزاء من الإمتداد، بوصفها "اللمحة الخاطفة التي قالت كل شئ و لم تقله".
اللحظة المعرفية التي انتجت فوكو و مشروعه هي لحظة إستبصار الروح الاوربية لإخفاق "احلامها الرسالية" التي حملتها لمجتمعات افريقيا و اسيا المتمثلة في الحداثة مشروعا و في الإستعمار تطبيقا.
بدأت الروح الاوربية في التزحزح عن انا ديكارت و مركزية الفاعل و المنفعل إلى رؤية نفسها في مرايا الأخرين و في اقوال الأخرين.
يومها وصلت "الحداثة الاوربية" بوابتها المغلقة حينما تصيرت الحداثة مؤسسات قضائية و تعليمية تدعي تنزيل تلك الحداثة تماما كما كانت تفعل الكنيسة في تنزيلها للإنجيل.
حينما تحولت إلى إستعباد الشعوب و أستعمارها، و حينما تحولت بشارات كانط بالسلام العالمي إلى حربين عالميتين.
كلها مؤشرات حتمت حدوث تغيير في أبستيمة العصر و فحص نقدي لعقل الحداثة نفسه.
فهم فوكو كل ذلك، فهم رغبة السلطة، فهم "إرادة القوة" و هي تتمظهر في مقولات "حداثية" و في "مؤسسات رسمية"، فهمها و اراد الحياة مع "تلك القوة نفسها" بدلا عن الإقتناع بكتابة اوراق "علمية" جوهرها تمجيد لسلطة الحقيقة الحداثية نفسها و الإرتقاء في إكليروسها، اراد المشي معها جمبا إلى جنب لا "تحت ظلالها"، فسعى إلى تقديم تعرية تاريخية لمؤسساتها العلاجية و العقابية.
اهمية هاتين المؤسستين تنبعان من كونهما المؤسستين اللتان تتمفصل فيهما إرادة الحقيقة ب إلاحرى إرادة المشروعية التي تبرر لتلك السلطة إنطلاقة يدها و إقصاء كل من لا يوافق عليها إما عبر النفي المعياري من فضاء الإنسانية نفسه كما يحدث للمجانين او النفي القانوني في السجون كما يحدث للمجرمين.
هناك عاش فوكو و هناك أفتتن بحوار السلطة الطويل مع واقعها و مع نفسها، تتبعها من دواليب التعذيب و الحرق و الصلب قبل الثورة الفرنسية و بعد الثورة الفرنسية في المقاصل و التقعيد على الخوازيق وصولا إلى السجون في مرحلة "الإصلاح"، وصولا إلى تطور تلك السجون نفسها من مؤسسات للتعذيب و العقاب إلى كونها مؤسسات للتأديب و الإصلاح.
غير أنه و إن كانت هذه المؤسسات عقابية او إصلاحية فغرضها الحقيقي هو "الترويض و الإخضاع"، متغيرة مع تغير الظرف الإجتماعي و الإقتصادي و نظرة السلطة إلى نفسها، مطلقة إلاهية في زمن فرنسا الكاثوليكية حين يكون الملك مالكا حق الرب نفسه في الإماته و الإحياء او في زمن الثورة الفرنسية بإعتبارها سلطة مستمده من "الشعب"، و الشعب من تراب و ماء قابل للتهذيب و الإصلاح.
اقام فوكو تلك "الشرفة النقدية" المطلة على مؤسسات السلطة من جامعات و مستشفيات و احزاب و منظمات و جماعات حقوقية او روحية.
منفلتا و بتألق من الوقوع ضحية تأليه المؤسسة بوصفها "صاحبة الحق النهائي".
صاحب هذا الإنفلات الفوكوي إنفلات أخر و مهم لجاك دريدا تجلى في تفكيكيته التي تفصل المعنى عن لفظه و تطلق سراحه من كونه إنطباق مع الصفات و الالفاظ إلى كونه العلاقة الحية بين الصفات و الألفاظ، إلى كونه المتداول لا المقال، إلى كونه القادم لا الذي اتى، معنى إنفلت من لفظة مقدسة، من لفظة انوية مغلقة على نفسها إلى كونه فضاء قائم بين الكلمات و محيط بها في آن.
كل هذه التأملات الفلسفية تتألق في مقولات فيزيائية جديدة بإعتبار ان الفيزياء هي فلسفة الطبيعه او المادة، مقولات اعادت الشك إلى التجربة العلمية، شك بدد اي إحتمالية للتحقق النهائي من اي قانون فيزيائي يصف و بإحكام تصرفات المادة، فصار المجرب جزاء من التجربة نفسها و المبصر مُبصراً هو ايضا في مرآة يبصر فيها إبصاره لإبصاره، عين ترى المرآة فترى نفسها في المرآة تبصرها هي الأخرى،او كما قال محمود درويش :
يرنو إلى مرآته فيرى غريبا مثله يرنو إليه.
لم تعد المؤسسة في نظر فوكو هي السلطة او تجليها النهائي بل يرى أنها محض قناع لها تخفي خلفه إرادتها الحية المستمره في التعبير عن نفسها و ممارسة وجودها.
و لم تعد المفردة في نظر دريدا هي بيت المعنى بل أثر للمعنى في رحلته الحية المستمره للظهور و ديمومة ذلك الظهور.
و لم تعد القوانين الفيزيائية قانونا يحكم المادة و يعلو فوقها بل إعترف و من قلب معمله أنه لا يمتلك كامل الوصف لها، بل أنه لحظة تعريف للحظات ظهورها الا متناهية.
في هذا الأفق من خروج اوروبا من مسيحيتها الانوارية الحداثية الإستشراقية الإستعمارية، إستعمار طبق على الداخل بإسم "مؤسسات الدولة" و إستعمار طبق على الخارج بإسم التحديث و خطوط السكك الحديد.
في هذا الأفق تألق فوكو و تألق دريدا في كونهما اعادا الحيوية للفكر ليعمل خارج المؤسسات التي تأسره و تجعله تابعا لإرادة سلطتها و تمكنها.
عائدين و بتواضع إلى الشمس النيتشوية التي فندت باكرا هذا العقل الاوروبي الكسول الذي اراد ان يبحث عن السلام و السكون مع دينميكة الطبيعة و إنفلاتها و لو كان ذلك الأمر على حساب نفسه و جعله مدجنا لتصورات باردة و مريحة.
صاحب المطرقة ذهب بمطرقته إلى مؤسسات الأخلاق و التعليم و دكها لا ضدا على التحضر بل إنتصارا لحرية الفكرة و حيويته في كونه قادرُ على تأرخة و أنسنة كل تلك المقولات العليا عبر منهجه في التحقيب الأبيستيمولوجي للأخلاق و المعرفة "العلمية" نفسها او ما اسماه ب "الجينالوجيا".
تنظير إلتقط فوكو قفازتيه فأشتغل على مؤسسات إنتاج الصواب و القيم العليا نفسها واصفا ظرفيتها البشرية و التراب الذي شيدت منه.
بهذا المعنى ففوكو انجز التصور النيتشوي في زمانية تلك الأخلاق و القيم العليا عبر نفاذه إلى مؤسسات تنزيلها من جهة و فرض تلك المؤسسات لها من جهة أخرى بوصفها قيما عليا لا يأتيها الباطل من يديها ولا خلفها.
عامدا لتأويل تصورات نيتشه في جعل الفكر مشاركا للطبيعة في حياتها الدائمة و تجددها الذي لا ينفك يتجدد، صابا مع النهر في نهر جديد و صيرورة أخرى.
مريدا للفكر أن لا يقنع بتصيره مقولة علمية او مؤسسة إدارية او لفظة نهائية، مريدا له أن يلتحق بمنبعه الذي لا ينضب و لا تهداء إندفاعته متقمصا كل شئ و ساخرا من كل تقمص.
بهذا المعنى فنحن إزاء مقترح شاعري للتعبير بلغة جديدة، لغة لا تملي علينا حقائقها بل لغة تتألق في ليل المعنى و قوة خفائه، تتوهج بالضوء و الحركة، تتحرر من وزر تحملها للقول كله لتكون اثرا لمرور المعنى و الطاقة، خفيفة في سماء الفهم موزعة مرادها على ظلام التأمل حولها، مؤتلفة كعناقيد النجوم و هي تتحرر من اي ديمومة ذاتيه كونها ظهور متألق لإندفاعة الحياة التي تعيد تشكيل كل شئ كل لحظة، خارجة من كونها نهاية الحياة إلى كونها ملتحقة بديمومة الحياة في التجدد، مريئة بوجه ابديتها في ملامح فناءتها، معفية نفسها من الإجابة ملتحقة بالسؤال نفسه و مضيئة لمن سيأتي بعدها اثرا غنائيا و جرسا.. حرة حين تنسى.
حتى لا نقول النهر.. و ننسى النهر كما قال هايدغر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تنشر أسلحة إضافية تحسبا للهجوم على رفح الفلسطينية


.. مندوب إسرائيل بمجلس الأمن: بحث عضوية فلسطين الكاملة بالمجلس




.. إيران تحذر إسرائيل من استهداف المنشآت النووية وتؤكد أنها ستر


.. المنشآتُ النووية الإيرانية التي تعتبرها إسرائيل تهديدا وُجود




.. كأنه زلزال.. دمار كبير خلفه الاحتلال بعد انسحابه من مخيم الن