الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ياسوجيرو أوزو.. فن التثبيت

محمد الفقي
محمد الفقي (1970) كاتب عربي من مصر.

(Mohamed Elfeki)

2019 / 8 / 3
الادب والفن


لم يشهد تاريخ السينما من رغب في تبديل قواعد النحو السينمائي، وعمل طيلة حياته مخلصاً لهذا الهدف، أكثر من المخرج الياباني الكبير ياسوجيرو أوزو (طوكيو: 12 ديسمبر 1903- طوكيو: 12 ديسمبر 1963)، الذي أصر على أسلبة أفلامه مؤمناً بقيم الثبات، والتكرار، والبساطة (بساطة النحت العظيم وليست الضحالة ولا الفقر البصري)، وظل هذا الإيمان ثابتاً لا يتزعزع طوال رحلة عمله التي بلغت 35 عاماً، أنجز خلالها 35 فيلماً روائياً طويلاً.

خلال حياته المهنية بطولها وعرضها، لم يصور أوزو إلا بعدسة مقاس 50 مم فقط. هذه ليست مبالغة، إنها تأكيد حرفي، لا توجد لقطة واحدة في أي من أفلام أوزو إلا وتم التقاطها بعدسة الـ 50 مم. لم يكن أوزو يرى العالم إلا من خلال الـ 50 مم (أقرب العدسات لحجم الرؤية لعين الإنسان)، وظل مصراً على الاقتصار على استخدام الـ 50 حتى بعد دخول الصوت، وحتى بعد دخول الألوان.

لا يقتصر الأمر على تثبت حجم الرؤية، لإن الرجل أصر كذلك على تثبيت المنظور ووجهة النظر، فقد ظل طيلة حياته المهنية -والتأكيد هنا حرفي أيضاً- يستخدم حاملين فقط للكاميرا: حامل مقاس 30 سم للقطات البعيدة، وحامل مقاس 90 سم للقريبة، وهو ما يجعلك تشعر دائماً في أفلامه بأن وجهة نظر الكاميرا (أي وجهة نظر المُشاهد) هي ما يطلق عليه السينمائيون "وجهة نظر الدودة" (أي حين يكون ارتفاع الكاميرا أقرب ما يكون إلى سطح الأرض)، وهو الأمر الذي يعطي -من ناحية التفسير الكلاسيكي- أهمية مضاعفة للشخصيات المُصوَّرة، وكأن المشاهد جالس القرفصاء على الأرض، في جلسة تقليدية يابانية لشرب الشاي؛ جلسة تأملية، جلسة صامتة، يلاحظ فيها ويراقب ويتأمل للوصول إلى المعنى من خلال البساطة الصارمة.

"أجرومية الثبات" هذه، إن جاز أن نطلق هذا التعبير على طريقة أوزو التقنية، شملت أيضاً تحريم تحريك الكاميرا تحريماً مطلقاً؛ فالكاميرا عند أوزو ثابتة ثباتاً مقدساً، لا تتحرك ولا أهون حركة، ولا حتى على الحامل الثابت، ليس هناك لا بان pan (يمين-يسار)، ولا تلت tilt (أعلى-أسفل)، ولا ترافيلنج traveling (وضع الكاميرا على عربة متحركةdolly ) مطلقاً في سينما أوزو، هناك إرادة جبارة ستصر خلال 35 عاماً من العمل السينمائي على جماليات اللقطة الثابتة، جماليات الفوتوغرافيا.

حرص أوزو على جماليات اللقطة الثابتة، كان يجعله ينفق وقتاً طويلاً جداً في ضبط كادر كل لقطة، وبعد اقتناعه النهائي بحدود الكادر الخارجية، وتكوينات عناصره الداخلية، وعلاقات الكتلة والفراغ، وتوزيعات الظل والنور، كان لا يسمح بأي تعديل مهما كان، ولا لأي سبب كان، على ما استقر عليه وأطمأن له، للدرجة التى كان العاملون معه يحرصون على الابتعاد أكبر قدر ممكن عن الكاميرا بعد ضبطها، خوفاً من أن يتسبب أحدهم في تحريك الكاميرا أو الاصطدام بها، ومن ثم تعريض نفسه لغضب "الملك"؛ هكذا كانوا يطلقون على أوزو في الاستديو.

بالمناسبة، أوزو لا يخرج مطلقاً من الاستديو، ولا حتى للتصوير الخارجي، فقط باستثناء حالة وحيدة؛ عندما يكون لديه تصوير مشهد لقطار (وأفلام أوزو دائماً ما تحوي لقطة على الأقل لقطار)، وكان في أوائل حياته السينمائية قد حاول المستحيل أن يصمم نماذج مصغرة لقطارات، إلا أن النتيجة النهائية على الشاشة بعد الاختبارات لم تقنعه، فكسر حالة تحريم التصوير خارج الاستديو للضرورة مستثنياً تصوير القطارات، والقطارات فقط.

"أجرومية الثبات" عند أوزو تشمل أيضاً البشر، فطاقم ممثليه وممثلاته ثابت لا يتغير، والتقنيون الذي يعملون معه لا يتبدلون إلا بالموت، وعندما توفي مدير تصويره الذي عمل معه لعقدين من الزمن، اضطر أوزو إلى تكليف مساعد المتوفي بأن يحل محل أستاذه في العمل، ومن الطريف أن الممثل الذي كان يقوم بشخصية الأب العجوز قد بدأ لعب هذا الدور عندما كان في أواخر العشرينات من عمره في أفلام أوزو الأولى، واستمر يلعب نفس الدور حتى أصبح عمره وعمر الشخصية واحد.

تمتد "أجرومية الثبات والتكرار" في عالم أوزو أيضاً إلى الموضوعات، والموتيفات، والديكورات، فكل أفلام أوزو هي تنويعات -ليست متباينة كثيراً- لثيمة واحدة هي: "علاقة الآباء بالأبناء في شدها وجذبها"؛ محاولات الابناء للاستقلال عن سلطة الآباء، وخيبات أمل الآباء في أبنائهم نتيجة لذلك، وسيكون علينا أن نحبط القارئ الذي يتوقع أن يكون هذا الموضوع الأثير والوحيد لدى أوزو يمثل هماً لديه نتيجة تجربة إنسانية خاصة به في حياته الشخصية، بأن نقول أن هذا الموضوع في الحقيقة لا علاقة له بأوزو على الإطلاق، على النحو الذي يمكن معه القول بأن أوزو قد اختار أبعد موضوع ممكن عن حياته الشخصية ليعبر عنه في جميع أفلامه، فأوزو لم ينجب، ولم يتزوج، فضلاً عن أن علاقته بأبويه –وخصوصاً أمه- كانت شديدة الحميمية والمتانة.

لا أظن أن أحداً من سينمائي العالم قد شاهد أعمال أوزو دون أن يتأثر بها، فتأثيراته تمتد لتشمل الجميع، و"أجرومية الثبات والتكرار" لن يسلم منها أحد، وإن ظهرت تأثيراته أوضح ما تظهر في أعمال المخرج الكبير تار بيلا المجري، وآكي كورسماكي الفنلندي، وتساي منج ليانج التايواني: تثبيت طاقم الممثلين، وتكرار الموضوعات، وتصلب السينما الذي يشبه أن يكون تصلب الموت، دون أن يعني ذلك فقراً بصرياً في جماليات الصورة، بل على العكس تماماً.

لكن على النقيض من جميع من تأثر به لاحقاً من سينمائي العالم، فالبنسبة لأوزو، من شبه المستحيل أن نعثر على علاقات متوازية بين أفلامه وبين حياته الشخصية؛ فالجامعة، والدواوين، والحياة الزوجية على سبيل المثال – وهي موتيفات ثابتة في كل أفلامه- هي أشياء لم يخبرها أوزو بنفسه في حياته الخاصة. ومن ناحية أخرى، فإن الأشياء الحقيقية التي خبرها في الحياة –حياة الجيش والجندية، والحروب التي عاشها لفترة طويلة من حياته، على سبيل المثال- لا تظهر أبداً في أفلامه، ولا حتى حياته في الريف مع أمه التي لازمها طيلة حياته.

وهو ما يجعلنا نستنتج بأن أوزو كان يفهم السينما على أنها نوع من الفن يختلف كثيراً عما يفهمه أنصار "تيار الوعي" مثلاً؛ فخياله وإلهامه لا يعملان إلا من خارج حياته الشخصية، لا يعملان إلا من خلال عقله وتأملاته، لا تجاربه الخاصة، وهو ما يجعل أفلامه قطع فنية تبتعد في أساليبها وتقنياتها عن الواقعية الاجتماعية حتى وإن كانت موضوعاتها تتلامس مع بعض موضوعات الواقعية الجديدة؛ إن سينما إوزو هي في الحقيقة شيء ما أكبر من الواقع.

"أجرومية الثبات والتكرار" لدى أوزو تشمل أيضاً الاقتراف المستمر والمتعمد لأحد المحرمات في السينما الكلاسيكية؛ ألا وهو ما يسميه السينمائيون (كسر الآكس axes ): أي انتهاك حرمة قاعدة الحفاظ على أن تظل الكاميرا في محيط 180 درجة لا تغادرها، لأن الخروج عن هذه الحدود يؤدي إلى ارتباكات لدى المشاهد فيما يتعلق بالاتجاهات (يمين-يسار)، فالممثل الذي يكون في يمين الكادر، ينتقل بقدرة قادر، ليصبح في يسار الكادر في اللقطة التالية إذا لم يتم الحفاظ على قاعدة الـ 180 درجة؛ التي تحافظ على زوايا اللقطات ضمن قطر نصف دائرة، يتوحد فيها المنظور، واتجاهات الحركة، والعلاقات النسبية بين الموضوعات.

لكن أوزو كان أول من ينتهك هذه الحرمة، وعن وعي وثبات وتصميم، رغم أنه كان مغرماً بسينما هوليوود ويحرص على مشاهدتها باستمرار، لكنك لن تجد فيلماً لأوزو إلا والكاميرا تتحرك فيه كاسرة حاجز الـ 180 درجة من لقطة لأخرى، فتتبدل أوضاع الممثلين بالنسبة للمشاهد، وبالنسبة لبعضهم البعض، من اليمين إلى اليسار، وبالعكس، طوال الفيلم.

إن هذا الإصرار الواعي على كسر "وحدة الرؤية"، والذي يُعرض صاحبه لاستخفاف واستهزاء زملاءه السينمائيين –خصوصاً في وقت مبكر من تاريخ السينما وغير مسبوق-، لابد وأن يكون له أساس ما فلسفي في رؤية الرجل للعالم. فربما لم يكن العالم بالنسبة لأوزو بالتماسك والتوحد الذي نظنه نحن، ربما كان يرى العالم "مكسور الآكس"، ويرى أن العلاقات بين البشر لا تخضع لقوانين المنطق، ووجهات النظر للعالم وللبشر لا ينبغي أن تكون ذات اتجاه واحد.

من الخصائص المميزة أيضاً لسينما أوزو، خصيصة في منتهى الغرابة، ووجه الغرابة ليس في طبيعتها فقط بقدر ما في توقيت ابتكارها؛ فأن يتم ابتكار واستخدام هذا الأسلوب الغير معتاد في الدراما الكلاسيكة، ومنذ أوائل الثلاثينات من القرن الماضي، هو شيء مدهش في الحقيقة! هذه التقنية الدرامية يمكن أن نطلق عليها "تجاوز الحدث الدرامي بعد منحة أهمية حوارية"، ويمكن شرحها ببساطة في أنه من المعتاد في سينما أوزو أن يتحدث شخصان حديثاً طويلاً مفصلاً عن استعدادهما -مثلاً- للذهاب لمحطة القطار لاستقبال ضيف سيصل بعد قليل، ثم نفاجئ في المشهد التالي بالضيف في بيتهما يجلس ويتحدث إليهما، ودون أن نشاهد لا وصوله بالقطار، ولا استقبال المضيفين له في المحطة، ولا رحلة عودتهم جميعاً إلى البيت، كل ذلك يتم تجاوزه عن عمد، يتم حذفه من الدراما، وكأنه غير مهم عند أوزو، لأنه غير حيوي، وننتقل فوراً إلى ما هو حيوي؛ أي جلوس الضيف إلى مضيفيه في البيت مباشرة.

وهو ما يعني أن أوزو كان يعمل ضد تكوين حبكة قوية للقصة الفيلمية –كما هو الحال في أساليب سينما هوليوود الكلاسيكية- في مقابل ابتكاره لأسلوب تراكم سلسلة من اللحظات الإنسانية التي تبدو متشظية وغير مترابطة ترابطاً متتابعاً مع بعضها البعض. هو أسلوب يحاول فيه أن يلتقط الأحداث البينية التي تقع بين الشخصيات وبعضها البعض، أكثر من الأحداث الدرامية التي تقع للشخصيات نفسها، (على سبيل المثال: في فيلم (أواخر الخريف، 1960) عندما يقطع من الشخصية الرئيسية للفيلم "أكيكو" التي تشعر بالوحدة في بيتها، ليركز على تفاصيل ديكور شقتها)، وهي المحاولة التي حاول القيام بها من قبل الأديب الأيرلندي العظيم جيمس جويس في عمله الأخير (فينيجانز ويك.)

وكأن أوزو معني بالوجود اليومي في هشاشته وتشظيه، ولاجدواه، ودائريته وعودته الدائمة، وهو أسلوب يجعل المرء يرى العالم من حوله بنظرة أكثر نقاءً وصفاءً، بعيداً عن أن يتم تشتيت الانتباه بأوهام التراكمية والأهداف الزائفة والسعي المحموم، إنها محاولة لتسجيل الزمن في نقاءه؛ شرائح من الزمن النقي. إنه أسلوب من يراقب الزمن، ولكنه مراقب مرهق، مسترخي، محبط، يقترب من الموت كبطل ملحمي، واقترابه من الموت يجعله يلمس ويكتشف كل الأوجه الأكثر حيوية في الحياة، ويستجيب على نحو نقي لجمال الطبيعة، ولمؤقتية الحياة، ولأسى انتظار الموت، وهو في المجمل تطوير لأسلوب الحساسية تجاه الأشياء على طريقة الفلسفة اليابانية التي شاعت في العشرينات من القرن الماضي؛ أي الأحساس بالعامل الموضوعي الخارجي بطريقة مباشرة وبدون وسيط (كوسيط اللغة مثلاً)؛ كمثل الإحساس بتلقي أشعة الشمس مباشرة على الوجه.

فعلى عكس ما كانت تحرص عليه هوليوود، فقد طور أوزو في فترة مبكرة من حياته ما يمكن لنا أن نطلق عليه "تشظية الحبكة"، وبرع فيها وأتقنها في أفلامه الأخيرة خاصة؛ فأحد أروع أفلام أوزو مثلاً (أوائل الصيف، 1951) هو فيلم –ككل أفلامه- عن أشخاص عاديين، ويبدو لنا من الوهلة الأولى أن بطلته هي الشابة التي تتمرد على رغبات أهلها وتختار لنفسها بنفسها من ترغبه زوجاً لها، إلا أن هذه الحبكة سرعان ما يتماس معها شيئاً فشيئاً قصص أخرى لتصل في النهاية إلى استعراض حيوات 19 شخصية، وهو أسلوب طالما مارسه أوزو بتوسيع حدود الحبكة الأولية البسيطة مستخدماً أسلوب الحذف الروائي، ليصبح ما يقود الفيلم من أوله لآخره ليس هو الحبكة بل استخدام أوزو للمكان والزمان والتغيير المستمر في إيقاع أحداث الفيلم.

ثبات الكاميرا، والعوامل البصرية الأخرى، والشخصيات، هذا الإصرار على "اللاحركة" ومحاكاة تصلب الموت، هو ما يمكن ربطه بمقولة لأوزو عن أن: "الحياة لا تقدم شيئاً حقيقياً للإنسان." ومن المهم هنا أن نسترجع مقولة أخرى لأوزو توضح فلسفته في الحياة والفن، والمقولة كانت بخصوص فيلمه الأطول (أوائل الربيع، 1956)، قال: "أردت هنا أن أرسم صورة لرجل في وظيفة مرموقة، تعلم وتخرج من الجامعة، ثم أصبح عضواً فاعلاً في المجتمع، وحاز على وظيفة جيدة، لكن سعادته تتبخر وتتلاشى تدريجياً، ويدرك في النهاية أنه بالرغم من أنه قد عمل بجد لسنين طويلة، إلا أنه في الحقيقة لم يحقق شيئاً".

ومن الغريب أنه في أثناء خدمته العسكرية أثناء احتلال الجيش الياباني للصين، طلب أوزو من أحد الرهبان الصينيين أن يرسم له الحرف الصيني الذي يرمز إلى "اللاشيء" (أو الفراغ أو العدم: Mu)، وقد توفي أوزو في يوم عيد ميلاده الستين بعد معاناة قاسية مع السرطان، وعلى شاهد قبره في معبد إنجاكو هناك الحرف (Mu) الذي رسمه له الراهب الصيني، والذي احتفظ أوزو به طيلة حياته.

الملاحظ في كل سينما أوزو كذلك، هو تركيزه على الفراغ والعدم الذي يعقب حركة الشخصيات -وهو ما يتم حذفه في أي مونتاج لفيلم كلاسيكي، لأنه زائد عن الحاجة ولا معنى درامي له-، وكأن ما هو مهم بالنسبة لأوزو ليست هي الأحداث وإنما الفراغ الذي يعقبها، وكأن الحدث الحقيقي والأكبر عنده يحدث عندما لا يحدث شيء؛ إنه العدم، فلا شيء يبقى في سينما أوزو إلا الزمن في قوته واستبداده وامتداده.

امتدادات الزمن ملحوظة مثلاً في لقطات الردهات الخاوية التي يترك أوزو الكاميرا تصورها حتى بعد عبور الشخصيات لها، فاللحظات التي تبقاها الردهة خالية بعد العبور تؤكد على معنى الفراغ الحاضر من ناحية، وتمنحه ثقلاً هائلاً من ناحية أخرى، وهو ما يماثل وجهة نظر أوزو عن العالم، الذي هو مكان لحضور واختفاء الإنسان، مكان لاستخدام الإنسان للأدوات، والإعجاب بها، لكن ما يبقى في الحقيقة هو الفراغ، وكأن العنصر الغائب عند الآخرين هو البطل الحاضر والدائم عند أوزو؛ الفراغ الذي تعبره الكائنات، والمليء بالإمكانيات والآمال الزائفة، والذي يتم شغله ثم هجره، إنه العالم كمكان ترانزيت يتم عبوره، ويتم العبور من خلال العتبة (العتبة: داخل الخارج، أو خارج الداخل)، العتبة الدائمة، عتبة الفراغ؛ ولا يملك المرء هنا إلا أن يتذكر الأهمية الكبرى التي كان يمنحها الأديب الروسي الكبير دوستويفسكي في أدبه هو أيضاً للعتبات، والأحداث المفصلية والحيوية في رواياته التي كانت تحدث على العتبات، للدرجة التي يمكن معها وصف أدبه بأنه "أدب العتبات".

طريقة المحادثات بين الشخصيات عند أوزو هي طريقة لا يتراكم فيها المعنى، بل تبدو وكأنها بلا معنى. محادثات زائفة وكأن الأشخاص يقتاتون الكلمات ولا يعنونها. من ناحية مقابلة، فإنه عند الوصول إلى حالة من التفاهم أو الحل أو التوافق، لا يتم التعبير عن ذلك بالحوار أو الكلام، بل بالصمت فقط، مثلما تصمت الأم في نهاية فيلم (زهرة الربيع، 1958) عندما يصل الأب وابنته إلى حالة من التوافق. إن الصمت عند أوزو يشكل في الحقيقة أساس العلاقات الحقيقية بين الشخصيات، وأفلامه كلها يستهلكها الصمت ويلتهمها بثبات مشاهدها، وتشكيلية كادراتها المعزولة، والتركيز على الفراغ الأبدي، وتتشكل جمالياتها وحركتها وتعبيريتها من الغياب والسكون والفضاءات الخالية. بل إن أوزو -في الحقيقة- يبدو وكأنه يطبق ما سينصح به المخرج الروسي العظيم أندريه تاركوفسكي ممثليه لاحقاً بأن يعملوا على الإخفاء أكثر من الإظهار، بأن يتعاملوا مع ما يحملونه على أنه سر لا ينبغي البوح به، وهو عكس أسلوب كوميديات وميلودرامات السينما الكلاسيكية أوالتجارية.

ومن المثير كذلك ملاحظة تكرار فصول السنة الأربعة كعنواين محببة لدى أوزو، والذي كان يؤمن بدورات الحياة وبالعود الدائم، تماماً كما تتكرر دورات الولادة والموت، والانتقال من الطفولة إلى النضج، ربما كرموز لخبرة التحولات البشرية التي تدور في دورات متكررة، وهو ما تركز عليه عنواين أفلامه التي تشير إلى التغير في فصول السنة الأربعة: (أواخر الربيع، أوائل الخريف، نهاية صيف، أوائل الربيع، أوائل الصيف، بعد ظهيرة يوم خريفي، أواخر الخريف... إلخ)، فهي جميعاً فصول تعود، لكنها لا تخرج عن كونها أربعة حالات لا أكثر، كعناصر الطبيعة الأربعة: الماء والنار والريح والتربة؛ الأبطال الحقيقيون في كل أفلام تاركوفسكي لاحقاً.

قال أوزو ذات مرة: "الأفلام التي لها حبكة واضحة تضجرني، وأشعر أن الفيلم لا يكون جيداً إذا كان به قدر كبير من الدراما"، ولذلك فالأحداث الدرامية في سينما أوزو ليس لها ثقل كبير، ولا هي من النوع الساخن، إنها لا تعرض سوى شخصيات تقوم بأفعال يومية روتينية معتادة معادة؛ تناول الطعام، محادثات في شؤون يومية صغيرة، المشي في غرف البيت، تناول الكحوليات، اجتماعات العزاء، اجتماعات الأصدقاء القدامى.

ومن المثير مقارنة شخصيات أوزو الكبيرة في السن، خصوصاً من موظفي المكاتب، والذين يبدون –رغم استمرار ممارستهم لوظائفهم- وكأنهم قد اعتزلوا وتقاعدوا واستسلموا لتأمل الحياة، بشخصيات موظفي الدواوين ورجال السلطة عند كافكا. بل أن المثير هنا أيضاً هو عقد مقارنة سريعة بين عالمي أوزو وفرانتس كافكا، خصوصاً فيما يتعلق بالعائلة، وموظفي الدواوين لدى كل منهما.

فعند كل من كافكا وأوزو، سنجد أن موظفي المكاتب (رمز السلطة عند كافكا) مهما تكن مكانتهم عالية، ومهما يكن نفوذهم قوياً، إلا أنهم يبدون دائماً مرهقين، متهدمين، كأنهم خربين من الداخل، حتى وهم في كامل قوتهم. ربما لهذا السبب تبدو أعناق أصحاب السلطة عند كافكا مغروسة عميقاً في صدورهم حتى أن المرء بالكاد يستطيع رؤية أعينهم؛ كما هو الحال في صورة آمر القلعة، أو كلِم عندما يكون بمفرده في رواية (القصر). شخصيات موظفي المكاتب عند أوزو أيضاً تبدو وكأنها منحدرة من سلالة الجبار أطلس الذي يسند العالم بكتفيه، لكن الإرهاق الذي تبدو عليه هذه الشخصيات ليس بسبب أن العالم هو ما يحملونه، بالعكس، فحتى أكثر الأشياء اعتيادية وروتينية وابتذالاً لها وطأتها وثقلها الخاص أيضاً.

هناك ملمح آخر للتشابه بين موظفي المكاتب عند أوزو وعند كافكا؛ أن الجو الذي يسود المكاتب لدى كل منهما تغلفه البرودة والصمت، والحركة في كل منهما بطيئة بطئاً مطرداً –إن لم تكن ثابتة-، وكأن الموظفين قد بعثوا من أعماق الوهن. وهناك الكثير أيضاً الذي يشير إلى أن عالم الموظفين لدى كافكا وأوزو هو نفسه عالم الآباء؛ الذي يتشكل من الفتور والوهن والبطء. لكن الخلاف الملحوظ بين كافكا وبين أوزو؛ هو أنه بينما يبدو عند كافكا أن الآباء (والموظفين) هم الذين يحيون على حساب الأبناء (ليس بالمعنى الاقتصادي فقط، ولكن بالمعنى الوجودي أيضاً)، وكأنهم طفيليات هائلة الحجم يعتلون رؤوس أبناءهم، ينهبون قوتهم وينخرون في حق الأبناء في الوجود، وهم أيضاً الذين يوجهون الاتهامات الظالمة إلى الأبناء، إلا أن الأمر يبدو معكوساً لدى أوزو، فالأبناء هنا هم الطفيليات التي تحيا على حساب الآباء-الموظفين، وهم الذين يظلمون الآباء، لا لشيء إلا لأنهم قد قاموا باقتراف "خطيئة" إنجابهم، وكأن الإنجاب لدى أوزو هو الخطيئة الأولى التي تجعل من الأباء أوغاداً وأشراراً يستحقون العقاب.

ليس هذا فقط، لكن يبدو أن كل من كافكا وأوزو كانا يتشاركان في رؤيتهما عن العالم؛ فالإحساس لدى أوزو بالعدم، واللاجدوى، والحياة التي لا تقدم شيئاً حقيقياً للإنسان، والتي جعلت منه يوصي بأن يعلو قبره الحرف الصيني المعبر عن العدم واللاشيء (Mu)، نجد شبيهاً له في أعمال كافكا، ويتوافق معه كثيراً المحادثة التي رواها ماكس برود (صديق كافكا وناشر أعماله بعد وفاته)، والتي قال فيها: "أتذكر حديثاً مع كافكا كان قد بدأ بشؤون أوروبا الحالية وانحدار الجنس البشري. قال كافكا في نهاية الحديث: إننا أفكار عدمية خطرت على بال الرب!". ويتابع ماكس برود: "في البداية، خطر على بالي أن كافكا يقصد الأفكار الغنوصية عن الحياة التي تصف العالم بأنه تجلي للشر الذي يكمن في القوة التي خلقت العالم، لكن كافكا قال سريعاً: لا، لا، ما أقصده هو أن عالمنا هذا هو مجرد واحد من تلك الأيام المزعجة التي تمر بالرب. فقلت له: إذن هناك أمل خارج كل تجليات هذا العالم المعروف لنا؟! فابتسم وقال: هناك وفرة من الأمل، مقدار لا يُحصى ولا ينضب من الأمل، ولكن ليس بالنسبة لنا!

هذه الكلمات، رغم قسوتها، تقدم جسراً لفهم شخصيات كل من كافكا وأوزو. "الأمل الموجود ولكن ليس لنا" لجريجوري سامسا الذي يستيقظ من النوم فيجد نفسه وقد تحول إلى حشرة في منزل أبويه وليس في مكان آخر، و "الأمل الموجود ولكن ليس لنا" لشخصيات أوزو التي تلطو في أركان الحجرات جالسة على الأرض، وكأن كل طموحها أن تستعمل أقل قدر ممكن من المساحة، وأقصى آمالها أن تصل هذه المساحة إلى الصفر.

وربما لهذا أيضاً تكاد الموسيقى والغناء أن تنتفي من أعمال كل منهما، فالموسيقى بالنسبة لكافكا –كما لأوزو- هي تعبير عن الأمل، عن السعادة الضائعة التي لن يتم أبداً استعادتها؛ تلك السعادة التي حاول كافكا التعبير عنها على نحو شديد الغرابة في الفصل الأخير من روايته الناقصة والمبتسرة (أمريكا.)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه


.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما




.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة


.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير




.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع