الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الكردي مؤرّخاً

ابراهيم محمود

2006 / 5 / 12
الادب والفن


إلى أي درجة يستطيع الكردي كتابة تاريخه، وتاريخه غير متوافر بمواده، أو ما يعتبر وثائق داعمة لتدوينه التاريخَ الخاص به، وأي موضوعية تكون حاضرة في ذهنه، لحظة تناوله التاريخ، وهو الممزَّق فيه وبه كذلك؟
لا أزعم أن ما أقوم به هنا، هو محاولة بناء تصور نظري متكامل عن التاريخ في مفهومه الكردي، وما يمكن للكردي أن يقوم به، بصفته درساً في التاريخ عموماً وفي التاريخ الكردي الذي يتطلب الكثير ليكتسب صفته المفهومية خصوصاً، إنما هي محاولة أولية، مشفوعة بإرادة نقدية تتوخى كيفية التحرك داخل تاريخ، من الصعب تحديد أرضيته واتجاهاته، لما يكتنفه من عوائق متعددة الدلالات: سياسياً واجتماعياً ونفسياً وثقافياً.
ومفهوم الكيفية هنا، يكون خاصاً بي، وليس باعتباره بوصلة تحديد مسار تاريخ مكتشف، وفي الوقت نفسه، فإن الكيفية تلك تنبني في سياق علاقة مع عمل أعتبره تاريخياً، وإن كان التاريخ لاحقاً عليه، من خلال المحرّك الفكري لـه، وهو سياسي وذاتي بالمقابل، إنه هم مشروع، طالما يكتسب المقوّمات الرئيسة في ذلك.
العمل الذي أعنيه هو كتاب الدكتورعبدالباسط سيدا( المسألة الكردية في سورية" فصول منسية من معاناة مستمرة")، والذي صدر عن مطبعة( نينا) ، السويد، أبسالا، 2003، في قرابة 215 صفحة فعلية من القطع الوسط،، وهو الذي صدرت عنه ترجمة بالفرنسية حديثاً.
هو تاريخ ، لكنه تاريخ ينعطف على مفهوم يستند إليه، إنه مفهوم سياسي، كما هو الكردي في مجمل ما يُعرف به، الكردي الذي يقدَّم كائناً خارج التاريخ كفاعل سياسي، وككينونة جغرافية، وخارج تاريخه كونه منزاحاً خارج المفهومين بالإكراه: الجغرافي ممزَّقاً، والتاريخي ملفقَّاً من جهة الذين تحكموا به، ولعل الباحث( وهو مختص بالفلسفة)، ويكمل دراساته العليا الآن في التاريخ، في جامعة أبسالا- السويد راهناً، يدرك صدى العلاقة بين ما هو فلسفي الذي اختص به، وما هو تاريخي يريد التخصص فيه، انطلاقاً، مما هو متصوَّر من الثنائية اللافتة، حيث المتفلسف يتمعن في مفهومه نظرياً، وحيث المؤرخ يقدم الحدث الذي يتطلب ثقافة مفهومية دقيقة.
الكتاب كما هو مشار إليه في العنوان ذاته، يعرّف بمضمونه، ومنذ العبارة الأولى( المسألة السياسية) رغم أن القضية هي أعم وأشمل، وربما كان في ذهنه ذلك المفهوم الفلسفي الذي يعتبر المسألة من السؤال، والسؤال قضية مطروحة للنقاش، لتكون( الكردية) كصفة تجسيداً حياً لمفهوم معرَّض للتمثيل فيه، ويكون السؤال في الرواق الفلسفي ضمناً، استعادة لما كان، حيث تم التعتيم عليه، كما يكون التعريف( فصول منسية من معاناة مستمرة)، فالفصول محددة بنسبة معلومة، وصفة (المنسية) بدورها، تبدو من ناحية قرع جرس تاريخ عتّم عليه، ومواجهة مع الذين سعوا إلى ذلك، وهي عبارة، ربما، تتجاوز حقيقة الكلمة من ناحية أخرى ، كون ( منسية) تعني ما لم يُشر إليه، ما ليس مذكوراً وهو قائم في التاريخ، كما تقول حيثيات كتاب الباحث، رغم أن ثمة العديد من النقاط الخاصة بالكردي: حضوراً هامشياً، وصور تهميش معلومة ومطروقة، ولكن يبدو أن الأرضية التي انطلق منها، تدخل في إطار ما أراده، وبالنسبة لقارىء معين، ذاك الذي يستعين بالوثيقة، أو بالحدث المؤرشَف تماماً.
وأزعم من جهة أخرى، أن الصورة التي تتصدر الغلاف، وهي تمثل حمامه بيضاء توشك على النزول إلى اليابسة، في معمعان اللون الأزرق البحري أفقاً وماء لايبدو للعين صاخباً، تشير إلى حكاية قديمة، تخص الطوفان، وكيفية العثور على اليابسة، لتكون الحمامة بألفتها ودلالاتها إشارة إلى الأمل الوشيك التحقق، أي لسان حال رغبة إلى أن المعاناة الموسومة باتت وشيكة النهاية، أم أن ذلك تم عن طريق المصادفة؟
في المجمل وأنا أحاول تصفح كتاب الدكتور سيدا، ولو باقتضاب، محاولة أولية للتعريف به، وتقديمه للقارىء ( قارىء العربية هنا)، خصوصاً وأنه غير متوفر هنا، فإن أقصى ما أتمناه، هو كيفية تناول التاريخ بصفته أكثر من تاريخ( رداً على الذين يحاولون الإيحاء على أن المكتوب تاريخاً هو ما تم تدوينه وتسويقه فقط)، وأن الكردي الذي لطالما حورب في كينونته، ولا زال، ليس الآخر الذي مورس فيه إقصاء وإلغاء تاريخاً وجغرافياً، وإنما هو كائن إنسي من لحم ودم، وأنه لم يكن الطارىء على التاريخ، كما يريد الباحث التذكير بحقيقة ما يجب أن يقال.

الهم المحرّك للكتاب:
يظهر أن الذي شغل الباحث هو كيفية إعلام قارئه بما يكونه ككردي، وكمعني بتاريخه، وأن الهم هذا ليس حديث العهد( تعود فكرة تأليف هذا الكتاب إلى عقدين من السنين المنصرمة، بل وربما أكثر، وذلك نتيجة الإحساس المستمر بأهمية وجود مرجع أساسي يمكن العودة إليه من قبل قراء العربية الراغبين في الوقوف على جذور المشكلة الكردية وأبعادها في سوريا. ص 4).
هنا، يبدو الكتاب بمثابة الدليل التاريخي المختلف الذي يقود قارئه الموسوم، إلى أروقة تاريخ غير معهودة، أو غير معلَن عنها، لتصحيح مسار تاريخ، ولعله قدم في كتابه جملة المعلومات التي تهيء القارىء لتكوين فكرة عما هو مخاطَب به، حيث مورس أكثر من عنف أو تعتيم على الكردي جغرافية وتاريخاً، وانطلاقاً من وقائع وشواهد من جهة تشير إلى كيفية ممارسة هذا التنكيل به، ومن جهة ثانية تبرز التاريخ الذي كان حقيقة، وقد زحزح خارجاً.
لغة السياسي جلية بمفاعلها الدلالي أو خطابها القيمي بالمقابل، والباحث غير بعيد عن هذا الهم المعاش( إن الإمعان في سياسة الإضطهاد المزدوج المتبعة إزاء الشعب الكردي في سورية لن تؤدي إلا إلى المزيد من الاحتقان والتشاؤم وعدم الاستقرار على مستوى البلاد بأسرها،ص 6)، هذا القول يندرج في سياق الهم الذي يتلبسه، وكذلك الهم الذي يعنى به باعتباره باحثاً ومأخوذاً بتاريخ كان عليه ألا يكون هكذا.
ولكنه الهم الذي يحدد موقعه وكيفية العمل به، حيث يرتبط بـ( المنهج العلمي الذي يضع الظاهرة في سياقها التاريخي الاجتماعي ..ص 7)، كيف يتم التركيز على الكردي، كيف هو مفهوم كردستان، وكردستان سورية بالتحديد، وما يجب أن يكونه المفهوم الأصح، ومن خلال قرائن تاريخية، ومن خلال مفهوم سوريا بالمعنى القديم والحديث، وموقع كردستان كاسم جغرافية. ومن ثم استهداء الباحث بما هو واجب العمل به تالياً، والتفكير على أساسه( وأخيراً بقي أن أقول أن العمل المقدم يعاني من ثغرات كثيرة بعضها له خلفية موضوعية تتصل بعدم التمكن من الحصول على المادة البحثية المتوخاة في حين أن البعض الآخر يلامس الباحث نفسه وأدواته. ص 12).
هنا يكون الاحتكام إلى التاريخ، ويكون الباحث بالتالي متحركاً تحت مظلة التاريخ، وحكم قانونه المعرفي النسبي، وفي الوقت نفسه، مأخوذاً بحكمة المناقشة وفعالية التحاور.

مخطط الكتاب
قوام الكتاب فصول خمسة، وخاتمة توضح ما قام به الباحث ،وما يمكن أن يتم لاحقاً من استكمال المطروح وتعميقه، وما يمكن أن تأتي به المناقشة من توضيح رؤى جديدة ، وتوسيع أفق الكتاب بالذات، غير أن جملة الملاحق والوثائق، كما أزعم، تشكل كتاباً في كتاب، أو كتاباً مرفقاً بكتاب، فالملحقان مؤثران بدلالاتهما السياسية والاعتبارية، الأول يخص الحوار مع أخوة شركاء في التاريخ والجغرافيا، وهم السريان، وكيفية العمل في بناء تاريخ مشترك بعيداً عن المنغصات المؤذية للشعبين: السرياني- الكردي ضمناً، والثاني يخص أسماء الأسر الكردية الدمشقية، تأكيداً على تاريخ غير مشار إليه، أو غير مدقَّق فيه، والوثائق تشكل تاريخاً صاعداً حول كيفية النيل من الكردي واقعاً، ومن خلال نظام شمولي عروبي بعثي وسلطوي نافذ، بغية ممارسة التحكم بالكردي وتذريره إن جاز التعبير. ولعل الباحث أراد من خلال ما تقدم أن يدعم ما قاله سالفاً، إن على الصعيد الموضوعي أو القيمي الأخلاقي أو السياسي الاجتماعي، وكيف أن ما أُلحق بالكتاب يشدد على القيمة المعرفية للمثار في فصول الكتاب الموسومة.
في الفصل الأول( جريمة استعمارية ومأساة مستمرة)، ثمة تناول لكردستان وكيف تعرضت لتقسيم مضاعف، إذ بعد أن كانت مقسمة بين كل من تركيا ( العثمانلية وفارس)، بعد الحرب العالمية الأولى، وبتوجيه من الدول العظمى وقتذاك: فرنسا وانكلترا خصوصاً، تعرضت لتقسيم أكثر شراسة، كما تقول الوقائع التاريخية والجغرافية التي ارتكز إليها الباحث، وخصوصاً بعد مؤتمر لوزان 1923، وليكون الكرد ضمن سوريا الحالية: الدولة المعاصرة، وليس سوريا الطبيعية، التي لم تكن تشمل المنطقة الجغرافية التي تضم الكرد فيها من عفرين حتى ديريك راهناً، ولتبرز دول أربع بالتالي ( دول ذات أنظمة اجتماعية اقتصادية، ثقافية سياسية مختلفة الأمر الذي أحدث شروخاً عميقة في الجسد الكردي، وأدى إلى تباين نوعي في مستوى النمو والوعي... الخ ، ص 19). هنا تكون الإشارة إلى نقطة لافتة وهي أن التهويل من مفهوم كردستان سوريا، أو التوضع الجغرافي الكردي سورياً، ومن قبل الذين يعتبرون أن حدود سوريا الآن هي حدودها مذ كانت، خلاف التاريخ بالذات، تهويل يستند إلى تصور خارج نطاق التاريخ الفعلي بالذات، وأن الكرد الذين يشددون على عملية التقسيم الرباعية يرجعون إلى تاريخ مؤكّد لوجودهم الجغرافي، وليس إلى مداهمة تاريخية لجغرافيا خارج ما كانوا يألفونه منذ القدم.، وتأتي خلفية التقسيم وما يليه توضيحاً لهذا الجانب، وكيف يصار إلى استبعاد الكرد عن تاريخ كان لهم، وثقافة عُرفوا بها وأرض ألفوها ولم يهاجروا إليها كما يشاع، حيث ( الدستور السوري لا يعترف بوجود الأكراد في سوريا. ص 26)، ولعل الفصل الثاني( كردستان سوريا أم مناطق كردية في سورية)، توضيح أكثر لما أثير في الفصل الأول، إذ من خلال المراجع التاريخية( فيليب حتى، قسطنطين بازيلي) إذ إن سوريا الطبيعية خلاف ما هي عليه الآن، وبحسب حتى( ولاية سوريا الرومانية كانت تمتد من الفرات إلى مصر، وكانت حدود سورية كما وصفها الجغرافيون العرب وظلت تعتبر كذلك حتى نهاية الدور العثماني. ص 34)، ومحمد طلب هلال الذي يؤكد على عروبة سوريا كما هي الآن، فهو ينطلق من مسوغات لا علاقة لها بالتاريخ( انظر ص36)، والباحث سيدا يسهب في تبيان التاريخ الذي يُعتم عليه، بغية تسليط الضوء على مجريات الأحداث، والدور الذي لعبته القوى الاستعمارية( انكلترا وفرنسا) خصوصاً في المنطقة، وكيفية تقسيم كردستان بين دول المنطقة، لتعزيز المصالح الاستعمارية تلك.
وما يثار في الفصل الثالث( واقع الشعب الكردي في سورية راهناً)، يجلو عمق مأساة الكرد في أرضه التي لم تعد لـه، بقدر ما أحيل غريباً وعدواً لمن أراد ويريد احتكار الأرض ومن عليها، وما في ذلك من مزاعم تجيّر التاريخ، من خلال رموز عروبوية( منذ موصلي، محمد طلب هلال)، وكيف يمارس عنف متعدد المستويات والأبعاد في الكرد اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً.. الخ، حيث الاضطهاد قومي وقيمي، كما هو موضوع الفصل الرابع( الاضطهاد المزدوج)، وربما كان هذا الفصل امتداداً لما سبق وأن توقف الباحث عنده، وكان يمكن المضي فيه دون أي خلل، ولكنه، وكما يتجلى في سياق المتابعة، محاولة لتبيان الأثر المدمر لمفهوم الاضطهاد الممارَس في الكرد( ما نعنيه بمصطلح الاضطهاد المزدوج الذي يتعرض لـه الشعب الكردي في كردستان- سورية، هو حرمانه من جميع حقوقه القومية المشروعة من ناحية، وتعرضه من ناحية ثانية لمختلف الإجراءات والتدابير التي ترمي أصلاً إلى إنهاء الوجود الكردي بأشكال ومستويات مختلفة ترمي جميعها إلى دفع الأكراد نحو التنصل من جذورهم القومية أو إبعادهم عن مناطقهم. ص 91)، وهذا يظهر من خلال العديد من الممارسات الرامية إلى التضييق عليهم: سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وتهجيرهم من مكان إلى آخر، بعيداً عن موطنهم الأصلي، وحرمانهم من مجمل الحقوق المدنية التي تمنحهم المكانة اللائقة بهم بصفتهم مختلفين عن سواهم.
ليأتي الفصل الخامس( حزب البعث والمسألة الكردية في سورية)، لسان حال واقع مزرٍ، وتوضيحاً لموقف حزب عروبي الاتجاه، تعتمده الدولة دالة قوة ضاغطة، في النيل من الكردي: انتماء قومياً، وحضوراً انسانياً، وانتشاراً جغرافياً، ومن خلال مفهوم قوموي مستحدث، عقائدي، حيث المادة السابعة من دستورالبعث يقول، بأن ( الوطن العربي هو هذه البقعة من الأرض التي تسكنها الأمة العربية والتي تمتد ما بين جبال طوروس وجبال بشتكويه وخليج البصرة والبحر العربي وجبال الحبشة والصحراء الكبرى والمحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط. ص 118)، وهي حدود سياسية لها خلفية تاريخية معتقدية موجهة، ولعل أبسط ما يمكن البحث فيه، وتبيان مدى العنف النابت في معلّن كهذا، هو الواقع نفسه، ففي الأمس القريب جداً، تم التخلي عن لواء اسكندرون، في لعبة سياسية واضحة المرامي لإبقاء الكردي ممزقاً، ولم تكن جبال طوروس بدورها سوى الحد التاريخي المرسوم عقائدياً، وهو حد غير معترف به، حتى في كتاب عقائدي بعثي عفلقي، هو منذر موصلي، عندما تحدث عن كردستان فعلية خارج حدود سوريا الراهنة في كتابه( عرب وأكراد)، والذي تم تداوله بموافقة إعلامية رسمية، ويعني أن العقيدة التي تحدد التاريخ، ترتكز إلى قوة تبثها العقيدة تلك، وليس إلى التاريخ المدعم بالوثائق، وأن الذهنية التي تروّج لحدود تمتد من الجهات الأربع، في المسار الموسوم، دوغماتيكية، ومغايرة للتاريخ بصفته وقائع ووثائق يمكن الرجوع إليها، وطالما أن حزب البعث لا يعترف البتة بوجود الكرد كشعب، وحتى كأفراد لهم حضور تاريخي في سوريا، فهو يحاول باستمرار طوي كل تاريخ لدعم كل إجراء، يعقلن ما يريد السير بمقتضاه، والباحث يحاول، وبلغة لا تخلو من سجالية: سجالية التاريخ الوثائقي بسجالية التاريخ الموجَّه، وفي مراحل تاريخية مختلفة حتى الآن.
تبدو الخاتمة لاحقاًً، تأكيداً على أن الموضوع لا زال في بدايته، من خلال المنجَز منه، حيث ثمة العديد من النقاط في انتظار المناقشة، ومن قبل الباحث بالذات، فيما يخص ( التاريخ القديم، والحوار العربي – الكردي، والأزمة العامة التي تعاني منها الحركة القومية الكردية في سورية. ص 134)، فالمسألة تتطلب تضافر قوى عديدة، وأن المعاناة القائمة كردية وعربية معاً، ولكنها كردية أكثر، ويرى أن ( اعتبار المسألة الكردية في سورية جزء عضوي من المسألة الوطنية الديمقراطية العامة في البلاد يعد الخطوة الأساسية الأصح في الطريق الصحيح إذا جاز التعبير. ص 137)، وهو بذلك يكاد يعتبر ما أثير سابقاً، بصدد مفهوم كردستان سورية، وكأنه حقيقة متفَّق عليها، إذ إن الموضوع من الصعب التباحث حوله، لأن إثارة الماضي بالطريقة هذه ، غير ممكن الدفع بالآخر العربي وسواه، للنظر إلى الكردي بصفته شريكاً في بناء الوطن، أو في تقاسم ثرواته وسلطته معاً.
وحتى عندما يحاول إثارة موضوع في منتهى التعقيد، وهو بنية العلاقة بين السريان والكرد، وما يخص الجغرافيا المتنازع عليها سورياً راهناً، حيث جوهر خلافهم التاريخي، في الأساس خارج الحدود التي يمارسون من خلالها استقطاب المشاعر، والزج ببعضهم بعضاً في مواجهات ومماحكات، تقفز على التاريخ الفعلي، أي سورية باعتبارها دون مستوى المفهوم الجغرافي الذي يتحدثون عنه، كما في الفارق الذي أبرزه بين كل من سورية الطبيعية وسوريا الدولة المعاصرة، وما يتعلق بالمآسي التي تعرض لها كل من الأخوة السريان والأرمن، والدورالسلبي المبالغ فيه للكرد، ومن يكونوا هؤلاء، على الصعيد التاريخي الفعلي.
إن سلسلة الوقائع التاريخية، وكذلك الوثائق التي يستند إليها الباحث تظهر مدى الغبن الملحق بالكرد، وكيف يصار إلى إيذائهم، وحتى النيل منهم بدلاً من معرفة العدو الحقيقي، أو الخصم الفعلي: التركي العثمانلي ومن وراءه سابقاً، وأولئك الذين يديرون دفة السلطة سورياً، ومن يستفيدون منها اليوم.
ينتهي كتاب الباحث الدكتور عبدالباسط سيدا، ليبدأ تاريخ من المواجهة بصدد المفاهيم المقدَّمة، وكذلك الأمثلة التاريخية، كون التاريخ المعتمد، يستحضر تواريخ أخرى، لأن المسألة ترتقي إلى جملة من الروافع المعتقدية وكذلك الإيديولوجية والثقافية، وتلك الذهنية التي تسفّه ما عداها هنا وهناك.
إن الهدوء الذي يغلب على مجمل فصول الكتاب، وحتى المرفق به، يؤكد الصورة البانورامية التي أرادها الباحث لما طرحه للنقاش وليس لقراءته أو الإصغاء إليه فقط، وهو هدوء من ناحية ثانية يدعم مدى ثقته بما استشهد به أمثلةً ومقبوسات، وحتى بالذي يخاطبه قارئاً متعدد الانتماءات، كونه طالباً المناقشة والتحاور والتعايش معاً.

التاريخ المفتوح
يرى الباحث سيدا أنه اعتمد المنهج العلمي، وهذا دقيق، من جهة إعلامه للقارىء أن ما يقوله يعود إلى التاريخ، وأن دوره هو في التذكير بما كان، كما في جعل المنسي مذكَّراً به،، وأن اعتماد المنهج الوصفي، من خلال المأتي عليه، وكذلك جانب التحليلي المقارن من أجل فهم الأحداث والوقائع، واللجوء إلى الاستنباط والتخمين( ص7)، كل ذلك يبقي الموضوع مشرَّعاً لتاريخ، في زحمة الوقائع المستشهد بها، يكون خلاف ما اعتمده الباحث بالذات.
ففي المنهج العلمي، وفي دراسة التاريخ، من الصعب الدفع بالآخر الذي تتم مناقشته، من خلال وثائق معينة، لأنه قد يظهر النقيض، أو ينتظر المكتَشف التاريخي الذي يقلل من أهمية المستعان به، والأكثر من ذلك، ما يتعلق بالاستنباط والتخمين، حيث يحيل التاريخ إلى ساحة نزالات ومواجهات حامية الوطيس، لأن التاريخ ليس ما يُعتمد عليه وثيقة أو واقعة معينة، وإنما ذلك التصور الذي يحرك ذهنية المتلقي أو المحاوِر هنا. إن ( التاريخ النقدي هو بالأساس تاريخ الشواهد)، كما يقول العروي في ( مفهوم التاريخ- ص 117)، والشواهد عتبات لتمرير الرؤى، وتثبيت الأحكام التي تثبت مواقع قيمية دون أخرى. وعندما أتحدث هكذا، فليس لنفي قيمة تاريخية أو معرفية لما تحرك به الباحث، بالعكس، إن الهدوء الذي يسم كتابه، يشكل دعوة إلى الحوار وإلى ترك الماضي ماضياً، واعتبار سوريا بيتاً قادراً على ضم الجميع تحت سقفه، وتبرز قراءة مجمل الكتاب مفيدة من قبل القارىء للخلوص إلى نظرة أكثر عمقاً بالمترتب عليه معرفياً وتاريخياً، وليكون المثار تأكيداً على أن بوسع أي طرف إبراز تاريخ يدعم موقفه ضد الآخر في حالات كثيرة، وأن ثمة خصماً سلطوياً يريد دق الإسفين بين الذين يشكلون مادة يومية حية النظام المستغِل للجميع واقعاً، وليكون الكرد الضحية المركبة حتى اللحظة، دون التقليل من عذابات الآخرين. ولكن الموضوع، كما أرى، يتحرك في صلب الذهنية التي تتقدم بتاريخ، ضداً على تاريخ آخر، هو مجرد وهم أو ضلال تاريخ، حتى بالنسبة للذين يشكلون نسباً لمن يتحدث باسمهم الباحث، وأعني بهم أسلاف الكرد : الميتانيين أو الميديين، والحوريين: السوريين تحويراً، بحسب الباحث، والكرد راهناً، الذين يتم رفضهم بشراً ألفوا المكان منذ غابر العصور.
أعتبر أن في كتاب الباحث سيدا الكثير مما يستفاد منه، وهو يشكل الأرضية الأكثر تماسكاً بصدد سورية وحضور الكرد فيها انتماء تليداً وليس حضوراً طارئاً، الأرضية التي يمكن عليها التحرك بأمثلتها، على الأقل لبلورة فكرة أكثر نجاعة، يلتقي فيها الكردي والعربي والسرياني وغيرهم، في إطار الوطن بمفهومه المدني.
وما قام به، كما أرى، يكاد يشكل جواباً شغل ذهنه، لسؤال رافقه وطرح عليه مراراً من قبل الذين يختلف معهم، أو ينتظرون منه باعتباره باحثاً وليس كردياً فقط، وسوريا بالمعنى المفهومي الجغرافي الراهن، ما يغذي فضولهم المعرفي،وهو يشارك في ندوات ومؤتمرات علمية دولية وسواها، ومن خلال كتاب لا يخفي شمولية رؤية تاريخية للكرد في سورية ، قبل ما يقارب القرن، إلى يومنا هذا، وهذا واضح لمن يتمعن فيه.
لا أمارس توجيهاً للباحث فيما اقتضاه واجتباه منهجياً ومعرفياً، وإنما أرى أنه لو تحرك أكثر مقارباً ومكاشفاً البنية الفكرية ، لتلك الذهنية التي يتحرك بها من يعتبرون أنفسهم ممثلي سورية راهناً عروبوياً قبل كل شيء، وأن المحرّك الفكري للذين توقف عندهم كما في حال منذر موصلي ومحمد طلب هلال مثلاً، وحتى بالنسبة لرجل أكاديمي هو سهيل زكار، يتغذى بما هو دوغماتيكي، وخصوصاً الأوَّلين، إنها العقلية الأمنية في أكثر تجلياتها سفوراً، حيث أنها لا تحتكم إلى التاريخ بقدر ما تريد تحكماً به، وربما كان الحفر في أساس البنية وما الذي دفع بها لتتصرف هكذا، وليس ما صدر عنها، وما إذا كان ذلك صحيحاً أم لا، أكثر فائدة على صعيد وعي التاريخ، وأن رجلاً مثل زكار، كان يفضل التفكير والتدبير باختزال التاريخ، أكثر مما يهمه التاريخ في شمولية أبعاده، قد ارتهن هو بالأساس لحكمانية العقيدة التي تعتبر تاريخ سورية في الأساس تاريخ من بنوها ويمثلونها سلطوياً ليس إلا، فثمة سجال ملحوظ، تبدى في محاولة الباحث ما يشبه الرد على الذين يعتبرون الكرد بشراً طارئين على المنطقة عموماً وفي سوريا هنا خصوصاً، حتى بالنسبة لرجل مثل جمال الأتاسي ، إن تمعنا فيما يقوله، وهو يقدم كتاب منذر موصلي ( عرب وأكراد)، لتكون العملية نفياً لتاريخ كامل، ولقومية بكاملها، أو لشعب بكامله، وما في ذلك من عقلية إلغائية إقصائية، حيث الخلاف وليس الاختلاف هو الذي يسم العقلية هذه.
وفي الوقت الذي يدعو فيه الباحث إلى التحاور بعد دخول في تاريخ متشعب ومعقَّد في وجوهه المختلفة، والعناء الذي يجلو عمله البحثي الأكاديمي المتميز، فإن التحاور المعلن عنه، من الصعب تحققه، في ظل حالة اللااعتراف بالكرد شعباً مختلفاً، حيث التحاور يكون تالياً على الاعتراف المشار إليه، وما يستوجبه التحاور من وعي الكردي لذاته، من خلال من يمثله كردياً، وللآخر في محيطه، ووعي هذا الآخر لـه، وكيفية تمثيله القسري لـه، وما يستوجبه التخلص من ربقة التمثيل هذا من معرفة الكردي شريكاً في تاريخ وجغرافياً، وبعد ذلك يبدأ الحوار.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الصدمة علي وجوه الجميع.. حضور فني لافت في جنازة الفنان صلاح


.. السقا وحلمى ومنى زكي أول الحضور لجنازة الفنان الراحل صلاح ال




.. من مسقط رأس الفنان الراحل صلاح السعدني .. هنا كان بيجي مخصوص


.. اللحظات الأخيرة قبل وفاة الفنان صلاح السعدني من أمام منزله..




.. وفاة الفنان المصري القدير صلاح السعدني عن 81 عاما