الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الوطن العربي والثورة الرقمية: إعادة بناء الدولة الوطنية و تفعيل المشروع التنموي

محمد عبد الشفيع عيسى

2019 / 8 / 5
الادارة و الاقتصاد


يبدو لى من قراءة أحدث تقارير المنظمات الدولية المعنية بقضايا التنمية في العالم أنه قد تم "إقفال الباب"-تقريبا- على من هم "داخل البيت التنموي" ، ولم يعد مسموحاً إلى حد كبير بالدخول إلى "النادى المغلق". فى البداية دخل بعض بلدان أوروبا الشرقية والبلقان عقب الحرب العالمية الثانية، تحت المظلة "الاشتراكية السوفيتية"، وفق مفهوم معين، ثم سرعان ما تم الخروج – الآمن أو غير الآمن – مع انهيار الاتحاد السوفيتى عام 1990 ، ليتم الدخول، أو "إعادة الدخول"، إلى حظيرة النظام العالمى للرأسمالية، ملحقات أو هوامش مستعادة ومجّدَّدة للمنظومة غربية التمركز، عبر بوابة العضوية التى طال تمنيّها فى "الاتحاد الأوروبي".

وفى الخمسينات والستينات من القرن المنصرم دخلت مجموعة من البلاد المستقلة عن الاستعمار القديم، المحرّرة حديثاً ، فى آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، إلى حلبة التنمية ضمن "المجموعة الآسيوية الإفريقية"، اعتبارا من "مؤتمر باندونج" 1955، ثم ضمن "مجموعة عدم الإنحياز، منذ المؤتمر الأول في بلغراد 1961 (والثاني بالقاهرة عام 1964).
وكانت هذه المجموعة الأخيرة من الناحية السياسية نظيرة لمجموعة "العالم الثالث" المولدة فى أحضان "مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية" – "أنكتاد"- الذي انعقدت دورته بجنيف 1964 بعد "مؤتمر القاهرة للدول النامية" 1962 .

كانت مصر منذ تبلور المشروع الثوري بعد الثالث والعشرين من يوليو 1952– ومن ثم "الجمهورية العربية المتحدة" " بمصر وسوريا، ثم بمصر وحدها حتى 1971 عقب وفاة جمال عبد الناصر– متمترسة فى قلب الطليعة النضالية لحركة عدم الانحياز سياسياً، وحركة العالم الثالث نحو التنمية ، اقتصادياً؛ انطلاقا من مشروع عربى قومىّ عام مرتكز في نهاية الأمر على الشعار الأثير: "الحرية و الاشتراكية و الوحدة" .

اعتباراً من منتصف الستينات أخذ نجم جبهة التحرر والتنمية وعدم الانحياز والوحدة العربية فى الأفول النسبي ، على مستوى القارات الثلاثة إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية ، بدءً من إجهاض استقلال الكونغو بقيادة باتريس لومومبا 1960( وقد وقع اغتياله في 1961) ، ثم الانقلاب على كوامى نكروما فى غانا (1966)، و الانقلاب الدموي ضد أحمد سوكارنو (1967) و بعد ذلك خروج أحمد سيكوتورى من الحكم فى غينيا .
و سرعان ما وقع العدوان الإسرائيلى على مصر وسوريا والأردن فى الخامس من يونيو (حريزان) 1967 لتتبدّل أولويات الزعامة العربية في مصر بالسعى إلى "إزالة آثار العدوان" ، ثم لتتبدل أولويات نظام الحكم جذريا، في مسار عكسي تامّ، بعد وفاة الرئيس عبد الناصر فى 28 سبتمبر –أيلول- 1970 .
بالتوازى مع هذه العملية الكبيرة لانهيارات جبهة التنمية والتحرر الوطنى فى العالم الثالث، كان الاتحاد السوفيتى، نصير هذه الجبهة الأكبر، قد بدأ منذ 1968 تقريباً فى معاناة آلام المرض العضال اقتصادياً ومالياً وسياسياً، داخل بلاده وبين شركائه فى الدول الاشتراكية شرق أوروبا، جنباً إلى جنب النزاع الضارى مع الجناح الاشتراكى الآخر على المستوى العالمى – الآسيوى: حيث الصين بقيادة ماوتسي تونج، على وقع تداعيات المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي، المنعقد عام 1956 و ما جرى خلاله من "إدانة الستالينية" ورسم معالم مسار سياسي واجتماعي جديد.
وقد وقع الاتحاد السوفيتي تحت وطأة التغلغل الغربى-الأمريكي البطىء بالسم الزعاف داخل جبهة أوروبا الشرقية، إلى جانب تصاعد سباق التسلح التقليدي و الصاروخي –النووي وخاصة في ظل إدارة "ريجان" طوال الثمانينات، إلى حدّ وضع مشاريع "حرب الفضاء" بواسطة الولايات المتحدة، وهو السباق المكلف إلى حد النزيف للدولة السوفيتية.
تضاف إلى ذلك، ازدواجية البناء الاقتصادى السوفيتي: تكنولوجيا متقدمة فى القطاع العسكرى، وأخرى متباطئة بليدة إلى حد ما فى القطاع المدنى . وكان أن تهيأت الظروف لصعود جيل من القيادات السوفيتية بعد 1957 متحلّقة حول قيادة "ليونيد بريجنيف" تطاول بها الزمن عقودا إلى حد أن سميت بحقبة الركود، و قام بعض من نسلها الأخير-من خلال قيادة "جورباتشوف"- باستكمال هدم الدولة العظمى الثانية فى العالم بأيديها-خلال خمس سنوات 1985-1990 -مثل "حفّارى القبور"، لتنهار تحت أبصارهم والجميع فى أوسط 1990 ، بعد سلسلة "دراماتيكية" من الأحداث المتلاحقة.
هكذا خرج الاتحاد السوفيتى من السباق العالمى المحموم للقوة والنفوذ، وكانت خرجت زمرة البلدان النامية والمحررة – كما ذكرنا آنفاً – من حلبة ذاك السباق العالمى .
و خلال السبعينات والثمانينات، فى أوج "الحرب الباردة" مع الغرب الأمريكى ضد كل من الاتحاد السوفيتى والصين، كان قد تم تفكيك نسبى لجبهة التحرر والتنمية وعدم الإنحياز، بجهد غربى-أمريكى حثيث. وتم خلال ذلك اجتذاب حفنة من بلدان الشرق الآسيوى الأقصى ودعمها إنمائياً لتكون منصّة أمامية ضد زحف "الشيوعية" حسب التصنيف الغربي. ذلك هو الحزام الأول من مجموعة ما يسمى "البلاد حديثة التصنيع" فى شرق آسيا والذى تكوّن من : كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة ومقاطعة هونج كونج – قبل أن تعود إلى سيادة الصين الأم عام 1997(إلى جانب ثلاثة دول في أمريكا اللاتينية: البرازيل والأرجنتين والمكسيك) .

جرت من ثم عملية سلخ هذه المجموعة من تجميع البلدان الآخذة فى النمو والساعية إلى تجاوز التخلف الاقتصادى بعيداً عن الغرب ، لتلتحق بالغرب التحاقاً تاماً ليس فقط سياسياً و إنما اقتصادياً بالذات. وكان قد سبق ذلك، إلحاق اليابان بالغرب عقب هزيمتها فى الحرب العالمية الثانية، وصيروتها بالتدريج، من بعد، ركناً ثالثاً متقدماً من أركان قيادة المنظومة العالمية للرأسمالية – إلى جوار الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الغربية . وإلى جانب اليابان ، كان الغرب قد سعى إلى اجتذاب "الصين" نفسها ، بعد وفاة زعيم ثورتها الاشتراكية ماوتسي تونج عام 1976 ، مع سعى الزعامة الصينية الجديدة –دينج هيسياو بنج –إلى اقامة "علاقة خاصة" مع الولايات المتحدة، و خاصة منذ مطلع الثمانينات، على جميع الصّعُد ولو فى مواجهة الاتحاد السوفيتى .

.. ومن ذلك كله ، تهيأ المسرح العالمى فى مطلع التسعينات من القرن المنصرم، لانفراد الغرب بقيادة العالم اقتصادياً وسياسياً، وانفراد "الرأسمالية" بالنفوذ الطاغى مع إزاحة الاشتراكية، ثم انفراد الولايات المتحدة بقيادة الغرب و العالم ككل باعتبارها "القوة العظمى الوحيدة". وحينذاك، مع تولى "بيل كلينتون الرئاسة الأمريكية"، حدث أمران: أولهما إعلان حرب "التنافسية" الاقتصادية فى مواجهة الحلفاء – الشركاء – في أوربا واليابان ، وخاصة على جبهة التكنولوجيا العالية (هاي تك) وفق رؤية نائبه فى الرئاسة (والتر مونديل). وقد صمدت الولايات المتحدة فى المعركة التنافسية – التكنولوجية ، حتى أحرزت قصب السبق ، ولتفرض التراجع على كل من غريميْها – حليفيْها: اليابان وأوروبا الغربية .
والأمر الثانى إعلان "العولمة، التى تطورت فيما بعد إلى عولمة عالية أو جامحةHyper globalization لتتحول إلى قناع للهيمنة العالمية ، بواسطة "الحرية"، حرية الأسواق، بعد حقبة متطاولة من ممارسة نقيض الحرية التجارية العالمية، أى "الحمائية"، وخاصة منذ مجىء إدارة ريجان فى مطلع الثمانينات. ومن العولمة تحت شعار "الحرية" جاء حدث الاحتفال بقيام "منظمة التجارة العالمية" فى مراكش-مايو 1993 .

....

فى سياق الحمائية المحدودة فى الثمانينات، ثم الحرية المقنّنة فى التسعينات ومطالع الألفية ، كان "الحزام الأول" للبلاد حديثة التصنيع وخاصة في الشرق الأقصى، قد لحقه خلال هذين العقدين حزام ثان من شرق آسيا بالذات : الفيلبين وتايلند وماليزيا. وربما حزام ثالث من إندونيسيا ثم تركيا وغيرهما قليل، و لا نستثني الهند والمكسيك بمعنى معين، و الجميع تم وضعه فى صندوق مُحْكم أو شبه محْكم غير قابل للاختراق تقريبا،ً حتى سنوات قليلة خلت .

وفى السنوات القليلة التى خلت ، وقع متغير اقتصادى – اجتماعى جديد، من باطن التقدم التكنولوجى ، تكنولوجيا المعلومات والاتصالات بالذات ، وذلك بانطلاق ما يسمى الثورة الرقمية Digital Revolution . هذه هى ما يسميها البعض – إعلامياً على الأقل – بالثورة الرابعة ، أو "الثورة الرابعة" اختصاراً ، بالاعتماد على أحدث التكنولوجيات المعتمدة على أحدث موجات التطور المعرفى وخاصة فى الذكاء الاصطناعى والكائنات الآلية (روبوت) ، والتحكم الأوتوماتيكى فى العمليات الإنتاجية، وتطبيقات "إنترنت الأشياء" وأجهزة "الاستشعار" أو "الحساسات" Sensors .
حينذاك ثار توقع وبرز حلم بات قريباً بعد أن كان بعيداً :
أن تستفيد البلاد النامية التى لم تلتحق بالحزام الأول والثانى والثالث ، من الثورة الجديدة ، لتدخل السباق بقوة وتحقق اللحاق catch-up بالدول المتقدمة وتسدّ الفجوة التكنولوجية المزمنة مع المتقدمين بل والفجوة الرقمية الأخيرة Digital Divide .
...
بيْد أنه ليس كل ما يتمنى المرء يدركه – كمايقول العرب .. وإن الواقع الحالى للاقتصاد الرقمى العالمى يتسم بصفة أساسية بسيطرة عدد قليل من الشركات العملاقة عابرة الجنسيات على سوق التكنولوجيا الرقمية للمعلومات والاتصالات ، معظمها من الولايات المتحدة الأمريكية بالذات . نحو عشر شركات رقمية تندرج ضمن الشركات المائة الكبرى فى الاقتصاد العالمى، تزداد تعملقاً واحتكارية عبر الزمن ، خاصة خلال فترة 2010-2018. و قد تدعَّم طابعها الاحتكارى من خلال الاستيلاء على الشركات الصغيرة أو من خلال الإندماجات بين بعضها البعض . وحسب أرقام عام 2015 تقف على قمتها عشر شركات أبرزها ستة من أمريكا وحدها : جوجل وآبل وأى بى إم وميكروسوفت وأوراكل و إتش بي .

يتسم الانتشار الجغرافى لهذه الشركات المهيمنة على الاقتصاد الرقمى فى العالم، بالتركز الشديد، لأسباب بعضها اقتصادي (توفر البيئة الاستثمارية والمناخ الملائم من وجهة نظر الشركات) وبعضها سياسى – استراتيجى .
وفى جميع الأحوال، ليس أىّ من الدول العربية مدرجاً على قائمة البلدان المضيفة للاستثمارات الأجنبية المباشرة للشركات عابرة الجنسيات المائة العملاقة عموماً، والشركات الرقمية العشرة خصوصاً، وليس أى من الدول العربية مرشحاً فى الأفق المنظور للانضمام إلى القائمة ، إما لأسباب اقتصادية ، وإما ، فى الأغلب ، لأسباب سياسية – استراتيجية تتعلق بأولويات التفضيل ل "دول الأصل" التى تنتمى إليها تلك الشركات من حيث جنسية المالكين لرأس المال .
وإذن ، فلن تستطيع هذه الدول-بسهولة- الوصول إلى امتلاك أسرار التكنولوجيا الرقمية من لدن الشركات المحتكرة لأسرارها العلمية المحميّة بحقوق الملكية الفكرية، و لأسرارها التصنيعية بحكم احتكار "المعرفة بالصنعة" know-how وهي المحمية بطريقة غير مباشرة، عن طريق القيود التى تفرضها على اتفاقات الترخيض بالمعلومات الصناعية للأطراف الأخرى، وخاصة من العالم النامي . يضاف إلى ذلك، هيمنة الشركات العملاقة على الأسواق المحلية فى الكثير من دول العالم بحكم تفوق القيمة السوقية لعلاماتها التجارية وتفوق شبكاتها الدولية للإنتاج عبر العالم ، ونفاذها الفعال على طول "سلسلة القيمة المضافة العالمية" GVAC أى Global value-added chain – "سلسلة العرض" . وإن الدول النامية المسموح لها بالدخول على خطوط شبكات الإنتاج والقيمة المضافة والعرض، هى تلك التى استطاعت، بعون قيادّى مباشر من الشركات الأمريكية والأوروبية أساساً، اختراق الحواجز، والدخول إلى حلبة السباق ، عبر "دخول الاستثمارات الأجنبية المباشرة" من الشركات العملاقة إليها، لتحقق بالاستثمار زيادة هائلة فى المبيعات وفى تركيم الاحتياطيات النقدية بالعملات (الصعبة) وخاصة الدولار .. ويتم ذلك كله بالقدر القليل من "رأس المال" العينى ، فى حالة الشركات الرقمية بالذات ، وبالقدر الأكبر من المعلومات ومرافق الاتصالات ، استناداً إلى بيانات ضخمة big data تجمعها الشركات عن الأسواق المخترقة فى كل حين .

...

لا نظن ، فى ضوء ما سبق ، أن أيا من الدول العربية الرئيسية القابلة للترشح من حيث الإمكانية المستقبلية للانضمام لقائمة البلدان النامية المتطورة اقتصادياً وتكنولوجياً ورقمياً ، مثل مصر والجزائر والمغرب والسعودية، لا نظن أن أيّا منها سوف يسمح له باختراق الحواجز ودخول الحلبة فى الأفق القريب على الأقل. إن لم يكن ذلك بسبب فشل وفساد الإدارة الحكومية وإدارة الأعمال الخاصة في الدول المذكورة وغيرها(المفتقدة لمعايير ما يسمى بالشفافية والحوكمة وأداء الأعمال وفاعلية الإنفاق) فيكون بسبب الاختيار الاستراتيجى أو الجيوبوليتكى للشركات الغربية وفى صدراتها الأمريكية بفعل تفضيلاتها الخاصة، وفى مقدمتها الحفاظ على التفوق المقارن للكيان الصهيونى إسرائيل .

ولقد ذكر الرئيس الأمريكى الحالي دونالد ترامب، أن الولايات المتحدة تحقق زيادة كبيرة فى إنتاجها النفط من النفط ، وإذ تتحول إلى دولة مكتفية بذاتها طاقوياً ، بل ومصدّرة ، فلم تعد بحاجة إلى نفط السعودية (والخليج عموماً) ، ومن ثم – كما ذكر – فإن الوجود الأمريكى فى منطقة (الشرق الأوسط) لا يستهدف ضمان إمدادات الطاقة ، ولكن ضمان حماية (إسرائيل). هكذا قيل، وهو صحيح، يصرح به من يمكنه التصريح ، ولم يسبقه إلى ذلك أحد ، من حيث وضوح اللغة المستخدمة فى الخطاب السياسى من الغرب عامةً ، وأمريكا خاصةً .

...

ولكن هل معنى ذلك أن الباب مغلق من دون الوطن العربى – و منه مصر العربية– للولوج إلى بوابة التنمية والتطور الرقمي بالذات ..؟
نرى أن هناك مدخلاً له عدة منافذ ممكنة للولوج و "الالتحاق" وربما "اللحاق" وفق أسلوب وطابع خاصّيْن.
ونبدأ بالقول إن مداخل عديدة مطروحة، تنبع من البدائل الضرورية تاريخيا، وخاصة إقامة كيان عربي توحيدي كبير نسبيا، يتبنى مشروعاً تكاملياً وتنموياً فاعلاً، وهذا من خلال دولة عربية موحدة تجمع قطرين عربيين وازنيْن أو أكثر .
هذا المدخل فى الوقت الراهن بالغ الصعوبة لأسباب بيّنة للجميع، وإن كان الأنجع تاريخياً من حيث بناء قوة ذات وزن عالمى على غرار روسيا، على سبيل المثال، والبرازيل و إندونيسيا، و لا نقول الصين.
وإن لنا لتحفظات عديدة على النموذج الإنمائى الصينى ، فهو ليس بمثل أعلى يحتذى به في جميع الأحيان و على كل حال ، ولكن الصين استطاعت أن تقوم بتحييد النزعة العداونية الأمريكية ، بالاستفادة من علاقتها الخاصة بأمريكا . و استطاعت دول شرق-آسيوية أخرى، من الجيليلن الأول والثاني وربما الثالث، مع وعي اختلاف ظروفها عن الصين، توظيف علاقة التبعية التي ربطت أغلبها بالغرب و أمريكا لتحقيق انطلاقة إنمائية معينة في الإطار العام للنظام الاقتصادي العالمي للرأسمالية.
وإن حكامنا العرب – التابعين أو "ذوي العلاقة الخاصة" في جملتهم أو جلّهم– لم يمكن لهم طوال العقود الأخيرة منذ سبيعنات القرن المنصرم، و لأسباب ذاتية وموضوعية، داخلية وخارجية، تحقيق انطلاقة إنمائية ما، كما فعلت الدول الآسيوية فى الشرق الأقصى وجنوب شرقى آسيا . ولم تكن الانطلاقة الإنمائية العربية الحقيقية بممكنة أصلا، إلا بالفكاك من إسار اللرتباط التبعي بالغرب (الأمريكي) و من ثم تشكيل جماعة اقتصادية عربية معتمدة نسبيا على الذات وعلى (تعاون جنوب-جنوب)، وذلك بالنظر إلى "الفيتو" الموضوعى غربيا و أمريكيا على إقامة قوة عربية كبرى موازية وموازنة ومن ثم معادية –بالاحتمال- للكيان الصهيوني إسرائيل؛ وكذا بالنظر إلى العجز البنيوي المتأصل في أنظمة الحكم العربية، ومثالها الساطع "نظام" و "حقبة" السادات-مبارك في مصر العربية على امتداد أربعين عاما ويزيد، إثر وفاة الرئيس عبد الناصر 1970. لذا، ربما يفرض علينا التحليل التاريخي المقارن، أن نستبعد إمكان بناء دولة عربية وحدوية كبيرة فى الوقت الراهن ، للأسباب المذكورة ولغيرها.
ولنلاحظ هنا أن الصين مثلا، هي بالمقارنة، "دولة –أمة" منذ أمد تاريخي بعيد، تقوم على قومية رئيسية هى "الهان" مع وجود أقليات قومية مهمة، مثل "إيجور". أما نحن العرب فلم يقدر لنا، فى العصر الحديث على الأقل، أن نقيم دولة واحدة أو موحدة، لأمتنا العربية ، فلسنا "دولة –أمة" أو "أمة- دولة" Nation – State وإنما نحن "أمة فى دول متعددة" multi-State Nation ولذلك تكون نقطة انطلاقنا لبناء القوة العربية الجماعية بالغة الصعوبة ، بالمقارنة مع الصين، كما أشرنا على سبيل التخصيص .

والأوْلى أن نعمل على تحويل نمط الحكم ونمط بناء الدولة الحديثة فى وطننا العربى، من حيث علاقاتها الخارجية، من "التبعية" إلى "الاستقلالية النسبية" . وليكنْ ذلك من خلال إعادة بناء و تفعيل نموذج "الدولة الوطنية" التى انهار مشروعها الأول على وقع المتغيرات المختلفة ، داخلياً وخارجياً؛ على أن تكون "دولة وطنية" ذات مشروع تنموى، يستبعد "الخضوع" إن لم يستطع الاستقلال الحقيقى الناجز عن دوائر الاستعمار القديم والجديد، التى تنوب عنها استراتيجية الهيمنة للولايات المتحدة الأمريكية .
ومن "استبعاد الخضوع"، ومن "بناء جهاز فعال للإدارة العامة والحكومية" تتمّ قيادة مشروع تنموى متعدد القطاعات (عام- خاص – تعاونى وأهلي ..) يتعامل بمرونة وحصافة مع المتغيرات الدولية فى البيئة الاقتصادية العالمية، وبخاصة من حيث هيمنة الشركات العملاقة على الفضاء الاقتصادى والرقمى عبر سلاسل القيمة المضافة التى تحرسها وترعاها الشركات، بإسناد المهام الإنتاجية المجزّأة والمنفصلة على امتداد "سلسلة العرض" إلى جهات منتقاة بالذات عبر أركان المعمورة، وفق ما أسلفنا . وليكنْ المدخل الممكن، الذى ندعو إليه ها هنا، هو تجنّب تكثيف التعامل – ما أمكن – مع الشركات العملاقة عابرة الجنسيات من خلال ما يلى :
1- بناء شبكة معاملات مع الشركات الدولية الصغيرة والمتوسطة، كلماكان ذلك ضروريا وممكنا، من أجل الحصول على شروط أفضل للاستثمارات الأجنبية المباشرة ذات أكبر قدر من المنافع المحتملة ، وأقل قدر من الخسائر المتوقعة .

2- تشجيع التكامل الاقليمي في المجالين الاستراتيجيّين ذوىْ الأولوية : الوطن العربى والإقليم العربى-الإفريقى، لتحقيق سلاسل عربية، وعربية –إفريقية، للقيمة المضافة وسلسلة العرض السلعى والخدمى، استناداً إلى تجربة تكاملية متدرجة: تبدأ من "منطقة التجارة الحرة" إلى "اتحاد جمركى" ثم إلى سوق مشتركة تضمن التنقلات الحرة للمنتجات وعوامل الإنتاج. وبهذا يتم إيجاد بديل (إقليمى) للتكامل الدولي المفروض من قبل عمالقة الإنتاج المدوّل فى العصر الرقمى .

3- ليس ضرورياً أن نلج مباشرة إلى أحدث موجات العصر الرقمى، بالتحكم فى آليات الثورة الرقمية من نهايات السلسلة الطرفية للتكنولوجيا "المعلوماتية – المعرفية" و "الاتصالية" .
وإنما يمكن أن نسعى إلى ما يلى :
أ‌- تفعيل مؤسسات "البحث والتطوير" العامة أو الحكومية R&D للنفاذ التدريجى إلى أسرار "العلم الأساسي" المرتبط بالقمم الرقمية، وخاصة الذكاء الاصطناعى والتحكم الآلى والتحكم الانترنتى من بُعْد فى "الأشياء"، ومثال ذلك: "المركز القومى للبحوث" فى جمهورية مصر العربية .
ب‌- إضافةً إلى تفعيل "البحث العلمى الأساسى" فى قمم المعرفة ذات التماسّ الرقمي ، فى المؤسسات الحكومية أو العامة ، كما ذكرنا فى ( أ )، فإنه يجب العمل من طرف المؤسسات الخاصة على اقامة مرافق "البحث والتطوير" على المستوى التطبيقى، وأنشطة التصميمات Design من أجل أن تكون مؤهلة لاجتذاب، و التعامل مع، الشركات الدولية ، الصغيرة والمتوسطة كما أشرنا.

4- يتصل بما سبق، و عودةً إلى أولوية التعامل الاقتصادى والتكنولوجى الدولى مع الشركات العالمية الصغيرة والمتوسطة، ندعو إلى إقامة آليات للبحث المشترك Joint-Research مع تلك الشركات الصغيرة المسماة Start-ups، وخاصة فى أوروبا واليابان ، وربما فى الولايات المتحدة أيضا، العاملة فى حقل الابتكارات innovation فى الحقل الرقمى وغيره من الحقول. وهذه الشركات تتكون عادة من عدد قليل من الأفراد الموهوبين القادرين على خلق حلول مبتكرة – ولنقل "رقمية" – ومستعدة للتعاون مع أطراف دولية عديدة للحصول على التمويل وفرص التسويق للابتكارات ، كما هو الحال فى تقنيات "انترنت الأشياء".

5- ليس ضرورياً أن تبدأ البلدان العربية بالسيطرة على القمم الرقمية الصافية أو الخالصة pure digital وإنما أن تعمل عل توسيع وتعميق تطبيقات "الرقمية" فى القطاعات الاقتصادية الأخرى، على المستويين المحلي والعربي مشترك، سواء فى الاقتصاد الريفى والحرفى وغير الرسمى، أو فى الاقتصاد الرسمى الحضرى بالذات ، صناعياً وخدمياً .
ونشير هنا إلى أن هناك أنشطة اقتصادية عديدة، يمكن تطويرها رقمياً فى الحدود الممكنة والمعقولة ، وبالتدريج ، ومن أهمها ، على الصعيدين العالمى والعربي، مايلى :
- تجارة "التجزئة" أو "المفرق" (شبكات التوزيع المستفيدة من الآليات الرقمية، لتطوير المتاجر الصغيرة والمتوسطة)
- أنظمة الرعاية الصحية والخدمات التعليمية .
- السفر والسياحة والنقل .
- قطاع الاتصالات .
- الخدمات المهنينة(المحاسبة والمراجعة – الاستشارات ..إلخ).
- الخدمات المالية والمصرفية (وهناك جهد واضح لدى البعض فى مجال تعميم "المدفوعات الرقمية") .
- تصنيع وتجميع معدات النقل وسيارات الركوب .
- الإعلام والتواصل المجتمعى Media.

...

حاشية جيوبوليتيكية
إن نموذج "الدولة الوطنية ذات المشروع التنموى والبعد العربي الوحدوي" التى ندعو إليها فى هذا المضمار، كحل إنقاذي ذي طابع انتقالي، يمكن أن تكون قادرة – عبر الزمن – على مواجهة الضغوط، حيثما وجدت ، سواء من قبل الدول الكبرى أو من شركاتها العملاقة ، لمحاولة التأثير فى مجريات سياساتها العامة ونظام الحكم الداخلى، والعلاقة مع الدول الأخرى فى الإقليم (مثل إيران وتركيا وإثيوبيا) .
هذا، و إن (هرولة) بعض الأنظمة الحاكمة فى عدد من الدول العربية نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني إسرائيل، يرتبط – إذا أحسنّا الظّن بالنوايا – بمحاولة التحوّط فى مواجهة ضغوط محتملة، من واقع العلاقة المتوثقة فى هذه الآونة، أكثر فأكثر، بين الإدارة الأمريكية الحالية و ذلك الكيان.

ونشير هنا، على سبيل "التخمين" فقط، إلى أن محاولة "التطبيع" الجارية ، بين بعض الدول العربية التي كانت بعيدة نسبياً عن مجرى العلاقات الإقليمية، وبين (إسرائيل)، ربما نجمت من الخشية من احتمال التدخل – بحرب تكنولوجيا المعلومات والاستشعار والقرصنة الإلكترونية وربما تجنيد العملاء وإثارة الانقسامات فى أوساط العائلات الحاكمة – من أجل فرض صيغ معينة للخلافة السياسية و وراثة الحكم ، بما لا يرتضين الوضع القائم، هنا أو هناك .
لذلك اعتبر البعض أن التعامل مع (إسرائيل)، بل و المبادرة بذلك ، ربما يمثل "البوابة الملائمة" لتوّقّى الأخطار المحتملة القادمة، فيما يٌتوقَّع من أجهزة الأمن والاستخبارات والديبلوماسية الغربية – الأمريكية. وفى حالة أو حالات أخرى، يأتي "التطبيع الصهيونى" مدخلاً محتملاً، إن أحسنّا الظّن بالنوايا كذلك، لتوقّي "رُهاب الخطر" –المبالَغ فيه عادةً لأسباب شتّى-من دول إقليمية معينة، وخاصة إيران .
فهل آن أوان الشروع فى إعادة بناء و تفعيل نموذج "الدولة الوطنية العربية ذات المشروع التنموى و البعد الوحدوي"، وفق الخطوط السابق اقتراحها، كسبيل لا مناص منه لتحقيق درجة معقولة من الاستقلالية النسبية و تحييد محاولات الاختراق عبر البحار، وتحقيق بدايات مبّشرة للانطلاقة التنموية العربية..؟
سؤال نرجو الإجابة عليه بالإيجاب، من أجل النظر بعين غير غاضبة خلفنا ومن حولنا وإلى الأمام ..!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مباشر من أمريكا.. تفاصيل مشاركة مصر فى اجتماعات صندوق النقد


.. كيف يمكن أن نتأثر اقتصادياً بالمواجهة بين إسرائيل وإيران ؟ |




.. ما هي التكلفة الاقتصادية للضربات التي شنتها إيران على إسرائي


.. وزيرة الخزانة الأميركية تحذر من -تداعيات اقتصادية عالمية- بس




.. واشنطن تستعد لفرض عقوبات اقتصادية جديدة على إيران.. هل تكون