الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سرطان الإرهاب

سامي عبد العال

2019 / 8 / 6
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


إزاء أي قتل دموي مهما كانت مسمياته، يأتي الارهاب الديني سرطاناً مدمراً للحياة الإنسانية وليس انفجاراً عارضاً في وجهه الضحايا والدولة. ولابد أنْ يَصْغُر كلُّ شيءٍ يمكن إدانته أمام ما تحركه من نصوص تكفيرية وخرائط فقهية تبرر تدمير المجتمعات. نصوص غارقة في التراث والحقب اللاهوتية التي يعتبرها الارهابيون عصورهم الذهبية. فيقتاتون عليها ككائنات مسخ( كحشرات أرضية) تتنفس ريحاً غابراً، تخرج لتفجر وتفتك، ثم تعود إلى جحورها ثانية.

كلُّ ارهابي هو بشحمه ولحمه نتيجة سقاية عقود طوالٍّ من التفسيرات العنيفة والاشباع بفتاوى القتل ومطاردة الاعداء أينما وُجدوا. إنها عملية التعبد والعيش بنصوص وأدبيات الجهاد والحروب والغزوات والغنائم والسبي والتكفير وتفسيراتها خارج الصلاحية الإنسانية. وعليه فقد تصبح كل تفاصيل الحياة دائرة حولها، كأنَّها تحج إلى الموت قبل الحياة وتنشد الفناء قبل النماء. ولم تهُن الحياة إلاَّ بعد أنْ يرى الارهابي أنها "متاع الكفار" حاملاً رؤوسهم على أسنة الرماح إلى الجحيم!!

فعلاً... لم يبق هناك كلامٌ ولا يجب أنْ يكون غير الصمت بعدما تم حصد الأرواح بالسيارة المفخخة بالقاهرة، والتي خلفت أكثر من عشرين قتيلاً تحولوا فجأة إلى أشلاء وعشرات المصابين وأكياس من البقايا البشرية. من تابع الحادثة (قبل ليلة البارحة) في مواجهة مستشفى الأورام (الأورمان)، يشعر أنها انتزعت كل معاجم الشجب والإنكار، لم تعد الحياة ولا الأوقات مواتية (بهذا المعنى) لأي مستقبل. الحياة الحرة تكاد تتكلم بذاتها عندما يفسح البشر مجالاً لإبداعها لا التقاتل باسم الله. وكأن الإله يرعاه الارهابيون بدماء الابرياء وبقرابين هم المرضى.

تركت الحادثة الارهابية دلالة لن تمحوها الأيام: أنَّ الانفجار الخبيث تم تحت نظر السرطانات التي يعالجها المستشفى المصري للأورام( الأورمان)، وقع العمل الارهابي أمام المستشفى مباشرة. ولحقت بمبناه ومرتاديه المرضى كلُّ الخسائر والآلام. لقد تركت السيارة غير مكان بشوارع القاهرة المزدحمة ومرقت عكس اتجاه السير، لتتحول إلى أداة موت وخراب في هذا المكان الرمزي.

هكذا وقعت الحادثة في هذا المكان الخطأ وفي التوقيت الخطأ... ولكنها الحادثة التي تعبر أصح التعبير عن النتائج المقززة واللا إنسانية. وبعض الأمكنة تنضح برمزية لا تُخطيء من يرتادها قاتلاً ومجرماً. لم يعد ليجدي البحث عن أسباب القاتل ولا عن إمكانية هروب المقتول. لأن القاتل يناطح السرطان رأساً برأس آخذاً موقعه على الملأ من البشر والعصر. وقعت أيضاً - إذا كان الارهابي يؤمن- خلال أيام العشر الأوائل من ذي الحجة... يا لهذا الغباء الزمني بالنسبة لمعتقدات الارهاب وفضائحه الدينية حتى.

فبدلاً من أن يتبتل هؤلاء ويتعبدون بهذه الأوقات المباركة في الإسلام تمشياً مع ما يزعمون الايمان به، يقتلون المسلمين وغير المسلمين!! يجعلون أيام المغفرة أيام غضب إلهي عارم وغضب إنساني لا حدود. والآن يذهب الحجاج المسلمون إلى الأماكن المقدسة خالعين عنهم الدنيا والأموال والضغائن والأحقاد بينما يحمل الارهابي بين يديه جثة أخيه الإنسان، يقدم إلى الله الاشلاء البشرية قرباناً، يستحم بدماء الأبرياء على الملأ.

مات الضحايا نتيجة الانفجار ولم تمُت المعاني القميئة وراءه. تمزقت أجساد المارة ولم يسلم الارهابي من سرطانه، قُتل الأطفال ولم يبلغ الارهابي أهدافه، مات أصحاب الزفاف الذين صُودف مرورهم بالموقع ولم يُزَّف الإرهابي إلى الحور العين كما يعتقد. إذا كان السرطان في اجساد المرضى الهزيلة لم ينل منها بفضل العلاج، فقد جاءهم سرطان الارهاب على الأبواب ليخطف وجودهم بغمضة عين.

من هو السرطان الحقيقي إذن؟! كيف ينتشر في جسد الثقافة والمجتمعات العربية والاسلامية؟ أليس الارهاب هو سرطان المجتمعات المنهكة من وجودها الهش؟ لماذا يقطن في الاحشاء مع التعليم والتربية والطقوس والأفكار والسياسة؟! كيف يتكيف ويتحول إلى غول تاريخي غير قابل للترويض؟ لماذا يعيش على دماء المجتمع وطاقاته؟!

الإرهابي الذي يحمل دماغاً تكفيرياً نصوصياً(عبادة حرفية النصوص) هو المرض المزمن في عمق مجتمعاتنا العربية. لو تخيلنا الوضع هكذا على امتداده، فقد كان أحق بنا انشاء مصحات نفسية لعلاج الإرهابيين من إمراضهم القاتلة، لأن مريض السرطان العادي (العضوي) يموت وحيداً منزوياً رغم العلاج الكيماوي، بينما الارهابي ليس له علاجٌ إلاَّ على جثث ضحاياه، ليس له مأوى إلا داخل أفكاره، ليس يُؤلف شيئاً ذا قيمة إلا بالنسبة لأتباعه ومناصريه. سرطانه التكفيري ينتشر في الأدمغة ويأكل العقول ويدمر فضاء الحرية والتسامح قبل أنْ يخطف الأرواح.

الأخطر أن الارهابي لا يؤمن أنه مصاب بفيروس أشد فتكا من السرطان العضوي، بل يزعم أنه ينافح عن الدين وينشر الفضيلة ويسهم بجسده المتفجر في إعلاء كلمة الله. ويتعقب خطوات الحور العين أثراً بأثر كما يردد وراء تعقب ضحاياه. لقد كتب الدواعش على لافتات سياراتهم – بدلاً من أرقامها- كلمات مثل: الحور العين، إلى الجنة، انهار من خمر ومن لبن ومن عسل مصفٍ.

علامة أخرى فارقة أن المصاب بالسرطان العضوي حين تبارحه الآلام، يذهب من بنفسه إلى الرعاية الطبية طلباً للعلاج، أما سرطان الارهاب الديني فيظل يغذيه بالكراهية والشحن النفسي وبإلهاب المشاعر واغلاق الحوار عبر التنظيمات الجهادية. وهو إنْ طال شيئاً، جزءاً من أي شخص يحاول علاجه أو ينصحه، سيدمره مباشرة دون تردد.

وتدريجياً يصعب نزع هذا الفيروس القاتل من الأدمغة والأيديولوجيات الدينية، لأنه يفرخ رؤى الحياة والعالم والآخرة معاً. في سلة واحدة هو كإرهابي يرقد على ما يفرزه من أفكار دموية حتى تفقس في صورة أعضاء جدد وأدبيات وأخيلة تصيب الآخرين. وبذلك لا يوجد إرهابي منفرداً في تكوينه، بل لا بد له من حاضنة تنظيمية تضمن الرعاية وتحدد فترة الحضانة قبل الخروج إلى المجتمع.

" الذئاب المنفردة " ليسوا كذلك أيديولوجياً، لأنهم قد تكونوا بأفكارهم العنيفة واكتمل شرهم حتى النخاع، هم منفردون فقك من الجهة الحركية. أما سرطانهم فهو جماعي تنظيمي يقتات على قصص وسير المجاهدين في أخيلتهم. ليس مصادفة تلوين القتل والتدمير الذي تماسه الجماعات الارهابية... فهو تلوين دموي معتَّق في كهف الخيال الجهادي وناتج عن تكرار القصص الحربية العنيفة. ومن زاوية أخرى يدل على الرغبات الدفينة والمتجددة في الانتقام مما هو إنساني. إنَّ أي تفجير إرهابي يمثل القيامة في صورتها المدمرة التي لا تبقي ولا تذر. هكذا هم يرودونه تفجيراً حتى الفناء كي يظهرون عجائب قدرتهم المقدسة. ألم يدعو الارهابيون على الكفار ليل نهار: ألهم أرنا فيهم عجائب قدرتك وعظائم قوتك؟!

جانب آخر أنَّ السرطان العضوي قد يكمن في عضو من جسم المريض، ويظل الطبيب يلاحقه حتى ينكمش، لكن سرطان الارهاب يلتهم كل شيء من أعلى خياله حتى أخمص قدمية وعالمه الافتراضي والنفسي وعلاقاته بالحياة والموت والميتافيزيقا والقيم. وهذا هو السبب في أن جسد الإرهابي هو القنبلة البيولوجية الأخيرة بزناد التكفير. وأن ارتداء حزام ناسف هو مسألة وقت ليس أكثر.

إن علاج سرطان الارهاب ليس له وقت محدد، لأنه سيأخذ كل الوقت، كل الجهد، سيحتاج حياة مختلفة تحول دون التهام الدين في بطون الجماعات التكفيرية وتدمير البنية التحتية المعتمدة على الثقافة المغلقة والتنظيم اللاهوتي رغم انفتاح العالم وتوجهاته الحضارية. هل يمكننا كسر هيمنة التفسيرات والتأويلات الدموية لكل ما هو ديني حتى في علاقتنا بأنفسنا؟ فمن يفخخ جسده، لن يستطيع أن يبرئ ساحة الدين، أي دين. ومن يقتل تحت الاعتقاد بأنه سيدخل مباشرة إلى مخدع الحور العين سيحول دون وجود الله بكامل تشريعاته. وهو أقرب دليل ليس على الايمان، بل على إشاعة الكراهية تجاه السماء!!

هل نرى يوماً: مستشفيات ثقافية لعلاج سرطانات الارهاب وتفكيك ترسانتها التراثية؟! حتى لا تتحول المجتمعات العربية الإسلامية إلى حاضنة لمزيد من أجياله دون نهاية. إن الأورام الخبيئة والخبيثة في مجال الفكر والدين والسياسة لا تجدي معها مسكنات ولا حلول وقتية، إذ يجب استئصالها تاريخياً.

التاريخ الثقافي هو غرفة العمليات الحقيقية التي يتلقى فيها العقل السائد عمليات جراحية من هذا القبيل ويتلقى فيها النشء ثقافات مفتوحة تقبل الآخر وترسخ فضاء الحوار والاختلاف والتناقض. ولا يجب خلط ذلك بتربية العنف والهوس بالاستبداد والقمع السياسي والاجتماعي، إنما من خلال الإبداع الفكري والمعرفي وتدعيم الحريات والحياة الكريمة لكل إنسان مهما تكن اعتقاداته وألوانه وتنوعه. مع ضرورة فتح باب المجتمعات على التطور الحاصل في عالم اليوم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مباشر من المسجد النبوى.. اللهم حقق امانينا في هذه الساعة


.. عادل نعمان:الأسئلة الدينية بالعصر الحالي محرجة وثاقبة ويجب ا




.. كل يوم - الكاتب عادل نعمان: مش عاوزين إجابة تليفزيونية على س


.. كل يوم - د. أحمد كريمة: انتحال صفة الإفتاء من قبل السلفيين و




.. كل يوم - الكاتب عادل نعمان: صيغة تريتب أركان الإسلام منتج بش