الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رؤى نقدية (4)

زياد بوزيان

2019 / 8 / 8
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني



5 ــ مشكلتنا في العصبية الدينية لا في العصابة ولا في غيرها

( عودتنا الحكمة نفسها أنه عندما تطل علينا لا ينطق بها غير حكماء هذا العالم الذين هم يتسيّدونه ، وفي خلدهم نية القول : من يُرِد فسادا منقطع النظير ببلده فليُحكِّم المتدينين و تالله لَفساد العلمانيين عندكم لهو أهون بكثير و كثير من الإسلام السياسي ، فما مُفردة فساد إلا مُرادفا للإسلام السياسي ) ، فيا ناس و يا عالم أوَلا تعرفون كيف ينحرف النظام عن عدالته ( إذن عن جمهوريته و ديمقراطيته بداهةً )؟ إنه ينحرف عنه عندما تُصيب قطاعاته علاقات العاطفة و الشعور المزاجي ، للفهم نضرب مثلا عن قطاع التربية و التعليم فالطالب هنا ـــــ وهو يمثل القاعدة الشعبية ــــ يلاقي أستاذه بسلام زائد بل يمدحُه و يتزلّفه ، ثم يعمل هذا الأستاذ نفس الشيء مع المدير ، و المدير يُطري هو كذلك و يمدح مدحا زائدا عن اللزوم المفتش ، و المفتش يطري الإدارة المحلية / في المحافظة و مدير التربية هذا يتملق الوالي ، و الوالي بدوره لا يتصل بوزير التربية أو وزير التعليم العالي من حساب الخزينة إلاّ كي يمدحه و يثني على عملٍ لا يستحق الثناء بمناسبة أو من غير مناسبة! و أخيرا يأتي الدور على رئيس الدولة فهو عندما يلاقي وزيره ذاك يمطره بوابل من التحايا و التقديرات منهيها بانحناءة احترام .. أجل هكذا تضيع العدالة في مجتمعاتنا المتخلفة عندما يسود هذا النوع من السلوكيات يسود هذا النظام البخس الرديء القائم على المصالح الشخصية و تضيع العدالة بين جمهورية الأشخاص قبل أن تعرف طريقها إلى أركان و مؤسسات الجمهورية. ولو رجعنا إلى الآية التي يشتبه أنها تعطي الحجة لهذا الوضع و التي أشرنا إليها سابقا في إطار ما تضفيه من علاقات خدمة المصالح الذاتية ــ أو على الأقل من التباس ــ مدخل اللاعدالة ، عنها سيقول قائل أنه ما جاءت الآية : " لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا " إلاّ كي تثبت لنا أنها أبعد عن التحقق على أرض الواقع بما كان ، فحتى لو أن فرضنا أنّ فاطمة سرقت حقيقة لن تقطع يدها ، لأنه سيخرج خدام النظام من الشيّاتين الباحثين عن خدمة مصالحهم الذاتية بالشاهدين المحتملين يختلقون بالدليل و الحجة شهادات تبرأ أصلا فاطمة من تهمة السرقة ، لذلكم فتلكم الآية ما هي إلا ذر للرماد في العيون و قاعدتها القانونية الخلفية الاحتياطية هي شهادة الزور حيث تجوز الشهادة للأغنياء و القادة لا الأحرار و الفقراء بمعنى معاصر تمدح الحزب الحاكم و تذم الحزب المعارض.

علاقات الأفراد البينية ملتبسة أو صادقة هي النظام السياسي نفسه ، لمحاولة تقريب الفهم مثلها كمثل خلايا البدن ، فكما تتقوم الخلايا اللمفاوية بالدفاع عن بعضها بعض يقوم الأشخاص في مستويات قطاعات الدولة المختلفة بذلك ، و شئنا أم أبينا المدخل إلى تلكم العلاقات هو التحية ورد السلام ؛ لا يوجد أفضل و أصدق بل و أطهر تحية من السلام عليكم Bonjour و الرد هو: وعليكم السلام Bonjour وكفى ، نعم وكفى بها من نعمة و خير و ألطف تحية و إلا فإن الإفراط في التحية هو مدخل من مدخلات بناء هيكل ودرع النظام المتسلط الدكتاتوري ، حتى وإن كان مدحا مستحقاً لا يجوز مخافة السقوط في شبهة طلب المعرفة و المصلحة و البديل هو المدح السري بالنيّة الصادقة ثم ما ضرك أنه مدحا بأسلوب التهكم كما في النحو ، عندما نود تأكيد الذم بما يشبه المدح ، وهذا الأسلوب من التحية و إلقاء السلام فعلا الأكثر سوادا في مختلف قطاعات الأنظمة السلطوية المتحالفة مع العصبيات الدينية ، حيث ما إن يدخل هكذا مادح واقع تحت الضغوطات الاجتماعية بيته الزوجية حتى تنقلب الآية و يفرغ فزعه و خوفه منه شحنات من الذم و السباب. فالحقيقة أن التحية دون إفراط ولا تفريط بين الناس أي ﺒ " السلام " فقط بين أفراد المجتمع بخاصة المجتمع الوظيفي تنم عن قمة التحضر و الديمقراطية ، و هي لا تحمل إشارات شراء المعرفة ولا إشارات الكره و البغض عكس ما يتوهمه أفراد المجتمعات السلطوية و العصبيات الدينية التابعة لها. بل حتى وإن انقطع الإنسان عن تحيتُه تلك ( بعد أن لم يجد ردا لها مرات ومرات ) فتلك قمة الديمقراطية و لا تنم عن حمل الكره و العداوة أيضا.

و لعلّه من محاسن الصُّدف أن نكون في هذه السانحة بصدد مناقشة اقتراح حل مشكلة الجزائر السياسية الراهنة و التي لا تعدو جزء لا يتجزأ من مشاكل المسلمين الحياتية فكرية و سياسية و اقتصادية ، هذه الإشكاليات التي سبق و أن دأبنا على مناقشتها من منظور نقدي علماني ( لا نقصد بالعلمانية غير التزام المنهج العلمي و الروح العلمية ) ؛ كون الحلول من المنظور العلماني و الديمقراطي تعطي علاجا نهائيا لكل المشاكل الفرعية العويصة فيما لو أتت فيما بينهم لأن جزء منهم معروفين بشدة العصبية كأهل الجزائر ، ولا أدل أن الحلول ماثلة أمامهم منذ قرون لدى المجتمعات الغربية و هي الأكثر قربا مسافة منهم من سائر العرب و مصدرا للرزق و التكنولوجيا أيضا حتى عن مدنهم و أريافهم المترامية الأطراف و لكنهم بقوا كالعميان اتجاهها! إنها الحلول المتمثلة بشكل أساسي في علاقة الدين بالسياسة و المجتمع فإما : 1 ــ أن ننتقل بالدين من مجاله السياسوي الذي يريد به شرا إلى مجاله الطبيعي الذي يكفله له القانون خيرا و حماية و هو المساجد و الكنائس و نفوس الأفراد ، أي يصبح تديناً مَعنيُون به الأفراد لا الحكومات ، و قد نجح مجتمع جار للمجتمع الإسلامي وهو المجتمع الإسرائيلي ليس ببعيد مِن عزل مجتمعه الديني ( الأصوليون اليهود أصحاب القبعات و الملابس السوداء "الحريديم" )، ذلك المجتمع الربوبي الذي لا يعترف بعلمانية دولة إسرائيل أمام التزاماته الدينية ، و الذي فساده من فساد منطق تفكيره العقلي هو الآخر بل أظل و أغرب من الخيال ؛ فهم يحرصون على الأخلاق و غض البصر و يحاولون التمكين لدولة فلسطين ردا لجميل عمر ابن الخطاب معهم لكن يشربون الخمر على أساس أنّ هناك فرق بين الخمر العادي و الخمر الموقظ للشهوة! و الأمر سيان بالنسبة للأصولية الإسلامية مع سلط دولهم السياسوية المستثمرة إما في التراكمات القبلية و إما في الانتماءات الطائفية أو كنوع من التوفيقية و التلفيقية بين الجماعات المختلفة جذريا. إذن لا تختلف العصابات السياسية عن العصبيات الدينية في منطق بعدها عن التفكير العقلي السوي فلا عجب أننا بقينا 14 قرنا لم نستطع بناء المجتمع المدني الذي يحكمه القانون الممكِّن للعدالة و المساواة .

وإما : 2 ــ انقسام الدولة الواحدة إلى دويلات/ولايات فيدرالية كروسيا و الولايات المتحدة كل ولاية لها دستورها و حالة لبنان بين المسيحيين و الشيعة بالنسبة لنا الأقرب إلى التمثل.

فلمّا كانت المساواة عنصر جوهري في العملية الديمقراطية ، فالانتخابات غير متاحة دون مجتمع مدني ، فحري بالنظام العسكري في الجزائر التوجه إلى الحلول الجذرية بتروي و بإعلان أولا حسن النية ثم التحول التدريجي مهما طال زمنه ، لأن الجيش الجزائري هو طرف في الأزمة بمحاولاته التوفيقية بين العصبيات الدينية المتطرفة و السياسية المتطرفة. و يمكن أن يتحول إلى عنصر مساهم في حلّها بدءا من استقالة قائده الفريق الذي كان سندا لبوتفليقة و جزء من بطانته ، و عليه قبل ذلك أن ينصّب خليفة له و غير منتمي ثم يستعد للمساءلة كسائر رجالات النظام القديم حتى لا نقول الفاسد معترفا أمام الشعب أن ثقته في بطانة الرئيس بعد مرضه كانت في غير محلها ، أمّا محاولات اللجوء إلى الحوار السياسي الذي يهيأ الفضاء الديمقراطي لإجراء انتخابات رئاسية في الجزائر و التي لم تفلح أصلا شدا و جذبا بين الحراك و الجيش ( دون إقصاء و من دون مشاركة اتباع بوتفليقة المفسدين ) فهو مزيد من المضيعة للوقت و التأخر عن فضاء الديمقراطية العربية الذي دخلته قبلنا تونس و العراق و ستدخله مرغمة تباعا ليبيا و ربما السودان ثم سوريا لما لا. ولو وقفنا أمام هذا الحراك لنتقصي حقيقته فسنجد أن هؤلاء الحَراكيون ينتمون لاتجاهات مختلفة ، و لأننا قد اثبتنا في مقالاتنا السابقة أن النسبة الكبيرة فيهم حشود غوغائية public de masse غير مدركة تمام الإدراك حقيقة من يقف وراء أزماته السياسية منذ 1962 ، و التي هي عصبية المجتمع الجزائري الدينية فإننا سنلتفت في هذه العجالة إلى تقصي تاريخي وجيز لحقيقة الجيش الشعبي الجزائري الذي يقول أنه الجيش السليل و هو طرف و شريك النظام السلطوي المقتسم للكوطة مع مجتمعه الديني بعصبياته المختلفة ، و ما يثبت ذلك هو وصفه للحشود الحراكية ( بما حوته ) الساعية إلى الفراغ الدستوري بالخبث! وهو يعلم أن معظهم ولدَ بعد العشرية الحمراء ، معذورون هم غير مدركين لعواقب الأمور. بالنتيجة يكون هو الخبث بعينه غير مالك لصفة البطولية السلالية التي يدّعيها.

ولعلّ النظام الجديد الذي سيحل محل النظام القديم لابد له أن ينعتق نهائيا من وهم المجد الثوري و إلاّ لا يسمى جديدا ، ثم يمهّد الطريق نحو المجتمع المدني ليحل محل المجتمع الديني بالتدريج لأن ذلك لا يمكن عمليا بين عشية و ضحاها ، فالعصبيات الدينية لا يمكن محاكمتها إلا بواسطة المجتمع نفسه لكن لمعرفة كيف يتم التخلص من الإرث الأيديولوجي المتمثل في نظام تمجيد حرب التحرير و شهدائها الأبطال؟ لابد من رجعة تاريخية إلى بدايات هذا النظام الذي حاول بناء دولة الأشخاص على حساب دولة المؤسسات يعني بناء محتشد كبير للمجرمين و قطاع الطرق يكونون فيه ثرواتهم مثل بارونات المخدرات في أمريكا الجنوبية و المافيا في إيطاليا. أصحيح أن الجيش الجزائري الحالي الذي يتحمّل مسئولية جميع الأزمات السياسية و الاقتصادية هو سليل جيش التحرير الذي حرر الجزائر من الاستعمار الفرنسي أم أنه سليل عصابة الوهم و الارتزاق ، استولت على الحكم عنوة نعني بهم جماعة وجدة ، ليغدو معهم الحكم العسكري كأنه قدر الجزائر الأبدي ، أوَلم يكن بمقدور حكومتي يوسف بن خدة و فرحات عباس الاطِّلاع ببناء الدولة الفتية أفضل منهم؟

فإذا كان هذا الادِّعاء صحيح بالفعل أي كونهم سليل جيش تغلّب على رابع جيش في العالم وهو إلى الآن يتغنى ليل نهار بذلك و بالديمقراطية الاشتراكية فإنه لا يجوز لهم هذا التغني لأن الواقع دحض بقوة هذا التغني ، إذْ بقيت الأحوال الاقتصادية و الثقافية للبلاد دون مستوى ثورتهم ؛ بل قد برز الطيش السياسي و الوهم أول ما برز في المنظومة الاجتماعية ـــ الثقافية في التناحر الخفي بين مختلف المُكونات العرقية و الأطياف الأيديولوجية المستفيدة من ريوع الدولة لوحدها منذ عقدي الستينات و السبعينات ، ولعلّ ما يثبت هذا الطرح أن الأمر يتعلق بمجموعة شباب أخطأت التقدير العام 1954 ثم لم تعترف بخطئها متخذة من الهروب العصبي الأعمى المسنود دينيا إلى الأمام حلاً ، بلى راهن هؤلاء الشباب على الاتحاد السوفياتي و على الزواج من الفرنسيات إثباتا لرجولتهم فرهنوا إرادة البلد في التحرر الحقيقي ، ثم أين قرار استفتاء الشعب وهم نحو 10 مليون جزائري من أصحاب الشأن آنذاك حول شؤونه ، بدءا من المشاركة في صياغة الدستور إلى الاقتراع النزيه و الشفاف ، بدون الحديث عن إقصاء المخالفين و الأحزاب المعارضة للحرب و التي كانت فاعلة قبل 1954 ولها قاعدتها الشعبية ، بل الحقيقة التي حان وقت كشفها هي أن هذا الجيش الذي كونه هؤلاء الشباب بارتجال من دون خبرات سابقة في التسيير و لا في شؤون الحرب ؛ و واجه المستعمرين عن طريق الزج بغالبية شعب أعزل فقير فيها ، فدفع ثمن تصرفه غاليا بخاصة ارتفاع عدد الضحايا المدنيين ، كانت هي الأول في تاريخ الحروب المعاصرة و لحسن الحظ تدخلت ظروف دولية و ضغوطات سياسية مساعدة مارسها الأمم المتحدة أقواها اللعب على حقوق الإنسان لتُمكّن الجزائريين من استقلالهم و إلاّ فكانوا يبيدون الجزائريين عن آخرهم ؛ بلى إنها حرب الجزائر اللغز الذي أبهر دول العالم الثالث لكن من دون أن يتوقف على تحيير عقولهم حول الخلفيات الحقيقية ، بخاصة بعض الحيثيات أو التفاصيل الملغزة التي سمحت لمجموعات من المسلحين أطلقوا على أنفسهم اسم الثوار و المجاهدين للقيام كرا و فرا بحرب عصابات ، فوجدوا أن مساهمة أفراد الشعب تموينا و تمويها انما غذاها الحقد والكراهية الدينية في نفوس الجزائريين اتجاه المسيحية منذ عصور الموريسكيين إقحام كان بمثابة طعم و شرك حرب دون إدراك العواقب الإنسانية الوخيمة مثل ما هو حاصل في أيامنا بالنسبة للغزاويين مع إسرائيل؟

خلفيتهم في ذلك و لا شك تختلف عن حروب الأجناس الأخرى ضد الاستعمار، إنها العصبية الدينية المترسبة في النفوس اتجاه المسيحيين واتجاه بعضهم البعض ( بين العرب و الأمازيغ ) منذ مطلع القرن السادس عشر حين طرد فيها الإسبان الموريسكيين مع اليهود والبربر ثم احتلوا وهران ، مرورا بمحاولات الأساطيل الغربية اقتحام حصون و قلاع الجزائر التي كانت تملك أسطولا قويا ، وصولا إلى نجاح فرنسا في احتلال الجزائر بأقل الأضرار. ثم بسط سيطرتها على كل الأقاليم مُطيحة بمقاوماتها التي سميت بالشعبية و لم تسمى بمقاومات الكيد الديني مقاومة بعد أخرى.

لولا هذه العصبية المتنامية عبر السنين في النفوس و التي زرعها فيهم قواد الفاتحين/الغزاة الأوائل طارق ابن زياد و موسى ابن النصير طوعا أو كرها ثم استمر الأتراك بثها فيهم ، و التي اكتمل غيضها و حِنقُها في جر الأمير عبد القادر مقيدا إلى السجن لَمَا ساند عامة الشعب الكفاح المسلح أصلا ، فقد كانت خلفيتهم الأيديولوجية التي ميزتهم عن غيرهم ، فهم لم يكادوا يصدقوا أنهم طووا صفحات بسط المجتمع الديني في أرضهم و احتواء الأمازيغ و البربر العصاة على كل إدماج و احتواء حتى ظهر لهم الاستعمار الفرنسي فكيف عندئذٍ لا يُشحنون إلى درجة العصبية العمياء اتجاهه و وسمه بالكفر و النجاسة المقابل لتُقاهم و طُهرهم في لاوعيهم النفسي عند أول لقاء ، حتى رسخت هذه العصبية بمعونة الزوايا أو التكايا الموروثة عن الحقبة التركية زائد جمعية العلماء المسلمين و مازالا إلى يومنا هذا يلعبان هذا الدور ، نعم على هذه الخلفية الغلط اتّقدت شعلة حرب تحرير الجزائر و وهمها البطولي المتحول إلى عقيدة سلطوية مثبِّطة مُتأخرة عن الركب الديمقراطي حين أطلقتها مجموعة من الشباب لا يتعدى أكبرهم سنا الثلاثين عاما كما ذكرنا ، ولم تفلح نصائح الشيوخ مصالي الحاج و فرحات عباس و الأمير خالد لهم بالتريث و عدم المغالاة.

هذا السليل الذي أدخلت زمرة[1] منه شعبا أعزل لا ناقة و لا جمل له فيما لا يعنيه في حرب ضارية مع جيش مدجج بالأسلحة ، لتُسقِط منه قوافل و قوافل هكذا و بكل برودة دم بحجة التحرر من الاستعمار! فإذا كانت هناك من فداحة أغلاط في كفاح الجزائر تحت إمرة هذه الزمرة لنيل استقلالها فإن جميعها لا تضاهي العصبية الدينية و العرقية و الكبرياء عن أهل الكتاب و الغرور الذي مصدره ادّعاء العلم بكتاب الله كما تفعل السلفية في عصرنا ــ و جميع الدول العربية قد وقعت تحت الحماية أو الاستعمار ولم يفعل مثل ما فعل هؤلاء ــ فلم يكتفي هؤلاء القادة الشباب بافناء شعبهم بل هربوا إلى الأمام غداة الاستقلال ، لعلّ ضربة الحظ التي جاءت إلى جانبهم هي التغيرات العالمية في خطابات المجتمع الدولي اتجاه المستعمرات بدءا من العام 1955 إذْ ما إن انتهت الحرب و استقلّت البلاد حتى ترسّخت لديهم هذه الأيديولوجية المضادة لنهوض الشعب بمجتمعه المدني عدالة و مساواةً ، لا لتنوميه بعصبية دينية و اثنية في دستور البلاد و قوانينه ، حيث جعلوا من بيان أول نوفمبر بمثابة توراة مجيدة في لوحها المحفوظ و شعارا لا بديل عنه لهوية الوطنية إلى جانب الإسلام و العروبة و استمر جنبا إلى جنب يتغذى من العصبية الدينية و يغذيها إلى وقتنا الحاضر لا يتقادم و لا يصدأ.

فعصبية المجتمع الديني التي ترعرعت و نمت محمية من لدن المجتمع الجزائري حكّاما و محكومين بدل ثقافة المجتمع المدني ، و التي احتضنها الفكر الصوفي و الفكر الأصولي المتمثل في جمعية العلماء المسلمين ، كانت بمثابة درع واقي جعل من جماعة وجدة بقيادة الجنيرال محمد بوخروبة تعلن زواجها بالمجتمع الجزائري زواجا غير شرعي سانة شريعتها فيه و هو بيان أو وثيقة أول نوفمير نفسه كحضن مشرعِن لنظام عسكري بل معسكراتي اشتراكي سلطوي دكتاتوري ، قامت و تقوم عليها الدولة الجزائرية الحديثة حين اخترته نهجا سياسيا ( أهم ما فيه إبرام صفقة عقد الاشتراكية مع المجتمع الديني تبقى فرنسا بالنسبة له نظير الغرب الكافر والعجوز الوجب إحكام العداوة له أو الاحتياط منه لصون عهد الشهداء ) للدولة الفتية في مؤتمر طرابلس 1962 ثم تطبقه تدريجيا بدءا من خريف 1962 ، ولم يخلوا ذلك التطبيق طبعا من تصفيات و حوادث دامية لم تؤرخ بحذافرها نتيجة القبضة المخابراتية التي أخذتها على نفسها قيادة هذا الجيش حتى قبل أن تولد دولته ، و منذ ذلك الحين قسَّم مهام الإشراف على بيت الجزائر مع رئاسة الجمهورية. نظام تشكلت هويته الأساسية من أيديولوجية الحزب الواحد و الاشتراكية الممجدة لنفسها و ثورتها تلك أي "الشرعية الثورية" المتمثل في بيان أول نوفمبر و عهد الشهداء ، هو النظام المستمد شرعيته ككل الأنظمة الدكتاتورية العربية من قيم مجتمع العصبية الدينية ( الإسلام ) ناهيك عن العصبية القومية و اللغوية . و لمَّا كانت أبسط قواعد الديمقراطية تكمن في الاعتراف بالآخر المختلف فقد برز التوجه العسكري و الاستبدادي للنظام الجزائري منذ بداية تكوين أجهزة الدولة زارعا فيه بمكر كل ما يخافه المتدين من الآخر غير المسلم في مقدمتها الانحلال و الهواجس الأمنية حتى تتكتل وراء سياسة إقصائية لمن هم أصدقاء الأمس من الليبراليين و ما بالك بالأحزاب الأخرى المختلفة ، فخلا الجو لأحمد بن بلة كي يصفي غريمه المجاهد هو الآخر العقيد محمد شعباني بكل وحشية ثم إبعاد الحسين آيت أحمد ثم عندما خلفه بومدين توعد بوضياف و أمر بتصفية عبان رمضان و كريم بلقاسم.

و لمّا نأتي إلى دستور البلاد الذي من خلاله شُرعنت ممارستهم الاستبدادية فإنه الطامة الكبرى ، وإلى الآن مازال يربط شروطا تعجيزية للترشح الانتخابات الرئاسية ، شروطا بقدر ما يشتم منها العزلة عن فضاءهم العالمي بقدر ما يشتم منها الخوف الهاجسي من خيانة تطلع لهم من الفراش الزوجية ؛ فحتى يستمتعوا به لوحدهم عزلوه أو غطوه بسنن تقاليد شعبه و نخبه المثقفة الدينية حتى يظفروا منه بعقد نكاح مزور لكن مستور جيل بعد جيل!

لقد سقط القناع عن الوجه الحقيقي للنظام الجزائري ألا وهو وجه النظام العسكري ليس بمساندته الحركات الإرهابية و رفعه لشعارات حركة عدم الانحياز التي أكل عليها الدهر و شرب ، ولا حتى في مرض بوتفليقة و الذي لم يحرك إزائه ساكنا ، بل ظهر في تخوفه المفرط على أمن البلاد حتى غدا الهاجس الأمني سمة من سماته ، هذا الهاجس اعتُمد سياسيا إلى أيامنا حيث في العشرية الأخيرة بعد انفجار مظاهرات الربيع العربي أصبح هو شغل بوتفليقة الشاغل و أعوانه متجاهلين بؤر الفساد التي تغلغلت بين أجهزة الدولة أثناء سعيهم لإفشاء السلم و الأمن بكل الوسائل و السبل ، فالنيل من الآخر المختلف بل التفنن في قهره اجتماعيا و سياسيا قرينة دامغة على ترعرع العسكراتية جنب إلى جنب وسط مجتمعها الذي هو في حالة العرب العصبية الدينية ، من ثمة استحال عليهما بالمرة الظفر بالرؤية السديدة أو حتى شم رائحة الحرية و الديمقراطية. هذا الاستثمار في المكون الديني من قبل العسكر سيجعلهم مقربين من عموم الشعب ــ طبعاً قبل حدوث الانتكاسة و القطيعة بينهما إثر أزمة الثمانينات الاقتصادية ، التي كان سببها تراجع أسعار البترول و التراجع عن دعم أسعار المواد الاستهلاكية الأساسية ــ وحتى عندما بدأت علامات اللاعدالة الاجتماعية تظهر بين عموم الشعب و طبقة ذوي الحقوق ( قدماء المجاهدين) لم تشي أي أحداث عن فك اللحمة بينهما ، لِأن بومدين نفسه خدم العصبية الدينية من منطلق ترعرعه في بيئة صوفية التقاليد ، فهو اهتم بالأمير عبد القادر مرجعا له الاعتبار من زاوية العصبية الدينية لينال رضا جمعية العلماء المسلمين التي كانت تشكوا من شيوع مظاهر المجتمع الشيوعي ، ثم تجذرت روابط المودة و الألفة بينهما عندما أمر من الشاعر مفدي زكريا تأليف قصيدة مطولة يمدح فيها بطولات الجزائريين عبر التاريخ سماها إلياذة الجزائر؛ شبه فيها حرب العصابات مع الجيش الفرنسي بجهاد أصحاب بدر فزاد تمسك الجزائريين بثورتهم و تاريخهم حين قال :

نوفمبر غيّرت مجرى الحياة *** و كنت نوفمبر مطلع فجر
و ذكّرتنــا في الجزائـر بـدرا *** فقمنا نضاهي صحابة بدر

فأصبحت تراهات وثيقة بيان أول نوفمبر لغة تاريخ الجزائر المعاصر المصانة ، تُدرّس من الحضانة إلى الجامعة ، شجع النظام العسكري الجزائريين على المباهاة بها في مقابل استعداء فرنسا ليغدو هو الجزائر ذاتها و لمبايعته به كما يُبايع الشعب المغربي النظام الملكي يُبايع الشعب الجزائري النظام العسكري ، لكن كلٌ يتم في سرية جد مدروسة على الساحة السياسية الجزائرية الملغزة ؛ حيث الراعي الموظف/الرئيس ملاحظ يُرى وهو يرعى الغنم لكن صاحب الأغنام و الراعي معا مختفي عن الأعين! و الأدهى و الأمر أن بدونه لا مستقبل للراعي ولا للقطيع معاً، ضمن منظومة العسكر مع عناصر شعب بسيط محكم التقييد هاته كلٌ يجد مبتغاه ، و في صيانة مصلحته عند الطرف الآخر ؛ الشعب يحفظ آية أول نوفمبر عن ظهر قلب و العسكر يحفظون آية الكرسي عن ظهر قلب.

أجل ، الممارسات السياسوية أو غير الناضجة لنظام الحكم في الجزائر لم تكن وليدة يوم وليلة بل يرجع تاريخها إلى نهاية الأربعينيات ، لو كانت سارت في إحدى اتجاهين لكنا نتحدث اليوم عن مجتمع الحرية و الديمقراطية لا عن مجتمع العصبية الدينية و لَمَا حارى شبابنا بعد مناداتهم برحيل النظام هل ينادون برحيل حامي النظام أم لا ؟! فقد أمسى القايد صالح و كان الذراع الأيمن لبوتفليقة ينادي بمحاسبة الفساد! أجل فلو سارت باتجاه : ـــــ الانضواء تحت لواء حزب البيان الذي تزعمه فرحات عباس أو جناح مصالي الحاج في حركة انتصار الحريات الديمقراطية : يعني المُطالبة بالمساواة في الحقوق مع الفرنسيين و ترك مسألة الاستقلال للوقت طال أم قصر ، لأنه كانت الجزائر ستنال استقلالها في أسوأ الأحوال عام 1972 بدون أن تخسر نفسا واحدة ولا فلسا واحدا.

ـــــ يا سيدي لنفرض أنه حدث و أن جرت الرياح عكس ما تشتهي السفن و كان وقع الحرب مع فرنسا طيلة سبع سنوات وقع مأساوي يتّم و شرّد و أحرق و هجّر وغيرها من البلاوي. المفروض أخذ العبرة من تاريخ الإنسانية ؛ فالحرب بطبيعتها عمياء لا تعرف ظالم ولا مظلوم إذن لا محل لها من تجديد العصبيات أيديولوجية كانت أو دينية ، الكل يذهب في طريق السلم بالاعتراف المتبادل بالأخطاء و التجاوز عن الأحقاد و الضغائن ، هذا هو الذي كان من المفروض أن يحدث بعد إعلان الاستقلال ، الحوار الوطني الشامل من أجل التوافق على النهج الصحيح لتسيير البلاد ، و هو نهج أكبر دولة في العالم الولايات المتحدة الأمريكية أي النهج الديمقراطي البرلماني (مثل الحالة للبنانية ) فيُسحب البساط من تحت أرجل جماعة وجدة و جماعة بن خدة و جماعة مؤتمرات خارج الوطن في طرابلس و فيينا وغيرها، ليُهيَّئَ بساطا لِمسار توافقي للصندوق من أجل اختيار ممثلي الشعب ، و منهم يتم اختيار رئيس بصلاحيات محدودة أما بيان أول نوفمبر و جبهته فيطوِيا و يوضعا في حزانة التاريخ لأنه انتهى دورهما ، ولا يهُم في الرئيس المنتخب أَعمِل مع الجبهة الجزائرية أو الجبهة الوطنية أو الجبهة الفرنسية فذلك تاريخ فاجعة الحرب وقد ولّت باعتراف الطرفين ببعضهما ، يكفي أن تكون أصوله جزائرية من جهة الأب أو من جهة الأم ؛ فمصطلح الحَرْكى ليس سوى نتيجة حقد عصبي ديني لا يجب أن تُسَن به الدساتير و يُترك أمر الدين للأفراد ، حيث الدستور يحمي حرية الفرد ؛ كأن يُقال فيه بأن دين الدولة الجزائرية الغالب في العام كذا وكذا هو كذا وكذا ، بيد أنه يشرح للجزائريين بأن كل فرد يحمل بطاقة هوية جزائرية له الحق في اعتناق أي مذهب و أي دين كيف ما شاء وفي أي وقت شاء ، شأنه شأن جميع دساتير الأمم الديمقراطية في العالم بشرط واحد و وحيد هو عدم المساس بالهوية الأمازيغية ــــ العربية للدولة و عدم المساس برمزية العلم الوطني و قدسيته و القبول بآليات العمل الديمقراطي فقط لا غير.

أما مكتسبات الأمة التي يقصد بها النظام العسكري بيان أول نوفمبر فيجب أن يطوى عهده وقد حان الوقت قبل أي وقت مضى ، و تبقى العصبية الدينية و التي من أجل نفْضِها عن المجتمع الجزائري و إرجاع الأوضاع كما كانت قبل عام 643 م ، و سيبقى لزاما على الجيش الجمهوري الجزائري ( ليس الجيش الوطني الشعبي ) البقاء اللاعب المكلف تكليفا تاريخيا في الواجهة الجزائرية و حامٍ للديمقراطية تسعة و تسعون عاما من الآن ( من تاريخ هذا الحراك ) أو لقرون أخرى ، لأن التكلس و التحنط الفكري الطويل يفرض على الجيش الاطلاع بدوره التاريخي في :

ــ أولاً استئصال نهائي و جذري للأصولية السلفية من المجتمع الجزائري و تخليص الدين من الممارسة السياسية ( 20 عاما يمكن أن تكون كافية)

ــ و ثانياً توجيه الدين إلى مراكزه الحقيقية و هي صدور الأفراد و المساجد بكل ما أوتي من قوة و الأمر شاق صعب و ليس في متناول كل من هب ودب يتطلب عقد شراكة شبيه بالعقد الاجتماعي الإنجليزي مع التحلي بالصبر و الحكمة. أما الخوف كل الخوف في أن تعترض محاولاته السامية هاته مقاومة مسلحة أو حتى منظّمة في شكل عصيان و إضرابات أو الاستنجاد بالأطراف الخارجية ، فلا مفر لا قدر الله من العودة إلى السلاح لتطهير الساحة من سموم و أدران القرون الوسطى ، فالمجتمعات المدنية تطلبت في الغرب تضحيات جسام هي الأخرى.



[1] - ليس كل قادة جيش التحرير الوطني من النوع السلطوي العصبي بل منه كريم بلقاسم وعبان رمضان و كثير من القادة المتنويرين بالفكر الديمقراطي و الثقافة العلمانية ممن لم نسمع عنهم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مئات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى وسلطات الاحتلال تغلق ا


.. المقاومة الإسلامية في لبنان تكثف من عملياتهاعلى جبهة الإسناد




.. يديعوت أحرونوت: أميركا قد تتراجع عن فرض عقوبات ضد -نتساح يهو


.. الأرجنتين تلاحق وزيرا إيرانيا بتهمة تفجير مركز يهودي




.. وفاة زعيم الإخوان في اليمن.. إرث من الجدل والدجل