الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بمناسبة 8-8- يوم نهاية الحرب مع إيران 1988

سلام إبراهيم
روائي

(Salam Ibrahim)

2019 / 8 / 9
الادب والفن


إلى صديقتي البصراوية "نبأ أحمد "

نبأ أحمد طالبة سادس إعدادي بصراوية، وجدتُ رسالة منها في المسنجر قبل عام تقريباً من سطرين سجلت فيه انطباعها عما أنشره وولهها به وختمت رسالتها بجملة أطربتني:
"شكراً سلام لأنك كاتب، ولأني تعرفت عليك من خلال الفيس" والرسالة نشرتها مستقلة في سلسلة علها تكون كتاباً تحت عنوان "من الرسائل"
ونبأ أتمت السادس العملي قبل أشهر بمعدل ممتاز 96,5 لكنها غير راضية عن ذلك، ليس هذا فحسب فهي محملة بطموح أدبي وتكتب نصوص قصيرة متماسكة وجميلة هي مزيج بين السرد والشعر وخلفها تجربة أجتماعية كبيرة حكت لي في حواراتنا الطويلة عن تفاصيلها بوعيٍ يفوق عمرها كثيراً، وكم تسعدني هذه الحوارات مع أجيال العراق الطالعة فمنها أتلمس المستقبل وأأمل كثيراً بشباب المستقبل وعراق سعيد حلمت به كل العمر وكدت أموت في المخاض مراتٍ لا تحصى.
كتبت لي قبل دقائق ما يلي:
(هلو سلام شلونك
اليوم 8/8
واستغربت انك مانشرت شي بخصوص الحرب
جنت منتظرتك تنشر
نبأ)
ودخلنا في حوار مكثف.
جعلتُ أتأمل البنية العقلية للجيل العراقي الجديد، فنبأ وبحساب بسيط عمرها مابين 18-19، وتتابع ما يكتب عن التاريخ العراقي ولما كانت مهتمة ومعجبة بما أكتب من نصوص ومقالات فهي تريد معرفة وجهة نظري بالمناسبة التي يصادف اليوم نهاية تلك الحرب في عام 1988 والتي فرخت حروب مستمرة حتى الآن أحالت العراق حطاماً والبشر شبه رماد، ونبأ ممن قام من الرماد وهاهي تشع بالأسئلة وعطش المعرفة، كتبت لها،
(لم أتناول هذه التجربة بعد الإ بمرور خفيف
نبأ أني مزدحم بالأفكار والمواضيع لكن كتبت قصصا قصيرة عنها في الفترة الأخيرة عن أصدقاء وتجارب
سأنشرها وأعيد نشرها لعينيك)
في حقيقة الأمر غيّرتْ الحرب حياتي وقلبتها رأساً على عقب، فلولا سوقي لها كجندي أحتياط لما تورطت في رحلتي المضنية وتشردت بين الجبال ودول المنافي، فعام 1982 ساقوني وكنت متزوجاً لتوي يعني قبل عام ولدي طفل عمره ستة أشهر، كنتُ موظف في دائرة الزراعة وزوجتي أيضا موظفة، لأزج في الجبهة وأعيش تجربة معركة دامية هي هجوم شرق البصرة الشهير صيف عام 1982 فعدت بإجازة ولم أرجع للجبهة والتحقت إلى الثوار في الجبل وحيداً وعدت مختفيا ثم أضطررت للعودة للجيش لفترة أكثر من سنة ونصف من 10- 1983 وحتى شباط 1985 خضت فيها معارك مجنون الدامية وعشت حياة الجنود في جبهات الحرب ونسجت علاقات وكنت أعيش في توتر ليس له مثيل، ففي كل لحظة أتوقع ينكشف أمري وأعتقل أو قد أموت وسط المعارك والقذائف وحولي يتساقط زملائي الجنود المساكين قتلى وجرحى صارخين، إلى أن هربت مرة أخيرة إلى الثوار لأجد نفسي في خريف العمر في الدنمارك غريباً وحيداً ليس لدي سوى القراءة والكتابة.
وكما قلت لنبأ مررت مروراً في قصصي ورواياتي على تجربة جبهة الحرب العراقية الإيرانية ولم أكرس لها عملا لأني في حقيقة الأمر مزدحم بالتجارب وأجهد لكي أنحتها وأبحث فيها لأصيغ نصوصا تذهب لثيمٍ جوهرية في الوجود والحياة، ولحد هذي اللحظة وأنا أنحت دارساً ظروفي نشأتي وباحثاً في جذور العنف ومجتمع الكبت في رواية أكتب بها "دونت إسبيك" نشرت فصولا منها في صفحتى ومجلة الهلال المصرية وصحيفة القدس العربي وموقع بتانة المصري، لحد الآن لم تتبلور فكرة كتابة تجربتي في جبهة الحرب العراقية الإيرانية. لو أتممت مالدي من مشاريع قد أعكف على ذلك بتحريض من "نبأ أحمد" صديقتي البصراوية الشابة.
لكن في فترات مرضي الطوال التي عطلتني عن أتمام "دونت إسبيك" كتبت العديد من القصص عن تلك التجربة وهي قصص عشتها بكل حواسي وصورت بعضها، طبعاً صورت في روايتي "الإرسي" ظروف هروبي ومشاهد من سقوط الجنود قتلى حوالي لكن ذلك جاء عرضاً لأن النص مشغولا بثمة تختلف عن ثيمة الحرب والجبهة ثيمة وجودية أوسع
رسالة "نبأ" أشعرتني ككاتب عراقي بتقصيري أمام الأجيال الشابة العراقية بعدم البحث في هذه التجربة المفصلية والتي حطمت الكيان العراقي كوطن وأدت به إلى هذا المآل.
كما وعدت "نبأ" سأنشر هنا قصصاً كتبتها عن تجربة الجبهة، وكما أخبرتها
"كنت يمك بالبصرة وأنت بعدك برحم الغيب وهناك شرقها شفت الويل والرعب لكنني نجوت"
أحييك نبأ يا أشراقة المستقبل أنشر نصاً عن تلك المرارات، لأن لقيت هواي كاتب عن تلك التجربة وما أدري هههههههه:

1- ذاكر أحباب
سلام إبراهيم

جملة كان يرددها ابن مدينتي والجندي معي في الوحدة العسكرية نفسها على حافة مجنون 1984 وقت إشداد المعارك في الغروب، كان يمّض به الشوق فيصرخ:
- أااأأأأأأأأأأأأأخ اليوم ذاكر أحباب قلبي
فكان يثير شجن الجنود، وكنت وحدي أعرف قصة شجنه فهو من مدينتي لا بل من محلتي ويكبرني بحفنة سنين متزوج يصور بسردٍ مفصلٍ كلما عاد من إجازته الشهرية؛ كيفية اللقاء بزوجته والجلوس على كرسي بدشداشةٍ بيضاء شفافة دون لباس داخلى، كان يروي لجنود شباب محرومين، فتلمض عيونهم بشرر الرغبة وتحتدم شهوتهم و "حسين قامة" يفصّل العملية الجنسية، ملمس الفخذين، وطراوة النهدين الكبيرين، ولحم البطن البارزة قليلا إذ كان يصفها مطولاً ويصف تدلهه بها، أما ما بين الفخذين فيحجم عن الوصف ويتحول القص إلى حركات وآهات وأصوات تجعل الجنود الملتفين حوله يضجون بالضحك والنشوة بعيونٍ تلمع بالشهوة والهياج في ليل الجبهة والقصف المتبادل طوال النهار. يشنف كل مساء ومع غروب الشمس ويصرخ:
- اليوم ذاكر أحباب قلبي.. ذاكر أحباب.. ذاكر.. ذاكر.. أويلي.. أويلي يمه أويلي..
يظل يصرخ بشجن مثل مذبوحٍ يشرف على لفظ أنفاسه الأخيرة، وكان صراخه يبعث الضحك المصحوب بالألم لقلوبنا وأجسادنا الملقاة في قفر شرق البصرة التي نقضي يومنا فيها بين الخنادق والمدافع وقت القصف المتبادل، وبين العمل ورواية الذكريات والقصص وقت الهدوء. كنتُ بدوري أصدق كل ما يرويه وأتأمل قسماته في خضم السرد التي تتصاعد في ذروة المشهد محتقنة بالدماء، وتخفت هابطة في وصف موقف فيه ترقب وخوف، وكنت ألبث طوال الليل في الفراش وفي نوبات الحراسة أرى المشاهد التي رسمها وجعلنا نراها مدهوشاً من قدرته على التصوير بذلك الأسلوب المحبب الناعم اللذيذ.
تحاشيته بالرغم من تصادفنا اليومي قبل الحرب في المدينة، فهو يسكن وسطها؛ في محلة "الجديدة" التي أقطعها بشكل يومي ثابت، كان مظهره مخيفاً بثوبه الملطخ بالدم وسكينته اللاهثة المحصورة إلى خصره بحزام أسود، ومشيته مباعداً ذراعيه كشقي من الأشقياء وهو في طريقه إلى مسلخ الذبح أو إلى دكانه وسط سوق القصابين، كانت ملامحه حادة ونظراته ثاقبة يشاع عنه العديد من قصص شراسته وجرأته وقوته.
لكن بعد حفنة سنين وجدتني معه في نفس الوحدة العسكرية في شرق البصرة، سنتقارب جدا ونصبح أصدقاء إذ وجدته شخصاً مختلفاً طيب القلب شهماً شجاعاً، حتى أنه ركض معي في ظهيرة حارة إلى وسط البطرية بالرغم من القصف المكثف والقذائف المتساقطة لنحمل جنديين أصيبا، في سيارة إلى وحدة الكتيبة الطبية فسبحنا بدمهما وبكينا لحظة لفظهما أنفاسهما الأخيرة، وعدنا إلى بطريتنا ناقعين بالدم حزينين لم نتمكن من الأكل ليوميين متتالين.
سألته يوماً:
- حسين ليش يلقبوك بحسين قامه؟!.
أنفجر في ضحكةٍ عاصفةٍ حتى وقع على التراب جوار الملجأ، جرفني ضحكه العاصف ككل مرة ولما تمالكت نفسي أعدت السؤال:
- صحيح حسين المدينة كلها تناديك بهذا اللقب والجميع لا يعرف من أين جاء!.
- سلومي أنت ما شايفني يوم عشرة عاشور!.
ولم يكلف نفسه كعادة الشخصيات الشعبية بالشرح إذ تكتفي بالإشارة مستهينة بجهل السائل.
لم أتوان في الإجازة التالية كرست أياما لمعرفته، فعرفت أنه يُطّبر يوم مقتل الحسين " بسيفٍ قصير حاد" إلى أن يغمى عليه في حدث صار رمزاً لشدة حبه للأئمة، حدثتُ "محمد" أخ زوجتي القصاب أيضاً عنه وعن قصصه المسلية في ليل الجبهة، فأنصت لتفاصيلٍ من حكاياته وطالب بالمزيد وفي ملامحه الفتية ظلال سخرية مشرفة على الضحك ولما صمتُ، قال لي ضاحكاً:
- سلام هذا كصاص (قصاص) أصلي، يقضي إجازته بالسكر ولديه حبيب حلو!، وماله شغل بالنسوان. صحيح هو متزوج وعنده أولاد بس ههههههه!. واليوم لمن ينزل الظلام راح أَشْوفَكْ!.
في المساء قادني إلى وسط المدينة، وفي شارع عريض مكتظ أشار إلى سيارة تكسي واقفة بمحاذاة الرصيف مطفأة الأضواء وهمس لي:
- أنتظر لمن يفتح الضوه!.
خلدنا جوار جدار معمل ثلج ننتظر إلى أن أشتعل ضوء قداحة، فرأيت وجه "حسين" منتشيا وجواره شعت قسمات صبي جميل جدا يصغره بأكثر من عشرين عاماً. لكزني "محمد" هامساً:
- شفت؟!.
- أي!.
فأردف:
- لا تسولفون أنتم المثقفين ما تعرفون شي!.
فَرَبَتُ على ظهره وأنفجرت بضحكةٍ عاصفةٍ وأنا أردد:
- والله صحيح.. صحيح.. صحيح!.
عندها أدركت أن كل قصصه للجنود مجرد أخيلة!.
كانَ يغلف شوقه لمعشوقه الصغير بهذه القصص، وكان يصرخ كل غروب لاهجاً بذكر الحبيب البعيد في "الديوانية" الذي يَشْعِل القلب عند مقبل ليل الجبهة الحالك الموحش.
وكانَ الشوقُ يَشّده ويُضّيق الخناق عليه فيصرخ:
- أأأأأأأأأأأأأأأاخ ذاكر أحباب قلبي!.
أحببتهُ ووثقت به فتوطدت علاقتنا جدا، حتى أنه في وقت معارك "مجنون" الشهيرة 1984 أشتعلت الجبهة وقامت القيامة، فجاء نحوي تحت القصف الشديد راكضاً وقال بصوت عالٍ:
- يردونْ أثنينْ يعبأون الشاحنات قذائفْ بالخلفي!.
- وشو علاقتنا!.
- (تعال ماكو أحد يريد يروح، لنذهب أني وياك .. نموتُ من التعب ولا نموت بحرب "إبن صبحه" )
هكذا كان ينعت الدكتاتور!.
راقتْ لي الفكرة، وحملتنا عربة عسكرية إلى مخازن خلف الجبهات، وليلتها لعنتهٌ ولعنتُ الحياةَ، فقد أوشكتُ أن أموت من التعب، إذ كان من المستحيل التوقف عن تحميل القذائف من أكداسٍ هائلة العدد ووضعها بظهر العربات التي بدت وكأنها لا نهاية لها، وكان صبرهُ صبرَ جملٍ يخفف عني وطأة التعب، ويجعلني أستمر وهو يقول في كل مرة تكلّ قواي:
- سلومي تحمّل.. حرامات نموت بهذي الحرب الجايفة!. تحمل.. تحمل!.
لم أصمد عدت في الصبيحة التالية بينما واصل "حسين" حتى توقف الهجوم وهدوء الجبهة.
أحببتهُ ووثقتُ به، فعدتُ أبعث معه كلما نزل في إجازةٍ رسائل سرية تتعلق بوضعي ووضع التنظيم السري الذي كنا نعمل فيه أنا وزوجتي وكان ينقلها ويأتيني بالأجوبة.
هربتُ ملتحقاً بالثوار في الجبل، لتغيبني الحوادث والأمكنة قرابة عشرين عاماً حتى إحتلال الأمريكان لوطني، فعدتُ في زيارةٍ لأجدهُ حياً. حدثني عن نجاته العجيبة من ميتات عديدة، وعما فعلته الأستخبارات العسكرية حال هروبي، إذ حققوا معه ومع كل جندي من مدينتي في وحدتنا. ظلَّ يعيد عناقي بين قصة وأخرى غير مصدقٍ. كانَ قد كَبَرَ وهدّتهُ الحياة يقفُ في محل تصليح مبردات محاطاً بأولاده، ويكرر بعد كل عناق:
- والله كنت أحس بأنك تخفي شيئا أعظم منا!.
أسهرُ هذي الليلة محتفياً برفيقي الجندي "حسين عطشه" الذي خبّروني أنه مات بهدوءٍ مثلما يموت الملاك،
لّف رأسه ونام ولم يستيقظ في الصباح.
حالي في المنفى كحالته في جبهة الحرب يعصف بي شوقٌ مستحيلٌ لتراب الديوانية، له، ولمن غادرني من الأصدقاء إلى الأبدية وتركني تائها في هذه الدنيا السافلة، أردد كلما أقتربتُ من حافةِ الحياة:
- ذاكر أحباب.. ذاكر أحباب!.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - سلومي
Almousawi A.S ( 2019 / 8 / 9 - 16:54 )
جميل وجرئ وصفك للواقع سلومي
رغم قساوة المفارقة في العرف والعادات الاجتماعية
ولمثل هذة الشخصية شيوع ليس غريب بين عاشوراء الحسين
وعاشوراء الواقع المريض الكاذب المفروض
ولا اعرف عن داود البصراوي شبية صاحبك في سرد القصص من مصير
ولكني اخاف على مراسلتك من واقع عقيم
فانا اعرف معاناة فتاة مستقبل العراق بفرض الحجاب والمنع للمتنبي من ذهاب
سلمت ودمت ماردا شجاعا

اخر الافلام

.. كل يوم - الناقد الفني طارق الشناوي يحلل مسلسلات ونجوم رمضان


.. كل يوم - طارق الشناوي: أحمد مكي من أكثر الممثلين ثقافة ونجاح




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي لـ خالد أبو بكر: مسلسل إمبراطور


.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي: أحمد العوضي كان داخل تحدي وأثب




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي : جودر مسلسل عجبني جدًا وكنت بق