الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العدالة الانتقالية (4 4)

كمال الجزولي

2019 / 8 / 11
مواضيع وابحاث سياسية


حاولنا، في تعقيبنا على محاضرة بنيوب، عرض تقدير أكثر بساطة ومباشرة للمفهوم، من حيث أنه، إذا كانت "العدالة التقليديَّة" تمثِّل، في الظروف العاديَّة، وظيفة أساسيَّة من وظائف الدَّولة تقوم بأمرها سلطة قضائيَّة مستقلة، فإن "العدالة الانتقاليَّة"، في الظروف الاستثنائيَّة، حيث تمرُّ الدَّولة بحالة "انتقال"، راديكالي أو إصلاحي، من شموليَّة إلى ديموقراطيَّة، أو من نزاع داخليٍّ مسلح إلى سلام ومصالحة وطنيَّة، إنما تمثِّل، من باب أولى، الأهميَّة الأكثر إلحاحاً باتِّجاه إزالة أيِّة ظلامات، وتضميد أيِّ جراحات، مما قد تكون نجمت، في الغالب، عن ممارسات قمعيَّة، أو أوضاع حربيَّة سابقة، ومن ثمَّ إزاحة أيَّة عقبات تعرقل استكمال هذا "الانتقال" المنشود.
وإذن، فـ "العدالة الانتقاليَّة" تشتغل، بالأساس، في مجتمعات ما بعد الَّتغيير، لطيِّ صفحة الماضي المكتظة، عادة، بما لا حصر له من الانتهاكات، ولتمكين هذه المجتمعات من فتح صفحة جديدة، لا لكي "تنسى"، وإنما لكي "تسامح"، و"تعفو"، وتبدأ عهداً مغايراً من المشـاركة، والمواطـنة، والمسـاواة. فالموتى وحدهم، على ما يُفهم من قول حكيم لجاك دريدا، هم من يعجزون عن ممارسة "التَّسامح"، و"العفو"!
من هنا جاء هذا المفهوم بشقَّيه: كشف "الحقيقة" وردِّ "الحقوق"، من جهة، وإنجاز "المصالحة" الوطنيَّة، من جهة أخرى، ليستهدف، قولاً واحداً، تصفية تركة الماضي، بما يمهِّد مدخلاً سالكاً نحو المستقبل، وفق فهم مانديلا الصَّائب لـ "المصالحة"، لا مع "النِّظام"، بل مع "الذَّاكرة الوطنيَّة" و"التَّاريخ الوطني"، بتعبيره، لحظة مغادرته الزَّنزانة الموحشة، عام 1990م، بعد سبع وعشرين سنة قضاها بين جدرانها الشَّائهة، عن رغبته الصَّميمة، لا في التَّشفِّي، وإنما في خلق بيئة للتَّسامح، مؤكداً أن "إقامة العدل" أصعب من "هدم الظلم"، ومتسائلاً: "أيُّ وطن هذا الذي يمكن أن نحلم بتحريره، وإعادة بنائه، إذا أطلقنا العنان لمشاعر الانتقام تسفح كل هذه الأنهار من الدِّماء، وتدلي كل هذه الأشلاء من أعمدة المشانق"؟!
مع ذلك، ظل المفهوم يمثِّل، في السِّياق السُّوداني الخاص، مطلباً غائماً، كما قلنا، برغم توفُّر ثلاثة عوامل أساسيَّة كان يُفترض أن تساعد على إجلائه وتعزيز فهمه:
العامل الأول هو نصُّ المادة/21 من الدُّستور الانتقالي لسنة 2005م على وجـوب أن "تبتدر الدَّولة عمليَّة شاملة للمصالحة الوطنيَّة وتضميد الجِّراح من أجل تحقيق التَّوافق الوطني والتَّعايش السِّلمي بين جميع السُّودانيين". فرغم أنها مشمولة بالقسم الموجِّه، لا الملزم، إلا أن المأمول كان أن يفضي دفع القوى الوطنيَّة الدِّيموقراطية باتجاه خلق إرادة سياسيَّة لدى "شريكي" الحكم الانتقالي، وقتها، إلى استيعاب تأويل النصِّ، بشكل ما، لدلالتي "تضميد الجِّراح" و"المصالحة الوطنيَّة"، بما تقتضي الحاجة الملحَّة لتلبية مطلب "العدالة الانتقاليَّة".
أمَّا العامل الثَّاني فهو ارتفاع ذكر المفهوم، على نحو أو آخر، في أنشطة وأدبيَّات مختلف منظمات المجتمع المدني، وعملياتها التَّثقيفيَّة.
وأمَّا العامل الثَّالث، ولعله الأكثر أهميَّة، فهو الإفصاحات المتعدِّدة عن اعتماد "العدالة الانتقاليَّة" كسياسة مبدئيَّة لقوى حزبيَّة رئيسة بدأت تولي انتباهة مرموقة لأهميَّة المفهوم، مِمَّا انعكس، على سبيل المثال، في موقف "الحركة الشَّعبيَّة"، قبل الانفصال، والذي عبَّر عنه منصور خالد، في أكثر من مناسبة، بكشفه عن أن قرنق كان متمسِّكاً به، خلال مفاوضات السَّلام، لولا أن وفد الحكومة لم يسمح سوى بتجفيفه إلى حدود المادَّة/21 المشار إليها، ولعلَّ هذا ما يفسِّر اشتمالها على مفهومي "تضميد الجِّراح" و"المصالحة الوطنيَّة" كليهما. وثمَّة، أيضاً، كتابات وتصريحات الصَّادق المهدي، رئيس حزب الأمَّة القومي، وإن كان أكثر ميلاً لنموذج "الكوديسا" في جنوب أفريقيا، رغم علله التي يمكن تلخيصها في إغفال عنصر "الإنصاف"، وإلى ذلك، كذلك، تعبيرات بعض قادة الحزب الاتِّحادي الدِّيموقراطي، كعلي محمود حسنين، فضلاً عن تضمين الحزب الشِّيوعي وثائق وأدبيَّات مؤتمره الخامس فصلاً خاصَّاً بـ "العدالة الانتقاليَّة"، وتضمين سكرتيره الرَّاحل محمد إبراهيم نقد تقريره السِّياسي لذلك المؤتمر فقرة لافتة حولها أيضاً.
وفي باب عقلنة هذا الخيار، منطقيَّاً، يلزمنا أن نأخذ في الاعتبار حقيقة أن القانون الجَّنائي لسنة 1991م لم يُعدَّل إلا في العام 2010م، حيث أضيف إليه الباب الثَّامن عشر، ليشمل، لأوَّل مرَّة، عناصر القانون الجَّنائي الدَّولي (جرائم الحرب والجَّرائم ضدَّ الإنسانيَّة والإبادة الجَّماعيَّة). لهذا السَّبب انقضت الفترة الانتقاليَّة (2005 ـ 2011م) دون أن "يقتدر" قضاؤنا الوطني على التَّصدِّي، مثلاً، للجَّرائم المرتكبة في إقليم دارفور منذ العام 2003م، حتَّى لو كان راغباً في ذلك، كما وأن هذا القضاء ليس "قادراً"، الآن أيضاً، على التَّصدِّي لتلك الجَّرائم، دَعْ أنه غير راغب، كون القاعدة التي يعرفها حتَّى راعي الضَّأن في الخلاء هي أن التَّشريع لا يسري بأثر رجعي.
من جهة أخرى لن تستطيع مؤسَّسات العدالة الجَّنائية الدَّوليَّة، رغم مشروعيَّتها، كالمحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة، ومحاكم الدُّول التي تقبل الاختصاص الدَّولي، أن تنظر كلَّ ذلك الكمِّ من الجَّرائم، وإنَّما ستكتفي بنماذج منها فقط، على غرار ما فعلت، مثلاً، المحاكم الدَّوليَّة المؤقتة ad hoc tribunals، في نورمبرج وطوكيو عقب الحرب الثَّانية، أو محكمة يوغسلافيا السَّابقة في لاهاي، أو رواندا في أروشا، وذلك لعدَّة أسباب، منها ارتفاع كلفتها، والبطء الناتج عن التَّريُّث الذي تفرضه قاعدة الإثبات دون شك معقول beyond a reasonable doubt، فضلاً عن التحفُّظ الجَّنائي الدَّولي إزاء بعض طرق الإثبات، كشهادة الملك King’s Evidence، وما إلى ذلك.
أخيراً، يتعيِّن على القوى السِّياسيَّة، والقوى المدنيَّة، وعلى حركات الهامش المسلحة، أيضاً، أن تخصِّص برنامجاً للحوار في ما بينها، كما وداخل أطرها الخاصَّة، تتداول فيه، منذ الآن، وبمشاركة شبابها، بالأخص، مثل هذه التَّحفظات التي يمكن أن تثار، لدى أيِّ انتقال، في وجه أيَّة محاولة لتصريف العدالة بالمفهوم "التَّقليدي"، سواء كان هذا «التَّقليدي» داخليَّاً قائماً على المحاكم، والنيابات، والشُّرطة، والسُّجون، وغرف الإعدام، أو دوليَّاً، في محاكم البلدان التي تقبل الاختصاص الدَّولي، أو في المحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة، أخذاً في الاعتبار بكمِّ الجَّرائم الهائل، وما إلى ذلك من الملاحظات، مقابل الفرص المتاحة، فعليَّاً، ودون أيِّ أوهام، لتطبيق مفهوم "العدالة الانتقاليَّة" الحديث، وفق نموذج وطني لا يجترُّ خبرات عشرات البلدان حول العالم، على أهميَّتها، وإنَّما يضيف إليها مِمَّا تجترحه عبقريَّات شعوبنا الخاصَّة، لا سيَّما وأن لدينا العديد من الأشكال الأهليَّة المحليَّة المتوارثة، والتي يمكن أن تقوم مقام الآليَّات المناسبة لتطبيقات «العدالة الانتقاليَّة» المطلوبة.

***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إنسحاب وحدات الجيش الإسرائيلي وقصف مكثف لشمال القطاع | الأخب


.. صنّاع الشهرة - تيك توكر تطلب يد عريس ??.. وكيف تجني الأموال




.. إيران تتوعد بمحو إسرائيل وتدرس بدقة سيناريوهات المواجهة


.. بآلاف الجنود.. روسيا تحاول اقتحام منطقة استراتيجية شرق أوكرا




.. «حزب الله» يشن أعمق هجوم داخل إسرائيل.. هل تتطورالاشتباكات إ