الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ايام صعبة..ذكريات لاتزال عالقة في الذهن

باسم المنذري

2019 / 8 / 14
سيرة ذاتية


ثمة صدفة او موقف او يوم يحوّل مسار حياة كاملة اما الى مستقبل ناجح او لاشيء .وذلك ماحدث لي يوم الثامن من مايس من عام 1980 حين القي القبض عليّ من قبل الامن الصدامي وانا لم اكمل الثامنة عشر من عمري كنت شابا طموحا احب الحياة وارغب ان اعيشها بتفاصيلها لكن ذلك لم يكن , كما لم يكن لاغلب الشباب من كان في عمري او اكبر من ذلك بسنوات.
حين القي القبض عليّ تم اقتيادي الى مديرية الامن العامة تلك الجهة التي ما ان يذكر اسمها حتى يدب الرعب في نفوس السامعين كانت احدى دوائر التعذيب والموت الجماعي لن يخرج احد منها الا الى محاكم الاعدام او السجن بمحكمة صورية ومن ينجو منها فان تبعة دخوله اليها تبقى تلاحقه العمر كله.
في هذا المكان تحديدا لا اعتبار للجنس او العمر ولا رحمة لاي انسان فأنت اما خائن او عميل وستكون راقصا في حفلات تعذيب يومية عرفاءها من اسوء الساديين المتلذذين بتعذيب الاخرين .
كان اول سؤال لي حين اقتادوني لغرفة ضابط الامن وانا مكبل اليدين ومعصوب العينين بخرقة شدت بقوة على عيني والتف في عقدتها الخلفية جزء من شعري الطويل انذاك والتي كانت تسبب لي المآ حين احرك رأسي والتي اصبحت فيما بعد تورما كبيرا لم يزول الا بعد فترة طويلة .كان اول سؤال لي : هل قام عمك (الشيوعي بديع ) بتنظيمك في صفوف الحزب ؟ وكان جوابي بعد برهة قصيرة : لا
قال خذوه ..وقام احدهم بمسكي من يدي وذهب بي الى غرفة فيها عشرات الرجال والشباب .كانت الرائحة فيها غير مستساغة تكاد تكون رائحة الدم او رائحة اجساد قد هرئت من الكيبلات وممزقة ..كنت قلقا وخائفا فأنا اجهل مصيري وماذا سيكون لي بعد حين .
بعد مضي ساعة او اكثر فُتحت الباب بعد ان سمعت ازالة الاقفال والرتاج الكبير الذي يبدو من صوت فتحه, قال الداخل علينا : من جاء حديثا ؟ اجبت بسرعة : انا ..قال: قم, واخذني خارجا وسالني عن اسمي ومهنتي وعند اجابتي انهال علي بالضرب والصفع والركلات والسب والشتم دون ان استطع حتى تغطية وجهي او اي مكان من جسمي فانا معصوب العينين ومكبل الايدي .ثم ارجعوني الى الغرفة .حين جلست منعكفا مع نفسي بدات اتحسس المكان وارفع رأسي حذرا لارى من معي وماهو المكان الذي انا فيه حينها اصبت بالصدمة ,وشعور خالجني نوع ما بالطمانينة فأنا لست وحدي هنا فبجانبي تماما ابن عمتي وايضا عمومتي الثلاثة وابناء عمومتي واقاربي واصدقاء لنا ورفاق اخرين كنت قد تعرفت عليهم سابقا ,عرفت حينها ان الاعتقال كان جماعيا لنا واكتشفت ايضا ان بعض من نساءنا واطفالهن كانوا قد اعتقلوا ايضا وقد وضعوهم في مكان اخر حسب ما اخبرني به ابن عمتي الذي جاؤا به قبلي بليلة ..
حين اصبح الصباح علينا دخلوا اولئك المتلهفون على تعذيبنا وبدأ التحقيق مع كل واحد فينا على حده في غرفة يجلس فيها ضابط تحقيق ..يسأل عن كل الامور والتفاصيل ويدقق في كل اجابة عله يحصل على معلومة يمكن من خلالها ان يفوز بأعتراف مني او اي شيء يدينني فيه ,وحين لايحصل على مايريد او مايتوقع من اجابة فكان هناك من يحملون كيبلات وعصي ينهالون بالضرب دون رحمة ودون اي تحفظ بمكان على جسمي حتى اشعر بالاغماء بعد صراخ عميق او تعبهم وبعد استراحة بسيطة يبدأون من جديد ..لم يكن هناك موعد او وقت محدد للتحقيق فمزاج ضابط التحقيق الخفر هو من يحدد ذلك ..بعد عدة ايام قاموا بتفريقنا عن بعضنا ووضعونا بزنزانات صغيرة يقبع فيها 5 معتقلين وهي لاتسع الا لاثنين فقط ..كانوا يمنعون علينا دخول الحمامات لقضاء حاجاتنا حتى اني بقيت ليوم كامل ونهار دون ان استطع التبول مما شعرت حينها بألم شديد وحالة غثيان لولا توسلي بأحد السجانين حينها سمح لي بالتبول في قارورة جلبها لي استعطافا منه عليّ..بقيت على هذا الحال بالتنقل من زنزانة الى اخرى والتعرف على معتقلين جدد كان فيهم من يشعر باليأس وفيهم من زاد من عزيمتي وصبري وكان فيهم من لم يبالي بما سيجري له فأحيانا يغني او هناك من يقلد احد ممثلي الكوميديا او ذاك من يحفظ شعرا للسياب او لمظفر او لعريان ..وهناك من يغني بصوت منخفض اغاني الحزب ..وهناك من قرر حين يخرج ان يغير مسار حياته ويتخذ طريقا اخر غير هذا الطريق, الا ان ذلك لم يتحقق فلم يعودوا احياء كما كانوا ينتظرون ..كان طعامنا خالي من الملح واحيانا لاقيمة غذائية فيه ابدا حتى اني لا اتذكر طعم مانأكل او حتى احساسنا بالجوع او العطش كان مرتهنا بفترة تركنا دون تحقيق او تعذيب او اهانات يومية .
بعد شهرين ونصف من الاعتقال وبمناسبة تعود لهم قرروا الافراج عنا فأفرجوا عن من لم يثبت بحقه شيء واطلقوا سراحي من سيارة لاندكروز في احدى شوارع بغداد ليلا ودون ان املك اي مبلغ مالي فأستأجرت سيارة على ان ادفع له اجرته حين الوصول الى الدار, وكان ذلك .
حين طرقت باب دارنا لم يكن احد من اهلي متوقعا ان اكون انا خلف الباب ..كانت شهقة والدي وضحكته حين رأني ومن ثم بكاءه وهو يضمني الى صدره جعلت امي تصرخ فيه ان يتركني لتحتضنني باكية مهلهلة لاتعرف ماذا تفعل ..نمت تلك الليلة جنب امي وهي مسمرة العينين نحوي غير مصدقة وجودي جنبها وهي تبكي بين حين واخر وتضمني وتقبلني حتى ان دموعها طالما بللت وجنتي ..
لم يكن خروجي من المعتقل هو نهاية الامر ..فمراقبتي استمرت عدة اشهر حتى ان المكلف بمراقبتي كان يمشي الى جانبي تماما ليشعرني ان عين السلطة واذانها تترقبني في كل لحظة .
ترتب على هذا الاعتقال حرماني من اكمال تعليمي فأعضاء الاتحاد الوطني للطلبة الذي يقوده البعثيون كانوا متابعين لي بأستمرار ودائمي المضايقة حتى انهم ضغطوا على مدير الاعدادية نقلي الى اعدادية اخرى كوني عنصر غير مرغوب فيه او يمكن ان اثير مشكلة ما وكان ما ارادوا حيث تركت الدراسة خوفا من اعتقالي مرة اخرى والتي بالتأكيد لن اخرج حيآ منها مرة اخرى ..فكانت الحرب والسوق لها بالاف الشباب وعلى جبهات القتال ولعشرة سنوات قضيت فيها من اجمل سنين عمري فقدت فيها املي وطموحي وامنياتي وزهرة شبابي ..
كنت ممنوعا من التعيين في اي وظيفة حكومية فسجلي يدينني باني كنت معتقلا ولا انتمي للحزب الحاكم .كان لزاما عليّ ان اعمل في السوق لاكسب عيشي ورزقي واعالة نفسي ومن ثم زوجتي واطفالي ..كانت ايام حصار لئيمة من السلطة ومن من فرضه على الشعب جميعا ..كان كفاف العيش ديدني لم استطع السفر او التمتع بأي من ملذات الحياة ..وحين سقط النظام بدأت مرحلة عذاب اخرى من تهجير وارهاب وانعدام الامل بحياة امنة . فها انا قد تجاوزت الخمسين من عمري وسأدخل عمر الشيخوخة ولم احصل على مايجب ان احصل عليه كأنسان له حق الحياة كما كنت اريد ان اعيشها ..
كان ذلك اليوم الثامن من مايس 1980هو المفترق بطريق اللا شيء ..ِ

الانسان المعدوم حيآ








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المحكمة العليا تنظر في حصانة ترامب الرئاسية في مواجهة التهم


.. مطالب دولية لإسرائيل بتقديم توضيحات بشأن المقابر الجماعية ال




.. تصعيد كبير ونوعي في العمليات العسكرية بين حزب الله وإسرائيل|


.. الولايات المتحدة تدعو إسرائيل لتقديم معلومات بشأن المقابر ال




.. صحيفة الإندبندنت: تحذيرات من استخدام إسرائيل للرصيف العائم س